المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 64726
تحميل: 15869

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64726 / تحميل: 15869
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفكر، ولا يمكن الحكم بصحّة تفكير أو سقمه إلاّ بالعمل والتجربة، دون المقاييس الفكرية والمنطقية كذلك مقياس التطوّر المعنوي هو التطوّر المادي فإذا سئل: أي المدارس الفلسفية أو الخلقية أو الدينية أو الفنية أرقى ؟ لم تمكن الإجابة عليه بالمقاييس الفكرية والمنطقية، بل المقياس الوحيد هنا هو البحث عن أنّ هذه المدرسة وليدة أي وضع اجتماعي، وفي أي مرحلة من تطوّر العمل الاجتماعي، أي وسائل الإنتاج.

وهذا النوع من التفكير وإن كان عجيباً في نظرنا، حيث إنّنا نعتقد أنّ واقع الإنسان هو نفسه، وذاته وهي جوهر غير مادي، وإنّما تحدث نتيجة الحركات الجوهرية في الطبيعة، وليس منتوجاً للمجتمع، إلاّ أنّ رجلاً كماركس الذي لا يفكّر إلاّ في إطار مادي محض، ولا يعتقد بوجود جوهر غير مادي، لا بد له من تفسير الجوهر الإنساني وواقعيته تفسيراً بيولوجياً، ولابد من أن يقول: إنّ جوهره ليس إلاّ تركيبه الجسماني المادي كما يقوله الماديون القدامى، كالماديين في القرن الثامن عشر ولكنّ ماركس يرفض هذه النظرية، ويدعي بأنّ جوهر الإنسانية يتشكّل في المجتمع، لا في الطبيعة والذي يتشكّل في الطبيعة هو الإنسان بالقوّة، لا الإنسان بالفعل، وبعد ذلك لا بد لماركس من اختيار أحد الوجهين:

١ - إنّ الفكر جوهر الإنسانية، والعمل والجهد البشري مظهر الفكر.

٢ - إنّ العمل جوهر الإنسانية، والفكر مظهره وحيث إنّ ماركس لا يفكر إلاّ في الإطار المادي، ولا يكتفي بالقول بأصالة المادة وإنكار ما وراءها في الفرد، بل يقول بأصالتها في التاريخ والمجتمع أيضاً، فلابد له من اختيار الشق الثاني من الترديد.

١٠١

ومن هنا تبيّن الفرق بين نظرية ماركس وساير الماديين في حقيقة التاريخ فكل مفكّر مادي بمقتضى اعتقاده بأنّ الإنسان، وجميع مظاهره الوجودية مادية محضة لا بد من أن يرى هوية التاريخ مادية أيضاً ولكن ماركس لا يكتفي بهذا الحد، بل يقول إنّ هويته اقتصادية ثم يقول في الاقتصاد بأنّ علاقات الإنتاج، أو علاقات الملكية ونتيجة العمل أُمور ضرورية جبرية، وهي ليست إلاّ انعكاسات لمرحلة خاصة من تطوّر وسائل الإنتاج، أي العمل المتجسّد إذن فالواقع أنّ هوية التاريخ ( وسائلية ) ومن هنا عبرّنا في بعض رسائلنا عن نظرية المادية التاريخية الماركسية بالنظرية الوسائلية في قبال ما نقول به، وهو النظرية الإنسانية في التاريخ، حيث نعتقد أنّ ماهيّته إنسانية.

والواقع أنّ ماركس قد توغّل في فلسفة العمل، وبالغ في نظريته حول العمل الاجتماعي، حيث لا بد من أن يقول على وجه الدقّة حسب هذه النظرية: إنّ أفراد الإنسان في الواقع ليسوا هم الذين يمشون في الشوارع والأسواق، ويفكّرون ويريدون، بل أفراد الإنسان الواقعيين هي تلك الوسائل والآلات التي تحرّك المصانع مثلاً والأشخاص الذين يتكلمون ويمشون ويفكرون هم مُثُل الإنسان لا أعيانه فماركس يفكر حول العمل الاجتماعي ووسائل الإنتاج، وكأنّه يفكر حول موجود حي ينمو ويتطور جبراً وضرورة في ذاته، وبصورة عمياء، وبالاستقلال عن تأثير إرادة ( المثل )، أي مظاهر الإنسان بل يؤثر في إرادة تلك المثل وأفكارهم - وهم أصحاب الفكر والإرادة - ويجعلها تحت نفوذه وسيطرته جبراً وقهراً، ويجرّها خلفه.

١٠٢

ويمكن أن يقال: إنّ التفكير الماركسي حول العمل الاجتماعي، وسيطرته ونفوذه على شعور الإنسان وإرادته، يشبه من جهة ما يقوله بعض الحكماء الإلهيين في النشاط الجسمي اللاشعوري للإنسان، كنشاط الجهاز الهضمي، والقلب والكبد ونحوها تحت نفوذ الإرادة الخفية للنفس التي يُعبّر عنها ب- ( واحدي التعلّق ) فهؤلاء الحكماء يقولون بأنّ الميول والإرادات ودرك الضرورات وجوداً وعدماً، وبكلمة واحدة كل ما يرتبط بالجانب العملي للنفس، أي الجانب السفلي والتدبيري، وما يتعلق بالبدن ممّا يحكم فيه الذهن على مستوى الشعور والإدراك، كل ذلك انعكاسات لمجموعة من الحاجات الطبيعية , والذهن الشعوري يقع قي ذلك تحت تدبير الإرادة الخفية للنفس قهراً وجبراً، من دون أن يعلم بمنشأ هذه الأُمور.

ويشبه أيضاً ما يقوله فرويد فيما يعبّر عنه اصطلاحاً بالشعور الباطن أو اللاشعور، وأنّه متسلّط على الشعور والإدراك.

هذا مع اختلاف بينهما، حيث إنّ نظرية الحكماء السابقين وما يقوله فرويد يختصان - أولاً - بقسم من الشعور الظاهر، وثانياً بتسلّط شعور خفي، مضافاً إلى أنّ ما قالوه لا يرتبط بأمر خارج عن وجود الإنسان، وما يقوله ماركس يرتبط بأمر خارج عنه والواقع أنّ ما يقوله ماركس إذا تأمّلنا فيه كان محيّراً للغاية من وجهة النظر الفلسفية.

ثم إنّ ماركس يوازن بين نظريته والنظرية البيولوجية لداروين، حيث أثبت أنّ أمراً ما خارجاً عن إرادة الحيوان وشعوره يؤثّر في تركيب جسم الحيوان تدريجياً ولا شعورياً وماركس أيضاً يدعي بأنّ عاملاً أعمى ( وهو حقيقة الإنسان أيضاً ) يؤثّر تدريجياً ولا شعورياً في تشكيل

١٠٣

الوجود الاجتماعي للإنسان، أي كل تلك الأُمور التي يعدها ماركس من البناء الاجتماعي العلوي، بل قسماً من أساس البناء أيضاً، وهو العلاقات الاجتماعية الاقتصادية فيقول: ( إنّ داروين ألفت أنظار العلماء إلى تاريخ ( تفنّن الطبيعة )، أي تشكيل أعضاء النباتات والحيوانات التي هي بمنزلة وسائل الإنتاج لإدامة الحياة فهل تاريخ ولادة الأعضاء المنتجة للإنسان الاجتماعي، أي الأساس المادي لكل منظمة اجتماعية لا يستحق هذا التفكير إنّ التفنّن يجعل عمل الإنسان قبال الطبيعة عرياناً بعيداً عن الشوائب، ويوضح له شؤون الإنتاج وحياته المادية، وأخيراً منشأ العلاقات الاجتماعية والأفكار، والمدركات الفكرية الناشئة منها )(١) .

وقد اتضح من مجموع ما ذكرناه أنّ نظرية المادية التاريخية تبتني على عدّة نظريات أُخرى، بعضها سيكولوجية، وبعضها اجتماعية وبعضها فلسفية.

النتائج:

ثم إنّ النظرية المادية التاريخية لها بدورها مجموعة من النتائج تؤثّر في الإستراتيجية، والمقصد العملي الاجتماعي فالمادية التاريخية ليست مسألة فكرية ونظرية محضة لا تؤثر في انتخاب السيرة الاجتماعية.

ونلاحظ هنا ما يمكن أن نستنتجه منها من نتائج:

١ - النتيجة الأُولى ترتبط بمعرفة المجتمع والتاريخ فبناءاً على المادية التاريخية أحسن الطرق وأقربها في تحليل الحوادث

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٢٢٣ نقلاً عن كتاب ماركس وإنجلز، آثار بركزيده.

١٠٤

التاريخية والاجتماعية ومعرفته هو التحقيق عن الأُسس الاقتصادية لها.

ولا يمكن المعرفة الصحيحة والدقيقة للحوادث التاريخية من دون ملاحظة الأُسس الاقتصادية ؛ لأنّ المفروض أنّ جميع الحوادث الاجتماعية اقتصادية في ماهيّتها، وإن كانت بحسب الصورة ذات ماهية مستقلة ثقافية أو دينية أو أخلاقية، أي أنّ جميع هذه الحوادث انعكاسات عن الوضع الاقتصادي للمجتمع، وكلها معلولات لتلك العلّة والحكماء السابقون كانوا يدّعون أيضاً بأنّ أشرف وجوه المعرفة وأكملها هو معرفة الأشياء عن طريق عللها الوجودية إذن فمع افتراض أنّ أساس جميع الحوادث الاجتماعية هو الوضع الاقتصادي للمجتمع، فأحسن طريق لمعرفة التاريخ هو التحليل الاجتماعي الاقتصادي، وبعبارة أُخرى: كما أنّ العلّة في مقام الثبوت والواقع مقدم على المعلول، كذلك في مقام الإثبات والمعرفة إذن فأولوية العامل الاقتصادي ليست أولوية عينية ووجودية فحسب، بل هي أولوية ذهنية وإثباتية.

وقد أوضح هذا المطلب مؤلّف كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو ) فقال: ( في مقام تحليل الثورات الاجتماعية لا يجوز أن نحكم على المنازعات الاجتماعية من الجانب السياسي أو الحقوقي العقائدي.

بل الأمر بالعكس فلابد من توضيح هذه الجوانب بواسطة التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج فماركس يحذّرنا جداً من هذا النوع من التحليل ؛ لأنّه ( أولاً ) مخالف للواقع، وجعل المعلول - أي الظواهر السياسية والحقوقية والعقائدية - مكان العلّة، أي التناقضات والتغييرات الاقتصادية و( ثانياً ) سطحي ؛ لأنّه يكتفي بما يعرض مباشرة، ولا ينفذ في أعماق المجتمع بحثاً عن العلل الحقيقية و( ثالثاً ) وهمي ؛ لأنّ الظواهر التي هي - على وجه العموم - إيديولوجية

١٠٥

ليست إلاّ توهّماً وتصوّراً خاطئاً عن الواقع الموضوعي ولا شك أن التصوير الخاطئ بدلاً عن الموضوع الواقعي التحليلي يعرضنا للخطأ والاشتباه )(١) .

ثم ينقل عن كتاب ( آثار بركزيده ماركس وإنجلز ) قوله: ( كما أنّه لا يمكن الحكم على الفرد بموجب تفكيره الخاص بالنسبة إلى نفسه، كذلك لا يجوز الحكم بالنسبة إلى هذه الحالة المضطربة بما يشعر به عن نفسه )(٢) .

إنّ ماركس يحاول أن ينكر دور الشعور والفكر وحب التجديد التي تعدّ عادة العوامل الأساسية للتطوّر فمثلاً يقول سن سيمون - الذي استفاد منه ماركس كثيراً من أفكاره - حول دور غريزة حب التجديد في التطوّر: ( المجتمعات تتبع قوّتين خُلُقيتين متساويتين في القدرة، وتؤثّران على التناوب، إحداهما: العادة والأُخرى: حب التجديد فبعد مدّة من الزمان تصبح العادات قبيحة بالضرورة ؛ وحينئذ يشعر المجتمع بالحاجة إلى أُمور جديدة وهذه الحاجة تشكّل الحالة الثورية الحقيقية )(٣) .

ويقول برودون المعلّم الآخر لماركس - حول دور العقائد والأفكار في تطوّر المجتمعات: ( إنّ الظواهر السياسية للشعوب هي مظهر عقائدهم وتحرّك هذه الظواهر وتغيرها وانعدامها تجارب عظيمة تبيّن لنا قيمة تلك الأفكار ويظهر من ذلك تدريجياً الحقيقة المطلقة الأبدية

____________________

(١) ص١٥٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تجديد نظر طلبي ص١٨١.

١٠٦

التي لا تقبل التغيير، ولكنّنا نجد أنّ جميع الأنظمة السياسية تحاول اضطراراً - ومن أجل إنقاذ أنفسها من الموت الحتمي - تسوية الأوضاع الاجتماعية )(١) .

وعلى الرغم من جميع ذلك، فإنّ ماركس يدّعي أنّ كل ثورة اجتماعية قبل كل شيء ضرورة اجتماعية اقتصادية، ناشئة من تقطب المجتمع المدني ماهية وشكلاً، وكذلك القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية(٢) .

يريد ماركس أن يقول: إنّ حب التجديد أو العقيدة أو الإيمان المهيج ليست هي التي تحقق الأحداث الاجتماعية، بل الضرورة الاجتماعية الاقتصادية هي التي تخلق حب التجديد والعقيدة والإيمان المهيج.

أذن فبناءً على ما استنتجناه من المادية التاريخية، إذا أردنا أن نفسّر ونبحث عن حروب إيران واليونان، أو الحروب الصليبية، أو الفتوحات الإسلامية، أو النهضة الأوروبية، أو ثورة المشروطة في إيران، فمن الخطأ أن نبحث عنها على أساس الحوادث الظاهرية، والأشكال الصورية لها، التي قد تكون سياسية أو دينية أو ثقافية، بل حتى على أساس الشعور الثوري آنذاك، حيث كان الثوّار يعتبرون حركتهم سياسية أو دينية أو ثقافية، بل لا بد من اعتبار ماهية تلك الحركات

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص١٩٨.

(٢) تجديد نظر طلبي ص١٨٣ والمراد بتقطيب المجتمع والقوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية هو انقسامها إلى قطبين متناقضين.

١٠٧

وهويتها الواقعية اقتصادية ومادية ؛ حتى نحصل على المفتاح الواقعي للبحث.

واليوم أيضاً نرى أفراخ الماركسية المعاصرين، إذا أرادوا تفسير حركة تاريخية يتبجّحون بكلمات غير مفهومة، وإن لم يكن لهم أدنى معرفة بالأوضاع الاقتصادية المقارنة لتلك الحركة.

٢ - القانون الحاكم على التاريخ قانون جبري خارج عن إرادة الإنسان، لا يمكن التخلّف عنه وقد مرّ الكلام في فصول سابقة حول ما إذا كانت هناك مجموعة من القوانين العِلّية والمعلولية تتحكم في التاريخ، بحيث يستلزم نوعاً من الضرورة العِلّية والمعلولية، وأوضحنا أنّ بعضها تحت عنوان الصدفة، وبعضاً آخر تحت عنوان كون الإنسان موجوداً حرّاً مختاراً رفضوا حكومة قانون العِلّية في المجتمع والتاريخ، وبالنتيجة أنكروا وجود الضرورة والسنن غير القابلة للتخلف ولكنّا أثبتنا أنّ هذه النظرية لا أساس لها، وأنّ قانون العِلّية والضرورة العِلّية والمعلولية يتحكمان في المجتمع والتاريخ، كما يتحكمان في سائر الأشياء ومن جانب آخر أثبتنا أنّ المجتمع والتاريخ بمقتضى أنّ كلاً منهما موجود حقيقي واحد ذو طبيعة خاصة، فالقوانين الحاكمة عليها ضرورية وكليّة إذن فبناءً على ما مرّ من البيان تتحكم في المجتمع والتاريخ مجموعة من القوانين الضرورية والكليّة ونحن نعبّر عن هذا النوع من الضرورة بالضرورة الفلسفية، ومقتضى هذه الضرورة أن تكون مسيرة التاريخ وفقاً لسلسة من القوانين القطعية والضرورية.

أمّا الجبر التاريخي الماركسي المعبّر عنه بالجبر الاقتصادي فهو تعبير خاص عن الضرورة الفلسفية، وهذه النظرية تتشكّل من نظريتين

١٠٨

أُخريين: إحداهما: هي تلك الضرورة الفلسفية التي تحكم بأنّ كل حادثة لا يمكن أن توجد إلاّ مع الضرورة، فوجود كل حادث في ظرف تحقق العلل الخاصة له حتمي وقطعي، وفي ظرف عدم تحقق تلك العلل مستحيل وممتنع والأُخرى: نظرية تقدم العامل الاقتصادي في المجتمع على سائر العوامل، وقد مرّ توضيحها ونتيجة هاتين النظريتين هي الجبر المادي التاريخي، بمعنى أن تبعية البناء العلوي للأساس حتمي وقطعي، ومع التغيير والتبدل في الأساس فالتغيير والتبدّل في البناء العلوي قطعي غير قابل للتخلّف، وبدون تغيير الأساس فالتغيير في البناء العلوي غير ممكن وهذا الأصل هو الذي يجعل الاشتراكية الماركسية علمية حسب إدّعاء الماركسيين، ويخرٍّجها بصورة قانون طبيعي، كسائر القوانين الطبيعية لأنّه طبقاً لهذا الأصل، فإنّ وسائل الإنتاج التي هي أهم أجزاء الهيكل الاقتصادي للمجتمع تستمر في تطوّرها وفقاً لسلسة من القوانين الطبيعية، كما أنّ أصناف النبات والحيوان تستمر في نموّها التدريجي عبر التاريخ الطويل، ومئات الملايين من السنين، وفي مرحلة خاصة تدخل نوعاً جديداً وكما أنّ النمو والتطوّر والتبدّل النوعي في النباتات والحيوانات خارج عن كل إرادة وميل وأمنية، كذلك النمو والتطوّر في وسائل الإنتاج.

إنّ وسائل الإنتاج في مسيرته التكاملية تمر بمراحل، ولدى وصولها إلى كل مرحلة تغير جميع الشؤون الاجتماعية قهراً، وقبل وصولها لمرحلة خاصة من نموها لا يمكن حدوث تطور في البناء العلوي للمجتمع وعبثاً يحاول الاشتراكيون وعامة أنصار العدالة الاجتماعية الذين لم يلاحظوا الإمكانيات التي تحصل من ناحية تطوّر وسائل الإنتاج، ولكنّهم استمرّوا يبذلون جهودهم بمقتضى العاطفة، وتمنّي

١٠٩

تحقيق العدالة والاشتراكية والحقوق الاجتماعية في المجتمع.

قال كارل ماركس في مقدمة كتابه ( رأس المال ): ( إنّ الدولة المتقدمة صناعياً أكثر من غيرها هي نموذح لمستقبل الدول التي تقع بعدها في الجدول الصناعي(١) وحتى لو فرضنا أنّ مجتمعاً وصل إلى مرحلة من الثقافة، بحيث أمكن اكتشاف مجرى القانون الطبيعي الحاكم على حركته، فلا يمكنه القفز عن مراحل التقدّم الطبيعية، ولا يمكنه، إلغاؤها، بإصدار القرارات، ولكن يمكنه أن يقصّر دورة الحمل ويخففّ آلام المخاض ).

وقد بيّن في ذيل كلامه ملاحظة لم يتوجه إليها، أو قلّ التوجه إليها، وهو يريد في الواقع أن يجيب على أسئلة أو مناقشات متعددة إذ يمكن أن يقال: إنّ التقدّم المترتّب مرحلة فمرحلة للمجتمع تبعاً للتقدم المترتّب والمنظّم في الطبيعة إنّما يكون جبرياً غير قابل للتخلّف إذا اكتشف ذلك أصبح تحت سلطانه، وتحكم فيه ولذا يقال: إنّ الطبيعة سيّدة الإنسان ما لم تعرف، وكلما عرفت أصبحت خادمة له بنسبة معرفته إيّاها فالمرض مثلاً كالوباء ونحوه ما لم يعرف ولم يعلم سببه وعلاجه كان حاكماً مطلق العنان على حياة البشر، وأمّا إذا عّرف - كما عرف

____________________

(١) يعني أنّ الصناعة والتكنولوجيا وبالتبع المبنى الاجتماعي للدول الصناعية، تتقدم في مسير معيّن لا يقبل التخلّف، فمجرى حركة المجتمعات ذو خط واحد والدول المتقدمة فعلاً نموذج من جميع الجهات لكل الدول التي لم تصل بعد إلى هذه المرحلة، ولا يمكن أن تخطو نحو التكامل من طريق آخر دون أن تمر بالمرحلة التي مرّت بها غيرها.

١١٠

اليوم - أمكن منعه والحيلولة دون إتلافه لحياة البشر، وهكذا السيل والطوفان ونحوهما.

فيريد ماركس أن يقول في بيانه هذا: إنّ الحركة المنظمة للمجتمع من نوع الحركات والتغييرات الديناميكية، أي من نوع الحركات الذاتية والداخلية للأشياء، كالحركات المنظمة لنمو النباتات والحيوانات، وليس من قبيل الحركات والتغييرات الميكانيكية، أي التغييرات التي تطرأ على الأشياء بسبب عوامل خارجية، كجميع التغييرات الفنية والصناعية في الطبيعة، ومن هذا القبيل إبادة الحشرات بواسطة المواد المبيدة، وإبادة الجراثيم بواسطة الأدوية المطهّرة وما يقال من أنّ اكتشاف قانون الطبيعة يوجب إمكان التغلّب عليها، ووقوعها تحت اختيار الإنسان إنّما يصح في قوانين العلاقات الميكانيكية وأمّا في التغييرات الديناميكية، والحركات الذاتية والمنبعثة من داخل الأشياء، فأكثر ما يكون دور العلم فيها هو تطبيق الإنسان نفسه مع مجرى هذه القوانين، والاستفادة من هذا الطريق فهو باكتشاف القوانين المتعلقة بنمو النباتات وتكامل الحيوانات، من قبيل قوانين رشد الجنين في الرحم يحصل على سلسلة من القوانين الضرورية التي لا يمكن التخلّف عنها، ولابد من التسليم لها.

فماركس يقصد بقوله هذا أنّ التكامل الاجتماعي للإنسان الذي يتبع تطوّر وسائل الإنتاج تكامل ديناميكي داخلي ذاتي، لا يغيّره العلم والمعرفة، ولا يؤثّر فيه فالإنسان لا بد له من التسليم للمراحل الخاصة للتكامل الاجتماعي التي هي مسير معيّن، كمسير الجنين في الرحم، وأن يترك محاولة تغيير المسير بأن يقفز المجتمع من بعض المراحل الوسطى ويصل إلى نهاية الشوط، أو أن يصل إليها عن طريق

١١١

آخر غير ذلك الطريق الذي عيّنه له التاريخ.

وما ذكرته الماركسية من القول بجبرية السير التكاملي للمجتمع، وذاتيته وطبيعته ولا شعوريته يشبه نظرية سقراط في الذهن البشري وتوليده الفطري، حيث كان يستخدم في تعاليمه طريقة الاستفهام، وكان يعتقد أنّ الأسئلة إذا أُلقيت بصورة منظّمة ومرتّبة، ومع معرفة دقيقة بالعمل الذهني تمكّن الذهن بحركة قهرية وفطرية أن يجيب عليها من نفسه، ولا يحتاج إلى تعليم خارجي وكانت أُم سقراط قابلة، فكان يقول: إنّي أُعامل الأذهان كما كانت أُمّي تعامل المرأة النفساء فالقابلة ليست هي التي تلد الطفل، بل الأُم بطبيعتها تضعه في الوقت المناسب، ومع ذلك فإنّها تحتاج إلى القابلة، فهي التي تراقب الأوضاع مخافة أن يحدث أمر غير طبيعي، فيسبّب للأُم أو الطفل مضاعفات مؤلمة.

ثم إنّ كشف القوانين الاجتماعية وفلسفة التاريخ لا يغيّران شيئاً من المجتمع في النظرية الماركسية، ومع ذلك فإنّ لها قيمة عالية والاشتراكية العلمية ليست إلاّ كشف هذه القوانين وأقل ما يستفاد منها هو رفض الاشتراكية الخيالية، وطلب العدالة بالآمال ؛ وذلك لأنّ القوانين الديناميكية بالرغم من عدم إمكان تغييرها وتبديلها، فإنّ مزيتها إمكان التنبؤ بواسطتها فيمكن بالاستفادة من قوانين الاجتماع العلمية والاشتراكية العلمية التحقيق عن وضع أي مجتمع، وأنّه في أيّ مرحلة، كما يمكن بها التنبؤ لمستقبله، وبالنتيجة يمكن اكتشاف أنّ جنين الاشتراكية في رحم كل مجتمع في أي مرحلة من مراحل تكوينها وبذلك لا يتوقع منها إلاّ ما تقتضيه تلك المرحلة، فلا يتوقع من المجتمع الإقطاعي أن ينتقل إلى مجتمع اشتراكي، كما أنّه لا يتوقع من جنين

١١٢

عمره أربعة أشهر أن يتولد والماركسية تحاول اكتشاف المراحل الطبيعية الديناميكية للمجتمعات وأعلامها، كما تحاول معرفة القوانين الجبرية لتطور المجتمعات من مرحلة إلى أُخرى.

والمجتمعات في النظرية الماركسية مرّت بأربعة مراحل كليّة، حتى وصلت أو ستصل إلى الاشتراكية: المرحلة الاشتراكية البدائية، المرحلة العبودية، المرحلة الرأسمالية، المرحلة الاشتراكية وربّما يُذكر بدلاً عن هذه المراحل خمسة أو ستة أو سبع مراحل، بتقسيم كل من مراحل العبودية والرأسمالية والاشتراكية إلى مرحلتين.

٣ - كل مرحلة تاريخية تختلف عن المرحلة الأُخرى في الماهية والنوعية فكما أنّ الحيوانات تتطوّر بيولوجياً، وتتبدل من نوع إلى آخر، وتتغيّر من حيث الماهية كذلك المراحل التاريخية ولذا فإنّ لكل مرحلة من التاريخ قوانينه الخاصة به فلا يمكن أبداً تعميم القوانين السابقة أو اللاحقة لمرحلة وسطى وكما أنّ الماء ما دام ماءاً يتبع القوانين الخاصة بالسوائل، وحينما يتبدل بخاراً لا يتبع تلك القوانين، بل يتبع القوانين الخاصة بالغازات، كذلك المجتمع ما دام في المرحلة الإقطاعية - مثلاً - تتحكم فيه سلسلة من القوانين، ومتى ما اجتاز هذه المرحلة، ووصل إلى المرحلة الرأسمالية كانت المحاولات لإبقاء قوانين الإقطاع بلا جدوى ولذا فإنّ المجتمع لا يمكن أن تكون له قوانين أبدية ودائمية فبناءاً على المادية التاريخية، وأنّ الأساس هو الاقتصاد فإنّ كل قانون يدّعي الأبدية مرفوض أساساً وهذه إحدى النقاط التي توجب عدم ملائمة المادية التاريخية للدين عموماً، وللإسلام خصوصاً، حيث يقول بسلسلة من القوانين الأبدية.

١١٣

وقد ورد في كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو ) نقلاً عن ملحقات الطبعة الثانية لكتاب ( رأس المال ) قوله: ( كل مرحلة تاريخية لها قوانين خاصة ومتى ما اجتازت قافلة الحياة مرحلتها إلى مرحلة أُخرى كانت إدارتها تحت قوانين جديدة والحياة الاقتصادية في تطورها التاريخي تظهر بتلك الصورة التي نجدها في سائر أنواع البيولوجيا

والتراكيب الاجتماعية تتمايز بنفس الكيفية التي تتمايز بها التراكيب الحيوانية والنباتية )(١) .

٤ - إنّ تطوّر وسائل الإنتاج، كان السبب في تحقق الملكية الخاصة في فجر التاريخ، فانقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة مستثمرة وطبقة كادحة وهاتان الطبقتان تشكلان قطبين أساسيين في المجتمع منذ بدء التاريخ إلى يومنا هذا، وكانت ولا تزال بينهما المنازعات والتناقضات ولا يخفى أنّ المراد من انقسام المجتمع إلى قطبين ليس حصر جميع الطوائف في هاتين الطبقتين، فربّما تكون طائفة لا تنتمي إلى شيء منهما، بل المراد أنّ الطوائف التي تؤثّر في مصير المجتمع تنقسم إلى هاتين الطبقتين، وسائر الطوائف تتبع إحداهما.

وفي المصدر السابق قال: ( إنّ لدى ماركس وإنجلز نوعين مختلفين من تقسيم المجتمع إلى طبقات، وصراع الطبقات، أحدهما: التقسيم إلى قطبين، والآخر: تقسيمه إلى أقطاب وتعريف الطبقة يختلف فيهما، فالطبقة في التقسيم الأول مجازيه، وفي الثاني حقيقية(٢) .

____________________

(١) ص٢٢٥.

(٢) المراد بالطبقة الحقيقية الطائفة من الناس الذين لهم حياة اقتصادية مشتركة وآلام مشتركة أيضاً وأمّا الطبقة المجازية فهي الطوائف التي تختلف في الحياة الاقتصادية، ولكنّهم جميعاً يتبعون إيديولوجية واحدة.

١١٤

وضوابط تحقق الطبقة أيضاً تتفاوت وقد حاول إنجلز في مقدمة كتاب ( صراع الفلاحين الألمان ) أن يجمع بين التقسيمين، ويجعل منهما تقسيماً واحداً متجانساً، فهو يعترف بوجود الطبقات المتعددة في المجتمع، والأصناف المتعددة في كل طبقة، ولكنّه يعتقد بأنّ طبقتين منهما فقط هما اللتان تؤدّيان الرسالة التاريخية القطعية، وهما البورجوازية والبروليتاريا، فإنّهما تشكّلان القطبين المتناقضين واقعاً(١) .

ففي رأي الفلسفة الماركسية كما أنّه يستحيل أن يسبق البناء الاجتماعي أساسه، كذلك يستحيل أن ينقسم المجتمع من حيث الأساس ( أي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، علاقات الملكية ) إلى طبقتين: كادحة ومستثمرة ويكون في نفس الوقت من حيث الهيكل الاجتماعي على مستوى واحد فالوجدان الاجتماعي أيضاً ينقسم بدوره إلى وجدان مستثمر، ووجدان كادح ويتحقق في المجتمع نوعان متفاوتان من النظام الخُلُقي والفلسفة والأيديولوجية وتفسير الكون، فالوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل طبقة منشأ لنوع من الفكر والنظر والذوق، وكيفية التفكير، واتخاذ الموقف والموضع الخاص في المسائل الاجتماعية ولا يمكن لأي طبقة أن تتقدّم على وضعه الاقتصادي من جهة الوجدان والذوق والتفكير، وإنّما الذي لا ينقسم إلى قطبين، بل يختص بالطبقة المستثمرة فقط، لإرغام الطبقة الكادحة على التسليم، وقبول الأسر، فالطبقة المستثمرة بمقتضى كونها حائزة للمواهب المادية في المجتمع تتمكن من فرض ثقافتها بوجه عام - ومنها الدين - على الطبقة

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٣٤٥.

١١٥

الكادحة ولذا فإنّ الثقافة الحاكمة من تفسير الكون والإيديولوجية والأخلاق والذوق والإحساس و - بطريق أولى - الدين هي تلك الثقافة التي تختارها الطبقة الكادحة فهي كأصحابها محكومة، ويمنع من تكاملها.

قال ماركس في كتاب ( الإيديولوجية الألمانية ): ( إنّ أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة، بمعنى أنّ تلك الطبقة التي تتمثّل فيها القوّة المادية الحاكمة في المجتمع، هي في نفس الوقت القوّة المعنوية الحاكمة فيه الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادي

والأفكار الحاكمة ليست إلاّ البيان الفكري للعلاقات المادية الحاكمة، أي العلاقات المادية بلسان الأفكار، أي تلك العلاقات التي جعلت من تلك الطبقة طبقة حاكمة، فهي أفكار حاكميتها والأشخاص الذين يشكّلون الطبقة الحاكمة لهم معلومات أيضاً، ولذلك فهم يفكرون وحيث إنّهم يحكمون على مستوى طبقة ويشكلون عصراً في التاريخ، فمن الواضح أنّهم يبسطون حكومتهم على جميع المستويات أي أنّ الحكام مضافاً إلى سائر الجهات التي يحكمون فيها، حيث إنّهم يفكرون وينتجون أفكارا جديدة فهم ينظمون أيضاً توزيع الأفكار، فتكون أفكارهم هي الأفكار الحاكمة )(١) .

إنّ الطبقة الحاكمة والمستثمرة بالذات رجعي ومحافظ، يؤمن بالتقاليد، وينظر إلى الماضي، وثقافتها التي هي الثقافة الحاكمة والمفروضة على المجتمع ثقافة رجعيّة تابعة للتقاليد، وناظرة إلى

____________________

(١) الإيديولوجية الألمانية ( الترجمة الفارسية ) ص٦١.

١١٦

الماضي وأمّا الطبقة الكادحة والواقعة تحت الأسر، فهي في ذاتها ثورية هادمة للوضع الموجود تقدمية ناظرة إلى المستقبل، وثقافتها المحكومة ثقافة ثورية مخالفة للتقاليد ناظرة إلى المستقبل فالواقع تحت الاستثمار شرط أساس في الثورية، أي أنّ هذه الطبقة هي الوحيدة التي تستعد للثورة.

قال في كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو ) بعد العبارة السابقة التي نقلها عن إنجلز في مقدمة كتاب ( صراع الفلاّحين الألمان ): ( بعد مرور عام على نشر هذه المقدمة ( مقدمة كتاب صراع الفلاّحين الألمان ) كتب المجلس الاشتراكي الألماني الأعلى في ( جوئا ) في برنامجه: (إنّ جميع الطبقات المقابلة لطبقة العمّال يشكّلون مجموعة رجعيّة ) ثم انتقد ماركس هذه الجملة بشدّة ولكنّا إذا أردنا أن نفكّر بصورة منطقية، لا بد لنا من أن نعترف بأنّ هؤلاء الاشتراكيين البؤساء بعد ما كتبه ماركس في بيانه، لم يتمكنوا من التمييز بين الانقسام إلى قطبين، والانقسام إلى أقطاب عديدة ؛ ولذلك اضطروا إلى الحكم بالجملة السابقة فإنّ ماركس في بيانه (مانيفست الحزب الشيوعي ) أعلن أنّ الصراع الطبقي الحالي هو كالصراع بين البروليتاريا والبورجوازية وكتب: ( إنّ طبقة البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة التي تعتبر ثوريّة حقيقية من بين جميع الطبقات المخالفة للبورجوازية )(١) .

وقد قال ماركس في بعض كلماته: إنّ طبقة البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة الواجدة لجميع الخصائص الثورية وشرائطها التي هي عبارة عن:

____________________

(١) ( تجديد نظر طلبي ) ص ٣٤٧.

١١٧

١- الوقوع تحت الاستثمار: وهو يستلزم أن يكون منتجاً أيضاً.

٢- عدم المِلْكيّة: ( وهذه الخصيصة وسابقتها موجودتان في الفلاّحين أيضاً ).

٣- التنظيم: وهو يستلزم التجمّع والتكتّل ( وهذه الخصيصة تختص بطبقة البروليتاريا التي تتجمع في مصنع واحد، وتتعاون في العمل ويفقدها الفلاحون المتفرقون في الأراضي المختلفة ).

وقد قال ماركس حول الخصيصة الثانية: ( إنّ العامل حرّ من جهتين: حرّ في بيع قوّته العاملة، وحر من كل نوع من الملكية ) وقال حول الخصيصة الثالثة في بيانه: ( إنّ تطوّر الصناعة لا تزيد من عدد البروليتاريا فحسب، بل مضافاً إلى ذلك يجعلهم بصورة كتلة متجمّعة بوجه بارز، وذلك يضاعف قدرة طبقة البروليتاريا، ويشعرهم بتلك القدرة )(١) .

ويمكن أن نطلق على هذا الأصل: ( بأصل التطابق بين الواقع الإيديولوجي والموقع والاجتماعي ) وبناءاً على هذا الأصل فكل طبقة تنتج نوعاً من الفكر والأخلاق والفلسفة والفن والشعر والأدب ونحوها، بحيث يوافق وضع حياتها ومعاشها ومنافعها كما يمكن أن نسمّيه: ( أصل التطابق بين موضع حدوث الفكر وجهته ) أي أنّ كل فكر، وكل نظام أخلاقي أو ديني ينبعث من أي طبقة فإنّه يكون لمصلحة تلك الطبقة ويستحيل نظام فكري من طبقة ويكون لمصلحة طبقة أُخرى، أو يكون لمصلحة الإنسانية بوجه عام ،

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٣٥٧.

١١٨

ولا يتسم بطابع طبقي خاص فالفكر إنّما يكتسب جانباً إنسانياً فارغاً عن الطبقية إذا استوجب تطوّر وسائل الإنتاج نفي جميع الطبقات أي أنّه مع انتفاء التناقض في الموقع الطبقي ينتفي التناقض في الموقع الإيديولوجي ومع انتفاء التناقض في مواضع حدوث الفكر ينتفي التناقض في الوجهات الفكرية.

إنّ ماركس في بعض كتبه التي ألفها أيام شبابه، وهو ( المقدمة على نقد فلسفة الحقوق لهيجل) كان يعتمد على الجانب السياسي لصراع الطبقات ( الحاكم والمحكوم ) أكثر من الجانب الاقتصادي ( المستثمر والكادح ) وبالطبع كان يعتبر ماهية الصراع الطبقي صراعاً من أجل الحرية وفك الأسر، وقد اعتبر لهذا الصراع مرحلتين: المرحلة الخاصة والسياسية، والمرحلة العامة والإنسانية وأعلن أنّ ثورة البروليتاريا التي هي آخر مرحلة من ثورة أُسارى التاريخ ثورة أساسية أي أنّها ثورة من أجل الحرية الكاملة للإنسان، والنفي الكامل لجميع أشكال السلطة والعبودية ثم إنّه بصدد توجيه قيام هذه الطبقة مع اتخاذ موقف اجتماعي، وإنّه كيف يتقدم على موقفه الطبقي، ويتخذ له هدفاً عاماً وإنسانياً وكيف يمكن توفيقه مع المادية التاريخية، قال: إنّ عبودية هذه الطبقة أساسية فثورتها أيضاً أساسية فهذه الطبقة لم تقع مورداً لظلم خاص، بل فرض عليها نفس الظلم ؛ ولذلك فهي تطلب نفس العدالة وحرية الإنسان.

هذا البيان بيان أدبي لا علمي فما معنى فرض نفس الظلم عليها ؟ هل الطبقة المستثمرة تقدمت بوجه على طبقتها قبل ذلك فأرادت الظلم للظلم، لا لأجل منافعها، وسلب العدالة لا للاستثمار ؟! هذا مضافاً إلى أنّ افتراض وصول الطبقة المستثمرة في

١١٩

المرحلة الرأسمالية إلى هذه الحالة ينافي مفهوم المادية التاريخية، ويعتبر نوعاً من المثالية.

إنّ أصل ( التطابق بين الموقع الإيديولوجي والموقع الطبقي ) كما يستوجب التطابق بين منشأ الفكر وجهته، كذلك يستوجب التطابق بين إيمان الفرد وانتمائه إلى مدرسة وبين الموضع الطبقي له، أي أنّ الإيمان الطبيعي للفرد إنّما يكون بذلك الفكر المدرسي المنبعث من طبقته، ومدرسته أيضاً لا تتخذ موقفاً إلاّ في صالح تلك الطبقة.

ومن جهة نظر المنطق الماركسي يعد هذا الأصل في المعرفة الاجتماعية، أي معرفة ماهية الإيديولوجيات، ومعرفة طبقات المجتمع من حيث العقائد أصلاً مثمراً وموجّهاً للغاية.

٥ - النتيجة الخامسة: إنّ دور الإيديولوجية والإرشاد والدعوة والتبليغ والوعظ ونظائرها من الأُمور الظاهرية ضعيف في توجيه المجتمع أو الطبقات الاجتماعية فقد اشتهر أنّ الدّين والدعوة والدليل والبرهان والتعليم والتربية والتبليغ والموعظة والنصيحة أُمور قادرة على توجيه الوجدان البشري نحو مقاصدها وتغييره وبملاحظة أنّ وجدان كل فرد وكل طائفة وكل طبقة من صنع الوضع الاجتماعي الطبقي، وهو في الواقع انعكاس قهري لموضعه الطبقي، وأنّه لا يمكنه التقدّم عليه ولا التأخّر عنه، فتوهم أنّ الأُمور الظاهرية، من قبيل المذكورات، يمكن أن تقع مبدأ للتحوّل الاجتماعي التصور المثالي عن المجتمع والتاريخ ؛ ولذا يقال: إنّ الثقافة وطلب الإصلاح والروح الثورية لها منشأ ذاتي، بمعنى أنّ الحرمان الطبقي هو العامل الذاتي الذي يلهم هذه الصفات، دون العوامل الخارجية من تعليم وتربية ونحوهما أو - على الأقل - إنّ الوضع الطبقي يهيّئ الأرضية المساعدة لتحقق هذه

١٢٠