كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 115620
تحميل: 6005

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115620 / تحميل: 6005
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

تبطل دعوى فنسنك: بأنّها أُضيفت في المدينة إلى الصلاتين المعتادتين، ويبطل أيضا قوله: بأنّها ثلاث صلوات أو ثلاث مرّات، والتي يفرع عليها دعوى محاكاتها لصلاة اليهود(ثقلاه) ، كما يبطل مشابهتها لصلوات المسيحيّين من هذه الناحية لثبوت أنّ الصلوات المشرعة هي خمس وليست ثلاثاً كما عند اليهود، وليست سبعاً كما لدى المسيحيّين كما أسلفنا.

أمّا الجانبان الثاني والثالث من التشابه المدّعى ففيه: أنّه ورد (أنّ الأصل في جميع صلوات المسيحيّين إنّما هو الصلاة الربانيّة التي علّمها السيّد المسيح، والأصل في تلاوتها أنْ يتلوها المصلّي ساجداً، وقد تكون الصلاة لفظيّة، بأنْ تُتلى بألفاظٍ منقولة أو مرتجلة، وتكون عقليّة بأنْ تنوى الألفاظ ويكون الابتهال قلبيّاً محضاً)(١) .

ثمّ يحكي لنا مصدر آخر كيفيّة تطوّر صلواتهم قائلا: (نشَر [الرهبان] الفرنسسكان عادة(طريق الصليب) أو(مواضعه) ، وهي التي تقضي بأنْ يتلو المتعبّد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة، تمثّل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح؛ فكان القساوسة والرهبان والراهبات وبعض العلمانيّين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونيّة وهي: أدعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغهاالبندكتيون وغيرهم، وجمعها(ألكوين Alcuin ) و(جريجوري السابع) في كتاب موجز.

وكانت هذه الأدعية تَطرق أبواب السماء... كلّ يوم وليلة في فترات، بين كلّ واحدة والتي تليها ثلاث ساعات)(٢) .

وعن مضامينها يقول المصدر نفسه: (وأقدم الصلوات المسيحيّة هما:

____________________

(١) المعلّم البستاني، بطرس، دائرة المعارف ١٠: ١٠. مادّة (الصلاة).

(٢) ديورانت، ول، قصّة الحضارة ١٦: ٢١ - ٢٢. فصل الصلاة.

٣٠١

الصلاة التي مطلعها(أبانا الذي في السماوات) ، والتي مطلعها(نؤمن بإلهٍ واحد) ، وقبل أنْ ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة التي مطلعها:(السلام لك يا مريم) تتّخذ صيغتها المعروفة، وكانت هناك غير الصلوات أوراد شعريّة من الثناء والتضرّع،... وكثيراً ما كانت الصلوات الرسميّة التي تُتلى في الكنائس توجَّه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجّه إلى الروح القدس؛ ولكن صلوات الشعب كانت توجّه في الأغلب إلى عيسى ومريم، والقديسين)(١) .

أمّا صلاة اليهود فقد ورد عنها القول: (أمّا اليهود فليس في التوراة ما يدلّ دلالةً صريحةً على كيفيّة إقامة الصلاة عندهم، والظاهر أنّهم إنّما كانوا يتلونها وقوفاً إلاّ في الاحتفالات الكبرى، حيثُ كانوا يسجدون، وكان لها ثلاثة أوقات قانونيّة: الصبح والظهر والمساء)(٢) .

أمّا الصلوات في الإسلام فقد ذكر الفقهاء كيفيّتها، استناداً على الأدلّة الشرعيّة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة فقالوا: (... فهي تتكوّن من ركعات، والحدّ الأقصى من الركَعَات في الصلاة أربعة، كصلاة العشاء مثلاً، والحدّ الأدنى من الركَعَات في الصلوات الواجبة ركعتان كصلاة الصبح، وفي الصلوات المندوبة ركعة واحدة وهي ركعة الوتر.

وعلى العموم فالرَكَعَات هي: الوحدات والأجزاء الأساسيّة التي تتكوّن منها الصلاة، ويُستثنى من ذلك الصلاة على الأموات، فإنّها مكوّنة من تكبيرات لا من رَكَعَات، وليست هي صلاة إلاّ بالاسم فقط)(٣) .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المعلّم البستاني، بطرس، دائرة المعارف ١٠: ١٠ مادّة (الصلاة).

(٣) لمزيد من التفصيل في أجزاء وكيفيّة الصلوات اليوميّة في الإسلام يراجع: السيّد الصدر، محمّد باقر، الفتاوى الواضحة: ٢٥٨ - ٢٦٠.

٣٠٢

وهناك شروط يجب توافرها في كلّ صلاة وهي على قسمين: أحدهما شروط للمصلّي، والآخر شروط لنفس الصلاة، وأهمّها أن يكون المصلّي على وضوءٍ وطهارة، وأنْ يكون بدَنَهُ طاهراً وكذلك ثيابه، وأنْ يستقبل القبلة (وهي الكعبة المشرّفة) وأنْ يقصد بالصلاة القُربة إلى الله تعالى(١) .

وقد وردت روايات كثيرة عن الكيفيّة وعن مضامينها وأجزائها، وشروط ذكرتها كتب الحديث في باب الصلاة(٢) .

بعد هذا الاستعراض نرى بالمقارنة بين الصلوات لدى اليهود ولدى المسيحيّين، وبين الصلوات في الإسلام وجود اختلافٍ أساسيٍّ بينها، في العدد وفي الأوقات وفي شكليّاتها ومضامينها. فمِن أين استنتج(فنسنك) التشابه الكبير بينها ومحاكاة بعضها لبعض، وأمثال ذلك في المقولات والدَعَوات الجزافيّة التي لا دليل ولا شاهد عليها؟

هذا مع العلم أنّنا نلحظ من خلال سَوقنا لِما نُقل عن صلاة اليهود وصلوات المسيحيّين، أنّ يد التغيير البشريّة قد طالت الأصل، وأحدثت فيه الشيء الكثير، إذ نجد أنّ مفرداتها - وخصوصاً صلوات المسيحيّين - غدَت مشبّعة بمبدأ التثليث الذي هو من مقولات الشرك بالله سبحانه وتعالى، بخلاف مبدأ التوحيد والإخلاص لله وحده لا شريك له في العبادات الإسلاميّة، الذي تعبّر عنه جميع مفرداتها، وخصوصاً الصلاة منها التي يشترط فيها كما أسلفنا نيّة التقرّب لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهذا ما يؤكّد حقيقة التحريف في الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة وفي كتابَيهما التوراة والانجيل، والتي لا نعدم وجود تشابه في أُصولِهما قبل التحريف بين الأحكام

____________________

(١) المصدر: ٢٦١.

(٢) منها: وسائل الشيعة للحرّ العاملي - أبواب أفعال الصلاة - وبحار الأنوار للمجلسي - كتاب الصلاة. وغيرها من كتب الحديث.

٣٠٣

الواردة فيهما والتي لم تنسخ، وبين نظائرها من الأحكام الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، لأنّها من سراجٍ واحدٍ كما أسلفنا.

غموض العديد من مقولات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القرآنيّة

وتهدف هذه الشبهة إلى تكوين دليل على نفي الوحي بالقرآن، وأنّه إمّا من مخترعات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أنّه اقتبسه من الغير.

وتتركّز هذه الصياغة للشبهة على مجموعة من الصفات الإلهيّة والأسماء والمصطلحات الخاصّة، الواردة في القرآن الكريم، منها ما ادّعاه(ماكدونالد D. B. Macdonald ) تحت مادّة(الله) (ج - الله في ذاته ولذاته) قائلاً: (وصَفة القدّوس وحدها من أسماء الله الحسنى، ولكنّها لا ترد إلاّ مع كلمة ملك، ولسنا نعرف على وجه التحقيق المعنى الذي يريده محمّد من كلمة قدّوس...)(١) .

ويقول أيضاً في المادّة نفسها: (ومن أسمائه أيضاً السلام (سورة الحشر، الآية ٢٣). وهذه الصفة لم ترد إلاّ في الآية ٢٣ من سورة الحشر، ومعناها شديد الغموض، ونكاد نقطع بأنّها لا تعني(السلم) . ويرى المفسّرون أنّ معناها(السلامة) أي البراءة من النقائص والعُيوب، وهو تفسيرٌ محتمل، وقد تكون هذه الصفة كلمةٌ بقيت في ذاكرة محمّد من العبارات التي تُتلى في صلوات النصارى)(٢) .

ويقول أيضاً: (... أمّا صفاته المعنويّة فقد وردت في قلّة يشوبها الغموض، فإنّه يصعب علينا معرفة ما يَقصده محمّد من صفات(القدّوس) و(السلام)

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٥٦٢.

(٢) المصدر السابق ٢: ٥٦٣.

٣٠٤

و(النور). وهناك مجال للشكّ فيما إذا كان محمّد قد رأى من المناسب أنْ يطلق على الله صفة(العدل) (١) .

أمّا تحت مادّة(الله) (د - صلة الخالق بخلقه) فيقول: (ومن الواضح أنّ صفة البارئ قد أخذها محمّد من العبريّة واستُعملت دون أنْ يُقصد منها معنىً خاص)(٢) .

وتحت مادّة(بسم الله) يقول(كارادي فو B Carrde Vaux ): (وتساءل بعض المستشرقين عمّا إذا كانت صيغتا الرحمن والرحيم من أسماء آلهة الجاهليّة، التي بقيَت إلى جانب اسم الله، ثمّ أصبحتا مجرّد صفات)(٣) .

وتحت مادّة(الأنصار) يقول(ركندوف Reckendorf ): (ويظهر أنّ محمّداً استغلّ التشابه الموجود بين لفظ أنصار ونصارى فجعل عيسى يطلق على الحواريّين(أنصار الله) (سورة آل عمران، آية ٥٢، سورة الصف، آية ١٤)(٤) .

وتحت مادّة(بَعْل) يقول(ماكدونالد D. B Macdonald ): (ولا يزال بين كلمة(بَعْل) التي تدلّ على إله وبين(بَعِلَ) معناها دهِش أو فَرِق ومشتقّاتها صلةٌ ضئيلة، وليس لهذين الاشتقاقين الآن وجود... ودخلت [بَعل] إلى العربيّة تفسيراً لآيةٍ في القرآن، وقد أشار القرآن (سورة الصافّات، الآيات ١٢٣ - ١٣٢) إلى قصّة إلياس، وقال على لسانه:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ، ومن المرجّح أنّ محمّداً قصَدَ بـ (بَعْل)(بَعَل) كما سمعها في قصّة من قصص التوراة (سِفر الملوك الأوّل، الإصحاح ١٨)(٥) .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق: ٥٦٤.

(٣) المصدر السابق ٣: ٦٤.

(٤) المصدر السابق ٣: ٥٣.

(٥) المصدر السابق ٣: ٦٩٤.

٣٠٥

أمّا(بول F. Buhl ) فيقول تحت مادّة(سورة): (أمّا مِن أين أتى النبيّ بهذه الكلمة؟، فأمرٌ لا يزال غيرُ ثابت على الرغم من المحاولات التي بُذلت لتتبّع أصلها. ويذهب(نولدكه) إلى أنّ(سورة) هي الكلمة العبريّة الحديثة(شورا) ومعناها الترتيب أو السلسلة، ولو قد أمكن تفسيرها بأنّها(السطر) لِما قادنا ذلك إلى المعنى الأصلي للكلمة...)(١) .

إنَّ جميع مفردات هذه الشُبهة تعود في الحقيقة إلى جَهل المستشرقين، أو تجاهلهم لمعاني ألفاظٍ عربيّة وردَت في القرآن الكريم، فافترضوا، بعد تشكيل مقدّمةٍ باطلة من معانٍ وهميّة ادّعوها لتلك الألفاظ، أنّها استُعيرت من صلوات النصارى مرّة، أو أُخِذَت من العبريّة مرةً أُخرى، أو أنّها من الأسماء الجاهليّة ثالثة، أو استقيت من قصص التوراة رابعة، أو أنّها ألفاظ شديدة الغموض، أو لا معنى لها خامسة، وهكذا... ويبقى الهدف الحقيقي وراء هذه التمحّلات هو إنكار الوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي سنُعالج أمره في الشبهة اللاحقة إنْ شاء الله، كما يرد عليها ما أوردناه على(ر. پاريه) تحت مادّة(أمّة).

أمّا أهمّ الألفاظ التي أنكروا الأصالة العربيّة لبعضها، وجهلوا أو تجاهلوا استعمالها في معانيها العربيّة الأصيلة في آيات القرآن الكريم، فهي كالآتي حسب تسلسل ورودها في الشبهة السالفة الذكر:

١ - قُدّوس: على وزن فُعُّول من القُدْس. وفي التهذيب: القُدْسُ تنزيه الله تعالى، والقدّوس: من أسماء الله تعالى، قال الأزهري: القدّوس هو الطاهر المُنزّه عن العيوب والنقائص، وقال ابن الكلبي: القدّوس، وحكى ابن الأعرابي: والمقدّس المبارك.

____________________

(١) المصدر السابق ١٢: ٣٥٨.

٣٠٦

ويُقال أرضٌ مقدّسة أي مباركة، وهو قول العجاج:

قد عَلِمَ القَدُّوس مولى القُدْس * أَنَّ أبا العبّاس أولى نفسِ

بِمَعْدن المُلْك القديم الكرْسي

يعني بالقدّوس هنا الله سبحانه وتعالى وبالقُدْس الأرض المباركة(١) .

وقد طابق قول المفسّرين المعنى اللغوي في تفسير كلمة(قُدّوس) ، فذكر الطباطبائي في تفسير الميزان أنّ القدوس مبالغة في القُدس وهو النزاهة والطهارة(٢) .

وقال الطوسي في تفسير التبيان:(القُدّوس) معناه المُطهَّر فتطهر صفاته عن أنْ يدخل فيها صفةُ نقص(٣) .

فكيف يدّعي(ماكدونالد) عدم معرفة المعنى المراد من هذه الكلمة في القرآن الكريم؟!

٢ - السَّلام: ورد في معنى السَّلام والسلامة: البراءة. وتسلّمَ منه: تبَرّأ. وقال ابن الأعرابي: السلامة العافية. والتسليم: مشتقٌّ من السلام اسم الله تعالى، لسلامته من العيب والنقص. والسَّلامُ: البراءة من العيوب في قول أُميّة:

سَلامك رَبَّنا في كلّ فجرٍ***بريئاً ما تعنّتكَ الذُّمُومُ

والذُّموم: العيوب، أي ما تَلزقُ بك ولا تُنسب اليك(٤) .

وهنا أيضاً جاء قول المفسّرين مطابقاً للمعنى اللغوي، مِن أنّ السلام هو الذي يسْلَم عباده من ظلمه(٥) ، وأنّ السلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (قدس). والقاموس المحيط مادّة (قدس).

(٢) السيّد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ١٩: ٢٥٦.

(٣) الطوسي، التبيان ٩: ٥٧٣.

(٤) لسان العرب: مادّة (سلم). والقاموس المحيط: مادّة (سلم).

(٥) الطوسي، التبيان ٩: ٥٧٣.

٣٠٧

شرٍّ وضرّ(١) .

فأين شدّة الغموض الذي يدّعيه(ماكدونالد) في المعنى الواضح لهذه الكلمة القرآنيّة؟!

٣ - النُّور: جاء في قواميس اللغة أنّ مِن أسماء الله تعالى النور؛ قال ابن الأثير: هو الذي يُبصِر بنوره ذو العَماية، ويَرْشدُ بهُداه ذو الغَوايَةِ، وقيل: هو الظاهر الذي به كلّ ظُهور، والظاهر في نفسه المُظْهِر لغيره يُسمّى نوراً.

قال أبو منصور: والنور من صِفات الله عزّ وجل، قال عزّ وجلّ:( اللّهُ نُورُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٢) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّ النور معروف وهو ظاهرٌ مكشوف لنا بنفس ذاته، فهو الظاهر بذاته المُظهِر لغيره من المحسوسات للبصر، هذا أوّل ما وضع عليه لفظ النور، ثمّ عُمّم لكلّ ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية، فعُدَّ كل من الحواسّ نوراً أو ذا نور يُظهِر به محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس، ثمّ عُمِّم لغير المحسوس فعدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات.

كلّ ذلك بتحليل معنى النور المُبصِر إلى الظاهر بذاته المُظهِر لغيره... فقد تحصّل أنّ المراد بالنور في الآية الكريمة، الذي يستنير به كلُّ شيء وهو مساوٍ لوجود كلّ شيء وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامّة(٣) .

بعد هذا البيان كيف يدّعي(ماكدونالد) صعوبة معرفة المقصود من وصف الله تعالى بالنور؟!

٤ - العدل: ما قام في النفوس أنّه مستقيم، وهو ضدّ الجور. وفي أسماء الله سبحانه: العَدْل، هو الذي لا يَميلُ به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل صدر

____________________

(١) السيّد الطباطبائي في تفسير القرآن ١٩: ٢٥٦.

(٢) لسان العرب: مادّة (نور).

(٣) السيّد الطباطبائي، الميزان ١٥: ١٢٢.

٣٠٨

سُمِّي به فوُضِعَ موضع العادل، وهو أبلغ منه لأنّه جُعِلَ المُسَمّى نفسه عَدلاً(١) .

وكلمة العدل وإنْ لم ترد كصفة أو اسم من أسماء الله سبحانه في القرآن الكريم، إلاّ أنّها جاءت كذلك في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٢) .

٥ - البارئ: من برأ، وهي من أسماء الله عز وجلّ، والله البارئ: الذي خَلَقَ لا عن مثال(٣) . وبهذا المعنى جاءت في الآية الكريمة:( هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوّرُ ) أي المُحدِث المُنشئ للأشياء ممتازاً بعضها عن بعض(٤) .

فكلمة البارئ لفظٌ عربيٌّ أصيل استعمل في المعنى الخاص الذي أشرنا إليه، خلافاً لما ادّعاه(ماكدونالد) من أنّها استقيت من العبريّة ولم يقصد من استعمالها معنىً خاصّاً.

٦ - بَعْل: يُقال للرجل، هو بَعْلُ المرأة، ويُقال للمرأة، هي بَعْلُه وبَعْلتُه. وباعَلت المرأةُ: اتّخذت بعلاً، وباعل القوم قوماً آخرين مُباعَلة وبِعالاً: تزوّج بعضهم إلى بعض، والأنثى بَعْل وبَعْلة مثل زوج وزوجة؛ قال الراجز:

شَرُّ قرينٍ للكبير بَعلتُه * تُولغ كلباً سُؤرَه أو تكْفِتُه

وبَعَل يَبْعَل بُعولة وهو بَعْل: صار بَعْلاً وقال: يا رُبَّ بَعْل ساء ما كان بَعَل.

وبَعْلُ الشيء: رَبُّه ومالكهُ. وفي حديث الإيمان: وإنْ تَلِدَ الأمة بَعْلَها؛ المراد بالبعل ههنا المالك يعني كثرة السبي والتسرّي، فإذا استولد المسلم جاريةً كان ولدها بمنزلة ربّها.

وبَعْلٌ والبَعْل جميعاً: صَنَم، سُمّي بذلك لعبادتهم إيّاه كأنّه ربّهم. وقوله

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (عدل). والقاموس المحيط: مادّة (عدل).

(٢) راجع: بحار الأنوار ٢: ٢٣٨ - ٢٣٩.

(٣) لسان العرب: مادّة (برأ). والقاموس المحيط: مادّة (برأ).

(٤) السيّد الطباطبائي، الميزان ١٩: ٢٥٧. والطوسي، التبيان ٩: ٥٧٤.

٣٠٩

عز وجلّ:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) يُقال: أنا بَعْلُ هذا الشيء أي رَبُّه ومالكه، كأنّه يقول: أتدعون ربّاً سِوى الله؟

ورُوي عن ابن عبّاس: إنّ ضالَّةً أُنشدَت فجاء صاحبها فقال: أنا بعلُها، يُريدُ ربّها، فقال ابن عبّاس: هو من قوله أتدعون بعلاً أي رَبّاً. وورد أنّ ابن عبّاس مرَّ برجُلين يختصمان في ناقة وأحدهما يقول: أنا والله بعلُها، أي مالِكُها وربّها. وقولهم: مَنْ بَعلُ هذه الناقة؟ أي مَنْ رَبُّها وصاحبها(١) .

وجاء في كتب التفسير ما يُطابق المعاني اللغويّة التي ذكرناها، منها في تفسير الآية( أَتَدْعُونَ بَعْلاً... ) ، قال الحسن والضحّاك وابن زيد: المراد بالبعل - ههنا - صنم كانوا يعبدونه، والبعل في لغةِ أهل اليمن هو الربّ، يقولون: مَنْ بَعْل هذا الثوب أي مَنْ ربّه - وهو قول عِكرمة ومجاهد وقتادة والسدّي - ويقولون: هو بَعل هذه الدابّة أي ربّها(٢) .

وعليه فكيف يدّعي(ما كدونالد) أنّ هذه الكلمة دخلت إلى العربيّة تفسيراً لآيةٍ في القرآن الكريم؟

٧ - سورة. السورة: المَنْزِلَة، والجمع سُوَرٌ، والسُّوَرةُ من البناء: ما حَسُنَ وطال. قال الجوهري: والسُّوْرُ جمع سُورَة مثل بُسْرَة وبُسْرٍ، وهي كل منزلة من البناء؛ ومنه سُورَة القرآن لأنّها منزلةٌ بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، والجمع سُوَرٌ بفتح الواو؛ قال الراعي:

هُنَّ الحرائرُ لا رَبّاتُ أَخْمِرَةٍ * سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

وقال ابن سيّده: سُمّيت السُّورَةُ من القرآن سُورَةً لأنّها درجة إلى غيرها، وروى الأزهري بسنده عن أبي الهيثم قال: أمّا سورة القرآن فإنّ الله جلَّ ثناؤه

____________________

(١) لسان العرب مادّة (بعل). والقاموس المحيط: مادّة (بعل).

(٢) الطوسي، التبيان ٨: ٥٢٤ - ٥٢٥.

٣١٠

جعلها سُوَراً مثل غُرْفَةٍ وغُرَفٍ ورُتْبَةٍ ورُتَبٍ وزُلْفَةٍ وزُلَفٍ(١) .

بعد هذا البيان للمعنى اللغوي الأصل لكلمة (سورة) في اللغة العربيّة واستعمالها بهذا المعنى في القرآن الكريم، كيف يوجّه(بول) استفهامه عن مصدر هذه الكلمة وأصالتها؟ وكيف يدّعي(نولدكه) أنّها عبارة عن الكلمة العبريّة الحديثة(شورا)؟

ادّعاء النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابتكاره واصطناعه وتأثره بمَن حوله

وهذه الشبهة تعني بعبارة أُخرى، أنّه ليس وراء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحيٌ إلهي ولا تنزيل سماوي. فمثلاً تصوّر بعث النبيّ لجيش أُسامة على أنّها لأجل الثأر لأبيه زيد، وليس لها بُعد رسالي كما أُعطيَت إليه فيما بعد، وتجد ذلك تحت مادّة(أسامة) حيث يقول( V. Vacca ) : (بعث النبيّ أسامة على رأس جيش ليثأر لأبيه زيد الذي قُتِل في غزوة مؤتة. وبالرغم من الطعن بحداثة سنّه...)(٢) .

وتصوّر التشريعات الإسلاميّة على أنّها بدوافع ماديّة كان النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخضع لها، منها ما جاء تحت مادّة(أُصول) والتي يقول فيها(يوسف شاخت Joseph Schacht ) : (.. ولم يكن قصد محمّد خلق نظام يضبط به حياة أتباعه، أو وضع أُصول هذا النظام على الأقل، بل ظل القانون العرفي العربي القديم الذي تضمّن كثيراً من العناصر الدخيلة من روميّة إقليمية وبابلية ويمنيّة، يسير في الإسلام سيره الطبيعي، ودخلت عليه بعض التغييرات لتلائم بينه وبين الظروف الإقليميّة للبدو وأهل مكّة وهي مدينة تجاريّة، وأهل المدينة وهي مركز زراعي، وكان همُّ محمّد في

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (سور). والقاموس المحيط: مادّة (سور).

(٢) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٧٧.

٣١١

التشريع قاصراً على تصحيح بعض المسائل مدفوعاً إلى ذلك باعتبارات دينيّة؛ وذلك لأنّ الأحكام التي تمسّ الحياة الاجتماعيّة تقوم أيضاً على أساس ديني. وفي مثل هذه المسائل كانت الحوادث الخارجيّة هي الدافع إلى معالجة أكثرها)(١) .

وأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبتكر ويقع تأثير عوامل مختلفة، منّها ما قاله(ماكدونالد D. B. Macdonald ) تحت مادّة(الله) (هـ - صلة الله بالإنسان): (... وكان محمّد في وقت ما يستعمل صفة (الرحمن) كاسم علم مرادف للكلمة(الله). واعتبر أهل مكّة ذلك من مبتكراته (انظر خبر صلح الحديبيّة وما جاء فيه من أنّ أهل مكّة رفضوا الصيغة التي تضمّنت الرحمن الرحيم، وتمسّكوا بالصيغة المكيّة القديمة(باسمك اللهم) ... ويظهر أنّ محمّداً قد أخذ هذه الصيغة عن جنوبي بلاد العرب)(٢) .

وتحت مادّة(أهل الكتاب) يقول(جولد صيهر Gold Ziher ) : (يسمّي محمّد اليهود والنصارى بهذا الاسم تمييزاً لهم عن عبَدة الأوثان... على أنّه رغم نزعة التعصّب التي كان يعبّر عنها بعبارات شديدة...)(٣) .

وتحت مادّة(جبرائيل) يقول(جولد سيهر Gold Ziher ) : (يسمّي محمّد اليهود والنصارى بهذا الاسم تمييزاً لهم عن عَبَدة الأوثان... على أنّه رغم نزعة التعصّب التي كان يعبّر عنها بعبارات شديدة...)(٣) .

وتحت مادّة(جبرائيل) يقول(كارادي فو Carrade Vaux ) : (ولجبرائيل شأنٌ هام في القرآن. وقد اصطنع النبيّ القصّة التي تقول بأنّ هذا الرسول السماوي يتحدّث إلى الأنبياء، واعتقد أنّه تلقّى رسالته ووحيه منه)(٤) .

ويقول أيضاً تحت مادّة(الجنّة) : (وقد ذُكرت مرّة واحدة في القرآن بالاسم الفارسي(فردوس) ... وقد عرف أنّ فكرة محمّد عن الجنّة مادّة حسيّة، وقد

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٢٧٤ - ٢٧٥.

(٢) المصدر السابق ٢: ٥٦٥ - ٥٦٦.

(٣) المصدر السابق ٣: ١٠٦ - ١٠٧.

(٤) المصدر السابق ٦: ٢٧٦.

٣١٢

صُوّرت هذه الفكرة في سور كثيرة تتّصل بالفترة الأولى من دعوته، مثال ذلك (سورة محمّد، الآيات ١٦، ١٧)(١) .

ويُحاول الطعن في بلاغة القرآن جهلاً منه بأُصولها فيقول تحت نفس المادّة: (وفي سورة الرحمن، الآية ٥٥، وهي السورة التي صيغت في قالب أُنشودة لها لازمة، يتحدّث محمّد عن الجنّتين... وهو يذكر في السورة نفسها (الآيات ١٦ - ١٩) المشرقين والمغربين والبحرين. وليس تفسير هذه الإثنينيّة يسيراً إلاّ إذا كانت من أجل البحرين، وقد يُقال إنّ النبيّ قد التزم في هذا المقام صيغة المثنى لأنّها أوقع في السمع)(٢) .

وتحت مادّة(جهنّم) يقول(كارادي فو B Carrade Vaux ): (ولم يكن لدى النبيّ محمّد إلاّ فكرة أوليّة عن بناء جهنّم، فهو يتحدّث عن أبوابها ويحدّد عددها بسبعة (سورة لقمان، الآية ٧١، سورة الحجر، الآيتان ٤٣، ٤٤)(٣) .

وتحت مادّة(الحديبيّة) يقول(لامنس H Lammen ) : (ولم يستطع النبيّ أنْ يعدَّ نفسه قابضاً على ناصية الحال، إلاّ في الشهور الأخيرة من العام السادس للهجرة، بعد أنْ قضى على العشائر اليهوديّة وأذلّ المنافقين في المدينة، ومن ثمّ رأى أنّ الوقت قد حان للتظاهر ضدّ مكّة ردّاً على حصار الخندق، وهو الحصار الذي حاولته قريش، وقد اتّخذ النبيّ كلّ الأهبة لهذا التظاهر بفضل السياسة التي التزمها، ولم يحد عنها، فقد دأب على تركيز اهتمام قومه بمكّة أم البلاد، فكان تغييره للقبلة واصطناعه لأُسطورة إبراهيم، وتصويره بأنّه باني الكعبة، وفرضه الحجّ وإيجابه في ذلك الوقت على كافّة المسلمين، يخدم هذا الغرض دون سواه. ويبدو أنّ

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ١٤٠ - ١٤١.

(٢) المصدر السابق ٧: ١٤٢ - ١٤٣.

(٣) المصدر السابق ٧: ١٩٧.

٣١٣

النبيّ فكّر أوّل الأمر في القيام بمظاهرة عسكريّة، فقد كان المفروض أنْ يسير في عدد يتفاوت بين ١٤٠٠ و١٦٠٠ من الرجال المسلمين، ولكنّه عدّل خطته وأعلن أنّه انتوى العمرة، وما كان الهدي الذي أخذه معه إلاّ استكمالاً للخدعة)(١) .

وتحت مادّة(سارق) يقول(هيفيننك Heffening ) : (السرقة وجزاؤها قطع اليد بنص القرآن (سورة المائدة، الآية ٣٨)، وكان هذا الجزاء من ابتكار الرسول، إلاّ أنّه ورد في أدب الأوائل أنّ وليد بن المغيرة ابتدعه أيّام الجاهلية، وقد يكون هذا النوع من العقوبة من أصل فارسي)(٢) .

وتحت مادّة(السفينة) يقول(كندرمان H Kindermann ) : (والشيء الذي أثار هذه المسألة في بادئ الأمر، هي الأوصاف التي ذكرها القرآن عن البحر. فقد تساءل(بار تولد W. Barthold ) بحقٍّ، كيف تأتّت للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الصوَر الواضحة عن البحر وعواصفه ومن أين استقاها)(٣) .

ويستمر تحت نفس المادّة قائلاً: (على أنّلامنس يعترف بأنّ الإشارات الكثيرة في القرآن والسيرة إلى الملاحة تُوحي بأنّ العرب كانوا على دراية وثيقةٍ بالبحر...)(٤) .

وتحت مادّة(شيطان) يقول(ترتون A. S Tritton ): (وكلمة شيطان شائعة في القرآن، ولكنّها لا ترد في سور العهد المكّي إلاّ مرّة منكّرة بصيغة المفرد فحسب، ولم ترد في صيغتها المحدّدة إلاّ في العهد الثاني، موحيةً أنّ النبيّ قد وجد أو تذكّر فكرة أُخرى عن الشيطان)(٥) .

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ٣٠٨.

(٢) المصدر السابق ١١: ٤١.

(٣) المصدر السابق ١١: ٤٥٧.

(٤) المصدر السابق ١١: ٤٥٨.

(٥) المصدر السابق ١٤: ٤٧.

٣١٤

وتحت مادّة(صالح) يقول(بول Fr. Buhl ): (... ولكنّنا لا نستطيع أنْ نتحقّق من المصدر الذي استقى منه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اسم صالح وقصّة الناقة)(١) .

وعن دعوى وقوع النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت تأثير عوامل ماديّة مختلفة عند تشريعه للأحكام أو اتّخاذه للقرارات يقول(شاخت J. Schaht ): ( أمّا فيما يتعلّق بالمصادر الماديّة للشريعة الإسلاميّة، فإنّ عناصر كثيرة مختلفة جدّاً في أصلها (من آراءٍ عربيّةٍ قديمة وبدويّة: قانون التعامل بمدينة مكّة التي كانت مدينة تجاريّة، وقانون الملكيّة في واحة المدينة، والقانون العرفي الذي كان في البلاد المفتوحة، وهو قانون روماني إقليمي إلى حدٍّ ما، وقانون هندي) قد احتفظ بها الاسلام وأخذ بها من غير تحرّج، لكنها بعد ذلك أُخضعت لذلك التقييم الديني الذي شمل كل شيء وأنتج من جانبه أيضاً عدداً كبيراً من المبتكرات الفقهية) (٢) .

وتحت مادّة (زيد بن حارثة) يقول(فكا V. Vacca ): (وكان زيد يصغر محمّداً بنحو عشر سنوات، وهو من السابقين إلى الإسلام، إنْ لم يكن أوّلهم جميعاً، وزيد ينحدر من قبيلةٍ كانت تضرب قرب دومة الجندل، وكان عدد المُعتنقين النصرانيّة هناك كثيراً، كما كان أثر اليهوديّة واضحاً، وربما كان أثر زيد في تطوّر تفكير النبيّ كبيراً)(٣) .

ويضيف(فنسنك) إلى تأثير العوامل الماديّة المختلفة على النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تشريعه للأحكام واتّخاذه للقرارات أنّه كان يقع تحت طائلة الخدعة، فيقول تحت مادّة(الحج) : (وقد ثار اهتمام النبيّ بالحجّ أوّل مرّة في المدينة، ويرجع اهتمامه إلى عدّة أسباب بيّنها Mekkandns في كتابه Shouck Hargrnonye Chefeest ،

____________________

(١) المصدر السابق ١٤: ١٠٧.

(٢) المصدر السابق ١٤: ٢٤٦.

(٣) المصدر الساق ١١: ١٠.

٣١٥

فقد دعاه نجاحه الباهر في غزوة بدر إلى التفكير في فتح مكّة، وطبيعي أنّ التجهّز لهذا الفتح يكون أكثر توفيقاً إذا أثار النبيّ اهتمام صحابته بالأمور الدينيّة والدنيويّة جميعاً، فقد خدع النبيّ فيما كان يعقده من آمال على جماعة اليهود بالمدينة، وأدّت خلافاته معهم إلى قيام شِقاق ديني بينه وبينهم لم يكن عنه محيص، والى هذا العهد يرد أصل نظريّة دين إبراهيم)(١) .

وعن دعوى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقع في أخطاءٍ في مواقفه، وإبهامٍ في آرائه يقول(بول Fr. Buhl ) تحت مادّة(تحريف): (... والذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة [التحريف] هو ما جاء بالقرآن من آيات، اتّهم فيها محمّد اليهود بتغيير ما أُنزل إليهم من كتب وبخاصّة(التوراة) مستعملاً التعبير(حرّفوا) (انظر مادّة القرآن).

وكان هذا الاتّهام في الواقع الطريقة الوحيدة لإخراج محمّد من مأزقٍ خطير، حين احتكّ في المدينة باليهود. فقد سعى مُنذ بدء رسالته إلى الحصول على تأييد أهل الكتاب يهوداً ونصارى؛ لاقتناعه بأنّ ما جاء في العَهدَين القديم والجديد يتّفق وما دعا إليه ممّا أُنزل عليه. ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراكٍ خاطئ، أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود، فكان في نظرهم مبُطلاً. ولو أنّ ما استعرضه مِن الآراء كان مناقضاً لما أُنزل في الكتب المقدّسة القديمة لانتفت دعواه فيما يؤكّد مِن أنّه صاحب رسالة إلهيّة.

ولماّ كان اعتقاده أنّه رسول مُوحى إليه قويّاً لا يتزعزع لم يبقَ له غير مَخرجٍ واحد، ذلك أنّ اليهود عمدوا آثمين إلى تحريف الكتاب، وأنّه هو الذي أتى بالنص الصحيح؛ وهي دعوى جريئة يسّرها عليه أنّ هذه الكتب كانت مجهولة تماماً من أتباعه المؤمنين بصدق كلماته)(٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ٣٠٢ - ٣٠٣.

(٢) المصدر السابق ٤: ٦٠٣.

٣١٦

ويضيف(بول) أيضاً تحت نفس المادّة: (وكان من نتيجة الطريقة المبهمة التي تحدّث بها محمّد في القرآن، عن تحريف الذين أُوتوا الكتاب، للتوراة والإنجيل أنْ ذهب علماء المسلمين مذاهب شتّى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتّهام)(١) .

إنّ هذه الصياغة لمقولات الطعن بإلهيّة القرآن الكريم، ورسالة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإسلام تبرز لنا شبهة الإنكار الإلهي من خلال نماذج مفرداتها، التي سُقناها بصراحةٍ ووضوحٍ اشدّ من الصياغات السابقة. هذه الشبهة التي طالما بذل الكثير من المستشرقين وأمثالهم الجهد الكبير لتركيزها، وإطلاق الادعاءات وسَوق الأدلّة المتكلّفة لإثباتها. وعليه لابدّ لنا من أنْ نعقد بحثاً يَستوعب أبلغ ما يُمكن استلاله من جُملة مفردات أدلّتهم ودعواتهم المختلفة، التي ذكرت في المقام ليكون جواباً شاملاً وشافياً لجميع ما استقصيناه في هذه الصياغة والصياغات الأُخرى، أو لم نستقصِه من مفردات هذه الشبهة.

على أنّنا نجد أنّ منهج تناولهم لهذه الشبهة سلَك طريقين: الطريق الأوّل شبهات حول إعجاز القرآن، والطريق الثاني شبهات حول الوحي الإلهي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وللترابط الموضوعي الوثيق بين إعجاز القرآن والوحي الإلهي، سنتناول كلا هذين الطريقين بالبيان والرد كالآتي:

الطريق الأوّل: شبهات حول إعجاز القرآن الكريم: وتقوم هذه الشبهات على تأكيد بشريّة القرآن الكريم، ولكون الأُسلوب البلاغي للقرآن الكريم هو أحد الأسرار الأساسيّة لإثبات إعجازه وكونه وحياً إلهيّاً تحدّى البشر بأنْ يأتوا بمثله أو بعشرِ سوَر مثله بل بسورةٍ من مثله، وأنْ يدعوا مَن استطاعوا لذلك من

____________________

(١) المصدر السابق ٤: ٦٠٧.

٣١٧

دون الله إنْ كانوا صادقين، كان مطعنهم الأوّل موجّه لها لنفيها كأساس لذلك الإعجاز، وبتتبّعٍ تفصيليٍّ لمفردات هذه الشبهات يمكننا أنْ نقسّمها إلى قسمين: قسمُ يُحاول أنْ يبرز نقصاً أو خطأً في الأُسلوب البلاغي والمحتوى البياني للقرآن الكريم، ويُمكننا ملاحظة النماذج التي سُقناها سابقاً في هذا السياق، ولا نجد حاجةً لتتبّع المزيد من تفصيلات ذلك مفردةً بعد أُخرى والردّ عليها على ضوء القواعد العربيّة؛ لاستلزامه الإطالة من جهة، ولوجود من كفانا مؤنتها من جهة أُخرى(١) .

وقسمٌ آخر يُحاول أنْ يقيم الدليل على كون القرآن الكريم ليس بمعجزة في جانبه البلاغي لقدرة البشر على أنْ يأتوا بمثله وهذا القسم يشتمل على ما يلي:

الشبهة الأُولى: لمّا كانت الفصاحة والبلاغة القرآنيّة هي الأساس الأوّل في الإعجاز القرآني، ولمّا كان للعرب قواعد وأُسُس لتلك الفصاحة والبلاغة، تشكّل المقياس الرئيسي لديهم في تمييز ما هو بليغ وفصيح عن غيره، نجد أنّ بعض آيات القرآن الكريم تأتي خلافاً لتلك القواعد، أو لا تنطبق عليها تمام الانطباق، وعليه فإنّ القرآن الكريم يفتقد لنهج الفصاحة والبلاغة على الأُصول والقواعد العربيّة، فهو إذن ليس معجزاً ببلاغته.

وهنا سوف نكتفي بمناقشة أصل الفكرة والأساس الذي تقوم عليه هذه الشبهة، ونفي إمكان الاعتماد على هذا الأساس في الطعن بإعجاز القرآن فنقول:

١ - من خلال مراجعة تاريخ تأسيس قواعد اللغة العربيّة نجد أنّها ظهرت في زمن لاحق لنزول القرآن الكريم، وذلك عندما بدرت الحاجة إلى هذه القواعد خوفاً على اللغة العربيّة والنص القرآني الذي نزل على نسَقِها، من الاختلاط والضياع نتيجة اتّساع نطاق الدعوة الإسلاميّة، وامتداد رقعة دولتها، وتداخل

____________________

(١) راجع: الشيخ البلاغي، جواد، الهدى إلى دين المصطفى ١: ٣٣٠ فما فوق.

٣١٨

العرب بغيرهم من الشعوب الأعجميّة. ولم يُثبِت لنا التاريخ مبادرةً قبل مبادرةِ أبي الأسود الدؤلي تحت إشراف وإرشاد الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أيّام خلافته.

على أنّ عمليّة وضع قواعد اللغة العربيّة كانت عبارة عن اكتشاف قام به بعض المهتمّين بشؤون اللغة العربيّة، على أساس ما كان يتّبعه العرب من أساليبٍ في البيان والنطق خلال كلامهم، وليس اختراعاً أوّليّاً من قِبل واضعي اللغة العربيّة. إذاً فكلام العربي الأصيل هو المصدر الأساسي في بناء القاعدة اللغويّة وصياغة تفصيلاتها، والقرآن الكريم كان في مقدّمة تلك المصادر المعبّرة عن الكلام العربي الأصيل، بل أوثقه وأبلغه على الإطلاق. لذا نجد أنّ جميع ما وصلنا من صياغات لقواعد اللغة العربيّة كانت تجعل القرآن الكريم مقياساً يحكم عليها بالصحّة أو الخطأ. وهذا هو الذي يجب أنْ ننحوه في لحاظ قواعد اللغة العربيّة وليس العكس.

٢ - يُضاف إلى ذلك أنّنا لم نجد ما بين نزول القرآن الكريم وحتّى اكتشاف وتدوين قواعد اللغة العربيّة أنّ التاريخ قد نقل لنا نقداً أو مطعناً في بلاغة القرآن وبيانه صدر من العرب المعاصرين لنزوله، وهم أهل البلاغة والفصاحة وذوو الخبرة والمعرفة المحيطة باللغة العربيّة، رغم شدّة عداء العديد منهم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتكذيبهم لنزول الوحي الإلهي عليه بالقرآن الكريم.

بل نجدهم على العكس من ذلك، فقد أذعنوا لعظمة بلاغة القرآن الكريم واستسلموا لجمال بيانه الساحر، حتّى وصفه بعضهم لشدّة تأثّره به بأنّه سِحر، كنايةً عن مدى إيمانه بدقّة انسيابه البياني وانسياقه التعبيري، بشكلٍ يفوق مطلقاً ما هو مألوف لديهم من صيَغ البلاغة والبيان والتعبير.

الشبهة الثانية: إنّ المتميّزين والعارفين من أهل اللغة العربيّة قادرون على الإتيان بمثل الكلمات القرآنيّة أو بعضها. وهذا يعني أنّهم قادرون على الإتيان

٣١٩

بكلمات قرآنيّة؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، وهكذا يصبح من المعقول - بل المجزوم به - أنّ هذه القدرة يمكنها أنْ تمتد للإتيان بسورة أو بعدّة سور أو قل بمثل القرآن كلّه.

وفي معرض ردّ هذه الشبهة نقول: إنّ الإعجاز القرآني لا يكمن في كلمات متناثرة ومستقلّة بعضها عن البعض الآخر، إنّما هو في التركيب البياني بين الكلمات والأُسلوب الصياغي لها، وفي المحتوى والمضمون للمعاني والأفكار التي يُعبّر عنها ذلك التركيب والأسلوب في سياقات متعانقة الصلة منسجمة الحلقات.

فشتّان بين افتراض القدرة على الإتيان بكلمات متناثرة مهما كان عددها، وبين القدرة على نظمها على نَسَقِ الصياغات البلاغيّة في تركيب جمالي معبّر، ولا يحتاج هذا التمييز بين القدرتين إلى برهان، فهو أمرٌ وجداني يحسّه كلُّ عاقل ملتفت، حيثُ نجد أنّ الكثيرين قد يملكون قابليّة النطق بكلمات عربيّة عديدة ولكنهم لا يستطيعون أنْ ينظموا منها شعراً أو مقطوعة أدبيّة بليغة، أو يصوغوا منها خطاباً فصيحاً شأنَهم في ذلك شأن مَن يقوم بتوفير المواد الإنشائيّة وإنجاز أعمال محدودة وبسيطة منها، إلاّ أنّهم لا يستطيعون أنْ يشيّدوا أبنيةً ومشاريعَ هندسيّة دقيقة وضخمة رغم اشتمالها على تلك الأعمال المحدودة والبسيطة.

ونفس الكلام يأتي في المحتوى والمضمون، فمن نتصّور فيه القدرة على تقديم فكرة أو فكرتين، لا نتصوّر فيه القدرة على تقديم هذا الكم الكبير والمتناسق من الأفكار المتنوعة والمفاهيم المترابطة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار نفس الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي نزل فيها القرآن الكريم والتحدّي الذي كان فيها.

الشبهة الثالثة: إنّ تحدّي القرآن للعرب عدّة مرّات قد اكتنفته عوامل وظروف منعت العرب آنذاك من معارضة القرآن وإظهار قدرتهم على الإتيان بمثله، فهم لم يعارضوه لأنّه معجز بل بسبب تلك العوامل والظروف المانعة. ويمكن

٣٢٠