أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت0%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد مهدي الصدر
تصنيف: الصفحات: 517
المشاهدات: 295332
تحميل: 9588

توضيحات:

أخلاق أهل البيت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 295332 / تحميل: 9588
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من ذلك ما قصّه الرواة مِن حِلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فقد كان عنده أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنّور، فأقبَل به الخادم مسرعاً، فسقَط منه على رأس بُنيّ لعلي بن الحسينعليه‌السلام تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال عليّ للغلام وقد تحيّر الغلام واضطرب: أنت حرّ، فإنّك لم تتعمّده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(١).

ولُقّب الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ( بالكاظم ) لوفرة حلمه، وتجرّعه الغيظ، في مرضاة اللّه تعالى.

يُحدّث الراوي عن ذلك، فيقول: كان في المدينة رجلٌ مِن أولاد بعض الصحابة يُؤذي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ويسبّه إذا رآه، ويشتم عليّاً، فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر.

فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم، وسأل عنه فذُكر أنّه يزرع بناحية مِن نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعةٍ له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به لا توطئ زرعنا، فوطأهعليه‌السلام بالحمار حتّى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: ( كم غرمت على زرعك هذا ؟ ) قال: مِئة دينار. قال: ( فكم ترجو أنْ تصيب ؟ ) قال: لست أعلم الغيب. قال له: ( إنّما قلت كم ترجو أنْ يجيئك فيه ). قال: أرجو أنْ يجيء مِئتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرّة فيها ثلاثمِئة دينار وقال: ( هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو ). قال:

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

٤١

فقام الرجل فقبّل رأسه، وسأله أنْ يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف. قال: وراح إلى المسجد، فوجد الرجل جالساً، فلمّا نظر إليه، قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيّتك ؟! قد كنت تقول غير هذا.

قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسنعليه‌السلام ، فخاصموه وخاصمهم، فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجُلسائه الذين سألوه في قتله: ( أيُّما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت، إنّني أصلَحتُ أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت شرّه )(١).

وقد أحسن الفرزدق حيثُ يقول في مدحهم:

من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم

كفرٌ وقُربهم منجىً ومعتصَم

إنْ عُدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم

أو قيل مَن خيرُ أهل الأرضِ قيل هُم

_____________________

(١) البحار مجلّد ١١ نقلاً عن إعلام الورى للطبرسي وإرشاد المفيد.

٤٢

الغضَب

وهو: حالة نفسيّة، تبعث على هياج الإنسان، وثورته قولاً أو عملاً. وهو مفتاح الشرور، ورأس الآثام، وداعية الأزَمات والأخطار. وقد تكاثرت الآثار في ذمّه والتحذير منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الغضب مفتاح كلّ شر )(١) .

وإنّما صار الغضب مفتاحاً للشرور، لِما ينجم عنه من أخطار وآثام، كالاستهزاء، والتعيير، والفُحش، والضرب، والقتل، ونحو ذلك من المساوئ.

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار )(٢).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( واحذر الغضب، فإنّه جند عظيم من جنود إبليس )(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( الحدّة ضرب من الجنون ؛ لأنّ صاحبها يندم، فإنْ لم يندم فجنونه مستحكَم )(٤).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

(٣)، (٤) نهج البلاغة.

٤٣

وقال الصادقعليه‌السلام : ( سمعت أبي يقول: أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلٌ بدويّ، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلِّمني جوامع الكلام. فقال: آمرك أنْ لا تغضب. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات، حتّى رجع الى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير....)(١) .

بواعِث الغضَب:

لا يحدث الغضب عفواً واعتباطاً، وإنّما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان مرهف الإحساس، سريع التأثّر.

ولو تأمّلنا تلك البواعث، وجدناها مجملةً على الوجه التالي:

(١) قد يكون منشأ الغضَب انحرافاً صحيّاً، كاعتلال الصحّة العامّة، أو ضعف الجهاز العصبي، ممّا يسبّب سرعة التهيّج.

(٢) وقد يكون المنشأ نفسيّاً، منبعثاً عن الإجهاد العقلي، أو المغالاة في الأنانيّة، أو الشعور بالإهانة، والاستنقاص، ونحوها من الحالات النفسيّة، التي سرعان ما تستفزّ الإنسان، وتستثير غضبه.

(٣) وقد يكون المنشأ أخلاقيّاً، كتعوّد الشراسة، وسرعة التهيّج، ممّا يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه.

_____________________

(١) الكافي.

٤٤

أضرار الغضب:

للغضب أضرار جسيمة، وغوائل فادحة، تضرّ بالإنسان فرداً ومجتمعاً، جسميّاً ونفسيّاً، مادّيّاً وأدبيّاً. فكم غضبة جرحت العواطف، وشحنت النفوس بالأضغان، وفصمت عُرى التحابب والتآلف بين الناس. وكم غضبة زجّت أناساً في السجون، وعرّضتهم للمهالك، وكم غضبة أثارت الحروب: وسفكت الدماء، فراح ضحيّتها الآلاف من الأبرياء.

كلّ ذلك سوى ما ينجم عنه من المآسي والأزمات النفسيّة، التي قد تؤدّي إلى موت الفجأة.

والغضب بعد هذا يحيل الإنسان بركاناً ثائراً، يتفجّر غيطاً وشرّاً، فإذا هو إنسان في واقع وحش، ووحش في صورة إنسان.

فإذا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء، وهتك الأعراض، وإذا بيديه تنبعثان بالضرب والتنكيل، وربّما أفضى إلى القتل، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه، وإلاّ انعكست غوائل الغضب على صاحبه، فينبعث في تمزيق ثوبه، ولطم رأسه، وربّما تعاطى أعمالاً جنونيّة، كسبّ البهائم وضرب الجمادات.

الغضب بين المدح والذم:

الغضب غريزةٌ هامّة، تُلهب في الإنسان روح الحميّة والإباء، وتبعثه

٤٥

على التضحية والفداء، في سبيل أهدافه الرفيعة، ومُثله العليا، كالذود عن العقيدة، وصيانة الأرواح، والأموال، والكرامات. ومتى تجرّد الإنسان من هذه الغريزة صار عُرضةً للهوان والاستعباد، كما قيل:( من استُغضِب فلم يغضب فهو حمار ) .

فيُستَنتج من ذلك: أنّ الغضب المذموم ما أفرط فيه الإنسان، وخرج به عن الاعتدال، متحدّياً ضوابط العقل والشرع. أمّا المعتدل فهو كما عرفت، مِن الفضائل المشرّفة، التي تُعزّز الإنسان، وترفع معنويّاته، كالغضب على المنكرات، والتنمّر في ذات اللّه تعالى.

علاج الغضب:

عرفنا من مطاوي هذا البحث، طرفاً من بواعث الغضب ومساوئه وآثامه، والآن أودّ أنْ أعرض وصْفةً علاجيّة لهذا الخُلُق الخطير، وهي مؤلّفة من عناصر الحكمة النفسيّة، والتوجيه الخُلُقي، عسى أنْ يجد فيها صرعى الغضب ما يُساعدهم على مكافحته وعلاجه.

وإليك العناصر الآتية:

(١) - إذا كان منشأ الغضب اعتلالاً صحّيّاً، أو هبوطاً عصبيّاً كالمرضى والشيوخ ونحاف البنية، فعلاجُهم - والحالة هذه - بالوسائل الطبّية، وتقوية صحّتهم العامّة، وتوفير دواعي الراحة النفسيّة والجسميّة لهم، كتنظيم الغذاء، والتزام النظافة، وممارسة الرياضة الملائمة،

٤٦

واستنشاق الهواء الطلق، وتعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد على الفراش.

كل ذلك مع الابتعاد والاجتناب عن مرهقات النفس والجسم، كالإجهاد الفكري، والسهر المضني، والاستسلام للكآبة، ونحو ذلك من دواعي التهيّج.

(٢) - لا يحدث الغضب عفواً، وإنّما ينشأ عن أسباب تستثيره، أهمّها: المغالاة في الأنانيّة، الجدل والمراء، الاستهزاء والتعيير، المزاح الجارح. وعلاجه في هذه الصور باجتناب أسبابه، والابتعاد عن مثيراته جهد المستطاع.

(٣) - تذكّر مساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، وأنّها تحيق بالغاضب، وتضرّ به أكثر مِن المغضوب عليه، فرُبّ أمرٍ تافه أثار غضبةً عارمة، أودت بصحّة الإنسان وسعادته.

يقول بعض باحثي علم النفس: دع محاولة الاقتصاص من أعدائك، فإنّك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر ممّا تؤذيهم... إنّنا حين نمقت أعداءنا نتيح لهم فرصة الغلبة علينا، وإنّ أعداءنا ليرقصون طرَباً لو علِموا كم يسبّبون لنا من القلق وكم يقتصّون منّا، إنّ مقتنا لا يُؤذيهم، وإنّما يؤذينا نحن، ويحيل أيامنا وليالينا إلى جحيم(١).

وهكذا يجدر تذكر فضائل الحلم، وآثاره الجليلة، وأنّه باعث على إعجاب الناس وثنائهم، وكسب عواطفهم.

وخير محفّز على الحلم قول اللّه عز وجل:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

_____________________

(١) دع القلق وابدأ الحياة.

٤٧

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت: ٣٤ - ٣٥ )

(٤) - إنّ سطوة الغضب ودوافعه الإجراميّة، تعرّض الغاضب لسخط اللّه تعالى وعقابه، وربّما عرّضته لسطوة مَن أغضبه واقتصاصه منه في نفسه أو في ماله أو عزيز عليه. قال الصادقعليه‌السلام : ( أوحى اللّه تعالى إلى بعض أنبيائه: إبنَ آدم أذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصراً، فإنّ انتصاري لك خيرٌ مِن انتصارك لنفسك )(١).

(٥) - من الخير للغاضب إرجاء نزَوات الغضب وبوادره، ريثما تخفّ سورته، والتروّي في أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فذلك ممّا يخفّف حدّة التوتر والتهيج، ويعيده إلى الرشد والصواب، ولا يُنال ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلّ من تشبّه بقومٍ إلاّ أوشك أنْ يكون منهم )(٢).

(٦) - ومن علاج الغضب: الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وجلوس الغاضب إذا كان قائماً، واضطجاعه إنْ كان جالساً، والوضوء أو الغُسل بالماء البارد، ومسّ يد الرحم إنْ كان مغضوباً عليه، فإنّه من مهدّئات الغضب.

_____________________

(١) الكافي.

(٢) نهج البلاغة.

٤٨

التواضع

وهو: احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفّع عليهم.

وهو خُلقٌ كريم، وخلّة جذّابة، تستهوي القُلوب، وتستثير الإعجاب والتقدير، وناهيك في فضله أنّ اللّه تعالى أمر حبيبه، وسيّد رُسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتواضع، فقال تعالى:( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

(الشعراء: ٢١٥)

وقد أشاد أهل البيتعليهم‌السلام بشرَف هذا الخُلُق، وشوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة، وسيرتهم المثاليّة، وكانوا روّاد الفضائل، ومنار الخُلق الرفيع.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضَعَاه )(١).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يومّ القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون وهُم المستكبرون )(٢).

_____________________

(١) الكافي.

(٢) كتاب قرب الإسناد، وقريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق.

٤٩

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلباً لما عند اللّه، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالاً على اللّه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن التواضع أنْ ترضى بالمجلس دون المجلس، وأنْ تُسلّم على مَن تَلقى. وأنْ تترك المراء وإنْ كُنت محقّاً، ولا تحب أنْ تُحمَد على التقوى )(٢).

وجدير بالذكر أنْ التواضع الممدوح، هو المتّسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داع إلى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعثٌ على الكِبر والأنانيّة.

وعلى العاقل أنْ يختار النهج الأوسط، المبرّأ مِن الخسّة والأنانيّة، وذلك: بإعطاء كلّ فرد ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهّلاته.

لذلك لا يحسن التواضع للأنانيّين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلَفِهم. إنّ التواضع والحالة هذه مدعاة للذلّ والهَوان، وتشجيعٌ لهم على الأنانيّة والكِبَر، كما يقول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

وممّا قيل في التواضع قول المعرّي:

يا والي المصر لا تظلمنّ

فكم جاء مثلك ثُمّ انصرف

تواضع إذا ما رُزقت العُلا

فذلك ممّا يزيد الشرَف

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الكافي.

٥٠

وفي المثل:

تواضع الرجل في مرتبته، ذبّ للشماتة عند سقطته.

وقال الطغرائي:

ذريني على أخلاقي الشوس إنّني

عليم بإبرام العزائم والنقض

أزيد إذا أيسرت فضل تواضع

ويزهى إذا أعسرت بعضي على بعضي

فذلك عند اليسر أكسب للثنا

وهذاك عند العسر أصوَن للعرض

أرى الغصن يعرى وهو يسمو بنفسه

ويوقر حملاً حين يدنو مِن الأرض

واليك طرفاً من فضائل أهل البيت، وتواضعهم المثالي الفريد:

كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويُجالس الفقراء، ويواكل المساكين.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سارّه أحد، لا يُنحّي رأسه حتّى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتّى يرسلها الآخر، وما قعد إليه رجل قط فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يقوم، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُرَ قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه، يُكرم من يدخل عليه، وربّما بسَط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبِّ أسمائهم تكرِمةً لهم، ولا يقطع على أحدٍ حديثه، وكان يُقسِّم لحظاته بين أصحابه، وكان

٥١

أكثر الناس تبسّماً، وأطيبهم نفساً(١) .

وعن أبي ذرّ الغفاري: كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجئ الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل، فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكّاناً من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه.

ورُوي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليَّ طبخها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وعليَّ جمع الحطب ). فقالوا: يا رسول اللّه، نحن نكفيك.

فقال: ( قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أنْ أتميَّز عليكم، فإنّ اللّه يكره مِن عبده أنْ يراه متميَّزاً بين أصحابه )، وقام فجمع الحطب(٢).

ورُوي أنّه خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بئرٍ يغتسل، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول اللّه وستره به حتّى اغتسل، ثُمّ جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الثوب، وقام يستر حذيفة، فأبى حذيفة، وقال: بأبي وأُمّي أنت يا رسول اللّه لا تفعل، فأبى رسول اللّه إلاّ أنْ يستره بالثوب حتّى اغتسل، وقال: ( ما اصطحب اثنان قطُّ، إلاّ وكان أحبّهما إلى اللّه أرفقهما بصاحبه )(٣).

_____________________

(١) سفينة البحار المجلّد الأول ص ٤١٥ بتصرّف وتلخيص.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٥.

(٣) سفينة البحار ج ١ ص ٤١٦.

٥٢

وهكذا كان أمير المؤمنينعليه‌السلام في سموّ أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفهعليه‌السلام :

( كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيّانا، وقُربه منّا، لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإنْ تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( خرَج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أصحابه، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة ؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبُّ أنْ نمشي معك. فقال لهم: انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب، مَفسدةٌ للراكب، ومذلّة للماشي )(١).

وهكذا يقصّ الرواة طرفاً ممتعاً رائعاً مِن تواضع الأئمّة الهداةعليهم‌السلام ، وكريم أخلاقهم.

فمِن تواضع الحسينعليه‌السلام : أنّه مرّ بمساكين وهُم يأكلون كِسراً لهم على كساء، فسلَّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: ( لولا أنّه صدقة لأكلت معكم ). ثُمّ قال: ( قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم )(٢).

ومن تواضع الرضاعليه‌السلام :

_____________________

(١) محاسن البرقي.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب.

٥٣

قال الراوي: كنت مع الرضاعليه‌السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: ( مَه، إنّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والأبُ واحد، والجزاء بالأعمال )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٥٤

التكبّر

وهو حالة تدعو إلى الإعجاب بالنفس، والتعاظم على الغير، بالقول أو الفعل، وهو: من أخطر الأمراض الخلقيّة، وأشدّها فتكاً بالإنسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به، ونفرتهم منه.

لذلك تواتر ذمّه في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ( لقمان: ١٨ ).

وقال تعالى:( وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) ( الإسراء:٣٧ ).

وقال تعالى:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ( النحل: ٢٣ ).

وقال تعالى:( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) ( الزمر: ٦٠ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ في السماء ملَكَين موكَّلين بالعباد، فمَن تواضع للّه رَفَعاه، ومن تكبّر وضعاه )(١) .

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن رجل تكبّر أو تُجبَر، إلاّ لذلةٍ وجدها في نفسه )(٢) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥٠ عن الكافي.

٥٥

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً، وإنّ أبعدكم منّي يوم القيامة، الثرثارون، وهُم المستكبرون )(١) .

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( مرّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة فقال: على ما اجتمعتم ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، هذا مجنون يُصرع، فاجتمعنا عليه. فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنّه المبتلى. ثمّ قال: ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المُتَبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمكنبيه، يتمنّى على اللّه جنّته، وهو يعصيه، الذي لا يُؤمنُ شرّه، ولا يُرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى )(٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة له: ( فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد ؟ وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة، لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا، أم مِن سنيّ الآخرة، عن كِبر ساعة واحدة، فمَن بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته، كلا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، واستعيذوا باللّه من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر، فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه ورُسُله، ولكنّه سُبحانه

_____________________

(١) البحار مج ١٥ ج ٢ ص ٢٠٩، عن قرب الإسناد، وقريب منه في علل الشرائع للصدوق( ره ).

(٢) البحار م (١٥) ج ٣ ص ١٢٥ عن الخصال للصدوق.

٥٦

كرّه إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع )(١).

وعن الصادق عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ( وقع بين سلمان الفارسي وبين رجلٍ كلام وخصومة فقال له الرجل: مَن أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلُك فنطفةٌ قذرة، وأمّا آخِري وآخِرُك فجيفةٌ منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووِضِعَت الموازين، فمن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم )(٢).

وعن الصادقعليه‌السلام قال: ( جاء رجلٌ موسر إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نقيّ الثوب، فجلس إلى رسول اللّه، فجاء رجلٌ مُعسِر، درن الثوب، فجلَس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه مِن تحت فخذيه، فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخفت أنْ يمسّك مِن فقره شيء ؟ قال: لا. قال: فخِفتَ أنْ يوسّخ ثيابك ؟ قال: لا. قال: فما حملَك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي قريناً يُزيّن لي كلّ قبيح ويقبّح لي كلّ حسَن، وقد جعلت له نصف مالي. فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله للمعسِر: أتقبل ؟ قال: لا. فقال له الرجل: لِمَ ؟ قال: أخاف أنْ يدخلني ما دخلك ).

مساوئ التكبّر:

من الواضح أن التكبر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة، الشائعة

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٢٤ عن أمالي الصدوق.

٥٧

في الأوساط الاجتماعيّة، التي سرت عدواها، وطغت مضاعفاتها على المجتمع، وغدا يعاني مساوئها الجمّة.

فمن مساوئ التكبّر وآثاره السيّئة في حياة الفرد:

أنّه متى استبدّ بالإنسان، أحاط نفسه بهالةٍ من الزهو والخيَلاء، وجُنّ بحبِّ الأنانيّة والظهور، فلا يسعده إلاّ الملِق المزيف، والثناء الكاذب، فيتعامى آنذاك عن نقائصه وعيوبه، ولا يهتمّ بتهذيب نفسه، وتلافي نقائصه، ما يجعله هدفاً لسهام النقد، وعرضة للمقت والازدراء.

هذا إلى أنّ المتكبّر أشدّ الناس عُتوّاً وامتناعاً عن الحقّ والعدل، ومقتضيات الشرائع والأديان.

ومن مساوئ التكبّر الاجتماعيّة:

أنّه يُشيع في المجتمع روح الحقد والبغضاء، ويعكّر صفو العلاقات الاجتماعيّة، فلا يسيء الناس ويستثير سخطهم ومقتهم، كما يستثيره المتكبّر الذي يتعالى عليهم بصلفه وأنانيّته.

إنّ الغطرسة داء يُشقي الإنسان، ويجعله منبوذاً يعاني مرارة العزلة والوحشة، ويشقي كذلك المرتبطين به بصنوف الروابط والعلاقات.

بواعث التكبّر:

الأخلاق البشريّة كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، وفيض نبعها، فهي تُشرق وتُظلم، ويحلو فيضها ويمرّ تبعاً

٥٨

لطيبة النفس أو لؤمها، استقامتها أو انحرافها. وما مِن خُلُق ذميم إلاّ وله سببٌ من أسباب لؤم النفس أو انحرافها.

فمن أسباب التكبّر: مغالاة الإنسان في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الإعجاب والزهو بها، فلا يتكبّر المتكبّر إلاّ إذا آنَس من نفسه عِلماً وافراً، أو منصباً رفيعاً، أو ثراءً ضخماً، أو جاهاً عريضاً، ونحو ذلك من مثيرات الأنانيّة والتكبّر.

وقد ينشأ التكبّر من بواعث العِداء أو الحسَد أو المباهاة، ممّا يدفع المتّصفين بهذه الخلال على تحدّي الأماثل والنُبلاء، وبَخس كراماتهم، والتطاول عليهم، بصنوف الازدراءات الفعليّة أو القوليّة، كما يتجلّى ذلك في تصلّفات المتنافسين والمتحاسدين في المحافل والندوات.

درجات التكبّر:

وهكذا تتفاوت درجات التكبّر وأبعاده بتفاوت أعراضه شدّةً وضعفاً.

فالدرجة الأُولى: وهي التي كَمِن التكبّر في صاحبها، فعالجه بالتواضع، ولم تظهر عليه أعراضه ومساوئه.

والدرجة الثانية: وهي التي نما التكبّر فيها، وتجلّت أعراضه بالاستعلاء على الناس، والتقدّم عليهم في المحافل، والتبختر في المشي.

والدرجة الثالثة: وهي التي طغى التكبر فيها، وتفاقمت مضاعفاته، فجُنَّ صاحبها بجنون العظمة، والإفراط في حبّ الجاه والظهور، فطفق

٥٩

يلهج في محاسنه وفضائله، واستنقاص غيره واستصغاره. وهذه أسوأ درجات التكبّر، وأشدّها صَلفَاً وعتوّاً.

أنواع التكبّر:

وينقسم التكبر باعتبار مصاديقه الى ثلاثة أنواع:

(١) - التكبّر على اللّه عزَّ وجل:

وذلك بالامتناع عن الإيمان به، والاستكبار عن طاعته وعبادته. وهو أفحش أنواع الكفر، وأبشع أنواع التكبّر، كما كان عليه فرعون ونمرود وأضرابهما مِن طغاة الكفر وجبابرة الإلحاد.

(٢) - التكبّر على الأنبياء.

وذلك بالترفّع عن تصديقهم والإذعان لهم، وهو دون الأوّل وقريب منه.

(٣) - التكبّر على الناس:

وذلك بازدرائهم والتعالي عليهم بالأقوال والأفعال، ومن هذا النوع التكبّر على العلماء المخلصين، والترفّع عن مسائلتهم والانتفاع بعلومهم وإرشادهم، ممّا يفضي بالمستكبرين إلى الخُسران والجهل بحقائق الدين، وأحكام الشريعة الغرّاء.

علاج التكبّر:

وحيث كان التكبّر هَوَساً أخلاقيّاً خطيراً ماحقاً، فجدير بكلّ عاقل

٦٠