ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)0%

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 116

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد شهاب الدين العذاري
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: الصفحات: 116
المشاهدات: 73597
تحميل: 5206

توضيحات:

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73597 / تحميل: 5206
الحجم الحجم الحجم
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالسعادة في الدنيا التي يؤمن بزوالها وفنائها.

والمنهج شامل في اختيار المربّين والمصلحين مِن حيثُ خصائصهم الذاتيّة، وخصائصهم العمليّة لكي تكون التربية ناجحة ومنسجمة مع المنهج الإلهي العام.

والمنهج شامل في اختيار الأساليب الناجحة والتي تؤثر على العقول والقلوب بعد أن تستجيب إليها لانسجامها مع ظروف وأحوال الناس.

٣ - واقعية المنهج التربوي

راعى المنهج التربوي لأهل البيت ( عليهم السلام ) واقع الإنسان مِن جميع جوانبه، فهو كائن ذو شطرَين ذكر وأُنثى، ولكلّ منهما خصائصه الفسيولوجيّة والسُلوكيّة، وهو كائن ضعيف محدود القدرة بالقياس إلى خالِقه، وهو كائن ذو قدرات بالقياس لغيره مِن المخلوقات، وهو كائن ذو نجدَين يحمل في جوانحه نوازع الخير والشر معاً، وهو كائن يؤثّر ويتأثّر بالمحيط الذي يعيشه سلباً أو إيجاباً.

وراعى المنهج التربوي لأهل البيت ( عليهم السلام ) واقع الإنسان ناظراً إلى جميع جوانبه داعياً إلى إشباعها بتوازن بحيث لا يطغى جانبٌ على جانب، ولا ناحيةٍ على ناحية، وقد وضع لكلّ جانب مقوّماته وحدوده الواقعيّة فلا تقييد مطبق ولا إطلاق العنان دون تناهٍ.

وهو منهج تتقبّله العقول والنفوس بلا حرَج ولا مشقّة، والإنسان حينما يلتزم بقواعده يشعر بمناغاتها له وانسجامها مع كيانه المزدَوَج، وهي سهلة التطبيق لِمن استعدّ لها وتهيّأت له الأرضيّة المناسبة عن طريق الوراثة والمحيط الاجتماعي في جميع مراحله.

ومِن واقعيّته أنّه راعى دور الوراثة ودور المحيط التربوي في البناء التربوي

١٠١

للإنسان، وراعى دور التقييم الذاتي والتقييم الاجتماعي في التربية، وراعى دور القدوة في التربية وجميعها أمور واقعيّة.

ومن واقعيّة المنهج التربوي تركيزه على دور القِيَم المعنويّة في التربية ومنها الإيمان بالله تعالى وبالعِقاب والثواب، فهذا الإيمان حاجة فطريّة قبل كلّ شيء يمليها الواقع الإنساني، وفي ذلك قال الفيلسوف الأمريكيويليام جيمس : ( أينما يقِم حديث حول اختيار الاله وعلمه الأبدي أو حول الخير والشر، تجد كل شخص قد أصاخ بسمعه له)(١) .

وقال الفيلسوف اليونانيابيكتيت : ( العقيدة بالله يجب أنْ تكون مستمرة كاستمرار النفس ).

وقالبرودون : ( الله هو الكائن الذي لا يدرك ولا يُوصف، ومع هذا فهو ضروري ).

وقال أيضاً: ( إنّ ضمائرنا قد شهِدَت لنا بوجود الله قَبل أنْ تكشفه لنا عقولنا ).

وقالالمسيو بوشيت : إنّ اعتقاد الأفراد والنوع الإنساني بأسرِه في الخالِق كان اعتقاداً اضطراريّاً قد نشأ قَبل حدوث البراهين الدالّة على وجوده، ومهما صعد الإنسان بذاكرته في تاريخ طفوليّته، فلا يستطيع أنْ يجد الساعة التي حدثت فيها عقيدته بالخالِق، تلك العقيدة التي نشأت صامتة، وصار لها أكبر الآثار في حياته )(٢) .

____________________

(١) علم النفس / جميل صليبا: ١١، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ١٤٠٤هـ.

(٢) دائرة معارف القرن العشرين لمحمّد فريد وجدي: ٤٨٢٠١، ٤٨٣، دار المعرفة، بيروت، ١٩٧١.

١٠٢

والإيمان باليوم الآخر ينسجم مع تطلّعات الإنسان لما وراء الحياة، وهذا الإيمان بالمطلق وبالثواب والنعيم، يمنح الإنسان طاقة روحيّة متسامية، يُحافظ مِن خلالها على سلامته النفسيّة واستقامته السلوكيّة، فلو أصابه الحرمان وحال الواقع دون إشباع حاجاته فإنّ الإيمان سيخفّف مِن معاناة الحرمان.

والإيمان باليوم الآخر أمرٌ واقعيٌّ، كما هو واضح في آراء العُلماء والمفكّرين، وفي ذلك يقولنورمان فنسنت بيل : ( والواقع أنّ الشعور الغريزي بوجود عالَم آخر بعد الموت هو مِن أقوى الأدلّة على هذا الوجود ...وأنّ الشوق إلى خلود الحياة - ولو في عالَم آخر- إحساس شائع في نفوس البشر بحيث لا يُمكن النظر إليه باستخفافٍ عام )(١) .

والاستدلال على وجود الله تعالى لا يحتاج إلى عناية استثنائيّة مثاليّة، بل يعتمد على الواقع، وكما ورد في حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ):

( بصنع الله يُستدل عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالفكرة تثبت حجّته، وبآياته احتجّ على خلقه وابتداؤه إيّاهم دليل على الابتداء له؛ لعجز كلّ مبتدءٍ عن إبداء غيره ) (٢) .

وقد دلّت التجارب والدراسات العلميّة الحديثة على دَور الإيمان بالله وباليوم الآخر في إصلاح الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وقام بعض عُلماء النفس باستخدام العلاج الديني في علاج الأمراض النفسيّة والخُلُقيّة والاجتماعيّة.

ومِن واقعيّة المنهج التربوي مراعاتهِ لواقع الإنسان مِن حيث استسلامه

____________________

(١) روح الدين الإسلامي: ص ١١٥.

(٢) تحف العقول / الحرّاني: ص ٤٣.

١٠٣

لنَزَوَاته ورغبته في الاستقامة في آنٍ واحد، لذا جعل الاستغفار والتوبة طريقاً للعودة للاستقامة، والتي تنسجم مع الرغبة في إصلاح النفس والندم على الأعمال القبيحة.

ومن واقعيّة منهج أهل البيت ( عليهم السلام ) التربوي أنّه ثابت في أُصوله وأُسسه متطوّر في أساليبه ووسائله كما رُوي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قوله:( لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم ) (١) .

والمنهج التربوي منهج واقعي في أهدافه وغاياته ومنها:

١ - تعريف الإنسان بنفسه وعالمه.

٢ - تعريف الإنسان بخالقه وبثوابه وعقابه.

٣ - تعريف الإنسان بالأنبياء والأئمّة والأوصياء.

٤ - تعريف الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقاته الاجتماعيّة.

٥ - إعداد الشخصيّة المتوازنة فكريّاً وعاطفيّاً وسلوكيّاً.

٦ - توظيف الطاقات في اتّجاه الخير والصلاح، والسموّ والتكامل.

٧ - تنمية روح الإخلاص.

٨ - مراعاة العواطف الإنسانيّة.

٩ - تحكيم المفاهيم والقِيَم الصالحة في الواقع.

١٠ - توعية الإنسان.

ومِن واقعيّته أنّه لا كلفة فيه ولا تكلّف وأنّ أُسُسَه وقواعده منسجمة مع طاقات الإنسان في جميع مراحل حياته، ولهذا راعى واقع الإنسان في تكاليفه وفي إرشاداته وفي أوامره ونواهيه، فلم يطلب منه الانقطاع للعبادة مثلاً، فقد

____________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد: ٢٠ / ٢٦٧.

١٠٤

جعل العبادات محدودة توصله بربّه ولا تقطعه عن مجتمعه، وراعى الظروف الطارئة للإنسان فنوّع العبادة، في الحضَر والسفَر والمرَض، وجعَل العبادات المندوبة منسجمة مع اختيار ورغبة الإنسان، فراعى طاقتَه المحدودة وتبدَل الإقبال في نفسه وفي واقعه الخارجي، وفي ذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( إنّ للقلوب شهوة واقبالاً وإدباراً، فاتوها من قِبل شهواتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا اُكره عمي ) (١) .

وراعى المنهج التربوي واقع الإنسان النفسي والروحي والمعنوي وحاجاته المتنوّعة، فقد راعى فطرة الإنسان في ميلها إلى الترويح عن النفس، فسنّ لها الألعاب المنسجمة مع إنسانيّة الإنسان كالفروسيّة والسباحة والرمي وما شابه ذلك، وأباح له الملكيّة الفرديّة في حدودها المشروعة، ووضع له قواعد موضوعيّة في العلاقات والمعاملات والممارسات، فقد جعل الضرورات تبيح المحظورات، وجعل نظام العقوبات منسجماً مع فطرة الإنسان وواقعه مع مراعاة ظروف الانحراف والجريمة وأسبابها وعواملها.

وقد دلّت الدراسات النفسيّة والاجتماعيّة على حاجة الإنسان للعقاب من أجل إصلاح وتغيير وراحة نفسه، فالمصاب بعقدة ذنب ( لا يستطيع أنْ يُخفّف ممّا يُعانيه مِن شعورٍ خفيٍّ موصول بالذنب، إلاّ إذا ورّط نفسه - عن غير قصد ظاهر منه - في متاعب ومشاكل.. لا يناله منها إلاّ العنَت والتعَب والمشقّة والعذاب، بل قد يستفزّ عدوان الغير عليه أو عدوان المجتمع، فإذا حلّ به العِقاب هدأت نفسه وزال عنه ما يغشاه مِن توتّر، فكأن هذا الفرد في حاجة موصولة إلى عقاب نفسه سَواء كان هذا العقاب ماديّاً أم معنويّاً والواقع أنّ

____________________

(١) نهج البلاغة: ص ٥٠٣.

١٠٥

الحاجة إلى عقاب النفس صورة خاصّة من الحاجة إلى الغفران، فالفرد يرحّب بعقاب نفسه طمعاً في التخفيف مِن مشاعر الذنب التي تفوق هذا العقاب إيلاماً، أي أنّه يختار أهوَن الشرّين )(١) .

ومكارم الأخلاق التي حثّ عليها المنهج التربوي واقعيّة في حدودها وألوانها وطبيعتها، فهي منسجمة مع النفس الإنسانيّة ومحبّبة لديها تتقبّلها وتركن إليها وتستهدي بها، كإقامة العدل وردّ العدوان والتعاون والإحسان والإيثار والكرم والعفو والصبر وما شابه ذلك.

وفي جميع الظروف والأحوال فإنّ المنهج التربوي راعى طبيعة الإنسان مِن حيث ضعفه ومحدوديّته، فهو تركيبٌ من لحمٍ ودمٍ وأعصاب، ومِن عقلٍ ونفس وروح، ومِن غرائز وشهوات، وله رغبات وأوضاع نفسيِة كالحُبّ والبُغض، والرجاء والخوف، والأنا والتنافس وما شابه ذلك، ولهذا راعى الضعف البشري والدوافع البشريّة والحاجات البشريّة؛ فجاء منسجماً مع الإنسان مقبولاً لديه لا كلفة فيه ولا عناء.

٤ - التوازن والاعتدال

يمتاز المنهج التربوي عند أهل البيت ( عليهم السلام ) بالتوازن والاعتدال في جميع جوانبه المرتبطة بالإنسان؛ فيضع لكلّ شيء حدوده وقيوده، فلا يطغى جانبٌ على آخر ولا ناحيةٌ على أخرى، فهو يراعي حاجات الجسَد وحاجات الروح في آنٍ واحد، ويراعي حاجات الإنسان بشطرَيه: الذكر والأنثى، ويراعي حاجات الفرد والمجتمع فلا تطغى حاجةٌ على أخرى ولا جانبٌ على آخر ولا

____________________

(١) أُصول علم النفس: ص ١٤٦.

١٠٦

حقٌّ على آخر.

والمنهج التربوي الموجّه للإنسان والمجتمع نحو الآخرة يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، فلا يمنع من التمتّع بالطيّبات الدنيويّة كالمأكل والمشرب والملبَس والمسكن والإشباع العاطفي والجنسي؛ لأنّ الحرمان منها يولّد القلق والاضطراب، وإنّما يضع القيود على تلك الطيّبات، ويوجّه الإنسان في نفس الوقت إلى الإعداد للدار الآخرة بالالتزام بالأوامر والنواهي الإلهيّة، فلا يطغى طلب الدنيا على طلب الآخرة بالانغماس بالطيّبات والملذّات دون قيود أو حدود، ولا يطغى طلب الآخرة على طلب الدنيا بحرمان الإنسان مِن مُتَعِها المشروعة.

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام ):( اجتهدوا في أنْ يكون زمانكم أربَع ساعات: ساعةٌ لمناجاة الله، وساعةٌ لأمرِ المعاش، وساعةٌ لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعةٌ تخلون فيها لِلَذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات ) (١) .

وقال العلاء بن زياد لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): أشكو إليك أخي عاصم، قال:( وما له؟ ) قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال:

( عَلَيّ به ) ، فلمّا جاء قال ( عليه السلام ):( يا عَدِيَّ نفسه! لقد استهان بكَ الخبيث! أما رحِمت أهلَك ووِلْدك! أترى الله أحلّ لك الطيّبات، وهو يكره أنْ تأخذها! أنتَ أهوَن على الله مِن ذلك ).

قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنتَ في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

قال:( ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ الله فرَض على أئمّة العدْل أنْ يُقدّروا

____________________

(١) تحف العقول: ص ٣٠٧.

١٠٧

أنفسهم بضَعَفَة الناس، كَيْلا يتبيّغ بالفقير فقره ) (١) .

والدعوة إلى التوازن والاعتدال شاملة لجميع المرافق والميادين، ومنها الميدان النفسي، فالتوازن مطلوب في مختلف الظروف والأحوال المحيطة بالإنسان.

في وصيّة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للإمام الحسين ( عليه السلام ) قال:( يا بنيّ، أُوصيك بتقوى الله في الغِنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضى والغضَب، والقصْد في الغِنى والفقر، وبالعدْل على الصديق والعدو، وبالعمل في النشاط والكسَل، والرضى عن الله في الشدّة والرخاء ) (٢) .

والمنهج التربوي متوازن في نظرته للعلاقة العمليّة بين الإنسان وخالقه، فلا يدعو إلى ترك العمل توكّلاً على الله، ولا الانغماس بالعمل بلا توكّل، والتوكّل يمنح الإنسان طاقةً وقوّة حيويّة تجعله مطمئنّاً سَواء تحقّق ما أراده من عمله أم لم يتحقّق، ومعوّقات إنجاز العمل لا تَسلُبه الاطمئنان وهو متوكّل على الله.

ويدعو المنهج التربوي إلى الإيمان المتوازن ابتداءً بأصل الإيمان؛ حيث التوازن بين إيمان أصحاب الخرافة الذين يُسرفون في الاعتقاد ويُؤمنون بكلّ شيءٍ ويصدّقونه وإنْ كان خارجاً عن أُسُس الإيمان، وبين الذين يُنكرون كل ما وراء الحسّ وما وراء الطبيعة، والتربية على الإيمان الواقعي قائمةٌ على أساس العقل والبرهان، وعلى النصوص المتواترة عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعن أهل البيت ( عليهم السلام ) ليستجيب لها الإنسان عن قناعة وقبول دون إكراه أو إجبار أو تزوير للحقائق، وكذا الحال في الإيمان بالأنبياء، فإنّ المنهج التربوي يدعو إلى التأسي

____________________

(١) نهج البلاغة: ٣٢٤.

(٢) تحف العقول: ص ٥٨.

١٠٨

والاقتداء بهم، فينفي عنهم صفة الأُلوهيّة، وينفي عنهم الانحراف الذي تدّعيه بعض الديانات، ويوجّه الإنسان إلى الإيمان الواقعي بهم.

ويُوازن المنهج التربوي بين التكليف والقدرة، فلا يكلّف الإنسان فوق طاقته البدنيّة والروحيّة، ويتدرّج في أُسُس التربية حسب العمر الزمني والعقلي، فلا يأمر بأُسلوبٍ شاق ولا أمرٍ شاق، وهذا التدرّج يولّد في الإنسان أُنساً وشَوقاً لأداء التكليف، فيسعى لأدائه والسير على أساسه دون ضجَرٍ أو كلَل أو ملَل.

ويُوازن المنهج التربوي بين مجالات المسؤوليّة؛ ويجعلها موزّعة على الجميع، فالفرد مسؤولٌ عن نفسه وعن غيره، والمجتمع مسؤولٌ عن نفسه وعن أفراده، فهنالك مسؤولية فرديّة، وهنالك مسؤوليّة اجتماعيّة، والمسؤوليّة موزّعة فالأب مسؤولٌ عن أُسرته والأُمّ كذلك، والكبير مسؤولٌ عن الصغير، والمدرسة والتجمّعات الاجتماعيّة والعلماء والدولة مسؤولةٌ عن الأفراد وعن المجتمع، وتكون المسؤوليّة قائمة على أساس تقسيم الحقوق والواجبات، فلِلفرد حقوقه وواجباته، وللأُسرة حقوقها وواجباتها، وللمجتمع حقوقه وواجباته، فلا يطغى حقٌّ على حق ولا واجبٌ على واجب، ولا حقٌ على واجب، ولا واجبٌ على حق.

ويُوازن المنهج التربوي بين الغاية والوسيلة، فلا يبيح للإنسان استخدام الوسيلة الضعيفة مِن أجلِ غايةٍ ساميةٍ وشريفة، فيُحرّم الكذِب على الغير وإنْ كان إرضاءً لهم أو يُحقّق له أو لهم بعض المصالح، ويحرّم الخِداع والتضليل وإنْ أدّى إلى علاج بعض الأزَمَات النفسيّة والروحيّة.

ويُوازن المنهج التربوي في أساليب ووسائل التربية، حيثُ يُبْتَدأ بالدعوة

١٠٩

لاتفاق الوالدين على تطبيق القواعد الكليّة للمنهج التربوي على مصاديقها بأُسلوبٍ واحدٍ لا اختلاف فيه، سَواء في العلاقات القائمة بينهما أم علاقاتهما مع الأطفال، أم في مفردات الأُسلوب، ويوازن بين اللين والشدّة في التعامل فلا إفراط ولا تفريط، فلا يُحبَّذ اللين الدائم ولا الشدّة الدائمة، ففي الوقت الذي يدعو إلى الإحسان إلى الطفل وتكريمه وإشعاره بذاته، يدعو أيضاً إلى استخدام الشدّة في مواقعها لإشعار الطفل باحترام القوانين الموضوعة، والتمييز بين حقوقه وحقوق الآخرين، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى مَنح الطفل الحرّية في اختيار طريقة اللعب مثلاً، يدعو للتدخّل في منعه مِن بعض الألعاب المُضرّة به وبغيره، كما يؤكّد المنهج التربوي على التوازن في التعامل مع الأطفال، والاعتدال في إظهار المحبّة لهم، والتوازن في النظرة العاطفيّة إلى البنين والبنات.

التداخل بين المنهج التربوي وبقيّة مناهج الحياة

المنهج التربوي لأهل البيت ( عليهم السلام ) متداخلٌ مع بقيّة المناهج التي تُكوّن مجتمعةً منهج الإسلام الشامل والكامل للكون والحياة والمجتمع والإنسان، فلا فصل بين المنهج التربوي وبقيّة المناهج، ولا تصادم ولا تضادّ ولا تناقض؛ لأنّ الهدف الأساسي لأهل البيت ( عليهم السلام ) هو إنجاح مسيرة التربية وإشاعة الأخلاق الفاضلة وتقريرها في واقع الحياة، كما قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق ) (١) .

وبهذا يكون كلّ ما جاء به الإسلام في القرآن والسنّة يُراد به إتمام مكارم الأخلاق، فالعقيدة بجميع إبعادها تخلُق الأجواء الصالحة لتتحرّك فيها خُطوات

____________________

(١) كنز العمّال / المتّقي الهندي: ٣ / ١٦.

١١٠

إصلاح النفس والمجتمع، والمحافظة على سلامة الإنسان السلوكيّة وصحّته النفسيّة والروحيّة، والإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر يُحرّر الإنسان من الانسياق وراء الشَهَوَات بلا قيود ولا حدود، والخوف مِن أهوال يوم القيامة يمنع الإنسان من مُمارسة ألوان الفِسق والانحراف.

ومنهج العبادات يعمل على تعميق الإيمان بالله ويجعل الرقابة الإلهيّة حقيقة تسري في جميع جوانح الإنسان، والعبادات بكلّ ألوانها تغرس في نفسه المُثُل المعنويّة التي يتعالى بها على جميع ألوان الانحراف والانحطاط، فالصلاة تمنح الإنسان الطمأنينة وتنهاه عن الفحشاء والمنكر وتُبعده عن جميع الآثام والانحرافات، والمداومة على الصلاة المندوبة كفيلةٌ بإيصاله إلى السموّ والتكامل الروحي والخلُقي.

والصوم يعمّق التقوى في ذات الإنسان، ويُقيّد الغرائز والشهَوَات، ويهذّب سُلوك الإنسان ويحصّنه من تلويث خُلُقه، قال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ):( إنّ الصيام ليس مِن الطعام والشراب وحدَه، إنّ مريم ( عليها السلام ) قالت: ( ...إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا .... ) أي صمْتاً، فاحفظوا ألسنَتَكم وغضّوا أبصاركم ولا تحاسدوا ولا تنازعوا ) (١) . وهو أحدُ العبادات التي تُساعد على التكافل والتراحم، والتي تُساعد على تعميق العلاقات الإنسانيّة التي يتحرّك من خلالها الإنسان مطمئنّاً يشعر بالإخاء والتآزر والتعاطف.

والحجّ عبادةٌ لها آثارها الايجابيّة على سلامة الإنسان السلوكيّة والنفسيّة والروحيّة، وهو يمنح الإنسان فرصة جديدة لتجاوز الانحرافات والآثام السابقة، والبِدء بحياة جديدة تغمرها الاستقامة والخلُق الرفيع، قال الإمام

____________________

(١) الكافي: ٤ / ٨٩.

١١١

عليّ بن الحسين ( عليه السلام ):( حجّوا واعتمروا تصحّ أبدانكم وتتّسع أرزاقكم، وتكفون مؤونات عيالكم الحاجّ مغفورٌ له وموجَبٌ له الجنّة، ومستأنفٌ له العمل، ومحفوظ في أهلِه وماله ) (١) .

والعبادات الماليّة كالزكاة والخُمس تخلُق التوازن بين الطبَقَات وتعمّق الأواصر الاجتماعيّة كالتآلف والتآزر والتعاون، وتُهيِّء الأجواء التربويّة والنفسيّة المانعة من الانحراف بسبب الفقر والحِرمان، والمانِعة من الأمراض النفسيّة الناجمة مِن عدم إشباع الحاجات الأساسيّة للإنسان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع الطاقات لتنطلق في الإصلاح والتغيير، وقلع جذور الفساد والانحراف وإشاعة الأخلاق الكريمة والصفات النبيلة، فيتَكَافل الجميع في المسؤوليّة التربويّة، فيكون الفرد رقيباً على ممارسات المجتمع، ويكون المجتمع رقيباً على ممارسات الفرد، وبهذه المسؤوليّة تتحقّق خُطُوات المنهج التربوي في الواقع بأسرع الأوقات، وبأقلّها عناءً وكُلفة.

والمنهج الاجتماعي له الدور الكبير في إنجاح سير وحركة المنهج التربوي، فقد وضع أهل البيت ( عليهم السلام ) برنامجاً واقعيّاً في العلاقات داخل الأُسرة، فلِكلّ فردٍ مِن أفرادها حقوقٌ وواجبات يتربّى مِن خلالها الإنسان على الأخلاق الكريمة ليكون عنصراً فعّالاً في المجتمع، يأمن مِن خلالها المجتمع من ممارسة الانحراف والانحطاط والرذيلة والجريمة.

والمنهج الاقتصادي يُهيِّء الأجواء المناسبة لإنجاح المنهج التربوي، ويمنع مِن الانحراف الأخلاقي الناجم عن الفقر والحرمان والاستغلال والظلم الاقتصادي، ويُوازن بين الطبقات ليحقّق التآلف ويمنع من الفقر ومِن الثراء الفاحش اللذَين

____________________

(١) الكافي: ٤ / ٢٥٢.

١١٢

يُشكّلان أساس بعض الانحرافات الخلُقيّة.

والمنهج السياسي له دورٌ ملموس في بناء المُحتوى الداخلي للإنسان وتهذيب سلوكه الاجتماعي، والمنع من جميع ألوان الانحراف والانحطاط، والمنهج السياسي القائم على أساس الإمامة الصالحة يُحقّق الغاية الأساسيّة وهي إتمام مكارم الأخلاق، بتهيئة أجوائها المناسبة في الواقع.

قال الإمام عليّ بن موسى الرضا ( عليه السلام ):( إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين بالإمام تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والجهاد، وتوفير الفيء والصدَقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنْع الثغور والأطراف ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة الإمام المطهَّر مِن الذنوب والمبرَّأ من العيوب ) (١) .

وفي حديثٍ آخر قال ( عليه السلام ):( يحقن الله عزّ وجلّ به الدماء، ويُصلح به ذات البين، ويَلمّ به الشعث، ويشعَب به الصدْع، ويكسو به العاري، ويُشبع به الجائع، ويُؤمن به الخائف، ويَرحم به العباد ) (٢) .

واشتراط العصمة في مَن يلي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، واشتراط العدالة في الفقيه النائب عن الإمام المهدي ( عج ) ضمان لنجاح حركة التربية وتطبيق قواعد المنهج التربوي وبقيّة المناهج الإسلاميّة.

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.

____________________

(١) الكافي: ١ / ٢٠٠.

(٢) الكافي: ١ / ٣١٤.

١١٣

الفهرس

مقدّمة المركز ٥

المقدّمة ٧

الفصل الأوّل: أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي  ٩

أوّلاً: دور الوراثة ٩

الخصائص والصفات المنقولة بالوراثة ١١

١ - الخصائص والصفات النفسيّة والعقليّة ١٢

٢ - الخصائص والصفات الخلقيّة ١٤

ثانياً: دور المحيط التربوي. ١٧

١ - الأسرة ١٨

٢ - الأصدقاء والأصحاب.. ١٩

٣ - المَجالس وحلقات الذكر ٢١

٤ - المساجد. ٢٢

٥ - العُلماء ٢٣

٦ - الدولة ٢٤

أثر الغرائز في التربية ٢٥

الفصل الثاني: دور القيم المعنويّة والنفسيّة في المجال التربوي  ٣١

المبحث الأول: دور القيم المعنويّة في التربية من خلال إرشادات أهل البيت ( عليهم السلام ) ٣٢

١ - الإيمان بالله تعالى. ٣٢

٢ - الإيمان بالثواب والعقاب.. ٣٥

٣ - ذكر الله تعالى. ٣٨

أولاً: قراءة القرآن الكريم. ٣٩

ثانياً: الدعاء ٤١

ثالثاً: العبادة ٤٢

١١٤

٤ - ذكر الموت.. ٤٣

٥ - الاعتراف بالذنب.. ٤٤

٦ - الاستغفار ٤٦

٧ - التوبة ٤٨

٨ - الرضا بالقضاء ٥٠

المبحث الثاني: طرق تقييم النفس ودورها في التربية ٥١

١ - تنمية الحَيَاء ٥١

٢ - تنمية الضمير. ٥٣

٣ - إثارة الوجدان. ٥٥

٤ - التقييم الذاتي ومحاسبة النفس.. ٥٦

٥ - التقييم الاجتماعي. ٥٨

الفصل الثالث: خصائص المربّين وأساليب التربية ٦١

المبحث الأول: خصائص المربّين. ٦١

الخصائص الذاتية للمربّين. ٦٢

أوّلاً: العلم والمعرفة ٦٢

ثانياً: القدوة ٦٣

ثالثاً: الإنصاف والإيثار ٦٦

رابعاً: الزهد. ٦٧

خامساً: البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام ٦٨

الخصائص العمليّة للمربّين. ٦٩

أوّلاً: المداراة ٦٩

ثانياً: الرفق. ٧٢

ثالثاً: الإحسان. ٧٤

رابعاً: الاختلاط بالناس. ٧٦

خامساً: الصبر والحِلم. ٧٧

سادساً: القدرة على التقييم الموضوعي. ٧٨

١١٥

المبحث الثاني: أساليب التربية ٧٩

أولاً: أُسلوب الخطاب.. ٧٩

ثانياً: القصص.. ٨١

ثالثاً: الأمثال والتمثيل. ٨٣

رابعاً: العبرة والموعظة ٨٤

خامساً: الاقتداء ٨٥

سادساً: الحوار ٨٦

سابعاً: الأساليب المتداخلة ٨٧

الفصل الرابع: مميّزات المنهج التربوي عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ٩١

١ - ربانيّة المنهج التربوي. ٩١

٢ - شموليّة المنهج التربوي. ٩٨

٣ - واقعية المنهج التربوي. ١٠١

٤ - التوازن والاعتدال. ١٠٦

التداخل بين المنهج التربوي وبقيّة مناهج الحياة ١١٠

١١٦