القصص التربوية

القصص التربوية0%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عند الشيخ محمد تقي فلسفي
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 294291
تحميل: 7633

توضيحات:

القصص التربوية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 294291 / تحميل: 7633
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لا تَعمى الأبصار ولكنْ تَعمى القلوب

كان أحد جنود الكوفة قد حضر حرب صِفِّين على بعيره، فقرَّر عند رجوعه أنْ يُعرِّج على الشام؛ ليطَّلع عن كثب على نظام حكومة مُعاوية. وعند دخوله دمشق قابل جنديَّاً مِن جنود مُعاوية كان قد رآه في الحرب، ويعرف أنَّه مِن جنود الإمام علي (عليه السلام).

تقدَّم هذا نحوه وأخذ بخناقه زاعماً أنَّ الناقة التي يركبها له، وأنَّه قد انتزعها منه في حرب صِفِّين. فتجمَّع الناس واشتدَّ الكلام بينهما، حتَّى وصل بهما الأمر إلى الرجوع إلى مُعاوية.

عرض الشامي دعواه واستشهد خمسين شاهداً شهدوا جميعاً: بأنَّ الناقة له. فحكم مُعاوية له وأمر الكوفي بتسليمه الناقة.

عندئذ قال الكوفي لمُعاوية: ولكنَّ هذا جمل وليس ناقة، مع أنَّ الدمشقي كان مُنذ البداية قد زعم أنَّ الجمل ناقة وشهد له بذلك خمسون شاهداً.

في الحقيقة كان الكوفيُّ يُريد بهذا أنْ يُلفت نظر مُعاوية إلى أنَّ كلَّ تلك الضجَّة كانت فارغة، وأنَّ الحُكم الذي أصدره كان باطلاً ومُخالفاً للحَقِّ.

غير أنَّ مُعاوية لم يلتفت إليه، وقال: إنَّ الحُكم قد صدر ويجب تنفيذه.

انتهى مجلس القضاء وتفرَّق طرفا الدعوى والشهود، فأرسل مُعاوية سِرَّاً يستدعي الكوفي وسأله عن ثمن الجمل وأعطاه له وأكرمه.

وقال له: أبلغ عليَّاً أنِّي أُقابله بمئة ألف ما فيهم مَن يُفرِّق بين الناقة والجمل.

لقد كان الدمشقي والشهود الخمسون مِثل سائر أهل الشام يؤيِّدون مُعاوية

٣٦١

ويُطيعونه مِن دون قيد ولا شرط. ما كان فيهم مَن يُفكِّر في الحَقِّ والباطل، ولا في الحلال والحرام، ولا في رضى الله وسخطه. كلُّ ما كان يُهمُّهم هو أنْ يفعلوا ما يرضي مُعاوية وأصحابه، ويُصيب بالضرر عليَّاً (عليه السلام) وأصحابه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٢

باع آخرته بدنيا غيره

كان أبو العلاء (يزيد بن أبي مسلم) أخاً في الرضاعة للحَجَّاج بن يوسف، ويُدير له ديوان المكاتيب لقاء مرتَّب شهريٍّ قدره ثلاثمئة درهم ما كانت تكفيه معيشته. ومع ذلك فقد كان يقتل الناس مِن أجل الحَجَّاج.

مَرِض الرجل يوماً فعاده الحَجَّاج في بيته، فرآه قد وضع أمامه كانوناً مِن طين وسراجاً مِن خشب.

قال له: يا أبا العلاء، لا أرى رزقك يكفيك.

فردَّ عليه قائلاً: لئن لم تكفني ثلاثمئه درهم فلن تكفيني ثلاثمئة ألف درهم.

يزيد بن أبي مسلم لم يكن رجل حَقٍّ وحقيقة، ولم يكن يتحمَّل ضنك العيش على سبيل الزُّهد والتقوى في مرضاة الله، بلْ كان هذا الإنسان ذو الحظ المنكود والمعيشة الشقيَّة عبداً مِن عبيد الحَجَّاج، يُريق دماء الأبرياء في سبيل توطيد أركان حُكمه الظالم الجائر. فهو قد اشترى رضى المخلوق بسخط الخالق، وداس بقدمه الكرامة الإنسانيَّة لتنفيذ أغراض غير مشروعة لشخص جبَّار. إنَّه - كما قال رسول الله: ـقد باع آخرته بدنيا غيره فلحق بركب أشقى الناس وأرذلهم (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٣

اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق

بعد واقعة كربلاء الدمويَّة، وفي الوقت الذي كان فيه أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) في الشام اجتمع الناس في يوم جمعة لأداء الصلاة، وكان قد حضره الإمام السجاد (عليه السلام).

دخل يزيد المسجد ليؤمَّ المُصلِّين، فأمر الخطيب أنْ يرقى المنبر. حمد الخطيب الله وأثنى عليه ثمَّ راح يسبُّ علي بن أبي طالب والحسين (عليه السلام)، وتجرَّأ في كلامه على مقاميهما الإلهيَّين.

ثمَّ أخذ يمدح مُعاوية ويزيد ويُمجِّدهما، ونسب إليهما الكثير مِن الصفات الحميدة والخصال المجيدة، فصاح به السجاد (عليه السلام): (ويلك أيُّها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٤

ثِقْ بحُسن صِنع الله مِن حيث لا تدري

قال محمد بن أبي العتاهية حدَّثني أبي:

لمَّا امتنعت مِن قول الشعر وتركته، أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فأُخرجت مِن بين يديه إلى السجن، فلمَّا أُدخلته دُهشت وذهل عقلي ورأيت منظراً هالني، فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه، أو رجلاً آنس بمجالسته، فإذا أنا بكهل هالني فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه أو رجلاً آنس بمُجالسته، فإذا أنا بكهل حَسن السمت نظيف الثوب يُبيَّن عليه سيماء الخير فقصدته، فجلست إليه مِن غير أنْ أُسلِّم عليه أو أسأله عن شيء مِن أمره؛ لما أنا فيه مِن الجزع والحيرة، فمكثت كذلك مليَّاً وأنا مُطرق مُفكِّر في حالي، فأنشد هذا الرجل هذين البيتين. فقال:

تـعوَّدت مَـسَّ الضَّرَّ حتَّى ألفته

أسـلمني حُسن العزاء إلى الصبر

وحـيَّرني يـأسٌ مِن الناس واثقا

بحُسن صُنع الله مِن حيث لا أدري

فاستحسنت هذين البيتين وتبرَّكت بهما وثاب إليَّ عقلي، فأقبلت على الرجل فقلت له: تفضَّل - أعزَّك - الله بإعادة هذين البيتين.

فقال لي: ويحك يا إسماعيل! - ولم يُكنِّني - ما أسوأ أدبك وأقلَّ عقلك ومروءتك، دخلت إليَّ ولم تُسلِّم عليَّ بتسليم المسلم على المسلم، ولا توجَّعت لي توجُّع المُبتلى للمُبتلى، ولا سألتني مسألة الوارد على المُقيم، حتَّى إذا سمعت مِنِّي بيتين مِن الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً، ولا جعل لك معاشاً غيره لم تتذكَّر ما سلف منك فتتلافاه، ولا اعتذرت مِمَّا قَدَّمته وفرَّطت فيه مِن الحَقِّ حتَّى استنشدتني مُبتدئاً كأنَّ بيننا أُنساً قديماً ومعرفة شافية وصُحبة تَبسط المنقبض.

فقلت له: اعذرني مُتفضِّلاً؛ فإنَّ دون ما أنا فيه مُدهش.

قال: وفي أيِّ شيءٍ أنت؟! إنَّما تركت قول الشعر الذي كان جاهك عندهم وسبيلك إليهم، فحبسوك حتَّى تقوله، وأنت لا بُدَّ مِن أنْ تقوله فتُطلق، وأنا يُدعى بي الساعة فأُطالب بإحضار عيسى بن زيد ابن رسول الله، فإنْ دللت عليه فسوف يُقتل

٣٦٥

وبذلك ألقى الله بدمه، وكان رسول الله خصمي فيه وإلاَّ قُتلت فأنا أولى بالحيرة منك وأنت ترى احتسابي وصبري.

فقلت: يكفيك الله، وأطرقت خَجلاً منه.

فقال لي: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين واحفظهما. فأعادهما عليَّ مِراراً حتَّى حفظتهما ثمَّ دُعي به وبيَّ، فلمَّا قُمنا قلت: مَن أنت أعزَّك الله؟

قال: أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد.

فأُدخلنا على المهدي فلمَّا وقف بين يديه قال له: أين عيسى بن زيد؟

قال ما يُدريني أين عيسى، طلبته وأخفته فهرب منك في البلاد، وأخذتني فحبستني فمِن أين أقف على موضع هارب منك وأنا محبوس؟!

فقال له: فأين كان مُتوارياً؟ ومتى آخر عهدك به؟ وعند مَن لقيته؟

فقال: ما لقيته مُنذ توارى ولا أعرف له خبراً.

قال: والله، لتدُلَّني عليه أو لأضربَنَّ عُنقك الساعة.

قال: اصنع ما بدا لك! أنا أدلُّك على ابن رسول الله لتقتله فألقى الله ورسوله يُطالباني بدمه. والله، لو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت عنه.

ثمَّ دعاني فقال: أتقول الشعر أو ألحقك به.

فقلت: بلْ أقول الشعر.

فقال: أطلقوه.

تُجيز التعليمات الإسلاميَّة للمسلمين لكي يُحافظوا على حياتهم وعند الضرورة أنْ يرتكبوا بعض المُحرَّمات بقدر الضرورة، ولكنْ ما مِن مسلم يجوز له أنْ يُضحِّي بحياة أخيه في الدين مِن أجل نفسه هو، كأنْ يقتله أو يدفع به للقتل لينجو هو بحياته (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٦

المُسلم لا يمكر بالمُسلم

في أيَّام خلافة عبد الله بن الزبير في الحِجاز، ذهب حامل ختم الخليفة عبد الملك بن مروان مِن الشام إلى زيارة بيت الله الحرام، وهناك التقى مع أحد خواصِّ عبد الله بن الزبير ومِن خلال البحث والجدال تنازع الرجلان وافترقا.

وبعد دخول الحَجَّاج بن يوسف مَكَّة وقتل ابن الزبير، ثم القبض على أصحاب ابن الزبير وإلقائهم في السجن بعد إرسالهم إلى الكوفة، كان أحد الأشخاص الذين أُلقي القبض عليهم هو الشخص الذي تنازع مع حامل ختم الخليفة.

وكتب الحَجَّاج مِن العراق برسالة إلى عبد الملك حول مصير السُّجناء، فأمر عبد الملك حاجبه بالرَّدِّ على الرسالة، وذلك بتعيين عددهم وكتابة أسمائهم، فكانت العبارة: أحصهم واكتب أسماءهم. وبعد كتابة الرسالة وتوقيعها مِن قِبَل الخليفة أُعطيت لحامل ختم الخليفة لتدقيقها وختمها.

وكان حامل ختم الخليفة قد عرف أنَّ أحد السُّجناء المذكورين في الرسالة، هو الشخص الذي تنازع معه عند زيارته لبيت الله، فأراد انتهاز الفرصة والانتقام منه؛ ولذلك فكَّر بفكرة شيطانيَّة عجيبة. فقال بصوت عالٍ: لقد نسيت أنْ أضع نقطة على إحدى الكلمات، فهل لي الإذن بوضعها؟ فأُذن له فوضع نقطة على (ح) مِن كلمة أحصهم فأصبحت (أخصهم)، وبعد ذلك أُغلقت الرسالة وهيِّئت للتوشيح مع بقيَّة الرسائل.

وبذلك تغيَّر أمر الخليفة إلى خَصي خواصِّ عبد الله بن الزبير. وعند وصول الرسالة إلى الحَجَّاج تمَّ العمل الهَمجيِّ، وذلك بخصي السُّجناء وحرمانهم مِن الحياة الطبيعيَّة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٧

مَن حَفر حُفرة لغيره وقع فيها

المنصور الدوانيقي (ثاني خُلفاء بني العباس) طرد خالداً البرمكي مِن منصبه في أعمال الديوان، ونصب أبا أيُّوب مكانه، وأرسل خالداً إلى ولاية فارس حيث ظَلَّ والياً عليها سنتين. إلاّ أنَّ أبا أيُّوب - الذي كان عارفاً بفضل خالد وعلمه - كان دائم القَلق مِن أنْ يُعيده الخليفة إلى منصبه السابق، ويُجرَّد هو مِن مقامه الرفيع. فخامرته فكرة الدسّ لخالد كي يحط من قدره عند الخليفة ويحافظ هو على مركزه بأي شكل من الأشكال.

نَجح أبو أيُّوب في دسائسه الخفيَّة وخُططه اللا إنسانيَّة، وأثار سوء ظنِّ المنصور في خالد، فعزله عن ولاية فارس وطالبه بدفع ثلاثة آلاف ألف درهم، فأطلع خالد المنصور على أنَّ كلَّ ما يملكه لا يتجاوز السبعمئة ألف درهم، غير أنَّ هذا رفض قبول ذلك وأمر باستحصال مبلغ الثلاثة ملايين منه.

فتقدَّم لإعانته صاحب المصر بمبلغ خمسين ألف دينار، والتركي بمبلغ ألف ألف درهم. كما أنَّ (الخيزران) أرسلت له عِقداً مِن الجواهر تصل قيمته إلى ألف ألف ومئتي ألف درهم؛ وذلك رعاية لأخوَّة (الفضل) ابن خالد بالرضاعة مع ابنها (هارون) وإذ عرف منصور بالأمر ووثق مِن صحة قول خالد عن مُقدار ما يملك تخلَّى عن مُطالبته بالمبلغ. فصعب ذلك على أبي أيَّوب استدعى صرَّافاً مسيحيَّاً وأعطاه بعض المال، وطلب إليه أنْ يعترف بأنَّ ذلك المال يخصُّ خالداً، ثمَّ أوصل إلى المنصور أنَّ خالداً يحتفظ ببعض المال عند فلان، فاستدعى المنصور الصرَّاف وسأله عن المال، فادَّعى الصرَّاف بأنَّ لخالد عنده بعض المال، فاستدعى المنصور خالداً وسأله عن ذلك المال، فأقسم خالد أنَّه لم يدَّخر مالاً وأنَّه لم يرَ ذلك الصرَّاف مِن قبل.

٣٦٨

أمر المنصور خالداً بالبقاء في مجلسه، وطلب إحضار الصرَّاف وسأله عمّا إذا كان يعرف خالداً إذا رآه فردَّ هذا بالإيجاب قائلاً: إنَّه يعرفه إذا رآه، عندئذ التفت المنصور إلى خالد وقال لقد أظهر الله براءتك، وقال للنصراني هذا هو خالد، فكيف لم تعرفه؟

فقال الصرَّاف: يا أمير المؤمنين، أعطني الأمان لأذكر لك الحقيقة، فآمنه المنصور، فسرد له الحكاية كما حدثت، فتغيَّرت نظرة المنصور نحو أبي أيُّوب، وساء الظنُّ به ولم يعد يثق بأقواله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٩

عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان

وصل هارون الرشيد إلى مَكَّة، فقضى حَجَّه وشهد مناسكه ومشاعره ثمَّ انصرف قافلاً إلى بغداد، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة، فلمَّا همَّ بالانصراف وذكر القفول إلى العراق. رفع إليه أهل مَكَّة كتاباً يسألونه فيه أنْ يولِّي عليهم قاضياً عادلاً، فأدخلهم على نفسه فقال: إنْ شئتم فاختاروا منكم رجلاً صالحاً أولِّيه قضاءكم، وإنْ أحببتم بعثت إليكم مِن العراق رجلاً لا آلوكم فيه إلاَّ خيراً، فخرجوا فاختاروا رجلاً فاختلفوا فيه، فاختارت طائفة منهم رجلاً واختارت أُخرى رجلاً آخر.

فلمَّا اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم، فقال لهم هارون: أدخلوا عليَّ هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما، فإذا برجلين أحدهما شيخ مِن قريش والآخر غُلام حديث مِن الموالي.

فلمَّا نظر إليهما الرشيد قال للشيخ: ادْنِ منِّي فدنا منه، فقال له الرشيد: أيُّها القاضي، إنَّ بيني وبين وزيري هذا خصومة ونزاعاً فاقض بيننا بالحَقِّ.

فقال الشيخ: قصَّا عليَّ قصَّتكما فقصَّا عليه.

فقال الشيخ: تُقيم البيِّنة - يا أمير المؤمنين - على ما ذكرته، أو يحلف وزيرك هذا.

فقال له هارون: إنَّ أخي لا يُدافعني ما أقول ولا يُنكر إلاَّ قليلاً مِمَّا أدَّعي، فلم يزالا يُردِّدان القول بيهما ويتنازعان حتَّى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير.

فقال له: قُمْ. فقام عنه.

ثمَّ دعا بالغُلام الحَدَث الذي دعته الطائفة الأُخرى فدخل عليه، فقال له: ادْن منِّي فدنا منه.

٣٧٠

فقال له هارون: إنَّ بيني وبين وزيري تنازعاً وخصومة، فاسمع منَّا قولنا، ثمَّ اقض بيننا بالحَقِّ.

فقال لهما: إنَّ مقعدكما مُختلف ومجلسكما مُتنائي، وأخشى إذا اختلف مجلسكما أنْ يختلف قولكما، فإذا تفاضل مجلس الخصوم اختلف بينهما القول، وكان صاحب المجلس الأرفع ألحن بحُجَّته وأدحض لحُجَّة صاحبه، وكان إصغاء الحاكم إلى صاحب المجلس الأرفع أكثر إليه وأميل، ولكن تقومان مِن مَجلسكما هذا الذي قد استعليتما فيه فتجلسا بين يديَّ، ثمَّ أسمع منكما قولكما وأقضي لمَن رأيت الحقَّ له، ثمَّ لا أُبالي على مَن دار منكم.

فقال الرشيد: صدقت وبررت في قولك.

فقام الرشيد وقام عمرو بن مسعدة حتَّى صارا بين يديه جالسين، فلمَّا جلسا بين يديه ذهب الرشيد ليتكلَّم، فقال له القاضي: لو تركت هذا يتكلَّم؛ فإنَّه أسنُّ منك. فقال الرشيد: إنَّ الحقَّ أسنُّ منه.

فقال القاضي: بلى، ولكنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لحويصة ومحيصة كبر كبر، يُريد: ليتكلَّم عَمُّكما؛ لأنَّه أسنُّ منكما وأكبر، فتكلَّم عمرو بن سعدة ثمَّ تكلَّم الرشيد وتنازعا الخصومة وترافعا الحُجَّة بينهما، حتَّى رأى القاضي أنَّ الحقَّ لعمروٍ، وقضى لهبه على الرشيد فلمَّا قضى عليه قال لهما: عودا إلى مجلسكما.

فعادا، فعُجب الرشيد مِن قضائه وعدله، واحتفاظه وقِلَّة ميله، فالتفت إلى عمرو فقال: إنَّ هذا أحقُّ بقضاء القضاة مِن الذي استقضيناه.

فقال عمرو: بلى والله، ولكنَّ القوم أحقُّ بقاضيهم، إلاَّ أنْ يأذنوا فيه.

فدعا الرشيد برجال مَكَّة، فأدخلهم على نفسه وأجزل لهم العطاء، وأحسن على قاضيهم الثناء، ثمَّ قال لهم: هل لكم أنْ تأذنوا أولِّيه قضاء القُضاة فيسير إلى العراق يقضي بينهم؟

فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين، أنت أحقُّ به نؤثرك على أنفسنا.

فأرسل إليه الرشيد فقال: إنِّي قد ولَّيتك قضاء القُضاة، فسر إلى العراق لتقضي

٣٧١

بينهم وتولِّي القُضاة في البُلدان والأمصار مِن تحت يدك، وتوليتهم إليك وعزلهم عليك.

فقال القاضي: إنْ يُجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعاً وطاعة، وإنْ يُخيِّرني في نفسي اخترت العافية وجوار هذا البيت الحرام.

ـ خذ على نفسك، فإنِّي مُصبِح على ظهر إنْ شاء الله.

فخرج الرشيد ومعه الفتى حتَّى قَدِم العراق فولاَّه القضاء، وجعل إليه قضاء القُضاة، فلم يزل بها قاضياً حتَّى توفِّي، وذلك بعد ثلاثة أعوام مِن توليته، فلمَّا توفِّي اغتمَّ الرشيد وشَقَّ عليه، فجعل الناس يعزوُّنه فيه علماً منهم بما بلغ منه الغَمِّ عليه.

فسأل عن قاضٍ يولِّيه قاضي القُضاة والعراق بعد ذلك، فرُفعت إليه تسمية عشرة رجال مِن خِيار الناس وعلمائهم وأشرافهم.

فلمَّا دُفِعت إليه التسمية أمر بهم فأُدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يتفرَّس فيهم مَن يولِّيه القَضاء، فنظر إلى رجل منهم توسَّم فيه الخير والعلم فأمر به فقُدِّم إليه، فلمَّا صار بين يديه قال له ما اسمك؟

قال: معشوق.

قال: فما كنيتك؟

قال: (أبو الهوى).

قال: فما نقشُ خاتمك؟

قال: دام الحُبُّ دام، وعلى الله التمام.

فقال له: قُمْ لا قُمْت.

ثمَّ دعا بالآخر وكان قد تفرَّس فيه ما تفرَّس في صاحبه، فقال له: ما نقشُ خاتمك؟

فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان مِن الغائبين؟

٣٧٢

فقال: له اخرُج.

فدعا الرشيد بيحيى بن خالد بن برمك، وكان مِمَّن رَفَع إليه أسماءهم، فعنَّفه بهم وقال: رفعت إليَّ أسماء المجانين.

قال له: والله، ما في العراقييِّن أعقل مِن الرجلين اللذين سألت ولا أفضل منهم.

فقال: ويحك! إنِّي اختبرت منهما جُنوناً.

قال يحيى: إنَّهما - والله - كانا كارهين لما دعوتهما إليه، وإنَّما أرادا التخلُّص منك.

قال: ويحك! أعدهما عليَّ، فطُلبا فلم يوجدا (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٣

الرياء مُفسد للعمل

وقد حدَّثني أوثق مشايخي أنَّ رجلاً كان لا يقدر على الإخلاص في العمل وترك الرياء، فاحتال وقال: إنَّ في طرف البلد مسجداً مهجوراً لا يدخله أحد، فأمضي إليه ليلاً وأعبد الله فيه.

مضى إليه في ليلة مُظلمة، وكانت ذات رعد وبرق ومطر، فشرع في العبادة، فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل، فأحسَّ به، فدخله السرور برؤية ذلك الداخل له، وهو على حالة العبادة في الليلة الظلماء، فأخذ في الجَدِّ والاجتهاد في عبادته إلى أنْ جاء النهار، فنظر إلى ذلك فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد مِمَّا أصابه مِن المَطر.

تندَّم الرجل على ما دخله حال دخوله وقال:

يا نفس، إنِّي فررت مِن أنْ أُشرك بعبادة ربِّي أحداً مِن الناس، فوقعت في أنْ أشركت معه في العبادة كلباً أسود يا أسفاه! ويا ويلاه على ذلك ! (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٤

أنا عبد لله أوَّلاً

كان أبو منصور وزير السلطان طغرل رجلاً عالماً وخائفاً مِن الله، وكان بعد كلِّ فريضة يجلس على السجَّادة، ويشتغل بالتسبيح والدعاء حتَّى طلوع الشمس، ثمَّ كان يذهب بعدها إلى السلطان طغرل.

في أحد الأيَّام اتَّفقت حادثة مُهمَّة للسلطان قبل طلوع الشمس، فطلب الوزير فذهبت الخدم إلى منزله، فشاهده جالساً على السجَّادة مشغولاً بالذِّكر، فأبلغوه أمر السلطان العاجل بالحضور بين يديه، فلم ينتبه لهم.

كرَّروا له الأمر مَرَّتين وثلاث فلم ينتبه، فعزموا على الرجوع وقالوا للسلطان: بأنَّه رجل مغرور ومُتمرِّد لم يستجب لأمر السلطان وقوله.

وبهذا الكلام اشتعلت نيران غضب السلطان. وبعد طلوع الشمس وإتمام الوزير قراءة الأدعية ذهب إلى السلطان.

صرخ السلطان في وجهه وقال: لماذا أتيت متأخِّراً؟

أجاب الوزير: أيُّها السلطان، أنا عبد لله وخادم للسلطان طغرل: يجب عليَّ أوَّلاً أداء وظيفة العبودية لله، ثمَّ خدمتك.

خرج هذا الكلام مِن أعماق قلب الوزير بنيَّة خالصة، فأثَّر بشكل عميق بقلب السلطان وضميره ودمعت عيناه. وقام السلطان بمدح الوزير وقال: عبادة الله مُقدَّمة وببركة هذا العمل تنتظم أعمالنا وتُحرَس المَملكة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٥

وضع جرَّة ماءٍ مسكورة وبرقع

كان الأصمعي مِن شُعراء العصر العباسي المشهورين، وكان أيضاً مُقتدراً وذو استعداد في قصصه المُضحكة والمزاح. وكان يُلقي القصائد في مجالس رجال الدولة، وأحياناً يحكي القصص الفكاهيَّة فيُضحك الحاضرين.

في أحد الأيَّام قال جعفر البرمكي رئيس وزراء هارون الرشيد لأحد خُدَّامه: اجلب لي ألف دينار، أُريد أنْ أذهب إلى منزل الأصمعي، فإذا حكى لي قصَّة وأضحكني سأضع كيس الذهب في حاشية قميصه.

دخل جعفر البرمكي ومعه أنس بن شيخ بيت الأصمعي، حيث حكى الأصمعي قَصصاً مُختلفة وكانت، كلُّ قصَّة تحكي جانباً مِن الحياة.

وبعد الخروج مِن البيت قال أنس لجعفر: لقد سعى الأصمعي لإضحاكك ولكنْ لم تضحك فلم يكن هدفك ذلك (إعطاء كيس الذهب للأصمعي)، قال جعفر: أُفٍّ لك! أرسلت له خمسمائة درهم قبل وصولنا إلى بيته لتهيئة الطعام، ولكنَّك شاهدته كيف وضع جرَّة ماء مسكورة وبرقع، وفرش سجَّادة قذرة.

حيث لاحظت وجود النعمة والإحسان والمدح على لسانه، ولكن لم أُلاحِظ ظهور الإحسان شكراً للنعمة، فلماذا نُعطيه المال؟

على الرغم مِن أنَّ الأصمعي كان مُوسراً، إلاَّ أنَّه أظهر نفسه وكأنَّه مِن أفقر الفُقراء. فهل كان هدفه مِن ذلك هو أنْ يَظهر بمظهر الزاهد الراغب عن الدنيا ليُلفت انتباه الآخرين إلى صلاحه وتقواه؟ أم أنَّ أنَّه كان يُريد أنْ يبدو في نظر القادمين فقيراً مسكيناً؛ لكي ينال شيئاً مِن عطاءاتهم السخيَّة، أمْ كان هناك ثَمَّة هدف آخر حمله على أنْ يفعل ما فعل؟

على كلِّ حال كان انطباع البرمكي عن الوضع الداخلي للأصمعي ومعيشته

٣٧٦

انطباع مَن يرى شخصاً مُنافقاً ذا وجهين، فأساء به الظنَّ وبمُشاهدة ذلك المشهد المُصطنع انقبضت نفسه، وتألَّم أشدَّ الألم، بحيث إنَّ قصصه الفَكهة لم تستطع أنْ تنتزع منه ابتسامة، وغادر المنزل في النهاية بمرارة وتأثُّر (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٧

الرياء هو الشِّرك كلُّه

قال ابن أوس:

دخلت على رسول الله فرأيت في وجهه ما ساءني، فقلت: ما الذي أرى بك؟!

فقال: (أخاف على أُمَّتي الشِّرك).

فقلت: أيُشركون مِن بعدك.

فقال: (أما إنَّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً، ولكنَّهم يُراؤون بأعمالهم والرِّياء هو الشِّرك كلُّه).

فمَن يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يُشرك بعبادة ربِّه أحداً) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٨

النفاق أشدُّ مِن الكُفر

في الأيَّام التي كان فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) في الكوفة مبعوثاً مِن قِبَل الإمام الحسين لأخذ البيعة له من الناس، وصل الكوفة عبيد الله بن زياد والياً عليها مِن قِبَل يزيد بن مُعاوية، وهدَّد الناس بالقتل إنْ هُمْ خالفوا أوامره، وأخذ العُرفاء أخذاً شديداً مُعِدَّاً نفسه لقمع حركة التشيُّع والقضاء عليها.

ولمَّا سمع مسلم بمجيء عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العُرفاء والناس قرَّر أنْ يترك دار المُختار - التي كان قد اتَّخذها مَقرَّاً لنشاطه - وينتقل إلى دار هاني بن عروة، فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستُّر واستخفاء مِن عبيد الله بن زياد وتواصوا بالكتمان.

دعا ابن زياد مولى له يُقال له: (معقل) وقال له: خُذْ ثلاثة آلاف درهم واطلب مسلم (عليه السلام) والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقُلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلمهم أنَّك منهم، فإنَّك لو أعطيتهم إيَّاها لاطمأنُّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً مِن أخبارهم، ثمَّ أغدُ عليهم وراوح، حتَّى تعرف مُستقرَّ مسلم (عليه السلام) وتدخل عليه.

ففعل ذلك وجاء حتَّى جلس على مسلم (عليه السلام) ابن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يُصلّي، فسمع قوماً يقولون هذا يُبايع للحسين (عليه السلام).

فجاء وجلس إلى جنبه حتَّى فرغ مِن صلاته، ثمَّ قال: يا عبد الله، إنِّي امرؤٌ مِن أهل الشام أنعم الله عليَّ بُحبِّ أهل البيت وحُبِّ مَن أحبَّهم وتباكى له، وقال:

معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنَّه قَدِم الكوفة، رجل يُبايع لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكنت أُريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلُّني عليه ولا أعرف مكانه. وإنِّي لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً مِن المؤمنين يقولون

٣٧٩

: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإنِّي أتيتك لتقبض منِّي هذا المال وتُدخلني على صاحبك، فإنِّي أخٌ مِن إخوانك وثقة عليك، وإنْ شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة:

أحمد الله على لقائك إيَّاي، فقد سرَّني ذلك لتنال الذي تُحبُّ ولينصر الله بك أهل بيت نبيِّه (عليه وعليهم السلام) ولقد ساءني معرفة الناس إيَّاي بهذا الأمر قبل أنْ يتمَّ مَخافة هذا (يعني ابن زياد).

وأخذ عليه المواثيق المُغلَّظة ليُناصحنَّ وليكتمنَّ، فأعطاه مِن ذلك ما رضي به، ثمَّ قال له: اختلفْ إليَّ أيَّاماً في منزلي، فإنِّي طالب لك الإذن على صاحبك.

وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له، فأخذ مسلم (عليه السلام) بيعته وأمر أبا ثمامة الصائدي يقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يُعين به بعضهم بعضاً، ويشري لهم السلاح وكان بصيراً وفارساً مِن فُرسان العرب ووجوه الشيعة.

وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوَّل داخل وآخر خارج، حتَّى فَهم ما احتاج إليه ابن زياد مِن أمرهم فكان يُخبر به أوَّلاً بأول.

إنَّ نفاق هذا المُنافق قد أدَّى إلى مفاسد كبيرة ما كان بالإمكان جبرها، كمَقتل مسلم (عليه السلام) وهاني بن عروة، والتمهيد لواقعة كربلاء الدامية التي قُتِل فيها الحسين (عليه السلام) وأصحابه العظام، وهُمْ مِن أكرم أبناء الإسلام، وبذلك مَكَّن لتوطيد سُلطان يزيد وأعماله الفاسدة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٠