• البداية
  • السابق
  • 34 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19458 / تحميل: 5480
الحجم الحجم الحجم
ازاحة الوسوسة عن تقبيل الاعتاب المقدسة

ازاحة الوسوسة عن تقبيل الاعتاب المقدسة

مؤلف:
العربية

ومنها: ما نطَقَ بتقبيل جابر رِجل السجّادعليه‌السلام في كربلاء ساعَة ورودهعليه‌السلام لزيارة الأربعين(١) .

ومنها: ما ورَد في تقبيل القاسم بن الحسنعليه‌السلام يدي الحسينعليه‌السلام ورجليه؛ لتحصيل الإذن في الجهاد يوم الطف(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) ذكر العلاّمة المازندرانيرحمه‌الله المتوفّى (١٣٨٤) في معالي السبطين: ج٢، ص١٨٣، ط قم الشريف الرضي، عن عطيّة العوفي بعدما جاء مع جابر بن عبد الله الأنصاري لزيارة الأربعين بينما كنّا مشغولين بمراسم الزيارة والدعاء، فإذا بسوادٍ قد أقبل علينا من ناحية الشام، فقلت: يا جابر أنّي أرى سواداً عظيماً مقبلاً علينا من ناحية الشام، فالتفتَ جابر إلى غلامه وقال لـه:

انطلق وانظر ما هذا السواد ؟ فإنْ كانوا من أصحاب عبيد الله بن زياد لعلّنا نلجأ إلى ملجأ، وإنْ كان هذا سيّدي ومولاي زين العابدين فأنتَ حرّ لوجه الله، فانطلق الغلام فما كان بأسرع من أنْ رجعَ إلينا وهو يلطم على وجهه وينادي قم يا جابرُ واستقبل حرمَ رسول الله فهذا سيّدي ومولاي عليّ بن الحسينعليه‌السلام قد أقبل مع عمّاته وأخواته ليجدّدوا العهدَ بزيارة الحسينعليه‌السلام ، فقام جابر ومَنْ معه واستقبلهم بصراخٍ وعويل يكادُ الصخرُ أنْ يتصدّع منه، ولمّا دنى من الإمام انكبّ على أقدامه يُقبلها ويقول: سيّدي عظّم اللهُ لك الأجر بعموتك وأخوتك، فقال الإمامعليه‌السلام : أنتَ جابر قال: نعم سيّدي أنا جابر، فقالعليه‌السلام : يا جابر هاهنا قُتِلَ أبو عبد الله، يا.جابر هاهنا ذُبِحتْ أطفال أبي.

(٢) قال الشيخ عبّاس القمّيرحمه‌الله المتوفّى (١٣٥٩هـ) في نَفَس المهموم: ص٢٩٢، ط قم: ( قيل لمّا نظر الحسينعليه‌السلام إليه ـ القاسم بن الإمام الحسنعليه‌السلام ـ قد برزَ اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غُشِيَ عليهما، ثُمّ استأذن الحسينعليه‌السلام في المبارزة، فأبىعليه‌السلام أنْ يأذنَ لـه، فلم يزل الغلام يُقبّل يديه ورجليه حتّى أذِنَ لـه...) فراجع مقتل الحسينعليه‌السلام للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءرحمه‌الله المتوفّى (١٣٧٣هـ): ص٥٤، ط قم، ومعالي السبطين للمازندراني: ج١، ص٤٥٣، ومقتل الحسينعليه‌السلام أو واقعة الطفّ للسيّد محمّد تقي آل بحر العلوم المتوفّى (١٣٩٣هـ): ص٣٥٦، ط قم.

٢١

إلى غير ذلك من الأخبار الحاكِيَة لوقوع التقبيل لأرْجُل الأئمّةعليهم‌السلام وعدم منعهمعليهم‌السلام المقبِّل عن ذلك(١) ، والذي أظنّ والله العالم إنّ مَنْعَهعليه‌السلام

أبا حمزة في الخبر المزبور من تقبيل قَدَميه، معلّلاً بحرمة السجود لغير الله سبحانه إنّما وقع تقيّةً وخوفاً.

ــــــــــــــــــ

(١) منها ما ورد في الكافي: ج٢، ص١٤٥، ح٤، باب التقبيل: (محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحجال، عن يونس ابن يعقوب قال: قلتُ لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ناولني يدك أُقبلهُا فأعطانيها، فقلتُ: جُعِلتُ فداك رأسك ففعل فقبلّته، فقلتُ: جُعِلتُ فداك رجلاك، فقال أقسمتُ، أقسمتُ، أقسمتُ ثلاثاُ وبقي شيء، وبقي شيءٌ وبقي شيءٌ).

قال السيّد عبد الله شبّررحمه‌الله في مصابيح الأنوار: ج٢، ص٥٤، ط بيروت: هذا الحديث من الغوامض ويُحتمل وجوهاً: فذكررحمه‌الله ستّ احتمالات منها:

أنْ يكونَ المعنى أقسمتَ أنتَ أنْ تُقبل الأعضاء الثلاثة وقد قبلّتَ اثنين منها وبقي شيءٌ واحد وهو الرجل فقبّلها لتبرَّ قسمك فخذ قبلّها.

وأيضاً من الأحاديث المجوّزة للتقبيل ما ذكره الكليني في الكافي: ج٢، ص١٨٥، ح٢، باب التقبيل: (عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن رفاعة بن موسى، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ( لا يُقبّل رأسَ أحدٍ ولا يده إلاّ يدُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مَنْ أُريد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال السيّد عبد الله شبّر المتوفى (١٣٢٤هـ) في مصابيح الأنوار: ج٢، ص٥٥، ح٢١: (يُحتمل أن يكون المراد بَمنْ أُريد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عترته الطاهرين والأئمّة المعصومين).

وممّا يعضد كلامهرحمه‌الله الحديث المروي في الكافي: ج٢، ص١٨٥، ح٣، بعده مباشرةً: عن زيد النرسي، عن عليّ بن مزيد صاحب السابري قال: دخلتُ على أبي عبد اللهعليه‌السلام فتناولتُ يده فقبّلتُها، فقال: ( أما إنّها لا تصلح إلاّ لنبيٍّ أو وصيّ نبيّ ).

وعلّق قائلاً ـ السيّد شبّرـ: (ويُحتمل أنْ يراد به ما هو أعم من ذلك لسائر صالحي ذرّيّته بل لصالحي المؤمنين أيضاً فإنّ تقبيل يدهم من حيثُ صلاحهم وإيمانهم بالله وبرسول الله وإتباعهم لـه، إنّما اُريد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل شمول الحكم للعلماء بالله العاملين بأمره الهادين الناس ممّن وافق قولهم فعلهم أولى فإنّهم خلفاء رسول الله كما يدلّ عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( اللهم ارحم خلفائي، بل هم ورثته الروحانيون، فإنّ العلماء ورَثَة الأنبياء ).

وقال العلاّمة المجلسيرحمه‌الله في البحار: ج٧٣، ص٣٨، ح٣٥، ط بيروت مؤسّسة الوفاء معلّقاً على هذا الحديث الشريف: تبيان: قولهعليه‌السلام ( أو مَن أُريد به رسول الله ) من الأئمّةعليهم‌السلام إجماعاً وغيرهم من السادات والعلماء على الخلاف، وإنْ لم أرَ في كلام أصحابنا تصريحاً بالحرمة، قال بعض المحقّقين: لعلّ المراد بمَنْ أُريد رسول الله الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام ، ويُحتمل شمول الحكم العلماء بالله وبأمر الله مع العاملين بعلمهم والهادين للناس.

٢٢

الدليل الثاني على عدم جواز التقبيل

الثاني:

إنّ تقبيل الأعتاب المقدّسة مستلزم السجود لصاحب العتبة، والسجود لغير الله سبحانه مُحرّم، أمّا الكُبرى فواضحة بالنصوص المتواترة(١) ، وإجماع الشيعة بل المسلمين قاطبة، وأمّا الصغرى؛ فلأنّ السجودَ لغةً: هو الخضوع والانحناء وتَطأطئ الرأس كما ذكره أهل اللغة(٢) ونقله الفقهاء عنهم فعن المعتبر(٣) ، والمنتهى(٤) ، ونهاية الأحكام(٥) وإرشاد الجعفريّة(٦) ، والمقاصد العَليّة(٧) ، والروض(٨) وغيرها أنّ السجودَ لغةً الخُضوع، ومن البيّن تضمّن الهويّ لتقبيل الأعتاب المقدّسة الخضوع، والانحناء وتَطأطئ الرأس.

ــــــــــــــــــ

(١) راجع وسائل الشيعة: ج٦، باب عدم جواز السجود لغير الله.

(٢) قال الفيروز آبادي المتوفى (٨٧١) في القاموس المحيط: ص٣١١، حرف (الدال)، فصل (السين): (سَجَدَ: خَضعَ، وأسجدَ: طأطأ رأسه، وانحنى).

(٣) قال المحقّق الحلّي في المعتبر: ج٢، ص٢٠٦؛ (السجود وهو في اللغة: الخضوع.

(٤) منتهى المطلب للعلاّمة الحلّي: ج٤، ص٣٥١.

(٥) نهاية الأحكام، للعلاّمة الحلّي: ج١، ص٤٨٦، ط: قم إسماعيليان: (السجود لغةً: الانحناء).

(٦) إرشاد الجعفريّة وإرشاد الأذهان للعلاّمة الحلّيرحمه‌الله : ج١، ص٢٥٥، ط جماعة المدرّسين قم.

(٧) جامع المقاصد للمحقّق الكركيرحمه‌الله : ج٢، ص٢٩٦، ط مؤسّسة آل البيتعليهم‌السلام .

(٨) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان؛ للشهيد الثانيرحمه‌الله : ص٢٧٤، قال: السجود: وهو لغةً: الخضوع، وشرعاً: وضعُ الجبهة على الأرض.

٢٣

والجواب عن ذلك:

أولاً: منعُ كون السجود في اللغة لمطلق الانحناء وتَطأطئ الرأس، بل مع قيد وضع الجبهة على الأرض، ألا ترى إلى تفسير الجوهري في الصحاح(١) ، وابن الأثير في النهاية(٢) ، وصاحب التاج(٣) وغيرهم لـه بوضع الجبهة على الأرض، وكذا الفيّومي في المصباح المُنير حيثُ قال: وسجدَ الرّجلُ وضعَ جبهته على الأرض. انتهى(٤) .

وذلك قرينة على إرادة مَنْ أطلق تفسيره بالخضوع والانحناء وتَطأطئ الرأس الخضوع بِوَضع الجبهة على الأرض.

وثانياً: إنّه لو سُلِّم كونه بمعنى مطلق الانحناء وكونه في خُصوص وضع الجبهة مجازاً، فلا ينبغي التأمّل في بلوغ ذلك في العُرف العام فضلاً عن عُرف المُتشرّعة مبلغ الحقيقة، فلا يُقال في حقّ مَنْ انحنى لقتلِ الحيّة والعقرب، أو لأخذِ شيءٍ من الأرض ونحوهما(٥) ممّا لا وضع فيه للجبهة على الأرض إنّه ركَع أو سجد، بل يُطلق على الانحناء ما لم تصل الجبهةُ الأرضَ بالسجود، وغايته عدم اعتبار مباشرة خُصوص الجبهة للأرض، فيكفي في صِدقهِ وضعها على الأرض بواسطة أو وسائط ما لم يبلغ حدّ العُلوّ المفرط، ومن البيّن عدم تضمّن انحناء المُنحني لتقبيل العتبة والرِّجل وضع الجبهة على الأرض.

ــــــــــــــــــ

(١) قال الجوهري: (السجود وضع الجبهة على الأرض) (الصحاح: ج١، ص٤٨٠).

(٢) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج٢، ص٣٤٢، قال: (وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه).

(٣) تاج العروس للزُبَيدي: ج٢، ص٣٧١، قال: ( وهو وضع الجبهة على الأرض ولا خضوع أعظم منه، والاسم السجدة ).

(٤) المصباح المُنير للفيّومي الّمتوفّى (٧٧٠هـ): ج١، ص٢٦٦، حرف (السين) ط قم دار الهجرة. وهذا ممّا يَتناسب مع معناه الشرعي حيث قال عكرمة: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صلاة لمَنْ لا يُصيب أنفه مِن الأرض، ما يُصيب الجَبهة )، وعن ابن عمر: ( إنّ النبي قال: ( إذا سجدتَ فمّكنْ جبهتكَ من الأرض ) ). راجع سنن الدار قطني: ج١، ص٣٤٨، ح٢.

(٥) قال الشيخ جواد الكربلائي في الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة: ( لم تعلم كون الهَوِيّ لتقبيل العتبة من السجدة حتّى يقصد بها سجدة الشكر، وإلاّ لكان مطلق الهويّ لتقبيل زوجته النائمة سجدة...).

٢٤

وثالثاً: إنّ السجود من الأفعال العقلائيّة المُتشخّصّة عن مُشابهاتها بالقصد، ومن المعلوم أنّ المنحني لتقبيل العتبة أو الرِّجل لم يَقصد الخضوع بإنحائه لنفسه، بل قصدَ الخضوع بتقبيله، وذلك غيرُ مُحرّم؛ للأصل بعدم الدليل على تحريمه(١) ، بل الدليل على جوازه واضح السبيل، وهو الأخبار المزبورة الحاكية لإنكباب الشيعة على أقدام الأئمّةعليهم‌السلام للتقبيل وعدم منعهمعليهم‌السلام إياهم من ذلك(٢) ، وأقلّ مراتبها الدلالة على الجواز.

ورابعاً: إنّ الإنكباب لتقبيل الأرض المجاورة للإمامعليه‌السلام لو كان سجوداً لَمَا صدر من الأئمّةعليهم‌السلام الإنكباب على قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبور الأئمّةعليهم‌السلام ، بل قبور بعض أولادهم للتقبيل، ولَمَا أثنى الإمامعليه‌السلام على مَنْ قبّل مكان جلوس إمامه كما ورد في الأخبار، ألا ترى إلى ما رواه في البحار، عن رجال الكشّي، عن سليمان بن جعفر قال: قال لي عليّ بن عُبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب: أشتهي أنْ أدخل على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام اُسلّم عليه قلت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: الإجلال والهيبة لـه وأتّقي عليه.

قال: فاعتلَّ أبو الحسنعليه‌السلام عِلّةً خفيفةً وقد عاده الناس، فلَقيتُ عليَّ بن عُبيد الله، فقلتُ: قد جاءكَ ما تريد، قد اعتلَّ أبو الحسنعليه‌السلام علّةً خفيفةً وقد عاده النّاس فإنْ أردتَ الدخول عليه فاليوم، قال: فجاء إلى أبي الحسنعليه‌السلام عائداً فلَقيَه أبو الحسنعليه‌السلام بكلِّ ما يجب من المنزلة والتعظيم، فَفَرِح بذلك عليّ بن عُبيد الله فرحاً شديداً، ثُمّ مرض عليّ بن عبيد الله فعاده أبو الحسنعليه‌السلام وأنا معه، فجلس حتّى خرج مَنْ كان في البيت فلمّا خرجنا أخبرتني مولاةٌ لنا إنّ أمّ سَلَمَة امرأة عليّ بن عُبيد الله كانت من وراء الستر تنظر إليه، فلمّا خَرج خرجَتْ وانكبّت على الموضع الذي كان أبو الحسن فيه جالساً، تقبّله وتَتَمسّح به.

قال سليمان: ثُمّ دخلْتُ على عليّ بن عُبيد الله فأخبرَني بما فَعَلتْ أمُّ سلمة، فخبّرت به أبا الحسنعليه‌السلام ، فقال: يا سلمان إنّ عليّ بن عُبيد الله وامرأتهُ وولده من أهل الجنّة يا سليمان إنّ وِلْدَ عليّ وفاطمةعليهم‌السلام إذا عرفهم هذا الأمر لم يكونوا كالناس. الحديث(٣) .

ــــــــــــــــــ

(١) لا يوجد دليل على حرمة تقبيل العتبة أو الرجل أو اليد، والأصل الجواز والإباحة، وكلُّ مَنْ يدّعي الحرمة فعليه إبراز الدليل قبل أنْ يتّهمَ الآخرين بعبادة غير الجليل.

(٢) تقدّم ذكر الروايات التي بيّنت كيفيّة التقبيل من الشيعة الكرام لأئمّتهم الأبرارعليهم‌السلام .

(٣) رجال الكشّي: ص٤٩٥، رقم (٤٨٥)، عنه البحار: ج٤٩، ص٢٢٣، ح١٥، باب١٦.

٢٥

انظر: يَرحمُك الله تعالى إلى رضا الإمامعليه‌السلام بفعل أمّ سلمة(١) ، وإخباره بأنّها من أهل الجنّة وما ذاك إلاّ لِمَا ذكرنا.

وخامساً: إنّ الإنكباب لتقبيل الأرض المجاورة لهمعليهم‌السلام لو كان سُجوداً محرّماً لما قرّرواعليهم‌السلام تَقبيل مَن قَبّلَ الأرض قدّامهم، ولَنَهَوا عن ذلك؛ لإتحاد المناط في العتبة والأرض(٢) قدّامهم، ومَنْ راجع الأخبار ظَهَر لـهُ وقوع ذلك من شيعتِهم وغيرهم مراراً وعدم نهيهم عن ذلك، وعدم النهي منهمعليهم‌السلام في غير مقام التقيّة تقرير، وقد تقرّر في محلّه حجّيّة تقريرهم كقولهمعليهم‌السلام (٣) .

ــــــــــــــــــ

(١) كما لا يخفى أنْ رضا الإمامعليه‌السلام وإقراره حجّةٌ كما هو مذكور في علم الأصول.

(٢) اتّحاد المناط أو وحدة المناط: هو تَمييز علّة الحكم عن سائر الأوصاف والحيثيّات المذكورة في الخطاب، ومع تميُّزها تكون النتيجة هي إمكان الاستفادة من العلّة لإثبات نفس الحُكم لموضوعات أُخرى غير الموضوع المنصوص عليه في الخطاب، بمعنى إمكان تَعْدِيَة الحكم من مورد النصّ الذي اكتنف بمجموعة من الأوصاف والحيثيّات إلى موارد أُخرى ليست واجدة لتلك الأوصاف والحيثيّات، ما عدا العلّة المنقّحة.

(٣) سكوت المعصومعليه‌السلام إنّه دليلٌ على الإمضاء والموافقة؛ لأنّ المعصومعليه‌السلام إذا واجه سُلوكاً معيّناً وتصرّفاً خاصّاً وسكتَ عنه، فهذا السكوت والإمضاء منهعليه‌السلام يُعتبر دليلاً على الإمضاء. ومن المعلوم أنّ السكوت إنما يدلُّ على الإمضاء في حالة مواجهة المعصومعليه‌السلام لسلوك معيّن يكون على نحوين:

أـ مواجهة سلوك فرد خاصّ يتصرّف أمام المعصوم، كأن يمسح أمام المعصوم منكوساً ويسكت عنه.

ب ـ مواجهة سلوك اجتماعي وهو ما يُسمّى بالسيرة العقلائيّة، كما إذا كان العقلاء بما هم عقلاء يسلكون سلوكاً معيّناً في عصر المعصومعليه‌السلام ، فإنّه بحكم تواجده بينهم يكون مواجهاً لسلوكهم العامّ، ويكون سكوته دليلاً على الإمضاء ـ لهذا العمل ـ فمن هنا أمكن الاستدلال بالسيرة العقلائيّة عن طريق استكشاف الإمضاء من سكوت المعصومعليه‌السلام .

فبهذا البيان قد تبيّن لك أنّ تقبيلَ أيدي وأرجُل المعصومينعليه‌السلام كان سلوكاً اجتماعيّاً وليس فرديّاً يواجهه المعصومعليه‌السلام فيقرّه، علماً أنّ هذا العمل كان يصدر من العقلاء بما هم عقلاء، فإذاً هذا الفعل عقلي قبل أنْ يكون شرعي.

٢٦

الدليل الثالث على عدم جواز التقبيل

الثالث:

إنّ الزيارةَ ومتعلّقاتها عبادةٌ والعبادات أمورٌ توقيفيّة، فلابدَّ من الدليل على رُجحان تقبيل الأعتاب فلا نقول برجحانه.

ردُّ الدليل الثالث:

والجواب:

إنّا إلى الآن كنّا بصدد إثبات الجواز لا الرُجحان وقد عَرَفتَ أنّ الجواز لا غائلة فيه، وأمّا الرُجحان فيُمكن الاستدلال لـهُ بوجوه:

الأوّل: السيّرة المستمرّة التي سُمِعتَ من الشهيدرحمه‌الله في الدروس حيثُ عبَّر عنها: بأنّ الإماميّة على ذلك(١) .

الثاني: إنّ في ذلك تعظيماً للشعائر، وقد قال الله تعالى:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٢) .

والمناقشة في التمسّك به بأنّ في تفسيرها اختلافاً عظيماً، فعن ابن زيد: إنّها معالم الدين، وعن مجاهد: إنّها البُدن في الحجّ، وتعظيمها استسمانُها و استحسانُها، وعن ابن عبّاس: أنّ الشعائر جمع شعيرة وهي البُدن إذا أُشعِرَت أي أُعلِمَت عليها بأنْ يُشقّ سنامها من الجانب الأيمن؛ ليُعلم أنّها هدي فالذي يهدي مندوب إلى طلب ( الاثمن )(٣) و الأسمن بالثاء أو بالسين.

وقيل: شعائر الله دين الله تعالى كلّه، وتعظيمها التزامها ومنافعها كركوب ظهورها، وشرب ألبانها إذا احتيج إليها وهو المروي عن الصادقعليه‌السلام (٤) ، فلا يبقى للآية إطلاق يُتمسّك به.

ــــــــــــــــــ

(١) الدروس: ج٢، ص٢٥، ط قم جماعة المدرّسين.

(٢) الحجّ: ٣٢.

(٣) بين القوسين في المصدر غير موجود.

(٤) هذا التفسير للآية المباركة ذكره أمينُ الإسلام الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان: ج٧، ص١١٣، ط بيروت.ولكن في الأخير قال: (وهو المروي عن أبي جعفرعليه‌السلام بينما قال العلاّمة المامقاني: وهو المروي عن الصادقعليه‌السلام .

٢٧

دفعُ الإشكال

مدفوعة بأنّ المحقّق في محلّه إنّ التفسير الوارد لا يُنافي حجيّة إطلاق الآية بعد تضمّن القرآن بطوناً، وكون مورد الآية الهَدْي لا يمنع من حجيّة عُمومها سيّما مع تداول الفقهاء (رضي الله عنهم)، من قديم العصر يداً بيد التمسك بهذه الآية، لإثبات رُجحان كلّ ما يكون تعظيماً للشعائر،(١) بل ببالي القاصر أنّي وقفتُ فيما سَلَف على تمسّك الإمامعليه‌السلام بالآية على ذلك(٢) ، فلا ينبغي التأمّل في الاستدلال بها على إثبات رُجحان تقبيل الأعتاب المقدّسة.

الثالث: الآيات(٣) والأخبار المتواترة الآمرة بحبّ ذوي القربى ومودّتهم و مطلوبيّة إظهار آثار الحبّ والوداد(٤) ، وقد أشرنا إلى أنّ تقبيل ما يتعلّق بالمحبوب من ثياب، أو دار، أو قبر أو مكتوب أو غير ذلك إظهاراً للحبِّ لـه ممّا جرت عليه عادة بني آدم، واستمرّت عليه طريقتهم، وعليه ورد تشريع تقبيل الحجر الأسود والبيت وبابه(٥) ، وتقبيل القرآن المجيد، الضرائح المقدّسة، وتقبيل يد(٦) مَنْ اُنتسِب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسبٍ أو فقهٍ في دينه ونحو ذلك.

ــــــــــــــــــ

(١) قال الشهيد الأوّلرحمه‌الله في القواعد: ج٢، ص١٥٩، قاعدة ٢٠٩: ( يجوز تعظيم المؤمن بما جرت به عادة الزمان، وإنْ لم يكن منقولاً عن السلف؛ لدلالة العمومات عليه، قال الله تعالى: ( ذلك ومَن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) وقال تعالى: ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ) . وأيضاً راجع جواهر الكلام: ج٣، ص٤٧.

(٢) لم أعثر على هذا التمسّك من خلال مراجعتي لأكثر من ٢٠ تفسيراً لهذه الآية الشريفة.

(٣) راجع تفسير قوله تعالى في سورة الشورى آية٢٣:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى ) وللمزيد والوقوف على هذا الموضوع راجع كتابنا (أهل البيتعليهم‌السلام في تفاسير السُنّة).

(٤) أخرج السيوطي المتوفّى (٩١١) في إحياء الميّت بفضائل أهل البيت، ص٣٧، ح٤٧، عن الديلمي، عن عليّ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أثبتكم على الصراطِ أشدُّكم حبّاً لأهل بيتي ).

وأيضاً أخرج ابن المغازلي عن ابن عبّاس، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تزول قدما عبدٍ حتّى يُسأل عن أربع: عن عُمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله فيما أنفقه ومن أين اكتسبه، وعن حبّنا أهل البيت)، مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام : ص١١٩.

وأيضاً أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه: ج٢، ص١٤٦، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( شفاعتي لأمّتي مَن أحبّ أهل بيتي ).

(٥) قال المحقّق الحلّيرحمه‌الله في الشرائع: ج١، ص٢١٢، كتاب الحجّ: ( واستلام الحَجَر على الأصح وتقبيله...).

(٦) إشارة إلى الصحيح عن أبي عبد اللهعليه‌السلام إنّه قال: ( لا تُقبّل رأسَ أحدٍ ويدَه، إلاّ يد رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مَنْ أُريد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه عفا الله عنه). تقدّمت الإشارة إلى هذا الحديث الشريف وأخرجناه من الكافي: ج٢، ص١٨٥، ح٢، وذكرنا احتمالات السيّد عبد الله شبّررحمه‌الله فيه. فراجع.

٢٨

الرابع: الأخبار الكثيرة الحاكية لإنكباب الأئمّةعليهم‌السلام على قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبور مَن قبلهم من الأئمّةعليهم‌السلام وأولادهم(١) وتقبيلهم إيّاه ومسح الخدّين به كما لا يخفى على مَنْ لاحظ أخبار الزيارات(٢) ، وفعلهم لا يكون إلاّ راجحاً وعدم الفرق بين القبر والعتبة واضح، والمناط فيهما متحدّ بلا شبهة.

الخامس: إنّ تقبيل الأرض قدّام الأئمةعليهم‌السلام قد صدر من الرّعيّة بالنسبة إليهم ولم ينكروه، بعد عدم الفرق بين العتبة والأرض قدّامهم، ولا بين حياتهم ووفاتهم؛ لأنّهم أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون(٣) أمّا الكبرى فواضحة وأمّا الصغرى وهو وقوع التقبيل للأرض قدّامهمعليهم‌السلام .

فلِما رواه في الباب التاسع والعشرين والمائة من أبواب العشرة، من كتاب الحجّ من وسائل الشيعة عن الصدوقرحمه‌الله في العيون مسنداً عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة صاحب الجاثليق أنْ أوصله إلى الرضاعليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك، فقال: دخّله عليَّ فلمّا دخل عليه قبّلَ بساطه وقال: هكذا علينا في ديننا أنْ نفعل بأشراف زماننا. الحديث(٤) .

وليس فيه إنكارٌ لذلك.

ولو لم يكن هذا الأدب مُمضى في شرعنا لمنعَ الإمامعليه‌السلام عن ذلك؛ لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع(٥) والسكوت عن المنكر لا يصدر من المعصومعليه‌السلام (٦) .

ــــــــــــــــــ

(١) أشار بذلك إلى ما وردَ في زيارة مولانا عليّ الأكبر روحي فداه في الأوّل من رجب والنصف من شعبان بالإنكباب على قبره بعد زيارته ثُمّ تقول: زادكم اللهُ شرفاً إلى آخره. (منه عفى الله عنه).

(٢) راجع المصباح للكفعميرحمه‌الله المتوفّى (٩٠٠) ص٦٥٢، ط بيروت الأعلمي، هذا في زيارة الإمام الحسين في شهر رجب، وأيضاً في زيارة الإمام الكاظم والجوادعليهما‌السلام : ص٦٥٤، وأيضاً في زيارة العسكريّينعليهما‌السلام : ص٦٥٦، وزيارة الحسين في ليلة عَرفة: ص٦٦٤، وللمزيد راجع زاد المعاد للعلاّمة المجلسي المتوفّى (١١١١)، ومفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي، وغيرها من كتب الأدعية والزيارات.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى:( ولا تحسبنَّ الذينَ قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقون ) (سورة آل عمران: ١٦٩).

(٤) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للشيخ الصدوق: ج٢، ص٢٣٠، ح١، وسائل الشيعة: ج١٢، ص٢٢٨، ح١، باب١٢٩، حكم تقبيل البساط بين يدَي الأشراف.

(٥) مكلّفون بها وتجب عليهم ولكن لا تصحُّ منهم لفقدانهم النيّة.

(٦) لو سكتَ المعصوم عن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف انتفى الغرض حينئذٍ.

٢٩

وما رواه الصدوقرحمه‌الله في محكي كمال الدين، ورواه في البحار في باب ذكر مَنْ رأى الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه) من الخبر المتضمّن لوصول قافلة من قم ورواحهم إلى جعفر، وإرسال ولي العصر (عجّل الله فرجه وجعل أرواحنا فداه) غلامه وجلبه إياهم، وإخباره إياهم بأوصاف ما عندهم من الأموال، ووقوعهم شكراً لله تعالى على أنْ وفّقهم لمعرفة إمام زمانهم، ثُمّ تقبيلهم الأرض قدّام الإمامعليه‌السلام تكريماً، وسؤالهم عمّا كانوا يحتاجون إليه من المسائل(١) .

فإنّ ظاهر الخبر أنّ تقبيل الأرض قدّام الإمامعليه‌السلام كان مرسوماً وعدم نهيهعليه‌السلام لهم عن ذلك في ذلك المحضر الشريف الخالي من الأغيار يدلّ على جوازه، بل رجحانه.

ــــــــــــــــــ

(١) رواه الصدوقرحمه‌الله المتوفّى (٣٨١) في كمال الدين، ج٢، ص٥٠٣، ح٢٥، باب ذكر مَن شاهد القائمعليه‌السلام ، والحديث طويل ولكن نقتطف موضع الحاجة وبيت القصيد: ( لمّا قُبض سيّدنا أبو محمّد الحسن العسكري وفد من قم وفود) إلى أنْ قال: ( فإذا ولده القائم سيّدناعليه‌السلام قاعد على سرير كأنّه فلقة قمر، عليه ثياب خُضر، فسلّمنا عليه، فردَّ علينا السلام، ثُمّ قال: ( جملة المال كذا وكذا ديناراً، حمل فلان كذا، وحمل فلان كذا، ولم يزل يصف حتّى وصف الجميع ثُمّ وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدواب، فخررنا سُجّداً لله عزّ وجلّ شكراً لما عرّفنا، وقبلّنا الأرضَ بين يديه...) رواه العلاّمة المجلسي في البحار: ج٩٢، ص٤٩، ح٣٤، ط مؤسّسة الوفاء.

٣٠

ويُؤيّد الخبَرَين قصّة الوزير الناصبي لحاكم البحرين المنقول في البحار عند تعداد مَنْ رأى مولانا الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه وجعلنا مِن كلِّ مكروهٍ فداه) المتضمّن بتقبيل محمّد بن عيسى الأرض قدّام الإمام (عليه أفضل الصلاة والسلام) وعدم منعه إيّاه من ذلك، وتقريرهم حجّة(١) .

ــــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: ج٥٢، ص١٧٨، قالرحمه‌الله : (ومنها ما أخبرني به بعض الأفاضل الكرام، والثقات الأعلام، قال : أخبرني بعض مَنْ أثق به يرويه عمّن يثق به، ويطريه أنّه قال : لما كان بلدة البحرين تحت ولاية الإفرنج، جعلوا واليها رجلاً من المسلمين، ليكون أدعى إلى تعميرها وأصلح بحال أهلها، وكان هذا الوالي من النواصب ولـه وزير أشدُّ نصباً منه يُظِهر العداوةَ لأهل البحرين لحبّهم لأهل البيتعليهم‌السلام ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكلّ حيلة.

فلمّا كان في بعض الأيام دخل الوزير على الوالي وبيده رمّانة فأعطاها الوالي فإذا كان مكتوبا عليها (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ خلفاء رسول الله) فتأمّل الوالي فرأى الكتابة من أصل الرمانة بحيث لا يُحتمل عنده أنْ يكون من صناعة بشر، فتعجب من ذلك وقال للوزير : هذه آية بيّنة، وحجّة قويّة، على إبطال مذهب الرافضة، فما رأيك في أهل البحرين. فقال لـه : أصلحك الله إنّ هؤلاء جماعة مُتعصّبون، ينكرون البراهين، وينبغي لك أنْ تحضرهم وتريهم هذه الرّمانة، فإنْ قبلوا ورجعوا إلى مذهبنا كان لك الثواب الجزيل بذلك، وإنْ أبَوا إلا المقام على ضلالتهم فخيّرهم بين ثلاث : إمّا أنْ يؤدّوا الجِزية وهُم صاغرون، أو يأتوا بجواب عن هذه الآية البيّنة التي لا مَحيص لهم عنها، أو تَقتل رجالهم وتَسبي نساءهم وأولادهم، وتأخذ بالغنيمة أموالهم.

فاستحسن الوالي رأيه، وأرسل إلى العلماء والأفاضل الأخيار، والنُجَبَاء والسادة الأبرار، من أهل البحرين وأحضرهم وأراهم الرّمانة، وأخبرهم بما رأى فيهم إنْ لم يأتوا بجواب شافٍ: من القتل والأسر وأخذ الأموال أو أخذ الجزية على وجه الصغار كالكفّار، فتحيّروا في أمرها، ولم يقدروا على جواب، وتغيّرت وجوهُهم وارتعدت فرائصُهم. فقال كُبَراؤهم: أمهلنا أيّها الأمير ثلاثة أيّام لعلّنا نأتيك بجواب ترتضيه وإلاّ فاحكم فينا ما شئتَ، فأمهلهم، فخرجوا من عنده خائفين مرعوبين مُتحيّرين. فاجتمعوا في مجلس وأجالوا الرأي في ذلك، فاتّفق رأيهم على أنْ يختاروا من صُلحاء البحرين وزُهّادهم عشرة، ففعلوا، ثمّ اختاروا من العشرة ثلاثة فقالوا لأحدِهم: اخرج الليلة إلى الصحراء واعبُد الله فيها، واستغِث بإمام زماننا، وحجّة الله علينا، لعلّه يُبيّن لك ما هو المخرج من هذه الداهية الدهماء.

فخرج وبات طول ليلته مُتعبّداً خاشعاً داعياً باكياً يدعو الله، ويستغيث بالإمامعليه‌السلام ، حتّى أصبح ولم يرَ شيئاً، فأتاهم وأخبرهم فبعثوا في الليلة الثانية الثاني منهم، فرجع كصاحبه ولم يأتهم بخبر، فازداد قلقهم وجزعهم. فأحضروا الثالث وكان تقيّا فاضلا اسمه محمّد بن عيسى، فخرج الليلة الثالثة حافياً حاسر الرأس إلى الصحراء وكانت ليلة مظلمة فدعا وبكى، وتوسّل إلى الله تعالى في خلاص هؤلاء المؤمنين وكشف هذه البليّة عنهم واستغاث بصاحب الزمان. =

٣١

= فلما كان آخر الليل، إذا هو بِرَجُلٍ يُخاطبه ويقول: يا.محمّد بن عيسى ما لي أراك على هذه الحالة، ولماذا خرجت إلى هذه البرّيّة ؟ فقال لـه: أيّها الرجل دعني فإنّي خرجتُ لأمرٍ عظيم وخطبٍ جسيم، لا أذكره إلاّ لإمامي ولا أشكوه إلاّ إلى مَنْ يقدر على كشفه عنّي. فقال: يا محمّد بن عيسى ! أنا صاحب الأمر فاذكر حاجتك، فقال: إنْ كنتَ هو فأنت تعلم قصّتي ولا تحتاج إلى أنْ أشرحها لك، فقال لـه: نعم، خرجت لما دهَمَكم من أمر الرّمانة، وما كُتِبَ عليها وما أوعدكم الأمير به، قال: فلمّا سَمِعت ذلك توجّهت إليه وقلت له: نعم يا مولاي، قد تعلم ما أصابنا، وأنت إمامنا وملاذنا والقادر على كشفه عنا.

فقال صلوات الله عليه: يا محمّد بن عيسى إنّ الوزير لعنَه الله في داره شجرة رمّان فلمّا حملت تلك الشجرة صنع شيئا من الطين على هيئة الرّمانة، وجعلها نصفين وكَتَب في داخل كلّ نصف بعض تلك الكتابة ثمّ وضعهما على الرمّانة، وشدّهما عليها وهي صغيرة فأثّر فيها، وصارت هكذا. فإذا مضيتم غداً إلى الوالي، فقل لـه: جئتك بالجواب ولكنّي لا أُبديه إلاّ في دار الوزير فإذا مضيتم إلى داره فانظر عن يَمينك، ترى فيها غرفة، فقل للوالي: لا أُجيبك إلاّ في تلك الغرفة، وسيأبى الوزير عن ذلك، وأنت بالغ في ذلك ولا ترضَ إلاّ بصعودها فإذا صعد فاصعد معه، ولا تتركه وحده يتقدّم عليك، فإذا دخلت الغرفة رأيت كوّة فيها كيس أبيض، فانهض إليه وخذه فترى فيه تلك الطينة التي عملها لهذه الحيلة، ثمّ ضعها أمام الوالي وضع الرمانة فيها لينكشف له حيلة الحال.

وأيضا يا محمّد بن عيسى قل للوالي : إنّ لنا معجزة أُخرى وهي أنّ هذه الرمانة ليس فيها إلاّ الرماد والدخان وإنْ أردت صحّة ذلك فأمر الوزير بكسرها، فإذا كسرها طار الرماد والدخان على وجهه ولحيته. فلمّا سمع محمّد بن عيسى ذلك من الإمام، فرح فرحاً شديداً وقبّلْ بين يدي الإمامعليه‌السلام ، وانصرف إلى أهله بالبشارة والسرور.

فلما أصبحوا مضوا إلى الوالي ففعل محمّد بن عيسى كلّ ما أمره الإمام وظهر كلّ ما أخبره، فالتفت الوالي إلى محمّد بن عيسى وقال لـه: مَنْ أخبرك بهذا ؟ فقال : إمام زماننا، وحجّة الله علينا، فقال: ومَنْ إمامكم ؟ فأخبره بالأئمّة واحداً بعد واحد إلى أنْ انتهى إلى صاحب الأمر (صلوات الله عليهم). فقال الوالي: مدّ يدك فأنا أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّ الخليفة بعده بلا فصل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ثمّ أقرّ بالأئمّة إلى آخرهمعليهم‌السلام وحَسُن إيمانه، وأمر بقتل الوزير واعتذر إلى أهل البحرين وأحسن إليهم وأكرمهم.

٣٢

السادس: الأمر بخصوص تقبيل عتبة أمير المؤمنينعليه‌السلام فيما رواه الشيخ المفيدرحمه‌الله وغيره عن صفوان الجمّال(١) كما لا يخفى على مَنْ راجع البحار(٢) ، وتحفة الزائر وغيرهما من المزارات في الزيارات المطلقة(٣) .

بعد وضوح عدم الفرق بينها وبين سائر الأعتاب المقدّسة، فَبَانَ من ذلك كلِّه أنّ رُجحان تقبيل الأعتاب المقدّسة ممّا لا ينبغي فيه الريب والوَسوَسَة، عصمنا اللهُ تعالى وإيّاكَ من التسويلات المتداولة بين أهل العلم في هذه الأزمنة، بزعم أنّها تحقيقاتٌ رشيقة مع أنّها كَسَراب بقيعة.

نعم الأحوط عدم وضع الجبهة على العتبة إلاّ بقصد سجدة الشكر،(٤) ولا بأس بِمَسحِها عليها تبرّكاً؛ لأنّها غير السجدة.

هذا ما تيسّر لي عاجلاً من الكلام في هذا المقام، قد جرى ذلك بِيَمناه الداثرة.

العبد الفاني (عبد الله المامقاني عفا عنه ربُّهُ) ابن الشيخقدس‌سره في ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من ذي الحجّة الحرام من شهور سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وثلاثين من الهجرة الشريفة على مهاجرها وآله آلاف الصلاة والسلام والتحيّة ٢٩/ذج/١٣٣١هـ(٥) .

ــــــــــــــــــ

(١) قال ابن داود في رجاله: ص١١١، رقم ٧٨١: صفوان بن مهران بن المُغيرة الأسدي مولاهم ثُمّ مولى بني كاهل، كوفي ثقة يُكنّى أبا محمّد كان سكن بني خزام بالكوفة، وكان صفوان جمّالاً فباع جماله امتثالاً لأمر الكاظمعليه‌السلام .

(٢) أخرجها الشيخ المفيدرحمه‌الله المتوفّى (٤١٣هـ) في المزار ص٧٦، ط قم مدرسة الإمام المهدي، وابن المشهدي في المزار الكبير: ص٢١٤، ح٥، ط قم نشر قيّوم، والسيّد ابن طاوس في مصباح الزائر: ص٧٧، والكفعمي في المصباح: ص٦٣٣، والعلاّمة المجلسي: ج١٠٠، ص٣٠٤، والشيخ عبّاس القمّي في مفاتيح الجنان: ص٤١٥، وص٤٢٣: قال صفوان: (وردتُ مع سيدي أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام ففعل مثل هذا ودعا بهذا الدُّعاء بعد أنْ صلّى وودّع، ثُمّ قال لي: يا صفوان تعاهد هذه الزيارة وادعُ بهذا الدُّعاء وزرهما بهذه الزيارة إلى أنْ قال صفوان: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : يا صفوان إذا حدث لك إلى الله حاجة فزُره بهذه الزيارة من حيثُ كنتَ. إلى أنْ قال:

ثُمّ انكبَّ على القبرِ فقبّله وقل: سلامُ الله وسلام ملائكته المقرّبين، والمُسلّمين لك بقلوبهم يا أمير المؤمنين، والناطقين بفضلك...).

(٣) وللمزيد راجع المزار للشهيد الأوّلرحمه‌الله ، وزاد المعاد، وتحفة الزائر كلاهما للعلاّمة المجلسي، وكامل الزيارات، لابن قولويه، وغيرها من كتب الزيارات.

(٤) وهذا هو ما يحصل ويصدر عادةً من أبناء الفرقة الحقّة لا غير.

(٥) تمَّ تحقيق هذه الرسالة الشريفة في الثالث من ربيع الأوّل ١٤٢٧هـ

في مدينة قم الطيّبة.

نزار الحسن

٣٣

الفهرست

الإهداء: ٢

١- مقدّمة التحقيق: ٣

الرسالة وعَمَلنا ٣

٢- نُبذة من أحوال المؤلِّف رحمه‌الله.. ٤

الشيخ المامقاني والإمام المهدي عليه‌السلام.... ٥

أهم مؤلّفاته وآثاره: ٦

مقدّمة المؤلِّف: ٩

السجود على الأعتاب.. ١١

الدليل على عدم جواز التقبيل. ١١

مناقشةُ الرواية المانعة من التقبيل. ١٣

وقفةٌ مع هذه الأخبار ١٥

أدلّـةُ التقبيل. ١٧

الدليل الثاني على عدم جواز التقبيل. ٢٣

الدليل الثالث على عدم جواز التقبيل. ٢٧

ردُّ الدليل الثالث: ٢٧

دفعُ الإشكال. ٢٨

٣٤