ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)0%

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 116

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد شهاب الدين العذاري
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: الصفحات: 116
المشاهدات: 73058
تحميل: 5110

توضيحات:

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73058 / تحميل: 5110
الحجم الحجم الحجم
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٣

٤

مقدّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين.. وبعد..

يُثير الحديث عن مقوّمات المنهج التربوي السليم الذي تحتاجه الأُمّة، ودور المبادئ والخلفيّات الفلسفيّة للمناهج التربويّة السائدة في واقعنا أسئلةً شتّى؛ لأنّ ما أفرزته تجارب الفكر المُعاصر في الحقل التربوي مِن مشاكل، وما طرحه التطبيق الفعلي لبرامجه التربويّة من أسئلةٍ عديدة ونقاطِ فراغٍ لم تُملأ إلى الآن، وما قُدِّم على هذا الصعيد من حلول.. أدلّةٌ كافية على مرحليّة تلك المناهج، وعدم صلاحيّتها للامتداد وإثراء المسيرة الإنسانيّة بما ينسجم وفطرة الإنسان وتطلّعه نحو الكمال، وعدم كفاءتها في إكساب الواقع الاجتماعي قدرة على النموّ والتطوّر، ممّا أدّى إلى ظهور أصواتٍ عديدة تدعو إلى ضرورة إعادة النظر في تلك البرامج ولزوم تعديلها.

وللأسف الشديد، إنّ حال المناهج التربويّة السائدة في المجتمعات الإسلاميّة لا سيّما التي تُدرّس على مستوى الجامعات لم تكن بأوفَر حظّاً من تلك المناهج؛ لأنّها ما بين مجرّد تغطيةٍ للفكر العلماني باعتماد أُطُرٍ منهجيّةٍ في ترسيخه على حساب الفكر الإسلامي، وما بين كونها محدّدة بقرارات سياسيّة صارمة لا تتيح لأفراد الأُمّة حُرّية النقد والاختيار؛ خدمة لأهداف أيديولوجيّة معيّنة تسعى السلطة لتحقيقها، حتّى عاد المنهج التربوي في أكثر البلاد الإسلاميّة حارساً للنظام القائم في هذا القطر أو ذاك.

وهكذا أُهملت المقوّمات الحقيقيّة للمنهج التربوي، فطبيعة الإنسان، وفطرته، وميوله، وغرائزه، وحبّه لذاته، وما يعتريه مِن أدوار مختلفة من الطفولة إلى الهرَم، ونوع ارتباطه مع العالم الخارجي، وفلسفته في الوجود، أُمور خطيرة تفرض نفسها على واقع كلّ عمليّةٍ تربويّة، الأمر الذي يُفترض معه امتلاك المُقَنِّن التربوي الصورة الواضحة للنفس البشريّة، وتشخيص مشاكلها بدقّة، مع الإحاطة بسائر العوامل الأساسيّة والثانويّة المؤثّرة في البناء التربوي؛ لتكون برامجه ناجعة ومتينة، وإلاّ صارت مواقع الكيان التربوي ساحة لتخبط العاملين فيها، خصوصاً إذا ما كانت تلك المناهج قائمة على مفاهيم فلسفيّة أجنبيّة مُبتنية على أساس فصل الدين عن الدولة.

والمنهج الذي لا يمتلك مِن سِعة الأهداف الخيّرة ما ينبغي، ولا مِن دقّة التشخيص ما يكفي، ولا مِن وضوح الرؤية لحياة الفرد والمجتمع كما يجب، فكيف ينفذ إلى أعماق النفس البشريّة حتّى يصير لها خُلُقاً ومَلَكة، وهو لم يتفاعل مع وجدانها ولم يتّحد مع وجودها. والمنهج الذي ينطلق من تنمية الإحساس بالقوميّة أو الطائفيّة ولم يرتكز على روحانيّة الإسلام، أو من الاحتفاء بالسلطة تارة، أو المادّة أُخرى مع تهميش دَور القِيم الإنسانيّة النبيلة، ولا يضع في حساباته دَور المنظومة الأخلاقيّة في البناء التربوي، كيف يخلق مِن الأُمّة شخصيّة متّزنة قادرة على تشخيص أخطائها وتصحيح مسيرتها، وتحمّل مسؤوليّتها في حاضرها ومستقبلها؟

وفي ضوء ما تقدّم يتّضح أنّ المنهج التربوي الصحيح هو ما تجاوز حدود الزمان والمكان،

٥

مُستمدّاً نقطة انطلاقه من الخبير العارف بما يصلح الناس جميعاً، منسجماً مع فطرتِهم وتطلعاتهم وغاية وجودهم؛ لكي تتوفّر القناعة الشعبيّة العارمة في تطبيق برامجه بلا حاجة إلى تطبيقها قسراً من سلطةٍ أعلى.

وعلى هذا الأساس فإنّ صياغة المنهج التربوي في مجتمعنا المسلم، يجب أنْ تنطلق من مسلّمات إيمانيّة، وأُسُس عقلانيّة راسخة ليتشكل بمجموعها الإطار الأساسي لذلك المنهج.

وبعبارةٍ أدق.. إنّ اختيار المنهج التربوي لتطبيقه على واقع المجتمع المسلم، يجب أنْ يلحظ مسألة التعبّد بالنص المتجذّرة في أعماق الأُمّة المسلمة، ممّا يعني هذا ضرورة استنطاق النصّ في صياغة كلّ منهج، لا سيّما التربوي الذي يهدف إلى حراسة الأُمّة وحفظها من الانهيار، والقضاء على كلّ ما من شأنه أنْ يُفسِد على الناس فطرتهم، أو يبعث على انحراف سلوكهم، أو يُساعد على التواء سليقتِهم، أو يعكّر نظرتهم وتفكيرهم؛ لكي تُربّى الأُمّة - حينئذٍ - على عقيدةِ التوحيد الخالصة، وتكون حركة المجتمع كلّها باتجاه الحقّ المطلق، وبهذا ينسجم المنهج التربوي مع فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً.

ولا شكّ أنّ تطبيق مثل هذا المنهج سيحقّق أعلى درجات الموازنة، بين حبّ الذات كغريزة وحبّ الغير كضرورة إنسانيّة، بين حبّ البقاء والتضحية في سبيل العقيدة والمبدأ، وبين حبّ الدنيا والعمل للآخرة، وسيغرس بذور الشعور بالمسؤوليّة في ذهن الأُمّة وتكون أفعالها وأقوالها مستندةٍ على أساسٍ مقبول. وهذا - في الواقع - هو منهج الإسلام بخطوطه العريضة الواسعة، الذي يسلّم بأهميّة الفرد وأسبقيّته الوجوديّة في المجتمع من جهة، ولكنّه من جهةٍ أُخرى يعطي للمجتمع عنايةً خاصّة مركّزة، باعتباره الأساس الذي تجري عليه السُنَن التاريخيّة في نشوء الحضارات وفنائها، وفي بقاء الأُمَم وهلاكها.

وحقيقة كون الإسلام صالحاً لكلّ عصرٍ وجيل هي التي تُبرّر لنا التأكيد على منهج أهل البيت ( عليهم السلام ) في التربية؛ لأنّ ما تعنيه تلك الحقيقة في قيمومة الإسلام وديمومته هو استنطاق القرآن الكريم وتحكيمه في مناحي الحياة ومناهجها، الأمر الذي يلزم تحديد المرجعيّة العلميّة للأُمّة، وقد حصرها النص - والتعبّد به لازم لكلّ مسلم - بثلّةٍ طاهرة، وجعلها قريناً للقرآن وحليفاً له وسمّاهما ثقلين هاديَين إلى الحقّ، عاصمَين من الضلالة، مع بقائهما عمر الدنيا وعدم افتراقهما حتّى يردا على النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الحوض يوم القيامة.

ومَن يكون قرين القرآن فمنهجه في بناء الإنسان أحقُّ بأنْ يُتَّبع، وأولى بالعناية، وأجدر بالتطبيق، وإلاّ فلن يكون استنطاق القرآن وإهمال نظيره، كافياً في طرح المنهج التربوي البديل عن المناهج المستوردة السائدة في مجتمعنا المسلم!

ومن هنا انطلق الكتاب الماثل بين يدَي القرّاء لتوضيح معالِم هذا المنهج الربّاني الذي لم يبتنِ على أساس مرحلِي مؤقّت ليسدل التاريخ عليه ستاره بعد حين، وإنّما جاء إلينا على أساس كونه الحقيقة الربّانيّة الصالحة لجميع العصور، والامتداد الطبيعي لرسالة السماء. مسلّطاً بذلك الضوء على ملامحه الأساسيّة، مُمهّداً الطريق إلى دراسات علميّة تربويّة أوسع في غمار هذا المنهج.. والله الهادي إلى سَواء السبيل.

مركز الرسالة

٦

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين.

من الحقائق الثابتة أنّ التربية العشوائيّة أو العفويّة تبدّد الطاقات والجهود، وتخلق الاضطراب والبلبلة في المجال النفسي والسلوكي، وتحرف الأهداف والغايات التربويّة عن مسارها الحقيقي؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى منهجٍ تربويٍّ ثابت في أُصوله، واضحٌ في مقوّماته وموازينه ضرورة من ضرورات الحركة التربويّة، فهو الذي يرسم للتربية مسارها السليم المتوازن، ويحدّد لها معالم طريقها، ويوجّه الجهود والنشاطات والبرامج التربويّة لتقرير المفاهيم والقِيم الصالحة والسامية في الواقع الإنساني.

وقد بذل العلماء والباحثون والمتخصّصون في شُؤون التربية جهوداً كبيرة ومتواصلة، للتوصّل إلى منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الإنسان والمجتمع على أُسُسٍ سليمةٍ وصالحة، ولم تتوقّف هذه الجهود قديماً وحديثاً ولا زالت مستمرّة، إلاّ أنّها لم تتّفق على نقاط مشتركة يمكنها أنْ تكون ميزاناً ومعياراً للجميع؛ لاختلاف العلماء والباحثين في متبنياتهم العقائديّة والفكريّة، ولاختلافهم في معرفة القوى المؤثّرة في حركة الكون والحياة والمجتمع والتاريخ.

وفي واقعنا الإسلامي اختلفت البحوث والدراسات أيضاً، فمنها ما اعتمد على الدراسات الغربيّة النظريّة والميدانيّة، دون بذل جهد للبحث عن منهج يعتمد على الأُسس والمفاهيم والقيم الإسلاميّة. ومنها ما هذّب وشذّب لكي يرتدي مظهراً شرقيّاً وإسلاميّاً، دون الرجوع إلى أهل الاختصاص في العلوم الإسلاميّة، ومنها ما زاوج بين الدراسات الغربيّة والدراسات الشرقيّة النظريّة والميدانية بما يلائم النظرة الشرقيّة للحياة والمجتمع.

واعتمدت بعض الدراسات على خُبُرات أساتذة الجامعات في المجالَين: النظري والتطبيقي، فخرجت بنتائج ايجابيّة؛ لاعتمادها على الواقع الإسلامي ولكنّها ليست بمستوى الطموح.

وهنالك دراسات قام بها متخصّصون في العلوم الإسلاميّة، جمعت بين الدراسات الحديثة الغربيّة والشرقيّة وبين الدراسات الإسلاميّة، ولكنّها لم تبحث المنهج التربوي بشكلٍ مستقلٍ وبمستوى الطموح. وجزى الله الجميع خيراً مادامت نواياهم منصبّة على رفد الساحة التربويّة بدراسات تسهم في البناء التربوي السليم.

٧

وقد فات الكثير من الدراسات الرجوع إلى عدل القرآن وهُم أئمّة الهدى من أهل بيت النبوّة، فانّ أحاديثهم وإرشاداتهم ووصاياهم وسيرتهم العمليّة، كفيلةٌ بتحديد معالم متكاملة وشاملة لمنهجٍ تربويٍّ يصلح أنْ يكون مرجعاً لجميع العلماء والباحثين والمتخصّصين بشؤون التربية، وعلم النفس على اختلاف متبنّياتهم العقائديّة والفكريّة؛ لأنّه المنهج الذي لا يتقيّد بزمانٍ أو مكان، بل يصلح لكلّ زمانٍ ومكان؛ لأنّه صادر عن أئمّة الهُدى وعن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي لا ينطق عن الهوى، ومرجعه إلى الله تعالى المحيط بسكنَات الإنسان وحرَكاته، فهو مِن وضع خالق الإنسان لا مِن وضع الإنسان المحدود في فكره والمحدود في قواه العقليّة والعلميّة، وهو منهج واقعي يراعي واقع الإنسان فلا يحمّله ما لا يطيق، وهو منهج شمولي لايتحدّد بجانبٍ معيّن، ولا يبحث مجالاً دون آخر.

وفي بحثنا عن ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت ( عليهم السلام )، نضع بعض القواعد التأسيسيّة في هذا المجال لتكون عوناً لمَن يرغب أنْ يتوسّع في البحث والكتابة، وقد اعتمدنا على أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) وسيرتهم في التوصّل إلى معالم المنهج التربوي، مع الاستفادة من الشواهد والدراسات العلميّة الحديثة، ومن التجربة الشخصيّة من خلال متابعة عيّنات من الظواهر التربويّة والنفسيّة.

ووزّعنا البحث على فصول: تناولنا في الفصل الأول: أثَر الوراثة والمحيط في البناء التربوي، ثُمّ عرضنا في الفصل الثاني دور القِيَم المعنويّة والنفسيّة في المجال التربوي، وتناولنا في الفصل الثالث خصائص المربّين وأساليب التربية، وأخيراً تناولنا في الفصل الرابع خصائص ومميّزات المنهج التربوي عند أهل البيت ( عليهم السلام ).

وقد اخترنا الأُسلوب الميسّر في طرح الآراء والمتبنّيات، متجنّبين استخدام المصطلحات الغامضة والعبارات المُبهمة، لتكون الاستفادة عامّة وشاملة لجميع المستويات.

نسأل الله تعالى أنْ يوفّقنا لخدمة دينه ومنهجه ومَن أمرنا بطاعتهم إنّه نِعم المولى ونعم النصير.

٨

الفصل الأوّل: أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي

أثبتت الدراسات التربويّة والاجتماعيّة المستفيضة الأثر الواضح للوراثة والمحيط الاجتماعي في تكوين شخصيّة الإنسان؛ حيثُ تنعكس على جميع جوانبها الجسديّة والنفسيّة والروحيّة؛ فأغلب الصفات تنتقل من الوالدين والأجداد الى الأبناء، إمّا بالوراثة المباشرة،أو بخَلْق الاستعداد والقابليّة للاتّصاف بهذه الصفة أو تلك، ثُمّ يأتي دَور المحيط التربوي ليقرّر النتيجة النهائيّة للشخصيّة.

أوّلاً: دور الوراثة

من الحقائق الثابتة أنّ الأبناء يرثون الوالدين في خصائصهم وصفاتهم الجسميّة والعقليّة والنفسيّة، وكذلك يرثون أجدادهم في بعضها.

وقد دلّت الروايات على أنّ الإنسان يرِث الخصائص والصفات الجسميّة من جميع آبائه وأجداده، ورد ذلك عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ):( إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أنْ يخلق خلقاً، جمع كلّ صورةٍ بينه وبين أبيه الى آدم، ثُمّ خلقه على صورة أحدهم، فلا يقولنّ أحدٌ هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً مِن آبائي ) (١) .

____________________

(١) علل الشرايع / الشيخ الصدوق: ص ١٠٣، المكتبة الحيدريّة، النجف ١٣٨٥هـ.

٩

وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة من أنّ ( وراثة المولود لا يحدّدها أبَوَاه المباشران فقط، بل هو يرِث من جدوده وآباء جدوده وجدود جدوده وهكذا وبديهيّ أنّ معظم وراثة الإنسان تنحدر إليه من آبائه الأقربين، وأنّ أثر الجدود الأباعد يقلّ كلّما زاد بُعدهم، وعلى هذا نستطيع القول: بأنّ نصف الوراثة من الأبَوين، ورُبعها من الجدود، وثُمنها من آباء الجدود وهكذا )(١) .

والوراثة لها دورٌ أساسيٌّ في نقل بقيّة الصفات، ولهذا أكّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على حُسنِ الاختيار في الزواج فقال:( تخيّروا لنطفكم، فإنّ العِرْقَ دسّاس ) (٢) .

ومصطلح( العِرْق ) يُقابله في الاصطلاح المعاصر مصطلح الجينات genes، والتي تحملها الصبغيّات( الكروموسومات ) chromosomes التي تحتويها نواة الخليّة الناجمة عن البويضة الأُنثويّةovum المخصّبة من الحيوان المنوي الذكريsperm (٣) .

وتحذير رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من العِرْق الدسّاس ناظر الى الصفات النفسيّة والروحيّة والخلقيّة، التي تنتقل بالوراثة، أو يكون العامل الوراثي خالقاً للاستعداد في نفس الوليد، للاتّصاف بصفة من الصفات التي يحملها الوالدان أو الأجداد.

ويقول( بيرون ) : ( إنّ ابني وهو منسوبٌ إليّ، ولكنّي أرى أجداده الماضين

____________________

(١) علم النفس التربوي / الدكتور فاخر عاقل: ص ٣٩، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٨٥.

(٢) المحجّة البيضاء / الفيض الكاشاني: ٣ / ٩٣، جامعة المدرّسين، قم، ط ٢.

(٣) علم نفس النمو / الدكتور حامد زهران: ص ٣٦، عالم الكتب، القاهرة، ١٩٨٢.

١٠

ينازعوني هذا الملك العزيز لدي، فإنّهم يشوّهون طهارة نفسه، ويكدّرون صفاء روحه بما رسب في أعماقهم من نزعات شرّيرة مجهولة انتقلت إليه بالوراثة )(١) .

الخصائص والصفات المنقولة بالوراثة

الوراثة تؤثر في تحديد أغلب خصائص وصفات الشخصية؛ حيث تخلق الاستعداد في النفس، فاذا وجدت البيئة المناسبة نمت وترعرعت بالاتجاه المناسب لها.

والخصائص والصفات التي يمكن توريثها هي باختصار:

١ - الصفات الجسميّة.

٢ - الصفات العقليّ: كحِدّة الذكاء أو البلادة، والطباع النفسيّة والعقليّة، وصِدق النظر في الميول والاهتمامات والاتّجاهات.

٣ - الطباع والسجايا: كالاهتمام أو عدم المبالاة، والرعونة وحدة الطبع، وسرعة الإجابة أو الخمول والجمود، والإحساس أو تعب الأعصاب، والانشراح والاكتئاب.

٤ - الميل في أعضاء الجسد نحو القوّة أو نحو الضعف.

٥ - المزاج العصبي.

٦ - غرابة الطبع وشواذ الحالات العصبيّة (٢) .

____________________

(١) النظام التربوي في الإسلام / باقر شريف القرشي: ص ٥٧، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٤٠٨هـ.

(٢) سيكولوجيّة النمو والارتقاء / الدكتور عبد الفتاح دويدار: ص ٨١، دار النهضة العربيّة، بيروت، ١٩٩٣م.

١١

فالخصائص والصفات المنقولة بالوراثة إذن تنقسم الى نفسيّة وعقليّة وخلقيّة، وهي إمّا أنْ تنتقل بصورة مباشرة أو تخلق الاستعداد للاتّصاف بها.

١ - الخصائص والصفات النفسيّة والعقليّة

الإمراض النفسيّة تنتقل بالوراثة من الوالدين أو أحدهما الى الأبناء، ولهذا حذّر الإمام محمّد الباقر ( عليه السلام ) من الإنجاب من المرأة المجنونة خوفاً من انتقال الجنون منها الى الطفل، فسُئل عن ذلك فقال:

( لا، ولكن إنْ كانت عنده أمة مجنونة، فلا بأس بأنْ يطأها ولا يطلب ولدها ) (١) .

وحذّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من تزويج الحمقاء لانتقال هذه الصفة الى الأبناء ولعدم قدرتها على تربيتهم تربيةً سويّة فقال:( إيّاكم وتزويج الحمقاء، فانّ صحبتها بَلاء، وولدها ضَياع ) (٢) .

وقد دلّت الدراسات الحديثة على أنّ الوراثة تؤثّر في النموّ العقلي، والصحّة العقليّة والانفعاليّة، وتتوقّف مكانة الإنسان في الحياة الى حدٍ كبير على كفاءاته التي تحدّدها الوراثة الى حدٍّ بعيد، والمواقف والعقائد والقيم تتأثّر بمكانة الإنسان في الحياة، وهكذا فإنّ الوراثة تؤثّر ولو بصورة غير مباشرة في المواقف والعقائد والقيم(٣) .

وقد أثبت كثير من العلماء دور الوراثة في تحديد الصفات النفسيّة والروحيّة والعقليّة للإنسان، كوراثة الجنون، ومرض انفصام الشخصيّة، ويرى( لوسين )

____________________

(١) وسائل الشيعة / الحرّ العاملي: ٢٠ / ٨٥، مؤسّسة آل البيت، قم، ١٤١٢هـ، ط١.

(٢) الكافي: ٥ / ٣٥٤.

(٣) علم النفس التربوي / فاخر عاقل: ص ٦٢، ٦٣.

١٢

أنّ الطبع هو مجموعة الاستعدادات الوراثيّة التي تؤلّف الهيكل النفسي للإنسان(١) .

وفي عام ١٩٦٣ ظهرت أوّل دراسة عالميّة، جاء من بعدها ١١١ بحثاً في أرجاء العالم، حتّى عام ١٩٨١ تدلّ هذه الدراسات على أنّ عناصر وراثيّة كثيرة ( جينات أو أجزاء مختلفة من الحموض النوويّة ) تتّحد لتقرّر قوّة الذكاء الموروث(٢) .

وللذكاء والغباء تأثير واقعي على سُلوك وأخلاق الإنسان، وقد دلّت الروايات على ذلك وأيّدتها الدراسات العلميّة والميدانيّة الحديثة(٣) .

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):

١ -( مَن لم يكمُل عقلُه لم تُؤمَن بَوائقه ).

٢ -( مَن لم يكن لهُ عقلٌ يزينه لم ينبُل ).

٣ -( السَفه يجلِب الشر ).

٤ -( الجهل معدن الشر ).

٥ -( الجهل أصلُ كل شرّ ) (٤) .

وهنالك خصائص وصفات نفسيّة تتأثّر بالوراثة كالشجاعة، وهذه الصفة

____________________

(١) الشخصيّة وأثر معاملة الوالدين في تكوينها / أنطون رحمة: ص ٤٠، مطبعة الحياة، دمشق.

(٢) الأُسس البيولوجيّة لسلوك الإنسان / الدكتور إبراهيم الدر: ص ١٧١، الدار العربيّة للعلوم، بيروت، ١٩٩٤م.

(٣) علم النفس التربوي / الدكتور علي منصور: ٢ / ٤٥٣.

(٤) تصنيف غُرر الحكم: ص ٥٥، ٧٦.

١٣

لها تأثيرها الواضح على شخصيّة الإنسان في أغلب جوانبها، ومن الوقائع اللطيفة حول وراثة الشجاعة ما قاله( زهير بن القين ) للعبّاس بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ): ( أحدثّك بحديثٍ وعيته؛ لمّا أراد أبوك أنْ يتزوج طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب - أنْ يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم )(١) .

٢ - الخصائص والصفات الخلقيّة

لا تقتصر الوراثة على الخصائص والصفات النفسيّة والعقليّة، التي تنتقل بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ بل تتعدّاها الى الخصائص والصفات الخلقيّة والسلوكيّة، إمّا بالمباشرة وإمّا بخلق القابليّة والاستعداد للاتّصاف بها، وقد يصعب تشخيص الوراثة عن المحيط في أجواء الأُسرة، فالطفل ينشأ ويترعرع في ظلّ الخصائص والصفات الخلقيّة التي يتّصف بها والداه، أو أحدهما بالتقليد وبالمحاكاة.

وقد حذّر أهل البيت ( عليهم السلام ) من الاقتران بالمنحرفين لتحصين العائلة والأطفال من الانحراف، قال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ):( لا تتزوّجوا المرأة المستعلِنة بالزنا، ولا تزوّجوا الرجل المستعلِن بالزنا، إلاّ أنْ تعرفوا منهما التوبة ) (٢) .

وحذّر ( عليه السلام ) من تزويج شارب الخمر فقال:( من زوّج كريمتَه مِن شاربِ

____________________

(١) مقتل الحسين / المقرّم: ص ٢٠٩، عن أسرار الشهادة: ص ٣٨٧.

(٢) مكارم الأخلاق / الطبرسي: ص ٣٠٥، منشورات الشريف الرضي، ١٤١٠هـ.

١٤

خمر فقد قطع رحمها ) (١) .

وقد دلّت الدراسات الحديثة على هذه الحقائق، وتنسب الى( ديوجن ) هذه الكلمة حين التقى بأبْلَهٍ: ( يا فتى، كان أبوك سكران حين حملت بك أُمّك ).

وكتب الطبيب الفرنسي le grand: ( إنّ أولاد السكّيرين يشكلّون متحفاً للأمراض، من سوء نموّ الجهار العظمي، ومن السل الى الصرع الى الهستيريا، ومن ضعف الملَكَات العقليّة وانحلالها تماماً، الى ميول أخلاقيّة فاسدة واستعداد عجيب للإجرام )(٢) .

ويقول الدكتوركاريل : ( إنّ سكر الزوج أو الزوجة حين الاتّصال الجنسي بينهما يعتبر جريمةً عظيمة؛ لأنّ الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبيّة ونفسيّة غير قابلة للعلاج )(٣) .

ويرى أمير المؤمنين ( عليه السلام )، أنّ الأصل الكريم والعِرق الصالح يؤثّر تأثيراً واضحاً على الإنسان، فمَن كان ينتمي الى نَسبٍ عريق في المكارم والفضائل، ستكون المكارم والفضائل صفةً ملازمةً له في جميع جوانب حياته، فلِلوراثةِ دورها وتأثيرها الواضح في أخلاق وسلوك الإنسان، حيثُ تخلُق في نفسه الاستعداد والقابليّة للاتّصاف بالمكارم والفضائل إذا كان ينحدر من أُصول متّصفة بها، وكذا الحال في مَن ينحدر من أُصول تتّصف بالرذائل والمفاسد، فإنّه يرثُها أو يكون قابلاً للاتّصاف بها.

____________________

(١) الكافي: ٥ / ٣٤٧.

(٢) دراسات معمّقة في الفقه الجنائي المقارن / الدكتور عبد الوهاب حمود: ص٣٤، جامعة الكويت، ١٩٨٣م.

(٣) الطفل بين الوراثة والتربية: ص ٧٨، عن طريق الحياة: ص ٩١.

١٥

قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):

١ -( إذا كرُم أصلُ الرجل كرُم مغيبُه ومحضره ).

٢ -( جميل المقصد يدلّ على طهارة المولد ).

٣ -( من خبث عنصره ساء محضره ).

٤ -( من كرم محتده حسن مشهده ).

٥ -( منزع الكريم أبداً إلى شيم آبائه ) (١) .

ويستدلّ ( عليه السلام ) على كرم الأعراق من خلال حُسن الأخلاق، فحُسن أخلاق الأبناء كاشفٌ عن حُسن عروقه وأُصوله، قال ( عليه السلام ):( حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق ) (٢) .

وفي كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دلالات واضحة على وراثة الخلق والشرف من الآباء والأُمّهات والأجداد، وفي كلامه تشجيع على طلب الحوائج من ذوي الأُصول الطيبة حيثُ قال ( عليه السلام ):( عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس والأُصول، تنجح لكم عندهم من غير مطالٍ ولا منٍّ ) .

وقال عليه السلام:( عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأُصول الطيّبة، فإنّها عندهم أقضى، وهي لديهم أزكى ) (٣) .

ويسوق الباحثون في علم النفس والتربية أمثلةً على تأثير الوراثة على الخصائص والصفات الخلقيّة، ومنها دراسة عائلة( كالليكاك ) ، حين كان جنديّاً في عهد الثورة الأمريكيّة حيث اقترن مع فتاة ضعيفة العقل كانت خادمة في خان،

____________________

(١) تصنيف غرر الحكم: ص ٤٠٩.

(٢) المصدر السابق نفسه: ص ٢٥٤.

(٣) تصنيف غرر الحكم: ص ٢١٤.

١٦

ثُمّ اقترن عن طريق زواج شرعي بفتاة مدنيّة ذات ذكاء سوِي تزوّجها بعد عودته من الحرب.

ففي السلسلة الناتجة عن زواجه الشرعي لوحظ أنّ السواد الأعظم من نسله كان سويّاً أمّا في السلسلة الثانية التي نشأت عن علاقة( كالليكاك ) بفتاة الخان، فقد لوحظ عدد كبير جدّاً من ضِعاف العقول ومدمني الخمر والمومسات والمجرمين.(١)

ولتأثير الوراثة على الخصائص والصفات الخلقيّة، نسوق مثالاً من تاريخنا الإسلامي نُقارن فيه بين أُسرتين: أُسرة بني هاشم وأُسرة بني أُميّة، ففي الأُسرة الأُولى كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأئمّة من ولده، وفي الأسرة الثانية كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، والاختلاف بين الأُسرتين واضح المعالم، حيث القمّة في الخلق والسموّ في المثل في قبال الانحراف الكلّي والانحطاط التام في أغلب جوانب الشخصيّة.

ثانياً: دور المحيط التربوي

تشترك الوراثة مع المحيط في البناء التربوي بحيث لا يُمكن فصل بعضهما عن بعض؛ لأنّهما متكاملان متكاتفان؛ حيثُ تخلق الوراثة القابليّة والاستعداد للاتّصاف بهذه الصفة أو تلك إنْ وجَدَت المحيط التربوي المناسب، وتشترك الوراثة مع المحيط في خلق الشخصيّة بما في ذلك المتبنيات العقائديّة والقيم، ومع هذا التكامل والتكاتف يبقى للمحيط التربوي دور متميّز في البناء التربوي،

____________________

(١) علم النفس / الدكتور فاخر عاقل: ص ٢٦٤، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٨٧م، ط ١٠.

١٧

وهذا واضح من خلال النظرة الى الواقع، ومن خلال متابعة مسيرة الإنسانيّة التي لا تخلو من نبيٍّ مُرسل أو وصيِّ نبيّ؛ يقومان بمهمّة خلق المحيط التربوي المناسب لإصلاح النفس الإنسانيّة والمجتمع الإنساني.

والمحيط التربوي يشمل جميع مواقع التأثير في الواقع الاجتماعي وأهمّها: الأُسرة، الأصدقاء، حَلَقَات الذكر، المسجد، علماء الدين، المدرسة، الدولة.

١ - الأسرة

الأسرة هي المحيط التربوي الأساسي المسؤول عن إعداد الطفل للدخول في الحياة الاجتماعيّة؛ ليكون عنصراً صالحاً فعّالاً في إدامتها، على أساس الصلاح والخير والبناء الفعّال، والأُسرة نقطة البدء التي تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني؛ وتؤثّر في كلّ مراحل الحياة إيجاباً وسلباً، وهي مسؤولة بالدرجة الأُولى عن النشأة والترعرع، وهي التي تحدّد مسار الإنسان السلوكي إنْ كانت التنشئة الاجتماعيّة خارجها ملائمة ومتشابهة.

ولأهمّيّة الأُسرة في البناء التربوي أبدى أهل البيت ( عليهم السلام ) أهمّيّة خاصّة بها، وكانت إرشاداتهم تؤكّد على اختيار شريك الحياة الصالح والمتديّن؛ ليقوم بالتعاون مع شريكه في إعداد الأطفال إعداداً ينسجم مع المنهج السلوكي في الإسلام، وحثّ أهلُ البيت الوالدين على القيام بمسؤوليّتهما في التربية وخصوصاً الوالد، حيث تقع عليه كامل المسؤوليّة.

قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ):( وأمّا حقّ ولدك، فتعلم أنّه منك ومضافٌ إليك في عاجلِ الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤولٌ عمّا وليته من حُسن الأدَب، والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثابٌ

١٨

على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزّين بحُسنِ أثره عليه في عاجل الدنيا، المُعذَر الى ربّه فيما بينك وبينه بحُسن القيام عليه، والأخذ له منه ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ) (١) .

وقال أيضاً:( وأمّا حقّ الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه، والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له، والستر على جرائر حداثته فإنّه سببٌ للتوبة، والمداراة له وترك مماحكته فإنّ ذلك أدنى لرُشده ) (٢) .

ودور الأُسرة لا يحدّد سلوك أفرادها فحسب، بل يحدّد جميع مقوّمات الشخصيّة: الفكريّة والعاطفيّة والنفسيّة؛ حيثُ ينعكس التعامل مع الأبناء على اتّزانهم النفسي والانفعالي، ولهذا يختلف الوضع النفسي مِن فردٍ لآخر في أُسرةٍ واحدة أو في أُسَرٍ متعدّدة، تبعاً لنوع المعاملة معه من حيث الرعاية أو الإهمال.

٢ - الأصدقاء والأصحاب

يتأثّر الإنسان وخصوصاً في مراحل حياته الأُولى بأصدقائه وأصحابه؛ حيث تنعكس آراؤهم ومشاعرهم وممارساتهم على مقوّمات شخصيّته، عن طريق الاحتكاك والتلقين والاستهواء، والتي تهيّأ العقول للتلقي والقلوب للاستجابة، والإرادات للممارسة.

ويتأثّر الإنسان بأصدقائه من حيث متبنّياته الفكريّة ونظرته الى الكون والحياة، ومٍِن ثُمّ مواقفه العمليّة وممارساته السلوكيّة؛ ولهذا جاءت روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) لتؤكّد اختيار الأصدقاء الصالحين وتجنّب الطالحين.

____________________

(١) تحف العقول / الحرّاني: ص ١٨٩.

(٢) المصدر السابق نفسه: ص ١٩٤.

١٩

فمن كتاب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) كتبه الى الحارث الهمداني جاء فيه:( واحذر صحابة من يفيل رأيه، ويُنكر عملُه، فإنّ الصّاحب معتبرٌ بصاحبه وإيّاك ومصاحبة الفسّاق، فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق ) (١) .

وحذّر ( عليه السلام ) من مصادقة المنحرفين فقال:( إيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يُريد أنْ ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة البخيل؛ فإنّه يقعد عنك أحوَج ما تكون إليه، وإيّاك ومصادقة الفاجر؛ فإنّه يبيعك بالتافه، وإيّاك ومصادقة الكذّاب؛ فإنّه كالسّراب يقرّب عليك البعيد، ويبعّد عليك القريب ) (٢) .

ومعاشرة الفسّاق والسفهاء خصوصاً، تؤدّي الى فساد الأخلاق كما ورد في حديث الإمام محمّد الجواد ( عليه السلام ):( فساد الأخلاق بمعاشرة السُفَهاء ) (٣) .

وفي مقابل هذه التحذيرات حثّ أهلُ البيت ( عليهم السلام ) على مصادقة ومجالسة الصالحين والأتقياء؛ لأنّها وسيلة من وسائل إصلاح الفكر وإصلاح السلوك؛ لانّ الإنسان يتأثّر بأفكار وسلوك المحيطين به، وخصوصاً إذا كانوا أكثر علماً أو تجربة منه، أو أكثر وجاهةً منه؛ لأنّ الإنسان يتأثّر بالأعلى منه ويقتدي بمَن فوقه من ذَوِي المواقع الاجتماعيّة المتقدّمة.

قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ):( مُجالسةُ الصالحين داعيةٌ إلى الصلاح ) (٤) .

وقال ( عليه السلام ):( جالسوا أهل الدين والمعرفة، فإنْ لم تقدروا عليهم فالوَحدة

____________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد: ١٨ / ٤٢.

(٢) المصدر السابق نفسه: ١٨ / ١٥٧.

(٣) كشف الغمة / الأربلي: ٢ / ٣٤٩.

(٤) تحف العقول / الحرّاني: ص ٢٠٥.

٢٠