المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 63653
تحميل: 15797

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63653 / تحميل: 15797
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الصفات وأكبر دور تؤدّيه الإيديولوجيات والإرشادات وساير الأعمال الثقافية، هو إشعار الطبقة المحرومة بالتناقض الطبقي وفي الواقع بموضعه الطبقي لا غير وبتعبير الماركسيين: تبدّل الطبقة في نفسها ( أي الطبقة التي هي في ذاتها طبقة خاصة ) إلى طبقة لنفسها ( أي الطبقة التي تشعر بأنّها طبقة خاصة ) وبناءاً عليه فالمحرّك الفكري الوحيد الذي يحرك طبقة بخصوصها في مجتمع طبقي هو علم الطبقة بموضعها الخاص، وأنّه واقع تحت استثمار الآخرين وأمّا المحركات التي تدعي عامة وإنسانية، وذات طابع طلب العدالة ومصلحة النوع، فلا يمكن لها أن تؤدّي دوراً في المجتمعات الطبقية التي ينقسم فيها الإنسان إلى طبقة مستثمرة وطبقة كادحة، وكل منهما أجنبي عن نفسه نوعاً ما، وينقسم فيها الوجدان الاجتماعي إلى قسمين.

نعم، حينما تستقر حكومة البروليتاريا بمقتضى تطوّر وسائل الإنتاج، وتنعدم الطبقات، ويرجع الإنسان إلى ذاته الواقعية، أي الإنسانية غير المحدودة طبقياً، ويتحد الوجدان البشري الذي كان قد تمزق بواسطة الملكية، حينئذٍ يمكن للمحركات الفكرية التي تكون بصدد تحقيق المصلحة النوعية، وهي ليسب إلاّ انعكاسات عن الوضع الاشتراكي لوسائل الإنتاج أن تؤدّي دورها.

إذن فكما أنّه لا يمكن في تشكيل المراحل التاريخية أن تمنح الاشتراكية - وهي البناء العلوي في مرحلة تاريخية خاصة - لمرحلة قبل تلك المرحلة حسب الميل والرغبة، كما كان الاشتراكيون الخياليون يتوقعونه، كذلك لا يمكن في مرحلة خاصة من التاريخ، التي انقسم فيها المجتمع إلى طبقتين، أن يفرض شعور خاصة على طبقة أُخرى ،

١٢١

عن نطاق الحركة العمّالية ويوبّخ ماركس أُولئك الاشتراكيين الخياليين الذين يتصفون بخصيصة البروليتاريا، ومع ذلك لا يبصرون الانبعاث الذاتي التاريخي للبروليتاريا وحركتها السياسية الخاصة ويحاولون وضع تخيّلاتهم مكان التنظيم التدريجي المنبعث من ذات البروليتاريا بوصفها طبقة)(١) .

وهذا الأصل أيضاً يتميّز بأهمية إرشادية خاصة في المنطق الماركسي، في حقل معرفة المجتمع والتمايلات الاجتماعية والفردية، وخصوصاً في معرفة المدّعين لقيادة المجتمع وإصلاحه.

وتبين ممّا ذكرناه أنّ ماركس وإنجلز لا يقولان بوجود طائفة مثقّفة فوق الطبقات وبصورة مستقلة، ولا يمكنهما القول بذلك ؛ إذ لا تسمح به الأُصول الماركسية وإذا رأينا أنّ ماركس يقول بذلك في بعض كتبه ؛ فذلك من الموارد التي لا يريد ماركس أن يكون ماركسياً، وستسمع فيما بعد أنّ هذه الموارد ليست قليلة وهنا مثار للسؤال عن الوضع الثقافي لماركس وإنجلز نفسهما، وكيف يمكن توجيهه على الأُصول الماركسية، مع أنّهما ليسا من طبقة البروليتاريا فهما من الفلاسفة لا من العمّال، ومع ذلك فقد عرضا أكبر فرضية عمّالية وجواب ماركس عن ذلك طريف جداً، فقد ورد في كتاب ( تجديد نظر طلبي ): ( أنّ ماركس قليلاً ما يتحدث عن المثقفين، والظاهر أنّه لا يعدّهم طبقة خاصة، بل قسماً من سائر الطبقات، وخصوصاً البورجوازية وفي كتاب ( ١٨ برومر ) اعتبر أعضاء الأكاديمية والصحفيين والجامعيين والقضاة - كالقساوسة وضبّاط الجيش - من الطبقة البورجوازية وعندما يذكر في

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٣١٩ - ٣٢٠.

١٢٢

بيانه أصحاب الفرضيات للطبقة العاملة الذين لا ينتمون إلى البروليتاريا كانجلز ونفسه لا يعتبرهم من المثقفين، بل يعدهم جماعة من الطبقة الحاكمة قد هبطوا إلى البروليتاريا وأتوا بمعلومات كثيرة لتعليم البروليتاريا وتربيتهم )(١) .

هذا، ولكنّ ماركس لم يبيّن كيف تدحرج هو وإنجلز من سماء الطبقة الحاكمة، وهبطا إلى حضيض الطبقة المحكومة، وأتيا بالهدايا الثمينة من أجل التعليم والتربية لهذه الطبقة اللاصقة بالأرض، و - بتعبير القرآن - ( ذا متربة ) والواقع أنّ ما حصلا عليه، وأكسباه الطبقة الأرضية البروليتارية لم يكن من نصيب آدم أبي البشر الذي هبط من السماء إلى الأرض، حسب ما ترويه المصادر الدينية فهو لم يأت بمثل هذه الهدية الثمينة.

ولم يبيّن لنا ماركس كيف تشكلت إيديولوجية التحرير الطبقي البروليتاريا في قلب الطبقة الحاكمة، كما أنّه لم يبيّن هل إنّ هذا الهبوط أمر استثنائي خاص بهما، أم أنّه ممكن لكل أحد ؟ ولم يبيّن أيضاً أنّه بعد العلم بأنّ باب السماء إلى الأرض قد ينفتح ولو بصورة استثنائية، هل إنّ ذلك مختص بكيفية الهبوط، ونزول الأشخاص من العرش والسماء إلى الفرش والأرض، أم أنّه يمكن أن يتحقق بصورة العروج، فينتقل أُناس من الطبقة الأرضية إلى الطبقة السماوية ؟ ولا شك أنّهم إذا عرجوا فلن تكون معهم هدايا ثمينة تليق بأهل السماوات إذ لا معنى أصلاً لإهداء أهل الأرض إلى أهل السماء، بل إذا وُفّقوا للمعراج، ولم تجذبهم السماء إلى لا بد، وأمكنهم العودة إلى الأرض فلا شك أنّهم سيأتون بهدايا مثل ما أتى به فضيلة ماركس وإنجلز.

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٣٤٠.

١٢٣

فليس هناك شعور إنساني مشترك.

ولذلك فلا يوجد في المجتمع الطبقي إيديولوجية عامة لا تتسم بطابع الطبقة الخاصة، فكل إيديولوجية تظهر في ذلك المجتمع لا بد لها أن تأخذ صبغة طبقة خاصة وعلى افتراض وجودها - وهو محال - لا يمكن لها أن تؤدي دوراً عاماً ولذلك فان جميع الدعوات الدينية، أو - بالأحرى - كل ما يلقي على البشرية باسم الدين والمذهب، وعلى صورة الإرشاد والتبليغ والوعظ والنصيحة، ومع طابع طلب العدالة، والبحث عن الأصناف وتحقيق المساواة كل ذلك إن لم نقل إنّه خداع، فلا أقل من أنّه مجرّد تخيّلات.

٦- والنتيجة التي نتوقّعها بعد ذلك هي أنّ مبعث القادة الثوريين والتقدّميين والمجاهدين لا بد من أن يكون هو الطبقة الكادحة.

بعد أن تبيّن أنّ الطبقة الوحيدة المستعدّة للتثقيف وطلب الإصلاح والثورة هي الطبقة الكادحة، وأن هذه الأرضية لا توجد إلا بالحرمان والوقوع تحت استثمار الآخرين، وأنّ الحاجة إلى العوامل الظاهرية - على الأكثر - إنما هي في دخول التناقض الطبقي إلى مرحلة الشعور ؛ إذن فبالأولوية نحكم أنّ الأشخاص البارزين الذين يمكنهم درج هذه الثقافة في مشاعر الطبقة الكادحة لا بد من أن يكونوا هم بأنفسهم شركاء في آلام تلك الطبقة وقيودها، حتى يكونوا شاعرين بها قبل ذلك وكما يستحيل أن يتقدم الهيكل الاجتماعي على أساسه في المرحلة التاريخية، وكما يستحيل أن تتقدم الطبقة على موضعها الاجتماعي في تحقق الوجدان الاجتماعي، كذلك يستحيل أن يتقدم الفرد بصفته كقائد على طبقته، ويعرض أهداف طبقته ؛ ومن هنا

١٢٤

يستحيل أن ينهض من بين الطبقة المستثمرة في مجتمع ما فرد حتى على سبيل الاستثناء ضد طبقته، وفي صالح الكادحين.

قال في كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو ): ( والشيء الجديد الآخر في كتاب (الإيديولوجية الألمانية ) تفسير الشعور الطبقي فماركس في هذا الكتاب - خلافاً لكتبه السابقة -(١) - يعتقد أنّ الشعور الطبقي ينبع من نفس الطبقة، ولا يأتيها من الخارج والشعور الحقيقي ليس إلاّ نوعاً من الإيديولوجية، فإنّه يمنح المصالح الطبقية الخاصة صبغة عامة، ولكنّ ذلك لا يمنع من اعتماد هذا الشعور على أساس الشعور الذاتي للطبقة بالنسبة إلى مصالحها وعلى أي حال، فإنّ الطبقة لا تنضج إلاّ مع إيجاد الشعور الطبقي الخاص.

وهذا الأمر يؤدّي - في نظر ماركس - إلى انقسام داخل الطبقة بين العمل الفكري ( إيديولوجي أو قيادي ) والعمل المادي، فيصبح بعض الأشخاص مفكّري الطبقة في حين أنّ بعضاً آخر في وضع انفعالي، يقبلون هذه الأفكار والأوهام)(٢) .

وفيه أيضاً ضمن تحليل لنظرية ماركس في بيانه ( المانيفيست )، وفي كتاب ( فقر فلسفة ): ( وهكذا فإنّ الحصول على الشعور الطبقي وتشكيل الطبقة في صورة ( طبقة لنفسها )، من صنع البروليتاريا بنفسها، ونتيجة للصراع الاقتصادي المنبعث من ذاتها فهذا التغيّر لا يحصل من الأحزاب السياسية، ولا أصحاب الفرضيات الخارجين

____________________

(١) راجع ص٣٠٨، ٣٠٩ من ذلك الكتاب حيث ينقل عن ماركس وإنجلز خلاف هذه النظرية في الدّين.

(٢) تجديد نظر طلبي ص ٣١٤.

١٢٥

النقد

بعد أن انتهينا من عرض مبادئ نظرية المادية التاريخية ونتائجها، يأتي الآن دور النقد والتحقيق عنها ونودّ أن نشير - أولاً - إلى أنّا لسنا هنا بصدد الرد على نظريات ماركس في جميع آثاره، و لا بصدد نقد الماركسية ككل وإنّما نحن الآن بصدد نقد المادية التاريخية التي هي أحد أركان الماركسية وفرق بين نقد نظريات ماركس أو نقد الماركسية بوجه عام، ونقد أحد أُصول الماركسية كالمادية التاريخية فالأول يتوقف على التحقيق عن جميع نظرياته في كتبه وتآليفه المختلفة، وفي المراحل المختلفة من حياته مع اشتمالها على المتناقضات الكثيرة وقد تصدّى لذلك جماعة في الغرب، وأمّا في إيران فأحسن أثر في هذا الموضوع - فيما أعلم - هو كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو )(١) الذي نقلنا عنه في هذا الفصل كثيراً.

وأمّا نقد الماركسية أو أصل من أُصولها التي تُعدّ أساساً للمدرسة الماركسية، ولا يمكن الخدشة فيه من وجهة نظر ماركس نفسه، أو نقد أصل أو أُصول لم يعتبره بنفسه قطعياً، بل ربّما ذكر خلافه في بعض آثاره إلاّ أنّه لازم قطعي للأُصول الماركسية، ومخالفة ماركس له نوع من رفضه للماركسية، فهو الذي نعمله بالنسبة إلى المادية التاريخية في هذا الكتاب فنحن ننتقد ونبحث هنا بملاحظة الأُصول القطعية المسلمة لماركس، أو النتائج القطعية لتلك الأُصول المسلمة ولا نهتم بالبحث

____________________

(١) ألّفه الدكتور ( انورخامه اي ) بالفرنسية ثم ترجمه بنفسه إلى الفارسية، وهو مضافاً إلى تحقيقه وتتبّعه وتحليله للمسائل بوجهٍ لائق، كان معتقداً بهذه المدرسة ومبلّغاً لها طوال سنين.

١٢٦

عن أنّ ماركس هل خالف ذلك في كتبه المتناقضة أم لا ؟ إذ ليس هدفنا نقد نظرياته، بل نقد المادية التاريخية.

ومن عجائب القضايا أنّ ماركس الذي يدّعي المادية التاريخية في كتبه الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، حينما يحاول تحليل بعض الأحداث التاريخية وتعليلها قلّ ما يتوجّه إلى أُصول المادية التاريخية.

لماذا ؟ لقد أُجيب على هذا السؤال بأجوبة مختلفة ولكن ذلك لا يختص بهذه المسألة ففي كثير من المسائل الماركسية تتناقض طريقة ماركس، أي أن نوعاً من العدول عن الماركسية نظرياً أو عملياً يشاهد من جانبه إذن فلابد من جواب عام.

أجاب البعض بأنّ ذلك يرجع إلى عدم نضجه في بعض المراحل من حياته ولكن هذا التوجيه مرفوض من قبل الماركسيين على الأقل ؛ وذلك لأن كثيراً مما يعد عدولاً عنها - ومنها تحليل بعض أحداث عصره - مما ذكره في آخر مراحل حياته.

وذهب البعض إلى أنّ هذا الاختلاف ينشأ من ازدواج الشخصية لديه، فهو من جهة فيلسوف وصاحب إيديولوجية ومدرسة، وهذا يقتضي بالطبع أن يكون جازماً في أُصوله، ويعتبرها قطعية لا تقبل الخدشة، وربما حاول أن يطبق الواقعيات بتكلّف مع ما التزم به مسبقاً وهو من جانب آخر له شخصية وروح علمية، وهذا يقتضي أن يكون واقعياً ومستسلماً للواقعيات، ولا يتقيد بأي أصل قطعي.

ومال آخرون إلى الفرق بين ماركس والماركسية، فيدعون أنّ ماركس وتفكير ماركس يشكل مرحلة من الماركسية، التي هي في جوهرها

١٢٧

مدرسة تنمو وتتكامل فلا مانع من أن تكون الماركسية قد خلفت ماركس وراءها وبعبارة أُخرى، لا مانع من أن يكون ماركس - الذي يشكل مرحلة الطفولة للماركسية - قابلاً للرد، وليس ذلك دليلاً على رد الماركسية ولكن هؤلاء لم يبيّنوا ما هو جوهر الماركسية في نظرهم ؟ فإنّ التكامل للمدرسة إنّما يصح فيما إذا كانت لها أُصول ثابتة أوليّة، والتغييرات تطرأ على الفروع، وإلاّ لم يكن فرق بين تكامل النظرية ونسخها وإذا لم نقل باشتراط التكامل ببقاء الأُصول الثابتة، فلماذا نبتدئ بماركس ؟ ولماذا لا نسند المدرسة إلى من قبله، كهيجل، أو سن سيمون، أو برودون، أو أي شخصية أُخرى من هذا القبيل ؟ ولماذا نسمّي المدرسة هيجلية، أو سن سيمونية، أو برودونية، ونعتبر الماركسية مرحلة من مرحلة من مراحل تكاملها ؟

ولكنّا نعتقد أنّ السبب في تناقضات ماركس أنّه كان أقل ماركسية من أغلب الماركسيين يقال: إنّه حينما كان يدافع في مجمع من الماركسيين عن نظرية مخالفة لنظريته السابقة واجه اعتراض السامعين، فأجاب: ( إنّي لست ماركسياً بقدر ما أنتم ماركسيّون ) وقيل: إنّه قال في أواخر أيام حياته: ( إنّي لست ماركسياً أصيلاً ).

وافتراق ماركس عن الماركسية في بعض نظرياته من جهة أنّه كان أذكى وأفطن من أن يكون ماركسياً كاملاً، فالماركسي الكامل يحتاج إلى أكثر من ( قليل من الحماقة ).

والمادية التاريخية فصل من الماركسية وهو موضع بحثنا الآن، وقد أوضحنا أنّ لها مباني ونتائج وليس ماركس العالم غير متمكن من التقيد بها فحسب، بل ماركس الفيلسوف أيضاً لا يمكنه أن يتقيّد بها إلى لا بد.

١٢٨

وإليك الآن المناقشات:

١ - فقدان الدليل:

أوّل مناقشة في هذه النظرية أنّها لا تعدو فرضية من دون دليل فكل نظرية فلسفية تاريخية لا بد لها إمّا من الاعتماد على التجارب التاريخية حول الأحداث الخارجية في زمانها، ثم يعمّم لسائر الأزمنة، أو الاعتماد على الشواهد التاريخية السابقة وتعميمها للحاضر والمستقبل، أو يكون إثباتها عن طريق القياس والاستدلال المنطقي على أساس الأُصول العلمية، أو المنطقية والفلسفية التي تكون مقبولة مسبقاً.

وفرضية المادية التاريخية لا تبتني على شيء من المذكورات، أمّا الأحداث الواقعة في عهد ماركس وإنجلز فلم تكن قابلة للتفسير بذلك، حتى صرّح إنجلز: ( إنّ ما ارتكبته أنا وماركس في بعض الكتب من الخطأ في أهمية الاقتصاد لم يشمل أحداث زماننا ؛ لأنّنا لمّا وصلنا إلى تفسيرها واجهنا الواقع الخارجي بنفسه، فلم نرتكب ذلك الخطأ بالنسبة إليها ) وأمّا الأحداث التاريخية طوال الآلاف من السنين فلا تؤيّد هذه الفرضية، بحيث إنّ مَن يراجع كتاب ( قال الفيلسوف ) الذي حاول فيه الماركسيون تفسير التاريخ الماضي بالمادية التاريخية يتعجّب بشدّة من تلك التأويلات فمثلاً ورد في كتاب ( تاريخ جهان . )(١) .

____________________

(١) مع الأسف وجدنا في نسخة الأصل المكتوب بيد الأُستاذ الشهيد فراغاً في هذا الموضع بمقدار سبعة أسطر والكتاب المذكور على أقوى الاحتمالات هو كتاب ( تاريخ جهان باستان )، ولم نجد الجزء الأول منه في مكتبته حتى نحاول استخراج موضع الشاهد بالقرائن أو وضع العلامة والظاهر أنّ الجزء الأول

=

١٢٩

٢ - تبدّل رأي المؤسّسين:

ذكرنا مراراً أنّ ماركس يعتبر العامل الاقتصادي أساس المجتمع، وساير العوامل هيكل البناء، وهذا التعبير كافٍ في إثبات تعلّق جميع العوامل من جانب واحد بالعامل الاقتصادي مضافاً إلى أنّه صرّح في كثير من عباراته التي نقلناها سابقاً أنّ التأثير والتعلّق من جانب واحد، بمعنى أنّ العامل الاقتصادي هو المؤثّر، وسائر الشؤون الاجتماعية متأثّرة فقط، والعامل الاقتصادي يعمل مستقلاً، وسائر العوامل متعلقة به.

والواقع أنّ ذلك ممّا تستوجبه نظريات ماركس، سواء صرّح بها أم لم يصرّح، كنظرية تقدّم المادة على الروح، وتقدّم الحاجات المادية على الحاجات المعنوية، وتقدّم علم الاجتماع على علم النفس، وتقدّم العمل على الفكر.

ولكن ماركس تعرّض في كثير من تآليفه لموضوع آخر على أساس المنطق الديالكتيكي ممّا يُعدّ تبدّلاً للرأي، أو عدولاً نوعاً ما عن المادية التاريخية بصورة عامة، وذلك هو موضوع التأثير المتقابل، فبناءاً على أصل التأثير المتقابل يجب أن لا نعتبر الرابطة العِلّية من جانب واحد، فإذا كان ( أ ) علّة مؤثّرة، ( ب ) فلابد أن يكون ( ب ) بدوره علّة و مؤثّراً ل- ( أ ) بل بناءً على هذا الأصل هناك نوع من الترابط والتأثير المتقابل بين جميع أجزاء الطبيعة، وبين جميع أجزاء المجتمع.

____________________

=

هو موضع استشهاد الأُستاذ ونأمل أن نجده عند أحد أصدقائه فنستخرج محل الشاهد ونضيفه إلى الكتاب في الطبعات الآتية.

١٣٠

وهنا لا نريد البحث عن أنّ هذا الأصل الديالكتيكي بهذا الوجه صحيح أم خطأ، إنّما نريد أن نقول إنّ مقتضى هذا الأصل إلغاء الأولوية في الرابطة بين كل شيئين، سواء كانا المادة والروح، أو العمل والفكر أو العامل الاقتصادي، وسائر العوامل الاجتماعية إذ لا معنى للأولوية والتقدم، وكون شيء أساساً والآخر بناءاً، إذا كان الشيئان مترابطين، وكل منهما شرط لوجود الآخر، ومحتاج في وجوده إلى الآخر.

وماركس في بعض عباراته اعتبر العمل الاقتصادي صاحب الدور الأصلي وغير الأصلي في التأثير، ولم يعترف بتأثير للبناء في الأساس وقد نقلناه سابقاً وفي بعض عباراته قال بالتأثير المتقابل بين الأساس والمبنى، ولكنّه اعتبر الأساس صاحب الدور الأصلي والنهائي في التأثير.

وورد في كتاب ( تجديد نظر طلبي از ماركس تا مائو ) الموازنة بين كتابي ماركس: ( رأس المال ) و ( نقد علم الاقتصاد )، وأنّه ذهب فيهما معاً إلى الدور المصيري للاقتصاد من جانب واحد.

ثم قال: ( ومع ذلك فقد أضاف ماركس عن علم أو عن غير علم على هذا التعريف بأنّ العوامل الظاهرية في المبنى الاجتماعي يمكنها أن تلعب دوراً أصلياً في المجتمع، وإن كان العامل الأساس في الأولوية )(١) .

ثم تساءل المؤلّف: ما هو الفرق بين الدور الحاكم والمصيري الذي يلعبه دائماً العامل الاقتصادي، وهذا الدور الأصلي الذي قد يلعبه عامل آخر في بعض الأحيان ؟ أي إن العامل الظاهري إذا كان يلعب في

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٢٢٢.

١٣١

بعض الأحيان دوراً أصلياً فلابد أن يكون في تلك الحالة دوراً حاكماً ومصيرياً أيضاً، بل إنّ ما نعدّه عاملاً ظاهرياً يكون في ذلك الوقت هو العامل الأساس، وما نعدّه العامل الأساس هو العامل الظاهري.

وذكر إنجلز في رسالة له إلى رجل يُدعى ( يوسف بلوخ ) في أواخر أيام حياته: ( أنّ العامل المصيري في التاريخ - وفقاً لآخر ما توصّلت إليه نظرية المادية التاريخية - هو توليد وتجديد الحياة الواقعية(١) لا أنا ولا ماركس، لم نقل شيئاً أكثر من هذا فإذا جاء بعد ماركس مَن يمسخ هذه الأُطروحة، بحيث يظهر منه أنّ العامل الاقتصادي هو العامل المصيري الوحيد، فإنّه يكون قد بدّل العبارة إلى عبارة جوفاء فارغة جزافية(٢) فالوضع الاقتصادي هو الأساس، ولكن عوامل أُخرى ظاهرية، كالمحتوى السياسي للصراع الطبقي ونتائجه ( أي المؤسسات التي تستقر بعد النصر المظفّر)، والمحتوى الحقوقي، بل حتى ردود الفعل لهذه المصارعات الواقعية في أذهان المشتركين، والنظريات السياسية والحقوقية والفلسفية والمدركات الدينية، وتطوّر هذه الأُمور بعد ذلك إلى تأسيسات منظّمة، كل ذلك يؤثّر أيضاً في مجرى الصراع التاريخي، وفي

____________________

(١) إنّ إنجلز - كما أشار إليه مؤلّف الكتاب - مع استعمال كلمة ( توليد وتجديد الحياة الواقعية ) بدلاً من التوليد ( الإنتاج ) المادي والاقتصادي، والذي لا يختص - كما أوضحه إنجلز في كتاب ( الملكية الخاصة سبب تشكيل الأُسرة والدولة ) - بإنتاج وسائل المعيشة، بل يشمل التوليد البشري أيضاً ( أقول ) مع استعمال هذه الكلمة نفى - تلويحاً - أن يكون العامل الاقتصادي هو العامل المصيري الوحيد: واعترف بدور العامل الجنسي والعائلي وهذا أيضاً نوع من العدول عن المادية التاريخية.

(٢) أضاف مؤلّف الكتاب هنا بين قوسين هكذا: ( تبدّل رأي بسيط وواضح ).

١٣٢

كثير من الحالات تعين وجهته بصورة جدّية فجميع هذه العوامل في حالة تبادل الفعل ورد الفعل، ومن بينها تشق الحركة الاقتصادية طريقها بصورة أمر ضروري خلال كتلة من التناقضات اللانهائية(١) .

عجباً ! إذا كانت النظرية القائلة: ( إنّ العامل الاقتصادي هو العامل المصيري الوحيد ) عبارة مجرّدة جوفاء جزافية، فمَن هو قائل ذلك غير ماركس ؟! أضف إلى ذلك أنّه لو كانت العوامل التي تدعى ظاهرية في كثير من الحالات تعيّن وجهة الصراع التاريخي بصورة جدّية فلا تنحصر في العامل الاقتصادي ؛ إذن فما معنى أنّ ( الحركة الاقتصادية تشق طريقها بصورة أمر ضروري خلال كتلة من التناقضات اللانهائية ) ؟!

وأعجب من ذلك أنّ إنجلز في هذه الرسالة بالذات يتحمّل ويحمّل ماركس قسماً من مسؤولية هذا الخطأ، وبتعبيره ( هذا المسخ ) يقول: ( إنّي وماركس نتحمّل قسماً من مسؤولية هذا الأمر، الذي جعل الشباب يهتمون بالعامل الاقتصادي أكثر ممّا هو حقّه أمّا نحن فكنّا مضطرّين في مواجهة المخالفين لنا إلى الإصرار على هذا الأصل الذي كانوا يرفضونه ؛ ولذلك لم تكن لنا فرصة ولا مجال للاعتراف بحق سائر العوامل التي كانت شريكة بدورها في العمل )(٢) .

ولكنّ هناك مَن يفسّر هذا التأكيد المفرط لماركس وإنجلز على دور العامل الاقتصادي بوجهٍ آخر، عكس ما ذكره إنجلز، ويقولون إنّ هذا

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ص٢٨١ - ٢٨٢.

(٢) ماركي ماركسيسم ص٢٤٥ والواقع أنّه عذر أقبح من الذنب، فهذا نوع من اللجاج، أو على الأقل تضحية بالحقيقة في سبيل المصلحة.

١٣٣

التأكيد المفرط لم يكن في مواجهة المخالفين المنكرين، بل في مواجهة الرقباء الموافقين لهذه النظرية من أجل انتزاع السلاح من أيديهم.

قال في كتاب ( تجديد نظر طلبي ) في بيان السبب لتأليف كتاب ( نقد علم الاقتصاد ) الذي اعتمد فيه ماركس بصورة منحصرة على العامل الاقتصادي أكثر من سائر كتبه، وقد مرت عبارته المعروفة في مقدمة الكتاب: ( والسبب الآخر لتأليف ( نقد علم الاقتصاد ) هو انتشار كتاب لبرودون تحت عنوان ( دليل بائع الأسهم في سوق السهام، وكتاب آخر لداريمون من أتباع ( برودون ) ولمّا رأى ماركس رقباءه أي أتباع ( برودون ) من جانب، وأتباع ( لاسال ) من جانب آخر يؤكّدون على أهميّة العامل الاقتصادي، ولكن بطريقة إصلاحية ( لا ثورية )، حاول أن ينتزع هذا السلاح من أيديهم، ويستعمله بصورة ثورية، واستلزم ذلك جمود عقائده ومقبوليتها لدى العوام )(١) .

وأمّا ( ماو ) فقد بالغ في تجديد النظر في مفهوم المادية التاريخية، وكون الاقتصاد أساساً، نظراً إلى الضرورة التي اقتضتها أوضاع الصين، ولتوجيه الدور الذي لعبته الثورة الصينية وقيادتها بالذات، بحيث لم يبق من المادية التاريخية وكون الاقتصاد أساساً - وبالنتيجة - من الاشتراكية العلمية - كما يقولون - المبتنية على المادية التاريخية إلاّ الاسم والتلاعب بالألفاظ.

يقول ماو في رسالته حول التناقض تحت عنوان ( التناقض الأساس

____________________

(١) تجديد نظر طلبي ٢١٨ - ٢١٩.

١٣٤

والجهة الأساسية في التناقض ): ( إنّ الجهة الأساسية وغير الأساسية في التناقض قد يتبادلان، وبذلك تتغيّر خصائص الأشياء والظواهر، ففي موضع خاص من أمر تاريخي معيّن، أو في مرحلة خاصة من تطوّر التناقض في شيء قد يكون ( أ ) يشكل الجهة الأساسية في ذلك التناقض، و ( ب ) يشكل الجهة غير الأساسية فيه، وفي مرحلة أُخرى، أو في موضع آخر من ذلك الأمر التاريخي يتغيّر موضع هاتين الجهتين، نتيجة لنقصان أو زيادة القوة في كل من جهتي التناقض في الصراع مع الأُخرى ضمن تطوّر الشيء أو الظاهرة )(١) .

ثم يقول: ( ربّما يتوهّم أنّ هذه الأُطروحة ( تبادل الموضع في الجهة الأساسية ) لا تصدق في قسم من التناقضات فيقولون مثلاً: إنّ القوى المنتجة هي الجهة الأساسية في تناقض الفرضية والتجربة، والعامل الاقتصادي في تناقضه مع العوامل الأُخرى وهذا لا يتبدل أبداً إنّ هذا النوع من التفكير يختص بالمادية الميكانيكية، وهي أجنبية عن المادية الديالكتيكية ومن الواضح أنّ كلاًّ من القوى المنتجة والتجربة والعامل الاقتصادي له دور هام ومصيري على وجه العموم والذي ينكر هذه الحقيقة ليس مادياً أصلاً وفي نفس الوقت لا بد من الاعتراف بأنّ علاقات الإنتاج والفرضية والبناء العلوي قد يكون لها أيضاً دور هام مصيري في أوضاع خاصة فإذا لم تتمكن القوى المنتجة من التطور والتكامل - إلاّ مع تغيير في علاقات الإنتاج، فإنّ لتغييرها(٢) حينئذ دوراً

____________________

(١) ( جهار رسالة فلسفي ) ص٥٤ - ٥٥.

(٢) بواسطة العوامل الظاهرية من عسكرية وسياسية وثقافية و، و، و.

١٣٥

هاماً مصرياً وعندما تصدر هذه الجملة من لينين: ( لا يمكن أن توجد حركة ثورية إلاّ مع فرضية ثورية ) في الدستور اليومي يكتسب خلق الفرضية ونشرها دورا هاماً مصيرياً وعندما يحول المبنى العلوي من سياسية وثقافة وغيرهما دون تطور العامل الاقتصادي، يكون التطور السياسي والثقافي قد اكتسب دوراً هاماً مصيرياً هل هذه الأُطروحة تنقض المادية ؟ كلاّ ؛ لأنّنا نعترف أنّ المادة تعيّن الروح، والوجود الاجتماعي يعين الشعور الاجتماعي في المسير العام لتطور التاريخ، ولكنّا نعترف في نفس الوقت ولابد لنا من أن نعترف بان للروح على المادة، وللشعور الاجتماعي على الوجود، وللمبنى العلوي على العامل الاقتصادي الأساس تأثير متقابل إذن فنحن لا ننقض المادية فحسب، بل نرد المادية الميكانيكية، وندافع عن المادية الديالكتيكية )(١) .

ولكن ما يقوله ينقض المادية التاريخية تماماً، فهو حينما يقول: ( إذا كانت علاقات الإنتاج مانعة من تطور القوى المنتجة )، أو يقول: ( إذا كانت الحركة الثورية متوقفة على فرضية ثورية )، أو يقول: ( إذا كان البناء العلوي مانعا من تطور الأساس )، فإنّما يقول شيئاً يتحقق في الواقع، ويجب أن يتحقق، ولكن المادية التاريخية تقول: إنّ تطور القوى المنتجة تغير علاقات الإنتاج جبراً، وإنّ الفرضية الثورية تتحقق بصورة ذاتية حتماً، وإنّ العوامل الظاهرية تتغير تبعاً للعامل الأساس قطعاً.

وقد صرّح بذلك ماركس في مقدمة كتاب ( نقد علم الاقتصاد ) ،

____________________

(١) جهار رساله فلسفي ٥٨ - ٥٨.

١٣٦

حيث قال: ( إنّ القوى المنتجة في المجتمع، في مرحلة معيّنة من التطور والتوسعة، تدخل في صراع مع علاقات الإنتاج الموجودة ( أو علاقات الملكية، وهي مصطلح حقوقي لعلاقات الإنتاج ) مع أنّ القوى المنتجة كانت تعمل حتى الآن في ضمن تلك العلاقات فهذه العلاقات التي كانت في الماضي تشكّل مظهراً لتكامل القوى المنتجة أصبحت الآن عائقاً في تكاملها وآنذاك يبدأ عصر الثورة الاجتماعية، فتبدّل الأساس الاقتصادي يهدم المبنى العظيم بسرعة أو ببطء )(١) .

إذن فتغيّر علاقات الإنتاج قبل تطوّر القوى المنتجة لفسح المجال أمام تطورها، وتأسيس الفرضية الثورية قبل الثورة المنبعثة من ذات الفكر الثوري، وتغيير العوامل الظاهرية لكي يتمكن العامل الأساس من التغيير، كل ذلك يعني تقدم الفكر على العمل، وتقدم الروح على المادة، واستقلال العوامل السياسية والفكرية في قبال العامل الاقتصادي، وبالتالي نقض المادية التاريخية.

وأمّا ما يقوله ( ماو ) من أنّنا إذا قلنا بالتأثير من جانب واحد، فقد نقضنا المادية الديالكتيكية فهو واضح، إلاّ أنّنا نتساءل: ما الحيلة ؟ وهذه الاشتراكية العلمية - كما يزعمون - تبتني على التأثير من جانب واحد، خلافاً للمنطق الديالكتيكي، أي خلافاً لأصل التأثير المتقابل.

إذن فلابدّ إمّا من التسليم لما يدعي بالاشتراكية العلمية ونقض المنطق الديالكتيكي، وإمّا من قبول هذا المنطق ورفض الاشتراكية العلمية وما يبتني عليها، أي المادية التاريخية.

____________________

(١) ماركس وماركسيسم ص٢٤٣.

١٣٧

أضف إلى ذلك أنّا نتساءل ما معنى قوله: ( نحن نعترف أنّ المادة تعيّن الروح، والوجود الاجتماعي يعيّن الشعور الاجتماعي في المسير العام لتطور التاريخ ) مع أنّه يقول بتبادل الجهة الأساسية في التناقض، فقد تكون القوى المنتجة معينة لعلاقات الإنتاج، وقد يكون بالعكس.

والحركة الثورية قد تخلق الفرضية، وقد يكون بالعكس وقد يتغير العامل الاقتصادي بتأثير السياسة والثقافة والقوّة والدّين ونظائرها، وقد يكون بالعكس، إذن فقد تكون المادة هي المعينة للروح، وقد يكون الأمر بالعكس وقد يكون الوجود الاجتماعي هو الذي يعين الشعور الاجتماعي، وقد يكون بالعكس.

والواقع أنّ ما أبداه ماو تحت عنوان تبادل الجهة الأساسية في التناقض توجيه للماوية التي ظهر أنّها مخالفة عملياً مع المادية التاريخية الماركسية، وليس ذلك توجيهاً للمادية التاريخية الماركسية، وإن تظاهر به وبذلك أثبت ماو عملياً أنّه أيضاً - كماركس أذكى من أن يكون ماركسياً دائماً - فالثورة الصينية التي قادها ماو نقضت في مرحلة العمل الاشتراكية العلمية والمادية التاريخية وبالتالي الماركسية نفسها.

فالصين بقيادة ماو قبلت النظام الإقطاعي القديم بثورة فلاّحيّة، وأقرّ مكانه نظاماً اشتراكياً مع أنّ قوانين الاشتراكية العلمية والمادية التاريخية تقول بأنّ المجتمع الذي يمر بالمرحلة الإقطاعية لا بد من وصوله إلى المرحلة الصناعية والرأسمالية، وبعد بلوغه قمّة المرحلة الصناعية يخطو نحو الاشتراكية فبناءاً على المادية التاريخية كما أنّ الجنين في الرحم لا يمكنه القفز من بعض المراحل، كذلك المجتمع لا يمكنه أن يصل إلى المرحلة النهائية إلاّ بالمرور في جميع المراحل المترتبة المتوالية لكنّ ماو أثبت عملياً أنّه من تلك القوابل اللاتي يولدن الجنين في شهره

١٣٨

الرابع سالماً كاملاً غير معيب وأثبت أنّ القيادة والتعليمات الحزبية والتنظيم السياسي والفرضية الثورية والشعور الاجتماعي، أي كل ما يعتبره ماركس من نوع الشعور لا من نوع الوجود، ومن نوع البناء العلوي لا من نوع الأساس، ولا يعتبره أصلاً، كل ذلك خلافاً لما يدعيه ماركس - يمكنها أن تغيّر علاقات الإنتاج، ويجعل البلد صناعياً.

وهكذا جعل ما يدعى بالاشتراكية العلمية ملغاة بلا أثر.

هذا وقد نقض ماو الفرضية الماركسية حول التاريخ بوجه آخر وذلك لأن طبقة الفلاحين في الفرضية الماركسية، أو على الأقل من وجهة نظر ماركس نفسه، وان كانت واجدة للشرط الأول والثاني من شروط الطبقة الثورية، وهما الوقوع تحت الاستثمار وعدم الملكية، إلاّ أنّها فاقدة للشرط الثالث، وهو التكتّل والتعاون والتفاهم والشعور بالقوى الثورية لها ؛ ولذلك فإنّ طبقة الفلاحين لا يمكنها أبداً أن تبتدئ بالثورة، وأكثر ما يكون أنّها في بعض الأحيان، وفي المجتمعات المنقسمة إلى العمّال والفلاحين قد تتبع طبقة البروليتاريا في الثورة، بل إنّ طبقة الفلاحين في نظر ماركس: ( طبقة حقيرة رجعية بالذات ) و ( ليس لهم أي ابتكار ثوري )(١) وقد أبدى رأيه في سكان الريف في رسالة له إلى إنجلز حول ثورة بولونيا فقال: ( أهل الريف طبقة حقيرة رجعية بالذات . يجب أن لا يدعون إلى النضال ) ولكنّ ماو صنع من هذه الطبقة الرجعية بالذات، ومن هؤلاء الأراذل الذين يجب أن لا يدعون إلى النضال طبقة ثورية، وقلب بهم ذلك النظام العريق وماركس لا ينكر قدرة الفلاحين على قيادة الثورة الاشتراكية فحسب ،

____________________

(١) تجديد نظر طلبي نقلاً عن ( آثار بركزيده ) ٢٣٤.

١٣٩

بل ينكر أيضاً دورهم في الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي فالطبقة التي تنقل المجتمع من الإقطاعية إلى الرأسمالية , وتكون ثورية في تلك المرحلة التاريخية هي الطبقة البورجوازية لا الفلاحين، ولكن ماو بهذه الطبقة الحقيرة الرجعية ذاتاً، جعل المرحلتين مرحلة واحدة، وقفز من الإقطاعية إلى الاشتراكية رأساً إذن فهو على حق إذا حاول توجيه الماوية بابتكار أصل تبادل الجهة الأساسية في التناقض بعد أن فارق الماركسية في كل هذه الوجوه ثم حاول إخفاء الواقع والتظاهر بأنّه قد فسَّر الماركسية والمادية التاريخية والاشتراكية العلمية تفسيراً علمياً.

وقد تعلّم ماو كيف يترك الماركسية في مرحلة العمل عند اللزوم من سلفه المعتبر لينين، فهو أيضاً ثار وأسّس دولة اشتراكية قبل ماو في روسيا، وهي كانت أيضاً منقسمة إلى حقلي الصناعة والزراعة، حيث وجد أنّ عمره لا يكفي فيصبر حتى تتبدل روسيا القيصرية إلى بلد صناعي تماماً، ثم تتطوّر الرأسمالية واستثمار العمال، فتصل إلى مرحلتها النهائية، فتحدث ثورة ذاتية بحركة ديناميكية، وشعور ثوري منبعث من ذات المجتمع، ويتحقق التغير العام ورأى أن الوقت لا يسمح لينتظر حتى تتم دورة الحمل، ويأتي وقت المخاض، فيقوم هو بشؤون المرأة القابلة ؛ ولذلك شرع من البناء العلوي، من الحزب و السياسة والفرضية الثورية والقوّة، فبدّل الدولة النصف صناعية في روسيا آنذاك إلى الاتحاد السوفيتي الاشتراكي الحاضر وبذلك تحقق المثل الفارسي المعروف: ( إنّ عقدة واحدة من القرن خير من ذراع من الذيل ) فلم يلبث بانتظار الذيل الماركسي الطويل، والقابلية الديناميكية الذاتية للعامل الاقتصادي في المجتمع الروسي، والثورة

١٤٠