الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة0%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: باقيات
تصنيف: الصفحات: 292
المشاهدات: 50052
تحميل: 5568

توضيحات:

الإنسان والعقيدة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50052 / تحميل: 5568
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد استثنى سبحانه من المحضَرين عباده المخلصين ، إذ قال :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

ثمَّ عرّفهم سبحانه بقوله حكاية عن إبليس حين رُجم :( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

فبيّن أن لا سبيل للشيطان إليهم ، ولا يتحقّق إغواؤه فيهم ، وقد ذكر أيضاً أنّ إغواءه إنّما هو بالوعد ، حيث قال سبحانه :( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) (٣) ، إلى أن قال : ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٤) .

واستُنتِج من ذلك ـ كما ترى ـ أنّ اللوم راجع إلى أنفسهم ، وأنّ الذنب راجع إلى الشرك ، وأنّهم بمقتضى شقائهم الذاتي ظالمون ، وأنّ الظالمين لهم عذاب أليم فالمخلصون هم المخلصون عن الشرك بذاتهم ، لا يرون لغيره سبحانه وجوداً ، ولا يحسّون لغيره اسماً ولا رسماً ، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، وهذا هو مفهوم الولاية .

وبالجملة : فأولياء الله سبحانه هم المستثنون من حكم الصعقة والفزع ، لا يموتون بالنفخة حين يموت بها مَن في السموات والأرض ، وقد قال سبحانه : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سور الصافّات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

(٢) سورة ص : الآيتان ٨٢ و ٨٣ .

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٢٢ .

(٤) سورة إبراهيم : الآية ٢٢ .

(٥) سورة الأنبياء : الآية ١٠٤ .

٨١

وقال :( وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (١) .

فبيّن سبحانه طيّها وبلوغها أجلها يومئذٍ بمَن فيها ؛ وبذلك يظهر أنّ المخلصين المستثنين ليسوا فيها ، بل مقامهم فيما وراء السموات والأرض ، وهم مع ذلك في الجميع ، قال سبحانه : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٢) ، فهم من الوجه .

وقال سبحانه :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (٣) ، فهم المحيطون بالعالم بإحاطته سبحانه ، وقد بيّنه سبحانه بوجه آخر بعد ما بيّن أنّ أهل الجنّة في السماء ، وأهل النّار في النّار ، بقوله :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) (٤) ، وسيأتي كلام فيه في غير هذا المقام .

ومن هنا يظهر أنّهم في فراغ وأمن من سائر الأُمور الجارية ، والشدائد والأهوال الواقعة بين النفختين ، قال سبحانه :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) (٥) .

والدكّ هو : الدقّ ، تقول : دككت الشيء ، إذا ضربته وكسرته حتّى تسوِّي به الأرض .

وقال تعالى :( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) (٦) ، وقال سبحانه :( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الزُّمر : الآية ٦٧ .

(٢) سورة القصص : الآية ٨٨ .

(٣) سورة البقرة : الآية ١١٥ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ٤٦ .

(٥) سورة الحاقّة : الآيات ١٣ ـ ١٥ .

(٦) سورة النازعات : الآيتان ٦ و ٧ .

(٧) سورة المزمّل : الآية ١٤ .

٨٢

وقال سبحانه :( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (١) ، وقال سبحانه :( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) (٢) ، وقال: ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) (٣) ، وقال :( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) (٤) ، وقال : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) (٥) ، وقال :( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ) (٦) ، وقال :( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) (٧) ، وقال :( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (٨) .

وهذه الآيات بظاهرها قريبة الانطباق بأشراط الساعة ومقدّمات القيامة وخراب الدنيا وانقراض أهلها .

واعلم أنّ هذا هو المصحّح لعدّ الساعة تالية للدنيا وبعدها ، كما أنّ الموت هو المصحّح لعدّ البرزخ بعد الدنيا ، وإلاّ فكما أنّ المثال محيط بعالم المادة وهو الدنيا ، فكذلك نشأة البعث محيطة بالدنيا والبرزخ ، على ما يعطيه البرهان السابق واللاحق ، ومع الغضّ عن الإحاطة أيضاً فانطواء بساط الزمان ، وانقطاع الحركات بين النشأتين ، يوجب انقطاع النسبة الزمانيّة ، ويبطل بذلك قبل وبعد .

ـــــــــــــ

(١) سورة الحجّ : الآيتان ١ و ٢ .

(٢) سورة التكوير : الآية ٣ .

(٣) سورة القارعة : الآية ٥ .

(٤) سورة القيامة : الآيات ٧ ـ ٩ .

(٥) سورة التكوير : الآية ١ .

(٦) سورة الانفطار : الآية ٢ .

(٧) سورة التكوير : الآية ٤ .

(٨) سورة التكوير : الآية ٦ .

٨٣

واعلم أنّ هناك آيات أُخر قريبة السياق من الآيات المذكورة آنفاً ، غير أنّها تعطي نحواً آخر من المعنى :

قال سبحانه :( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ) (١) ، فإنّ تسيير الجبال ، بنقل أمكنتها وجعلها كثيباً مهيلاً وكالعهن المنفوش ، لا ينتهي إلى كونها سراباً ، وذلك ظاهر .

وقال سبحانه : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٢) ، فإنّ ظرف (ترى) إمّا حال الخطاب أو حال النفخ ، كما يؤيّده وقوع الآية بعد آية النفخ ، فتنطبق على زلزلة الساعة ، وهي التي بها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت ، وتضع كلّ ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وهي لا تلائم قوله تعالى :( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) ؛ فإنّها تدلّ على أنّ الجبال حينئذٍ على ظاهر كيفيّتها الجسمانيّة من الأُبّهة والعظمة والاستقرار والتمكّن ، مع أنّها من غير هذه الحيية غير مستقرة ، بل سارية .

ومن الدليل عليه قوله :( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) ؛ فإنّه لا يلائم فناء الجبال واندكاكها ، بل يُشعر بأنّها في صنعها متقَنة ، غير هيِّنة الفساد ولا يسيرة الانفكاك ، فهو سُير لا ينافي استحكام أساسها وإتقان وجودها في محلّه ، بل اندكاك في عين الاستحكام ، فكونها سراباً يجتمع مع إتقان صنعها وبقاء هوّيتها ووجودها .

ـــــــــــــ

(١) سورة النبأ : الآية ٢٠ .

(٢) سورة النمل : الآية ٨٨ .

(٣) سورة النمل : الآية ٨٨ .

٨٤

الفصل الرابع: في صفات يوم القيامة

قال تعالى :( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (١) ، وقال : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) (٢) ، وقال :( مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ) (٣) ، وقال : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ) (٤) ، وقال :( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (٥) ، وقال : ( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد اشتملت على وصف يوم القيامة بأوصاف غير مختصّة به ظاهراً ، فإنّ المُلْك

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآية ١٦ .

(٢) سورة غافر : الآية ٣٣ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٤٧ .

(٤) سورة الدخان : الآية ٤١ .

(٥) سورة النساء : الآية ٤٢ .

(٦) سورة الانفطار : الآية ١٩ .

٨٥

والقوّة والأمر لله دائماً ، والموجودات بارزة له غير خافية عليه ، ولا عاصم ولا ملجأ منه سبحانه دائماً ، لكنّه سبحانه قال :( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (١) .

فأخبر بتقطّع الأسباب ، وانقطاع الروابط يومئذٍ ، فأفاد أنّ جميع التأثيرات والارتباطات التي بين الموجودات في نظامها الموجود في عالم الأجسام والجسمانيّات وما يتلوه ، ستقطع وتزول ، فلا يؤثّر شيء منها في شيء ، ولا يتأثّر شيء عن شيء ، ولا ينتفع ولا يستضرّ شيء بشيء ولو كان الظرف ظرفها ، واليوم يومها ، لما تخلّف شيء من أحكامها ، ولم تزل عن مستقرّها ، إلاّ ببطلان الذوات وانقلاب المهيّات ، ومن المحال ذلك ، ولا تبديل لكلمات الله .

فإذن المرفوع الزائل هو وجوداتها السرابيّة ، وهي وجوداتها القائمة بالحقّ سبحانه ، الثابتة به ، الباطلة في أنفسها ، فلا تبقى إلاّ نسبتها إلى الحقّ سبحانه ، وتبطل بقيّة النسب وإذ هي باطلة في نفسها ، فهو انكشاف بطلانها لا نفسه ، وظهور حقيقة الأمر ، وهو أن لا وجود إلاّ له سبحانه ولا تأثير لغيره ، فلا مُلك إلاّ له ، ولا مَلِك إلاّ هو ، وهو قوله سبحانه :( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (٢) ، وقوله :( يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) (٣) ، وقوله :( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٤) .

ويشهد لما ذكرنا من انكشاف بطلان الوجودات السرابيّة والأسباب الظاهريّة

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآيتان ١٦٥ و ١٦٦ .

(٢) سورة الفاتحة : الآية ٤ .

(٣) سورة الانفطار : الآية ١٩ .

(٤) سورة غافر : الآية ١٦ .

٨٦

لا نفس بطلانها ؛ قوله تعالى :( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ) إلى أن قال : ( لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (١) الآيات ؛ حيث ذكر بطلان الأسباب عند الموت مع أنّها في محلّها لم تزل ، وإنّما هو انكشاف بطلانها .

وفي (نهج البلاغة) في خطبة لهعليه‌السلام :(وإنّ الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا ، وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقتٍ ولا مكانٍ ، ولا حين ولا زمان عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلاّ الله الواحد القهار ، الذي إليه مصير جميع الأمور) (٢) .

وفي (الاحتجاج) عن هشام بن الحكم في خبر الزنديق ، فيما سأله عن الصادقعليه‌السلام ، إلى أن قال : أيتلاشى الروح بعد خروجه من قالبه أم هو باقٍ ؟( بل هو باقٍ إلى وقت ينفخ في الصُّور ، فعند ذلك تبطل الأشياء ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمَّ أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك بعد أربعمئة سنة لا خلق فيها ، وذلك بين النفختين) (٣) .

وفي (تفسير القمّي) عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث :(ثمَّ يقول الله عزّ وجلّ : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) ؟ فيردّ على نفسه : ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ) (٤) .

وفي التوحيد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ في حديث :(ويقول الله : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) ؟ ثمَّ تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه ، فيقولون : ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : الآيتان ٩٣ و ٩٤ .

(٢) نهج البلاغة : ٢٧٦ ، من خطبة لهعليه‌السلام في التوحيد .

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٨٦ .

(٤) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٠ .

(٥) التوحيد : ٢٢٧ ، الباب ٣٢ ، الحديث ١ .

٨٧

وفي (تفسير القمّي) عن السجّادعليه‌السلام ـ في حديث ـ قال :(فعند ذلك ينادي الجبّار بصوت جهوري يُسمع في أقطار السموات والأرضين : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ ) ؟ فلا يجيبه مجيب ، فعند ذلك ينادي الجبّار مجيباً لنفسه : ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ) (١) الحديث .

أقول : فانظر إلى بياناتهمعليهم‌السلام ، وهم لسان واحد ، كيف جمعت بين فناء السموات والأرض وتحقّقها ، وزوال السنين والساعات وثبوتها ، وعدم مجيب لندائه سبحانه غير نفسه ، ووجود المجيب ، ثمَّ انظر إلى قوله سبحانه في جوابه لنداء نفسه :( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ، ومكان الاسمين ، وتدبّر في أطراف الكلام تعرف صحّة ما ذكرناه .

ثمَّ إنّه إذا زال الوجود المستقلّ عن الأشياء ، وعادت الثبوتات إلى تحقّقات وهميّة سرابيّة ، وبطلت عامّة التسبيبات والتشبّثات ، وهو قوله سبحانه : ( مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) (٢) ، وقوله : ( مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ) (٣) ، وقوله :( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) (٤) ، وقوله :( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَّوْلًى شَيْئاً ) (٥) ، وقوله :( يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ) (٦) ، وقوله : ( وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٢٥٥ .

(٢) سورة غافر : الآية ٣٣ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٤٧ .

(٤) سورة الحاقّة : الآيتان ٢٨ و ٢٩ .

(٥) سورة الدخان : الآية ٤١ .

(٦) سورة إبراهيم : الآية ٣١ .

(٧) سورة البقرة : الآية ١٢٣ .

٨٨

وقوله :( ثمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) (١) .

وقولهم :( بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو ... ) ، يقولون : إنّا قبل يوم القيامة لم ندعُ غير الله ، ولم نعبد له شريكاً ، فهو ظهور كونهم في الدنيا مغرورين بسرابها ولعبها ، وقد كان باطلاً بالحقيقة ، فقال سبحانه :( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) ، وقريب منه قوله سبحانه : ( ثمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) (٢) ، وقال :( شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) (٣) ، وقوله :( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) (٤) .

ومرجع الجميع إلى قوله سبحانه :( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) (٥) ، وقوله :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٦) .

ثمَّ إنّه إذا بطلت الأسباب بينهم ، وهي المراتب المترتّبة المقدّرة في الوجود والتأثيرات التي بينها ، ظهر حكم الباطن ومن المعلوم أنّ الظاهر ظاهر بالباطن ، فاتّحد حينئذٍ الغيب والشهادة ؛ إذ كلّ شيء فهو في نفسه ووجوده شهادة ، وإنّما الغيب معنى نسبي يتحقّق بفقدان شيء لشيء وغيبوبته عنه إمّا حسّاً أو غيره .

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآيتان ٧٣ و ٧٤ .

(٢) سورة يونس : الآية ٢٨ .

(٣) سورة يونس : الآية ٢٨ .

(٤) سورة القصص : الآية ٦٣ .

(٥) سورة يوسف : الآية ٤٠ .

(٦) سورة الذاريات : الآية ٥٦ .

٨٩

وبالجملة : بسبب ارتفاع الأسباب يرتفع كلّ حجاب شيئاً عن شيء ، وهو قوله سبحانه :( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) (١) ، وقوله :( وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً ) (٢) ، وقوله : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) .

ومن هذا الباب قوله :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٤) ، وقوله : ( أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) (٥) ، وقوله :( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٦) .

ويمكن أن ينزَّل على ما هاهنا ما ورد من الآيات والأخبار في بروز الأرض .

وفي (الكافي) عن الصادقعليه‌السلام ، في قوله تعالى :( يَوْمَ لَا يَنفَعُ ) (٧) الآية ، قال :(القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه ) ، قال :(وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط ، وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا تفرُّغ قلوبهم للآخرة) (٨) .

أقول : وقوله سبحانه :( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) (٩) ، لا ينافي ما ذكرنا ، فإنّه ـ كما سيجيء ـ ينفي التشريف الذي يقع للمؤمنين ، وتصديقٌ لِمَا قضى به سبحانه : أنّ الجزاء بالأعمال ، وأنّ لكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت .

ـــــــــــــ

(١) سورة غافر : الآية ١٦ .

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٢١ .

(٣) سورة ق : الآية ٢٢ .

(٤) سورة الطارق : الآية ٩ .

(٥) سورة العاديات : الآيات ٩ ـ ١١ .

(٦) سورة الشعراء : الآيتان ٨٨ و ٩٨ .

(٧) سورة الشعراء : الآية ٨٨ .

(٨) الكافي : ٢ / ٤٠ ، باب الإخلاص ، الحديث ٥ .

(٩) سورة المطفّفين : الآية ١٥ .

٩٠

وقد حَجَبَ هؤلاء أنفسهم في الدنيا عنه سبحانه ، فلا بدّ من ظهور مصداقه يوم القيامة ، وذلك كقوله سبحانه :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) (١) .

ثمَّ إنّ بطلان الأسباب وزوال الحُجب ، وظهور الباطن الذي هو محيط بالظاهر ، مقوّمٌ له قائمٌ عليه ، يعطي كون الساعة محيطة بهذه النشأة وما فيها وما يتلوها ، فالظاهر موجود للباطن حاضر عنده دون العكس ، وهو قوله سبحانه :( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً ) (٢) ، وقوله :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٣) ، وقوله :( وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) (٤) ، وقوله :( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) (٥) ، وقوله :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ) (٦) .

ومن هذا الباب قوله سبحانه :( وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة القلم : الآيتان ٤٢ و ٤٣ .

(٢) سورة الإسراء : الآية ٥١ .

(٣) سورة الملك : الآية ٢٧ .

(٤) سورة سبأ : الآية ٥١ .

(٥) سورة النحل : الآية ٧٧ .

(٦) سورة آل عمران : الآية ٣٠ .

(٧) سورة الشورى : الآية ١٤ .

٩١

فالسبق إلى الشيء يوجب حيلولة ، فقولك : سبقت إلى مكان كذا ، يوجب وجود شيء آخر سبقته ، وحلت بينه وبين المكان قبل أن يصل إليه فسبقُ كلمة سبحانه إلى أجل مسمّى ، وهو قوله : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (١) ، يعطي أنّه محيط بهم قريب ، لولا السدّ الذي سدّه سبحانه تجاهه ؛ لغشيهم فصل القضاء .

ومن هذا الباب قوله :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) (٢) ، وقوله :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ) (٣) ، وقوله :( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٤) ، وقوله :( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٥) .

ثمَّ إنّ ما مرّ من ظهور الباطن وبطلان الظاهر ، يوجب ظهور الحقّ سبحانه يومئذٍ ، وارتفاع حُجب المهيّات ، وانتهاك أستار الهويّات ، وبلوغ الكلّ إلى غاية الغايات من سيرهم ، ومنتهى النهايات من كدحهم ورجوعهم ، وهو قوله سبحانه :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ) (٦) ، وقوله سبحانه :( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (٧) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٣٦ .

(٢) سورة النازعات : الآية ٤٦ .

(٣) سورة الأحقاف : الآية ٣٥ .

(٤) سورة المؤمنون : الآيات ١١٢ ـ ١١٤ .

(٥) سورة الروم : الآية ٥٦ .

(٦) سورة النازعات : الآيات ٤٢ ـ ٤٤ .

(٧) سورة النجم : الآية ٤٢ .

٩٢

وقوله : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (١) ، وقوله :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) ، وقوله : ( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) (٣) ، وقوله : ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٤) ، وقوله :( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) (٥) ، وآيات أُخر في هذا المعنى ، وقوله :( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ ) (٦) ، وقوله :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٧) .

فهم لزعمهم أنّها أمر زماني في سلسلة متّصلة بزمانهم سألوا توقيتها ، فصرفهم سبحانه بما يقرب من إفهامهم ثمَّ لمّا ألحّوا فيه ، أجابهم بأنّ علمها لا يبرز من عند الله ، ويأبى بذاته عن الطلوع لغيره سبحانه ، لا أنّه يقبل الحصول للغير وإنّما أخفى إخفاءً لمصلحة أو غيرها ، كما في معلوماتنا ؛ ولذلك عقبهُ سبحانه بقوله :( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .

ثمَّ إنّ حُجب المراتب والهويّات ، حيث ارتفعت يومئذٍ ، ولم يحتجب شيء عن

ـــــــــــــ

(١) سورة الانشقاق : الآية ٦ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٤٥ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٢١ .

(٤) سورة المائدة : الآية ١٨ .

(٥) سورة الشورى : الآية ٥٣ .

(٦) سورة الملك : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

(٧) سورة الأعراف : الآية ١٨٧ .

٩٣

شيء ، فالوعاء وعاء النور ، وقد تبدّلت الهويات فصارت متنوّرة ، وهو قوله سبحانه :( وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً ) (١) ، وقوله :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) ، وقوله :( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٣) ، إلى أن قال : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) (٤) ، وقوله :( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) (٥) ، وقوله :( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ) (٦) ، وقوله :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) (٧) .

وفي (تفسير القمّي) عن السجادعليه‌السلام في حديث في قوله سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) ، قالعليه‌السلام :(يعني بأرض لم تُكتسب عليها الذنوب ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات ، كما دحاها أوّل مرّة ، ويعيد عرشه على الماء كما كان أوّل مرّة مستقلاًّ (٨)

ـــــــــــــ

(١) سورة النبأ : الآية ١٩ .

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٤٨ .

(٣) سورة الزُّمر : الآية ٦٧ .

(٤) سورة الزُّمر : الآية ٦٩ .

(٥) سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

(٦) سورة الانشقاق : الآيتان ٣ و ٤ .

(٧) سورة الزلزلة : الآية ٢ .

(٨) قولهعليه‌السلام : (مستقلاً بعظمته وقدرته) تفسير لكون عرشه على الماء ، وله شواهد من الكتاب تدلّ على أنّ الماء إشارة إلى منبع كلّ حياة وقدرة وعظمة ، أن تحمل نقوش الخلقة ظهرت الموجودات ، وإذا انمحت عاد العرش على الماء ، فافهم والله الهادي (منه قُدِّس سِرُّه) .

٩٤

بعظمته وقدرته) ـ الحديث(١) .

وما ذكرناه في الاستفادة من الآيات في تنوّر الموجودات ، لا ينافي آيات أُخر تنفي النور عن الكافرين ، كقوله سبحانه :( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (٢) ، وقوله :( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (٣) ، وقوله : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ) (٤) .

وقد قال سبحانه في المؤمنين :( يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ) (٥) الآية ، وقال تعالى :( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (٦) الآية .

وقوله سبحانه :( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (٧) ، وقوله :( أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (٨) ، فإنّ ذلك ظهور ظلمات اكتسبتها أنفسهم في الدنيا ، ولا بدّ أن يبدو لهم في الآخرة ، فتلك ظلمة مع نور قد حُرم المشركون عن إفاضتها ، وكتبه الله للمؤمنين ، وقد مرّ نظير هذا المطلب في ارتفاع الحجب بين الإنسان وبين ربّه .

ومن هذا الباب قوله سبحانه :( كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) (٩) ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٢٥٥ .

(٢) سورة النور : الآية ٤٠ .

(٣) سورة طه : الآية ١٢٤ .

(٤) سورة الحديد : الآية ١٣ .

(٥) سورة الحديد : الآية ١٢ .

(٦) سورة الحديد : الآية ١٩ .

(٧) سورة الأنعام : الآية ١٢٢ .

(٨) سورة البقرة : الآية ٢٥٧ .

(٩) سورة الأنعام : الآية ٢٤ .

٩٥

وقوله سبحانه : ( فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) ، وقوله سبحانه : ( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (٢) .

وهناك روايات أيضاً في أنّ المشركين يكذبون يوم القيامة ، فهذه كما ذكرنا في غيرها أيضاً ظهور للمعصية التي اقترفوها في الدنيا يومئذٍ ، ولا ينافي عدم قابليّة اليوم للكذب ؛ فكلّ ما يعمله الإنسان من عمل ، أو يكسبه من فضيلة أو رذيلة ، لا بدّ وأن يظهر يوم القيامة ، وقد قال سبحانه :( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (٣) .

وسيجيء في (فصل : الأعراف) ما يتمّ به هذا البيان ، ويتبيّن به أنّ الأمر واحد في نفسه ، لكنّه للمؤمنين رحمة وكرامة ، وللكافرين نقمة وعذاب ، فاحسن التدبّر فيه فإنّه دقيق .

ـــــــــــــ

(١) سورة النحل : الآية ٢٨ .

(٢) سورة المجادلة : الآية ١٨ .

(٣) سورة النساء : الآية ٤٢ .

٩٦

الفصل الخامس: في قيام الإنسان إلى فصل القضاء

حيث إنّ المعاد رجوع الأشياء بتمام ذاتها إلى ما بُدِئَ منها ، وهو واجب بالضرورة ، كما مرّت الإشارة إليه ، فمن الضروري أن يكون ذلك بتمام وجودها فما وجوده ذو مراتب وجهات متّحدة بعضها مع بعض ، يرجع إلى هناك بتمام وجوده بالضرورة ، فلحوق بدن الإنسان بنفسه في المعاد ضروري ، غير أنّ النشأة متبدّلة إلى نشأة الكمال الأخير والحياة التامّة ، فالبدن ـ كالنفس الحيّة ـ حيّ نوراني .

ويشير إلى ذلك ما في (الاحتجاج) عن الصادقعليه‌السلام في كلامه مع الزنديق ، قالعليه‌السلام :(إنّ الروح مقيمة في مكانها : روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المُسِيْءِ في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً منه خُلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها ، ممّا أكلته ومزّقته ، كلّ ذلك في التراب ، محفوظ عند مَن لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها .

وإنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث ، مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثمَّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد هو اللبن إذا مخضّ ، فيجتمع تراب كلّ قالب فينتقل بإذن القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً) (١) .

ـــــــــــــ

(١) الاحتجاج : ٢ / ٨٦ .

٩٧

أقول : وقولهعليه‌السلام :(فإذا كان حين البعث ، مطرت الأرض مطر النشور ...) (الحديث) ورد في هذا المعنى عدّة روايات منهمعليهم‌السلام أيضاً ، وهو مستفاد من تمثيله سبحانه البعث والإحياء بإحياء الأرض بعد موتها ، قال سبحانه : ( وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) (١) ، وقال سبحانه :( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) (٢) .

فالآيات كما ترى تعطي أنّ للإنسان المادي ، أو لبدنه فقط ، تبدّلات حتّى يصل الغاية التي غيَّاها سبحانه له .

ومثلها قوله سبحانه :( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (٣) ، يفيد أنّ الذي جعل الشجر الأخضر بالتدريج ، والتصرّف بعد التصرّف ناراً يضادّ الخضرة ، قادر على أن يجعل العظام الرميم حيّة .

وفي هذا المجرى قوله سبحانه :( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (٤) ، ومثله قوله : ( نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة ق : الآية ١١ .

(٢) سورة الحجّ : الآيات ٥ ـ ٧ .

(٣) سورة يس : الآيات ٧٨ ـ ٨٠ .

(٤) سورة الواقعة : الآيتان ٦٠ و ٦١ .

(٥) سورة الإنسان : الآية ٢٨ .

٩٨

والمراد بتبديل الأمثال : ورود خَلْق بعد خَلْق ، قال تعالى : ( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) ، وقال: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢) .

وليس المراد بها الأمثال المصطلح عليها في العلوم العقليّة ، وبالاتّحاد النوعي والاختلاف الشخصي ، فإنّ مثل الشيء ، بهذا المعنى ، غير الشيء ، فلا تتمّ الحجّة على منكري الحشر حينئذٍ بقوله : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) (٣) ؛ إذ خلق مثلهم على ذلك ليس إعادة لهم بالضرورة ، بل المراد بخلق مثلهم وتبديل أمثالهم التبدّلات فيهم ، بحيث لا تخرج عن أنفسهم ، كما أنّه سبحانه في مثل هذا النظْم بدل المثل بالعين ، فقال :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) (٤) ، وقال سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٥) ، فالمراد بمثل الشيء نفس الشيء ، وهو نوع من التلطّف في الكلام.

فهذا كلّه يتضمّن تبدّلات الأبدان وورودها طوراً بعد طور ، وركوبها طبقاً عن طبق ، حتّى تنتهي إلى الساعة ، فتحلّق بالأنفس ، قال سبحانه :( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) (٦) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة ق : الآية ١٥ .

(٢) سورة الرحمن : الآية ٢٩ .

(٣) سورة يس : الآية ٨١ .

(٤) سورة الأحقاف : الآية ٣٣ .

(٥) سورة الشورى : الآية ١١ .

(٦) سورة الانفطار : الآية ٤ .

٩٩

وقال : ( أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ) (١) ، فعبّر بكلمة (مَا) ، ثمَّ قال :( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ) (٢) .

وهذا هو لحوق الأبدان بالأرواح كما ترى ، وللأرواح مع ذلك سير في مسيرها ، وحركة في طريقها ، قال سبحانه :( مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٣) ، فبيّن أنّ الروح كالملائكة تعرج إليه سبحانه في معارجه ، والمعراج السلّم ومثله قوله سبحانه :( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٤) .

وقد جمع سبحانه أهل السعادة والشقاء جميعاً في قوله :( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ) (٥) ، وقوله :( وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) (٦) .

وقال سبحانه في أهل الجنة : ( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٧) ، وقال في أهل النار :( مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ) (٨) ، إذ قد أخبر سبحانه أن لا وقود لجهنّم غير أهلها ، فخبوّها نفاد مَن فيها بالإحراق .

ـــــــــــــ

(١) سورة العاديات : الآية ٩ .

(٢) سورة النازعات : الآيتان ١٣ و ١٤ .

(٣) سورة المعارج : الآيتان ٣ و ٤ .

(٤) سورة غافر : الآية ١٥ .

(٥) سورة الأنعام : الآية ١٣٢ .

(٦) سورة الإسراء : الآية ٢١ .

(٧) سورة البقرة : الآية ٢٥ .

(٨) سورة الإسراء : الآية ٩٧ .

١٠٠