كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 116837
تحميل: 6201

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116837 / تحميل: 6201
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠