أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 295363
تحميل: 9589

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 295363 / تحميل: 9589
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وتعصيه أنت، ثمّ تجيئان يوم القيامة سَواء، لأنتَ أعزّ على اللّه منه ! إنّ عليّ بن الحسين كان يقول: ( لمُحسِننا كِفلان مِن الأجر، ولمُسيئنا ضِعفان مِن العذاب ).

قال الحسن بن الوشّا: ثمّ التفت إليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية ؟:( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) )( هود: ٤٦ ).

فقلت: مِن الناس مَن يقرأ:( عَمِلَ غيرَ صالح ) ، ومنهم مَن يقرأ:( عَمَلَ غيرَ صالح ) نَفاهُ عن أبيه.

فقالعليه‌السلام : ( كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عزَّ وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا مَن كان مِنّا ولم يُطِع اللّه فليس منّا، وأنت إذا أطَعت اللّه فأنت منّا أهل البيت )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المُطّلب، إنّي رسول اللّه إليكم، وإنّي شفيقٌ عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلِّ رجلٍ منكم عمله، لا تقولوا إنّ محمّداً منّا وسنُدخَل مُدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا مِن غيركم، يا بني عبد المطّلب، إلاّ المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة، تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم )(٢) .

وعن جابر قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا جابر، أيكتفي مَن انتحل

_____________________

(١) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

٢٨١

التشيّع، أنْ يقول بحبّنا أهل البيت ؟! فو اللّه ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى اللّه وأطاعه - إلى أنْ قال: فاتّقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.

يا جابر، واللّه ما يُتَقرّب إلى اللّه إلاّ بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحدٍ مِن حجّة، مَن كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان للّه عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورَع )(١) .

وعن المفضّل بن عُمر قال: كنت عند أبي عبد اللّهعليه‌السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: ( مه ؟! استغفر اللّه ).

ثمّ قال: ( إنّ قليلَ العمل مع التقوى خيرٌ مِن كثيرٍ بلا تقوى ). قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى ؟

قال: ( نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فإذا ارتفع له الباب مِن الحرام لم يدخل فيه )(٢) .

قال الشاعر:

ليس من يقطع طريقاً بطلا

إنّما مَن يتّق اللّه البطل

فاتق اللّه فتقوى اللّه ما

جاورت قلب امرئ إلا وصل

_____________________

(١) الوفي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦١ عن الكافي.

٢٨٢

الثبات على المبدأ

للنُظم والمبادئ أهميّةٌ كُبرى، وأثرٌ بالغ في حياة الأُمَم والشعوب، فهي مصدر الإشعاع والتوجيه في الأُمّة، ومظهر رُقيّها أو تخلّفها، وكلّما سمَت مبادئ الأُمّة، ونُظمِها الإصلاحيّة، كان ذلك برهاناً على تحضّرها وازدهارها.

وكلّما هزُلَت وسخفت المبادئ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلّفهم

وخير المبادئ وأشرفها هو: ما ينظّم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ويصون حرّيته وكرامته، ويُحقّق أمنه ورخاءه، ويوفّر له وسائل السعادة والسلام في مجالَي الدين والدنيا.

وبديهيّ أنّ المبادئ مهما سمَت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنّها لا تُحقّق أماني الأُمّة وآماله، ولا تفيء عليها بالخير المأمول، إلاّ إذا اعتنقتها وحرَصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلاّ كانت عديمة الجدوى والنفع.

لذلك كان الثبات على المبدأ الحق مِن أقدس واجبات الأُمّة وفروضها الحتميّة، فهو الذي يرفع معنويّاتها، ويُعزّز قيمتها، ويحقّق أهدافها وأمانيها.

ولم تعرف البشريّة في تاريخها المديد، أكمل وأفضل مِن المبادئ

٢٨٣

الإسلاميّة الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوّأتها قمّة الشرائع والمبادئ.

فهي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفِطَر السليمة، وتؤلّف بين القِيَم الماديّة والروحيّة، وتكفُل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا.

ناهيك في جلالتها إنّها إستطاعت أنْ تحقّق في أقلِّ مِن رُبع قرن مِن فتوحات الإيمان، ومعاجز الإصلاح، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ.

وأنشأت من الأُمّة العربيّة المُتخلّفة في جاهليّتها خير أُمّةٍ أُخرِجت للناس، حضارةً ومجداً وعِلماً وأخلاقاً.

وما ساد المسلمون الأوّلون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلميّة، إلاّ بثباتهم على مبادئهم الخالدة، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها.

وما فُجِع المسلمون اليوم، وانتابتهم النكسات المُتتالية، إلاّ بإغفال مبادئهم، وانحرافهم عنها.

أنظر كيف يُمجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المُستمسكين بقِيَم الإيمان ومُثُله العليا:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٠ - ٣٢ )

ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله، بأعزّ النفوس والأرواح.

٢٨٤

كانصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما اكفهرّت في وجهه أعاصير المِحن، وتألّبت عليه قِوى الكُفر والطغيان ازداد صموداً ومُضيّاً على نشر رسالته، ضارباً في سبيل ذلك أرفع الأمثال: ( لو وضِعَت الشمسُ في يميني، والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتّى يُظهره اللّه، أو أهلك في طلبه ).

وبهذا الصمود والشموخ انهارت قِوى الشرك، واستسلَمت صاغرةً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام على سرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومثاليّته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، عُرِضَت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى معتدّاً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً: ( بل على كتاب اللّه، وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي ).

وألحّ عليه نفرٌ من خاصّته ومواليه أنْ يستميل مَن أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص ( يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرَب وقريش على الموالي والعجَم، ومَن تخاف عليه مِن الناس فراره إلى معاوية ).

فقالعليه‌السلام لهم وهو يُعرِب عن ثباته وتمسّكه بدستور الإسلام، وترفّعه عن الوسائل الاستغلاليّة الآثمة: ( أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور ؟! لا واللّه، ما أفعل ما طلَعت شمسٌ ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم ؟! ).

٢٨٥

وهكذا سرَت مثاليّة الإمامعليه‌السلام إلى الصفوة المختارة مِن أصحابه وحواريه، فكانوا نماذج فذّة، وأنماطاً فريدةً في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، والذود عنه، رغم معاناتها ضروب الإرهاب والتنكيل.

وقد ازدانت أسفار السيَر بطرائف أمجادهم، وطيب ذكراهم، ممّا خلّدت مآثرهم عِبر القرون والأجيال، وإليك طرفاً منها:

قال الحجّاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: أحبّ أنْ أصيب رجلاً مِن أصحاب أبي تراب فأتقرّب إلى اللّه بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صُحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه. فبَعث في طلبه فأُتي به، فقال له: أنت قنبر ؟ قال: نعم. قال: أبو همدان. قال: نعم. قال: مولى عليّ بن أبي طالب. قال: ( الله مولاي وأمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي ).

قال: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئت مِن دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه. قال: إنّي قاتلك، فاختر أيّ قتلةٍ أحبّ إليك. قال: صيّرت ذلك إليك. قال: ولِم ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلاّ قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذبحاً، ظُلماً بغير حقّ.

قال: فأمر به فذُبِح(١).

ورُوي أنّ معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدُّؤَلـي هديةً منها حَلواء، يُريد بذلك استمالته وصرفه عن حبِّ عليّ بن أبي طالب، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة مِن تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو

_____________________

(١) البحار م ٩ ص ٦٣٠.

٢٨٦

الأسود: يا بنتي، ألقيه فإنّه سُمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويردّنا عن محبّة أهل البيت. فقالت الصبيّة: قبّحه اللّه، يخدعنا عن السيّد المُطهّر بالشهد المُزعفَر ! تبّاً لمُرسِله وآكله، فعالَجت نفسها، حتّى قاءت ما أكلتها، ثمّ قالت:

أبا لِشَهد المزعفر يابن هندٍ

نبيع عليك أحساباً(إسلاما-خ‌ل)ودينا

معاذَ اللّه كيف يكون هذا

ومولانا أميرُ المؤمنينا(١)

وكان رشيد الهَجَري من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين، أُتِيَ به إلى زياد لعنه اللّه.

فقال زياد: ما قال لك خليلُك أنّا فاعلون بك ؟ قال: تقطعون يدَيّ ورجلَيّ وتصلبونني.

فقال زياد: أما واللّه لأُكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلمّا أراد أنْ يخرج، قال: رُدّوه لا نجد لك شيئاً أصلح ممّا قال صاحبُك، إنّك لن تزال تبغي سوءاً إنْ بقيت، اقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلّم، وقال: أُصلبوه خنقاً في عنقه(٢).

ولنستمع إلى كلمات أصحاب الإمام الخالدة، والمُعرِبة عن شدّة حبّهم للإمامعليه‌السلام ، وثباتهم على موالاته، وتفانيهم في سبيله:

فهذا عمرو بن الحمق يُخاطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فيقول: ( والله يا أمير المؤمنين، إنّي ما أجبتك ولا بايعتك على قرابةٍ بيني وبينك،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٦٩.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٥٢٢.

٢٨٧

ولا إرادة مالٍ تؤتينه، ولا إرادة سُلطانٍ ترفع به ذِكري، ولكنّي أجبتك بخصالٍ خمس:

إنّك ابن عمّ رسول اللّه، وأوّل مَن آمن به، وزوج سيّدة نِساء الأُمّة فاطمة بنت محمّد، ووصيّه، وأبو الذريّة التي بقيَت فينا من رسول اللّه، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد.

فلو أنّي كُلّفت نقلَ الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتّى يؤتى عليّ في أمرٍ أُقوّي به وليّك، وأهينُ به عدوّك، ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليّ مِن حقّك.

فقال عليّعليه‌السلام : ( اللهم نوّر قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أنّ في جندي مِئةً مثلك )، فقال حجر: إذاً واللّه يا أمير المؤمنين، صحّ جندك، وقلّ فيهم مَن يغشك(١).

ورُوي أنّ أمير المؤمنين قال لحِجر بن عَدِي الطائي: ( كيف بك إذا دُعيت إلى البراءة منّي، فما عساك أنْ تقول ؟) فقال: واللّه يا أمير المؤمنين، لو قُطّعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرمت لي النار وألقيت فيها، لآثرت ذلك على البراءة منك. فقال: ( وُفّقت لكلِّ خيرٍ يا حِجر، جزاك اللّه خيراً عن أهل بيت نبيّك )(٢).

وقال هاشم المرقال، وكان على ميسرةِ أمير المؤمنين بصفّين: واللّه ما أحبّ أنّ لي ما على الأرض ممّا أقلّت، وما تحت السماء ممّا أظلّت،

_____________________

(١) البحار م ٨ ص ٤٧٥.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٢٢٦.

٢٨٨

وإنّي واليت عدوّاً لك أو عاديت وليّاً لك.

فقال له أمير المؤمنين: ( اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك، والمرافقة لنبيّك )(١).

ورُوي أنّ أسوَداً دخل على عليّعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين * إنّي سرقت فطهّرني.

فقال: لعلّك سرقت مِن غير حِرز ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت مِن حِرزٍ فطهّرني. فقالعليه‌السلام : لعلّك سرقت غير نصاب، ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت نصاباً، فلمّا أقرّ ثلاث مرّات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أميرُ المؤمنين، وإمام المُتّقين، وقائد الغرّ المُحجّلين، ويعسوب الدين، وسيّد الوصيّين، وجعل يمدحه. فسمِع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالا: ( رأينا أسوَداً يمدحك في الطريق )، فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام مَن أعاده إلى عنده، فقالعليه‌السلام : ( قطعتك وأنت تمدحني ). فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك طهّرتني، وإنّ حبّك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطّعتني إرباً إرباً لما ذهب حبّك مِن قلبي. فدعا له أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ووضَع المقطوع إلى موضعه فصحّ وصلح كما كان(٢).

ولقد سما الحسينعليه‌السلام وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٧١٦.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٥٧.

٢٨٩

إلى أوجّ رفيع، تنحطّ دونه الهِمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسّك بالحقّ، رغم حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال.

وقف الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله وقتله، فصرَخ في وجوههم صرخته المدوّية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المُجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستوراً حيّاً يُقدّسه الأباة والأحرار:

( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركَز بين اثنتين، بين السِّلة والذّلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أنْ نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ).

ويؤكّد الحسينعليه‌السلام ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة: ( واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد ).

( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برَماً ).

وهكذا اقتفى أصحاب الحسينعليهم‌السلام نهجه ومثاليّته في الصمود والثبات على المبدأ، ومُفاداته بأعزّ النفوس والأرواح. خطبهم الحسينعليه‌السلام خطبةً مِلؤها الحبّ والإعجاب والإشفاق:

( أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل مِن أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا مِن هؤلاء الأعداء، ألا وإنّي قد أذنت لكم

٢٩٠

فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غًشِيَكم فاتّخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجلٍ منكم يدَ رجلٍ مِن أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يُفرّج اللّه، فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو قد أصابوني لَلَهوا عن طلبِ غيري ).

فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك !! ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقّك، أما واللّه حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا عيبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك.

واللّه لو علمت أنّي أُقتل، ثُمّ أُحيى، ثمّ أُقتل، ثمّ أحرق، ثمّ أذرى، ثمّ يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك، حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام إليه زهير بن القين فقال: واللّه لوددت أنّي قُتلت، ثمّ انتشرت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ اللّه جلّ وعزّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء الفتيان مِن أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فقالوا: واللّه لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفّينا وقضينا ما علينا(١).

_____________________

(١) عن نفس المهموم للمرحوم الحجّة الشيخ عبّاس القمّي ص ١٢١ بتصرّفٍ بسيط.

٢٩١

وهكذا طفق أصحاب الحسينعليه‌السلام يُعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونُصرته والذبّ عنه، بأروَع مفاهيم البطولة والفداء.

وما أحوَج المسلمين اليوم أنْ يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسّك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحقّ، ليستردّوا مجدهم الضائع، وعزّهم السليب، وينقذوا أنفسهم مِن هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

٢٩٢

القسم الثاني - في الحقوق والواجبات

٢٩٣

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

( الحقُّ أوسَع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحدٍ أنْ يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً للّه سُبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه. ولكن جعل حقّه على العباد أنْ يطيعوه، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو مِن المزيد أهله. ثُمّ جعل سُبحانه مِن حقوقه حقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجِب بعضها بعضاً، ولا يستوجِب بعضها إلاّ ببعض ).

٢٩٤

تمهيد

٢٩٥

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد:

فإنّ الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلّف عن مُسايرة ركبهم، فإنّه متى انفرد عنهم أحسَّ بالوحشة والغُربة، واستشعر الوهن والخذلان، إزاء طوارئ الأقدار وملمّات الحياة، وعجَز عن تحقيق ما يصبو إليه مِن أماني وآمال، لا يتسنّى له تحقيقها إلاّ بالتضامن والتآزر الاجتماعيّين.

فهو فرعٌ من دوحةٍ أسريّة وشجت على الآباء، وتفرّعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال، وامتدّت أغصانها حتّى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.

وهو عنصرٌ مِن عناصر المجتمع، ولبنةٌ في كيانه، تتجاذبه أواصرٌ شتّى وصِلاتٌ مختلفة: من العقيدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغيرها من الصِلات الكُثر.

٢٩٦

وهذا الترابط الاجتماعي، أو المجتمع المترابط، لا بدّ له من دستورٍ ينظّم حياته، ويوثق أواصره، ويحقّق العدل الاجتماعي في ظلاله، بما يرسمه من حقوقٍ وواجبات، فرديّة واجتماعيّة، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدّسة.

وبذلك يغدو المجتمع زاهراً، سعيداً بالوئام والسلام، والخير والجمال. وبإغفال ذلك يغدو المجتمع بائساً شقيّاً، تسوده الفوضى، ويشيع فيه التسيّب، وتنخر في كيانه عوامل التخلّف والانهيار.

وقد حوت الشريعة الإسلاميّة - فيما حوَته مِن ضروب المعجزات الإصلاحية - أنّها جاءت بدستورٍ أخلاقيٍّ هادف بنّاء، يُنظّم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما يرسم له مِن حقوقٍ وآدابٍ اجتماعيّة في مختلف الحقول والمجالات، ما يحقّق للمسلمين مفاهيم السلام والرخاء، ويكفل إسعادهم أدبيّاً وماديّاً.

مِن أجل ذلك كان لزاماً على المسلم أنْ يستلهم ذلك الدستور، ويعرف ماله وعليه من الواجبات والحقوق، ويعنى بتطبيقه والسير على هُداه، ليكون مثَلاً رفيعاً في جمال السيرة وحُسن السلوك، ورعاية حقوق مَن ينتسب إليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعيّة، وليُحقّق بذلك ما يهفو إليه مِن توقير وحبٍّ وثناء.

وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيتعليهم‌السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة. وعرضت فيه طائفة مِن أهمّ الحقوق، وأبلغها أثراً في حياة الفرد

٢٩٧

والمجتمع، مبتدئاً فيه بحقوق اللّه على العباد، فحقوق رسوله الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحقوق الأئمّة المعصومين من آلهعليهم‌السلام . ثمّ استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر، متدرجاً من حقوق العلماء إلى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدين والأولاد، والزوجيّة والرحميّة، إلى الحقوق الاجتماعيّة الأُخرى التي يجدها المُطالع في حقول الكتاب.

وأملي أنْ يجد فيه المؤمنون رائد خير، وداعيةَ صلاح، ومنار هداية. وأنْ يحظى بشرف قبول اللّه تعالى، وجميل رضوانه، وواسع لُطفه ورحمته، إنّه قريب مجيب.

٢٩٨

الحقوق الإلهيّة

تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقِيم عطفهم وفضلهم على المحسنين إليهم.

فللصديق حقٌّ معلوم، ولكنّه دون حقّ الشقيق البار العطوف، الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.

وحقّ الشقيق دون حقّ الوالدين، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كلّ فضل.

وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهيّة، وتفوّقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان، وحباه مِن صنوف النِّعَم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان: ٢٠ ).

( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (ابراهيم: ٣٤).

فكيف يستطيع الإنسان حدّ تلك الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شكرها، إلاّ بعون اللّه تعالى وتوفيقه.

فلا مناص من الإشارة إلى بعضها والتلويح عن واجباتها، وهي بعد إحراز الإيمان باللّه، والاعتقاد بوحدانيّته، واتّصافه بجميع صِفات الكمال وتنزيهه عمّا لا يليق بجلال إلوهيّته.

٢٩٩

١ - العبادة:

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( فأمّا حقُّ اللّه الأكبر فإنّك تعبدُه، لا تُشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أنْ يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحبُّ منها )(١).

والعبادة لغةً: هي غاية التذلّل والخضوع، لذلك لا يستحقّها إلاّ المُنعم الأعظم الذي له غاية الأفضال والإنعام، وهو اللّه عزَّ وجل.

واصطلاحاً هي: المواظبة على فعل المأمور به.

وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر:

إنّ اللّه عزَّ وجل جعلها الغاية الكُبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات: ٥٦ - ٥٨ ).

وبديهي أنّ اللّه تعالى غنيٌّ عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضرّه معصية العصاة وتمرّدهم، وإنّما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم.

فمِن خصائص العبادة: أنّها مِن أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الإيمان في المؤمن، لتذكيرها باللّه عزَّ وجل ورجاء ثوابه، والخوف مِن عقابه، وتذكيرها بالرسول الأعظم، فلا ينساه ولا ينحرف عنه.

_____________________

(١) رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

٣٠٠