المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 64912
تحميل: 15887

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64912 / تحميل: 15887
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هي الرجوع إلى البدايات يقول المولوي في مثنوياته ما هذا ترجمته:

( إنّ الأجزاء كلّها متوجّهة إلى الكل والبلابل تعشق الورود وكل ما يرجع من البحر إلى البحر فهو عودة إلى المبدأ، فمن رؤوس الجبال تعود السيول، ومن أجسامنا تعود الأرواح المفطورة على الحب ).

ومثل هذا ما تقوله الماركسية حول الأُمور الفكرية والذوقية والفلسفية والدينية، وبالتالي جميع الظواهر الثقافية والاجتماعية فهذه المدرسة تقول: إنّ كل فكر يتوجّه إلى الناحية التي بعث منها ( النهايات هي الرجوع إلى البدايات )، فلا يوجد هناك فكر أو دين أو ثقافة حيادية لم تتخذ موقفاً خاصاً، أو يكون موقفها تشكيل موضع اجتماعي غير الموضع الذي تنتمي إليه فمن وجهة نظر هذه المدرسة: لكل طبقة نوع خاص من التجليات الفكرية والذوقية ؛ ولذلك نجد في المجتمعات الطبقية المتفاوتة في الحياة الاقتصادية نوعين من الآلام الاجتماعية، والأفكار الفلسفية، والنظام الخلقي، والطريقة الفنية، والعمل الأدبي والشعري والذوق والإحساس وتفسير الكون، وقد يكون هناك نوعان من العلم أيضاً، وذلك من جهة الاختلاف في العامل الأساس، وعلاقات الملكية.

ولكنّ ماركس يرى لهذه التثنية استثناءين: الدّين والدولة فهما من وجهة نظره من صنع الطبقة المستثمرة، وجزءان من طريقتهم الخاصة في الاستثمار وبالطبع فإنّ موقفهما وموضعهما لصالح هذه الطبقة والطبقة المستضعفة حسب موقعها الاجتماعي لا تكون مبعثاً للدّين ولا الدّولة، بل هما يفرضان عليها من جانب الطبقة المخالفة قهراً إذن فليس هناك نظامان في الدّين، ونظامان في الدّولة.

١٨١

ولكن بعض المثقفين الإسلاميين يدّعون - خلافاً لماركس - أنّ الدين أيضاً محكوم بهذه التثنية وكما أنّ الأخلاق والفن والأدب، وسائر الأُمور الثقافية في المجتمع الطبقي تنقسم إلى نظامين، لكل منهما مبعث خاص وموضع اجتماعي خاص: أحدهما يتبع الطبقة الحاكمة، والآخر الطبقة المحكومة، كذلك الدين فهو أيضاً ينقسم بدوره إلى نظامين وهناك في المجتمعات دينان بصورة دائمة: الدين الحاكم، وهو دين الطبقة الحاكمة والدين المحكوم، وهو دين الطبقة المحكومة.

فالحاكم دين الشرك، والمحكوم دين التوحيد والحاكم دين التفرقة، والمحكوم دين المساواة، والحاكم دين إقرار الوضع الموجود، والمحكوم دين الثورة ونقد الوضع الموجود والحاكم دين الجمود والسكون والسكوت، والمحكوم دين القيام والحركة والصراخ والدين الحاكم أفيون المجتمع، والمحكوم طاقة المجتمع.

إذن فما يقوله ماركس من أنّ الدين مطلقاً يتخذ مواقفه لصالح الطبقة الحاكمة، وضد الطبقة المحكومة، وهو الدين الوحيد الذي وجد حتى الآن على مسرح الحياة، وحكم في الشعوب ولا يصح في الدين المحكوم، أي دين أنبياء الله الذي لم تسمح الأنظمة الحاكمة له بالظهور والتجلّي والعرض على المجتمع.

وبذلك ردّ هؤلاء المثقفون على نظرية ماركس، التي تعتبر موقف الدين مطلقاً في صالح الطبقة الحاكمة، وظنّوا أنّهم بذلك قد انتقدوا نظريته ولم يتفطّنوا إلى أنّ ما ذكرناه أيضاً، وإن كان مخالفاً لنظرية ماركس وإنجلز وماو وسائر أئمّة الماركسية، إلاّ أنّه بنفسه تفسير ماركسي

١٨٢

ومادي للدين وهذا ممّا يدعو إلى القلق وهم لم يتفطنوا له قطعاً ؛ وذلك لأنّهم - على كلّ تقدير - قد افترضوا للدين المحكوم أيضاً مبعثاً طبقياً، وبذلك قبلوا قانون تطابق مولد الفكرة وموضعها الاجتماعي وبعبارة أُخرى سلّموا لا شعورياً بأنّ ماهية المذهب مادية، وكذا ماهية كل ظاهرة ثقافية، وسلّموا بضرورة التطابق بين مولد الظاهرة الثقافية وموضعها الاجتماعي ولكنّهم إنّما خالفوا ماركس والماركسية في اعترافهم بالدين الذي يكون مولده الطبقة المحرومة والمستثمرة، وموقفه الاجتماعي لصالحها وفي الواقع تمكّنوا بذلك من توجيه طريف للدين المحكوم من حيث اتخاذ الموضع، ولكن من حيث ماهية مولده وأنّها مادية طبقية فلا.

والنتيجة الحاصلة: أنّ دين الشرك والدين الحاكم المرتبط بالطبقة الحاكمة هو الدين التاريخي الوحيد الذي تحقق في الخارج، وأثّر في مسيرة الحياة ؛ لأنّ ضرورة التاريخ كانت لصالح تلك الطبقة، والقدرة الاقتصادية والسياسية تحت سلطتها، فبالضرورة كان الدين الذي يوجّه موضعها ثابتاً وحاكماً وأمّا دين التوحيد فلم يتمكّن من النفوذ في المجتمع، ولم يتمكّن من ذلك ؛ لعدم إمكان تقدم البناء العلوي على الأساس.

ولذلك فإنّ ثورات الأنبياء التوحيدية ثورات محكومة وفاشلة في التاريخ، ولم يمكن لها غير ذلك، فالأنبياء جاءوا بدين التوحيد ودين المساواة، ولكن لم يمض زمان طويل حتى برز دين الشرك تحت ستار التوحيد، واستمر في الحياة باسم تعاليم الأنبياء، وأخذ يتغذّى

١٨٣

بتعاليمهم بعد تحريفها ؛ وبذلك أصبح أقوى من ذي قبل، وأقدر أسر الطبقة الكادحة.

فالواقع أنّ الأنبياء حاولوا أن يخفّفوا من مآسي الناس، ولكن ما جاءوا به أصبح في النتيجة مصيبة فوق المصائب، حيث اتخذته الطبقة المخالفة وسيلة لزيادة الضغط على المحرومين والمستثمرين فما أراد الأنبياء أن يحقّقوه بتعاليمهم القيّمة لم يتحقق، وما تحقق خارجاً مغاير لما أرادوه وبتعبير الفقهاء: ( ما قُصد لم يقع وما وقع لم يُقصد ).

إنّ ما يقوله الماديون المخالفون للدين من أنّ الدين أفيون الشعوب، ووسيلة للتخدير، وعامل للجمود والركود، وموجّه للظلم والتمييز، وأنّه يحمي الجهل ويسحر الجماهير، صحيح بالنسبة إلى الدين الحاكم، دين الشرك والتمييز الذي تمكّن من امتطاء التاريخ، وخطأ بالنسبة إلى الدين الحقيقي، دين التوحيد، دين المساكين والمستضعفين المطرودين من مسرح الحياة والتاريخ باستمرار.

ولكنّ الدين المحكوم لم يلعب دوراً في الحياة إلاّ في حدود المعارضة والنقد، مثلما لو تمكّن حزب في المجلس التشريعي من كسب الأكثرية، وبالتالي تشكيل الدولة من أعضائها، وتنفيذ برامجها وتحقيق أهدافها، ولكنّ الحزب الآخر وإن كان أكثر منه تقدّماً ورقاءاً، إلاّ أنّه يبقى دائماً في الأقلية، فإنّه لا يمكن أن يعمل شيئاً سوى المعارضة والنقد ولكنّ حزب الأكثرية لا يصغي إلى هذا النقد، فهو يدير المجتمع كيفما شاء، وربّما يستفيد من معارضة الأقلية ونقدها في سبيل تحكيم مواضعه إذ لولا هذا النقد لأمكن أن يسقط بسبب الضغط المتواصل ،

١٨٤

فهذه المعارضة تدق أجراس الخطر، فينتبه حزب الأكثرية ويصلح أخطائه، وبذلك يقوّي موضعه.

هذا، ولكن هذا التقرير غير صحيح، لا من جهة تحليل ماهية دين الشرك، ولا من جهة تحليل ماهية دين التوحيد، ولا من جهة الدور الذي أدّاه كل منهما ولا شك أنّ الدين كان موجوداً في العالم دائماً، إمّا دين التوحيد، أو دين الشرك، أو كلاهما معاً، واختلف علماء الاجتماع في أنّ أيّهما كان أسبق، والغالب يقولون بأنّ دين الشرك كان سابقاً، وبالتدريج تطوّر الدين وتكامل حتى وصل إلى مرحلة التوحيد وقال بعضٌ بعكس ذلك والروايات الدينية بل بعض القواعد الدينية تؤيّد النظرية الثانية وأمّا أنّ دين الشرك - على كل تقدير - بأيّ سبب حدث ؟ وأنّه هل كان في الواقع وسيلة لتوجيه الظلم والتمييز على أيدي ظلمة التاريخ، أم أنّ لحدوثه سبباً آخر، فقد وقع موضع البحث لدى المحققين، وقد ذكروا له عللاً أُخرى أيضاً، فلا يمكن التصديق بكل بساطة بأنّه مولود الظلم الاجتماعي وأمّا تحليل دين التوحيد بأنّه موجّه لأهداف الطبقة المحرومة المعارضة للتمييز، والمطالبة بالوحدة والإخاء فهو أبعد عن العلم من التحليل الأوّل، مضافاً إلى أنّه لا يناسب التفكير الإسلامي.

إنّ هذا التقرير يعتبر أنبياء الله الكرام مبرّئين من التهمة، ولكنّهم مغلوبون في أمرهم، ومقهورون أمام الباطل في طول التاريخ، ولم يتمكّن دينهم من النفوذ في المجتمع حتى يستطيع إحراز سهم في توجيه المجتمع حائز للأهمية، ممّا يقارب سهم الدين الباطل الحاكم - على الأقل - فلم يكن له دور أكثر من النقد والاعتراض على الدين الحاكم وأمّا أنّهم مبرّؤون فلأنّهم - خلافاً لما يدّعيه المادّيون - ليسوا في جانب الطبقة

١٨٥

المستثمرة والغاصبة، ولا من عوامل الجمود والركود، ولم يتخذوا موقفاً لصالح تلك الطبقة، بل كانوا بالعكس في جانب الطبقة المستضعفة والمستثمرة، مستشعرين آلامها، ومبعوثين من صميمها، وجادّين في سبيل مصالحها وإعادة حقوقها المغتصبة وكما أنّ الأنبياء الكرام مبرّؤون من حيث روح الدعوة والشريعة، أي موقفهم وموضعهم الاجتماعي، كذلك هم مبرّؤون تماماً من حيث مغلوبيتهم أمام الباطل، بمعنى أنّهم غير مسؤولين تجاه ذلك ؛ لأنّ ضرورة التاريخ الناشئة من الملكية الخاصة كانت تحمي الجانب الآخر فبروز الملكية الخاصة في المجتمع قسّمه بالجبر والضرورة إلى نصفين: مستثمِر ومستثمَر، والنصف المستثمِر المالك للإنتاج المادي كان مالكاً للإنتاج المعنوي لزاماً، ولا يمكن مصارعة الضرورة التاريخية التي هي التعبير المادي للقضاء والقدر قضاء وقدر من إله الأرض لا إله السماء، والإله المادي لا الإله المجرّد، أي تلك القدرة الحاكمة المسمّاة بالعامل الاقتصادي الأساس في المجتمع، والتي تعدّ وسائل الإنتاج محرّكه الرئيسي.

إذن فالأنبياء لم يكونوا مسؤولين عن انهزامهم أمام الباطل ولكنّ هذا التقرير مع أنّه يحتوي على تبرئة الأنبياء، يتضمّن أيضاً تخطئة النظام الواقعي في الكون، وهو ما يعبّر عنه بنظام الخير ونظام الحق، وأنّ الخير غالب على الشر، فالإلهيّون حيث إنّهم ينظرون إلى النظام بحسن النية يدّعون أنّ نظام الكون نظام مستقيم، ونظام حق، ونظام خير وأمّا الشرّ والباطل والانحراف فهي وجودات عرضية وطفيلية ومؤقّتة وغير أصيلة ومحور نظام الكون ومدار النظم

١٨٦

الاجتماعي للبشر هو الحق:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) (١) وحول صراع الحق والباطل، فيقولون: إنّ الحق هو المنتصر( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٢) ويقولون: إنّ التأييد الإلهي ظهير للأنبياء الكرام:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (٣) ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (٤) .

ولكنّ التقرير السابق لا يقبل هذه الأُصول، فالأنبياء والرسل والمصلحون القدامى في التاريخ وإن كانوا مبرّئين إلاّ أنّ إله الأنبياء مورد للتخطئة والنقد.

والواقع أنّ في المقام مشكلة، فمن جانب نجد أنّ القرآن يرينا صورة مستحسنة من المجرى العام للكون، فهو يصر على أنّ الحقّ هو محور الكون، ومدار الحياة الاجتماعية للإنسان والفلسفة الإلهيّة، أيضاً بموجب قوانينها الخاصة، تدّعي أنّ الخير والحق يترجّحان دائماً على الشر والباطل، وأنّ الشر والباطل وجودان عرضيّان طفيليان وغير أصليين ومن جانب آخر نجد أنّ دراسة التاريخ الماضي والحال تسبّب نوعاً من سوء الظن بالنظام الجاري في الكون، وتوهم أنّ نظرية القائلين بأنّ

____________________

(١) الرعد / ١٧.

(٢) الأنبياء / ١٨.

(٣) غافر / ٥١.

(٤) الصافات ١٧١ - ١٧٣.

١٨٧

مجموعة الكون بأسره مليئة بالفجائع والمظالم وغصب الحقوق، والاستثمار نظرية مقبولة، فماذا هو الحلّ ؟ هل إنّنا خاطئون في درك النظام الكوني، والنظام الاجتماعي للإنسان ؟ أم أنّنا مصيبون هناك، إنّما الخطأ في درك معاني القرآن، حيث نعتقد بأنّ القرآن ينظر إلى الكون والتاريخ باستحسان ؟ أم أنّنا غير خاطئين في الموضوعين، وأنّ هذا التناقض موجود فعلاً بين الواقع الخارجي والقرآن وأنّه غير قابل للحل ؟.

وقد بحثنا حول هذه المشكلة من حيث ارتباطها بالنظام الكوني في كتاب ( عدل الهي )، وقد انتهينا إلى حلّها والحمد لله وأمّا من حيث ارتباطها بمجرى التاريخ والحياة الاجتماعية للإنسان، فسنبحث عنه في أحد المباحث الآتية تحت عنوان ( صراع الحق والباطل ) وسنبيّن إن شاء الله وجهة نظرنا في حل هذه المشكلة وإنّا مستعدون لاستقبال وجهات النظر المختلفة بسرور إذا كانت مدعمة بالدليل.

المقاييس

إذا أردنا اكتشاف وجهة النظر الخاصة بمدرسة ما حول ماهية التاريخ، فبإمكاننا أن نستفيد من مجموعة من المقاييس، وبملاحظتها تمكن المعرفة الدقيقة لنظريات تلك المدرسة حول الحركات التاريخية، وماهية الحوادث التاريخية.

وبهذا الصدد نستعرض فيما يلي بعض المقاييس ممّا يخطر بالبال، ولعل هناك مقاييس أُخرى في هذا المضمار قد خفيت علينا.

وقبل استعراض المقاييس، واستنباط وجهة النظر الإسلامية على

١٨٨

أساسها لا بدّ من التنبيه على أنّ القرآن الكريم قد أشار - حسب رأينا - إلى بعض الأُصول التي تدل بالصراحة على أولوية العوامل المعنوية في المجتمع بالنسبة إلى العوامل المادية فقد ورد في القرآن كأصل من الأُصول قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (١) أي إنّنا لا نغيّر الوضع و الحالة لمجتمع حتى يغيّروا بأيديهم وإرادتهم وعزمهم كلّ ما يرتبط بسيرتهم وعملهم وبعبارة أُخرى: إنّ مصير الناس لا يتبدّل حتى يتبدل كلّ ما يرتبط بنفوسهم ومعنوياتهم بأيديهم فهذه الآية تنفي بالصراحة الجبر الاقتصادي في التاريخ.

ومع ذلك فإنّا نستعرض بعض المقاييس وبموجبها نستنتج النظرية الإسلامية.

١ - إستراتيجية الدعوة.

إنّ كل مدرسة تحمل رسالة اجتماعية، وتدعو الناس إلى الإيمان بها لا بد لها من اتخاذ طريقة خاصة لها، ترتبط من جانب بأهدافها الرئيسة، ومن جانب آخر بتفسيرها الخاص لماهية الحركات التاريخية فالدعوة في كل مدرسة هي نوع توعية للجماهير، وضغط على محركات خاصة لإيجاد الحركة فيهم.

فمثلاً المدرسة الإنسانية لأوغست كونت التي تدّعي نوعاً من المذهب العلمي، ترى جوهر التكامل البشري في الجانب الذهني منه، وتعتقد أنّ الإنسان في ذهنيته قد مرّ بمرحلتين: ( الأساطيرية والفلسفية )

____________________

(١) سورة الرعد، آية ١١.

١٨٩

ووصل إلى المرحلة العلمية ولذلك فهي ترى أن التعاليم الضرورية للمجتمع كلّها يجب أن تكون ممّا يسمى بالتعاليم العلمية، والحوافز التي تستخدم لإيجاد الحركة في الجماهير يجب أن تكون علمية أيضاً.

وهكذا الماركسية، التي هي الفرضية الثورية لطبقة البروليتاريا، لا تقدّم إلاّ التعاليم التي تؤثر في استشعار العمال بالتناقضات الطبقية، والحافز الذي تستعمله هو الشعور بالحرمان والغبن الاجتماعي، والعقد النفسية الناشئة منه.

والمدارس مضافاً إلى أنّها تختلف في تعاليمها، وحوافزها الاجتماعية، حسب اختلافها في نظرتها إلى المجتمع والتاريخ، تختلف أيضاً - بمقتضى اختلافها في تفسير التاريخ وتكامله، ووجهة نظرها حول الإنسان - في حدود تأثير الدعوة وعلاقتها باستخدام القوّة، وأنّ استخدامها هل يوافق الأُصول الأخلاقية أم لا فهناك بعض المدارس كالمسيحية تعتبر الطريقة السلمية للدعوة هي الوحيدة التي توافق عليها الأُصول الأخلاقية، وتعتقد أنّ استخدام القوّة بأي صورة وفي أي وضع مخالف للأخلاق ولذلك ورد في القرارات المقدسة لهذا الدّين أنّ أحداً إذا صفعك على الخدّ الأيمن فأعرض عليه خدّك الأيسر، وإذا سرق جبتك فسلّمه قبعتك، وبالعكس من ذلك تماماً نظرية ( نيتشه )، حيث إنّها تعتبر استخدام القوّة الطريقة الوحيدة أخلاقياً ؛ لأنّ كمال الإنسان في قوّته فأكمل أفراد الإنسان هو أقواهم وهو يعتقد أنّ الدين المسيحي دين العبودية والضعف والذلّة، والعامل الأساس لجمود الإنسان.

ويرى بعض آخر أنّ استخدام القوّة طريقة أخلاقية، ولكن لا مطلقاً فإنّ استخدام الطبقة المستثمرة قوّتها ضد الطبقة الكادحة عمل

١٩٠

غير أخلاقي ؛ لأنّه في اتجاه حفظ الوضع الحالي، وعامل للجمود ولكن استخدام الطبقة الكادحة قوّتها عمل أخلاقي ؛ لأنّه في اتجاه تغيير المجتمع وتحويله إلى مرحلة أعلى وبعبارة أُخرى: هناك طبقتان في المجتمع في حالة صراع دائمية: إحداهما تلعب دور الأطروحة، والأخرى دور الطباق فالقوّة التي تستخدم في دور الأطروحة - بمقتضى كونها رجعية - غير أخلاقية، والتي تستخدم في دور الطباق أخلاقية، لأنّها ثورية وتكاملية ولا شك أنّ هذه القوّة التي تعتبر أخلاقية هنا، ستكون في مرحلة أُخرى مواجهة لقوّة تلعب دور الطباق لها، وآنذاك ستكون قوّة رجعية، والقوّة الرقيبة الجديدة أخلاقية ؛ ولذلك فإنّ الأخلاق أمر نسبي، وما يكون في مرحلة أخلاقياً سيكون في مرحلة أعلى وأكمل مخالفاً للأخلاق.

إذن فمن وجهة النظر المسيحية تنحصر علاقة المدرسة بالمخالفين - الذين هم في نظر هذه المدرسة في اتجاه مخالف للتكامل - في الدعوة بالمسالمة والعطف وهذه هي العلاقة الوحيدة التي توافق عليها الأخلاق ومن وجهة نظر ( نيتشه ) العلاقة الأخلاقية الوحيدة هي علاقة القوي بالضعيف فلا شيء أعلى في مدارج الأخلاق من القدرة ولا شيء أدون من الضعف، ولا جريمة أفظع ولا ذنب أقبح من الضعف ومن وجهة النظر الماركسية فالعلاقة بين الطبقتين المتناقضتين اقتصادياً لا يمكن أن تكون إلاّ علاقة القهر واستخدام القوّة، إلاّ أنّ استخدامها من جانب الطبقة المستثمرة غير أخلاقية ؛ لأنّه يناقض التكامل، ولكنّها من جانب الطبقة الكادحة أخلاقية وبعد ذلك لا كلام في أنّ علاقة كل قوّة جديدة بالقوّة القديمة علاقة الصراع دائماً، وهو موافق للأصول الخلقية دائماً أيضاً.

١٩١

وأمّا الإسلام فيدين جميع النظريات السابقة فالخلق الكريم لا ينحصر - كما تدّعيه المسيحية - في العلاقات السلمية والدعوة باللطف والصلح والإخلاص والحب ونحو ذلك، بل قد يكون استخدام القوة من الخلق الكريم أيضاً ؛ ولذلك فإنّ الإسلام يعتبر النضال ضد الظلم والاعتداء نضالاً مقدساً، ويعتبره مسؤولية وتكليفاً، ويجوز الجهاد وهو عبارة عن الكفاح المسلح في أوضاع خاصة.

وأمّا نظرية ( نيتشه ) فمن البديهي أنّها تافهة، ولا إنسانية، ومخالفة للتكامل.

وأمّا النظرية الماركسية فتبتني على رأيها في ميكانيكية حركة التاريخ والإسلام يرى أنّ استخدام القوة ضد الطبقة المعارضة للتكامل - خلافاً للنظرية الماركسية - في مرحلة متأخّرة وقبل ذلك لا بد من استعمال الحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى:( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) فاستخدام القوة إنّما توافق عليه الأُصول الأخلاقية إذا تجاوزنا مرحلة الإقناع الفكري بالحكمة ( البرهان )، ومرحلة الإقناع النفسي بالموعظة ( التذكير )، ولم تحصل النتيجة المطلوبة منهما.

ومن هنا فإنّ الأنبياء الذين قاموا بالجهاد المسلح اجتازوا المرحلة الأُولى من رسالتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وربّما بالجدال والبحث أيضاً وحيث لم يحققوا بذلك هدفهم أو لم يحققوه تماماً، بل كانوا يصلون غالباً إلى هدف نسبي ؛ جوّزوا آنذاك النضال والجهاد، واستخدام القوة والأساس في ذلك أنّ الإسلام يفكر تفكيراً معنوياً لا مادياً، فهو يرى للبرهان والدليل والوعظ والنصيحة قوة هائلة وبعتبير ( ماركس ) يرى في سلاح النقد قوة، كما في النقد بالسلاح، فيستفيد من

١٩٢

هذه القوة ولا شك أنّه لا يعتقد أنّها القوة الوحيدة التي يجب أن تستخدم.

وممّا ذكرناه من أنّ الإسلام يرى أنّ النضال مع الجبهة المعارضة للتكامل في مرحلة متأخّرة، وأنّ في البرهان والوعظ والجدال بالأحسن قوّة هائلة تبيّن النظرة المعنوية الخاصة للإسلام بالنسبة إلى الإنسان، ومن ثمّ إلى المجتمع والتاريخ.

ومن هذا العرض القصير تبيّن أنّ تعيين نوعية علاقة المدرسة بالجبهة المعارضة، وأنّها هل يجب أن تكون دعوة محضة، أو نضالاً محضاً، أو أنّ الدعوة في مرحلة سابقة والنضال في مرحلة متأخرة ( إنّ ذلك ) يبرز لنا نظرية المدرسة حول تأثير المنطق والنصيحة وحدود تأثيرهما، وكذلك نظريتها حول مجرى التاريخ ودور النضال فيه.

وأمّا الفصل الثاني من البحث، فهو في نوعية الوعي الجماهيري الإسلامي، والحوافز التي يستخدمها الإسلام في سبيل الدعوة.

أمّا في التوعية، فالإسلام يؤكّد في أوّل مرحلة على التذكير بالمبدأ والمعاد هذه هي طريقة القرآن وطريقة الأنبياء حسب رواية القرآن فالأنبياء دائماً يلفتون الأنظار إلى الأسئلة التالية ( من أين جئت ؟ وأين أنت ؟ والى أين تذهب ؟ ) والعالم أيضاً كيف وجد ؟ وفي أي مرحلة هو الآن ؟ وأي اتجاه يسلك ؟ فأول شعور بالمسؤولية يوجده الأنبياء هو الشعور بالمسؤولية تجاه كل الخليقة والكون، وأما الشعور بالمسؤولية الاجتماعية فهو جزء من الشعور بالمسؤولية أمام مجموعة الكون والخليقة وقد أشرنا سابقا إلى أنّ السور المكّيّة التي نزلت في السنين

١٩٣

الثلاثة عشر الأُولى من بعثة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلّما يكون فيها الحديث عن شأن غير التذكير بالمبدأ والمعاد(١) .

إنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأ دعوته بجملة ( قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا )، أي بدأ بحركة عقائدية وتطهير فكري صحيح أنّ أبعاد التوحيد وسيعة جدّاً، وأنّ جميع التعاليم الإنسانية مرجعها التوحيد بالتحليل، والتوحيد ينتهي إلى تلك التعاليم بالتركيب(٢) ولكن من الواضح أن المراد بهذه الجملة في بدو الدعوة لا يزيد على تمايل فكري وعملي، وخروج من العقائد والعبادات المشركة إلى التوحيد الفكري، والتوحيد العقائدي ولو فرضنا أن يكون المراد بها هذا المعنى الوسيع فإنّ الناس لم يلتفتوا إلى ذلك آنذاك.

هذه المعرفة الجذرية التي أثّرت في أعماق فطرة البشر، أوجدت لديهم نوعاً من الحميّة والعصبية في الدفاع عن العقيدة، والنشاط وبذل الجهد في توسيع الرقعة، حتى لم يأبوا عن بذل النفس والمال والمقام والأولاد في سبيله فالأنبياء كانوا يبتدئون بما يدعى هذا اليوم بالبناء العلوي ،

____________________

(١) ولكنّ بعض المسلمين، ممّن يدّعون بالمثقفين المعاصرين، أنكروا أساساً فيما كتبوه من التفسير على أكثر السور القرآنية أن يكون القرآن قد تعرّض لذكر المعاد، حتّى ولو في آية واحدة فكل ما ورد في القرآن من ذكر الدنيا يراد بها النظام الداني في الحياة، أي نظام التمييز والاستثمار وكل ما ورد فيه من ذكر الآخرة يراد بها النظام الأعلى، أي النظام الذي لا يكون فيه تمييز ولا تفاوت ولا استثمار، وتكون الملكية الخاصة قد قلعت جذورها تماماً وإذا كان هذا معنى الآخرة فالقرآن إذن قد أبطل الدّين منذ ألف سنة قبل تشكيل المدارس المادية.

(٢) راجع تفسير الميزان في ذيل آخر آية من سورة آل عمران.

١٩٤

ويصلون إلى ما يُدعى الأساس والجذر ففي مدرسة الأنبياء يتربّى الإنسان بحيث يكون متعلقاً بعقيدته ومسلكه وإيمانه أكثر ممّا هو متعلّق بمصالحة الشخصية فالواقع أنّ الأساس في هذه المدرسة هو الفكر والعقيدة، وأمّا العمل أي علاقة الإنسان بالطبيعة أو بمواهبه الطبيعية أو بالمجتمع، فهو البناء العلوي وكل دعوة دينية أو مذهبية يجب أن تكون دائماً كدعوة الأنبياء مذكّرة بالمبدأ والمعاد فالأنبياء كانوا يبعثون الحركة والنشاط في المجتمع بإيقاظ هذا الشعور، وتنميته في الإنسان، وإزاحة الغبار عن هذا الوجدان، ونشر هذه المعرفة، مع الاعتماد على رضا الله وأوامر الله وثوابه وعقابه فقد ورد في ثلاثة عشر مورداً من القرآن التنويه على رضوان الله وهذا تشجيع للمؤمنين في المجتمع بواسطة هذا الحافز المعنوي ويصح أن نطلق على هذه المعرفة، المعرفة الإلهية أو المعرفة الكونية.

والتعاليم الإسلامية في المرحلة الثانية هي التعاليم الإنسانية، أي تنبيه الإنسان على كرامته وشرفه في ذاته، وعلى عزّته ومجده الذاتيين فالإنسان في هذه النظرية ليس ذلك الحيوان الذي يقال عنه: إنّه كان قبل مئات الملايين من السنين كسائر الحيوانات، إلاّ أنّه في ميدان تنازع البقاء، ما زال يخون الآخرين ويظلمهم، حتى وصل إلى هذه الدرجة بل هو موجود فيه نفخة من الروح الإلهية، وقد سجدت له الملائكة، وهو مدعو دائماً من قبل العرش الأعلى وفي باطن هذا الموجود - بالرغم من ميوله الحيوانية والشهوانية نحو الشر والفساد - جوهر لطيف لا يلائم في ذاته الشر والظلم، وسفك الدماء، والكذب، والفساد والذلّة والحقارة، والتسليم للظلم والاستكبار، فهو مظهر العزّة والكبرياء( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) .

١٩٥

وقال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( شرف المرء قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس ) وقال عليعليه‌السلام لأصحابه في صفّين: ( الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين ) وقال الحسينعليه‌السلام : ( لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ) وقالعليه‌السلام : ( هيهات منّا الذلّة ) وهذا كله تأكيد على الشعور بالكرامة والشرف الذاتي الموجود في كل إنسان بالفطرة.

وتأتي في المرحلة الثالثة من التعاليم الإسلامية معرفة حقوق الإنسان والمسؤوليات الاجتماعية وهناك في القرآن عدّة موارد تُثار فيها الحركة والنشاط في أفراد بسبب غصب حقوقهم أو حقوق الآخرين.

قال تعالى:( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (١) .

فهذه الآية الكريمة استندت في إثارة الناس للجهاد إلى أمرين من القيم الروحية والمعنوية، إحداهما أنّه في سبيل الله، والآخر أنّه إنقاذ لأولئك الناس المستضعفين المضطرّين المأسورين في قيود الظالمين.

وقال تعالى في سورة الحج:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا

____________________

(١) النساء ٧٥.

١٩٦

بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمور ) (١) .

فهذه الآيات وإن بدأت بالتنبيه على أنّ الإذن بالجهاد والدفاع يستند إلى ضياع حقوق المجاهدين، ولكنّها في نفس الوقت اعتبرت فلسفة الدفاع أمراً أرقى وأثمن من ذلك، وهي أنّه لولا الجهاد والدفاع، ولولا حركة المؤمنين لتوقّفت المعابد والمساجد - وهي قلوب الحياة المعنوية في المجتمع - عن العمل.

وقال تعالى في سورة النساء:( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (٢) ومن الواضح أنّ هذا نوع من الإثارة للمظلوم.

وقال تعالى في سورة الشعراء بعد نقد أباطيل الشعراء وتخيّلاتهم:( إِلاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) (٣) .

هذا والقرآن والسنّة وإن اعتبروا استعادة الحقوق وظيفة واجبة، والتسليم للظلم من أقبح الذنوب، إلاّ أنّ ذلك باعتبار كونها من القيم الإنسانية، فالملحوظ هو الجانب الإنساني والقرآن لا يعتمد أبداً على إثارة العقد النفسية والشهوات والميول، فلا يقول مثلاً: ( إنّ قوم كذا أكلوا وشربوا وتلذّذوا فلماذا لا تلحقون بهم . ) فالإسلام لا يسمح فيما لو غصب مال أحد أن يتهاون في طلب ماله بعذر أن الشؤون المادية لا قيمة لها، كما لا يسمح بالسكوت إذا اعتدى على عرضه فلا يغار بتوهّم أنّ ذلك ينشأ من الشهوة، بل يعتبر الدفاع عن ذلك واجباً حتمياً

____________________

(١) الحج: ٣٩ إلى ٤١.

(٢) النساء: ١٤٨.

(٣) الشعراء: ٢٢٧.

١٩٧

ويعد المقتول دون أهله وماله شهيداً ولكنّه إذا أثار حميّة الإنسان للدفاع عن ماله فهو لا يدعو إلى الحرص والطمع، بل إلى الدفاع عن الحق وإذا أوجب عليه الدفاع عن عرضه فليس ذلك من أجل الاهتمام بالشهوة الجنسية، بل من أجل الدفاع عن أهم نواميس المجتمع، وهو العفاف الذي جعل الرجل حارساً عليه.

٢ - العنوان المدرسي

كل مدرسة تمنح أتباعها عنواناً خاصاً تميّزهم به فإذا كانت النظرية تبتني على أساس عنصري فأتباعها يتميزون بفارق عنصري، ويشكّلون مجموعة اعتبارية تحت عنوان العنصر الخاص، كالبيض مثلاً فإذا قال أحد من أتباع تلك النظرية: ( نحن ) يعني بهم الطائفة البيض والنظرية الماركسية - مثلاً - حيث إنّها نظرية عمّالية تميّز أتباعها بعنوان العامل، وتمنحهم هذه الهوية، و( نحن ) عندهم يعني العمّال والكادحين والدين المسيحي يميّز معتنقيه بالتبعية لفرد خاص، فكأنّهم لا يهتمون بهدف ولا طريق، فالهوية الجماعية لهم تتمثل في التبعية للمسيحعليه‌السلام كفرد.

ومن مميّزات الإسلام أنّه لا يرضى لنفسه ولا لأتباعه أي عنوان عنصري، أو طبقي، أو صنفي، أو محلّي، أو منطقي، أو فردي فالمعتنقون للإسلام لا يتميّزون عن غيرهم بعنوان كعنوان العرب أو الساميين، أو الفقراء أو الأغنياء أو المستضعفين، أو البيض أو السود، أو الآسيويين أو الشرقيين أو الغربيين، أو المحمدييّن أو القرآنيين أو أهل القبلة ونحو ذلك ولا شيء من هذه العناوين يعتبر ملاكاً للجماعة، أو ملاكاً للوحدة الواقعية لأتباع الدين الإسلامي فحينما تلاحظ هويّة المدرسة

١٩٨

الإسلامية وهويّة أتباعها تترك هذه العناوين، وتلقى إلى جانب، وإنّما يبقى شيء واحد، وهو نوع من الارتباط، أي ارتباط هذا ؟ ارتباط الإنسان بربّه، وهو معنى الإسلام، أي التسليم لله فالأُمّة المسلمة أُمّة سلّمت نفسها لله، وسلّمت للحقيقة والوحي والإلهام النازل من سماء الحقيقة على قلب أصلح البشر لهداية الإنسان إذن فما هي الهوية الواقعية للمسلمين، وما هو المراد ب- ( نحن ) عندهم، وأي نوع من الوحدة يمنحهم هذا الدين، وأي عنوان يسمهم به، وتحت أيّة راية يجمعهم ؟

الجواب: أنّ الإسلام هو التسليم للحقيقة ومناط الوحدة لكل مدرسة طريق مأمون لمعرفة أهدافها وتفسيرها للإنسان والتاريخ والمجتمع.

٣ - موجبات تأثير الدعوة وموانعه:

قلنا فيما سبق: إنّ النظريات تختلف في ميكانيكية حركة التاريخ فمنها أنّ الميكانيكية الطبيعية للحركة تنشأ من ضغط طبقة على طبقة، وكون بعض الطبقات رجعية بالذات، وبعضها الآخر ثورية بالذات.

ومنها أنّ الميكانيكية أساساً تكمن في الفطرة الذاتية للبشر التي تسوّقه نحو الكمال والتقدم ومنها نظريات أُخرى ومن الواضح أنّ كل مدرسة تنظّم حوافز دعوتها وروادعها طبقاً لنظريتها في ميكانيكية الحركة فالمدرسة التي تعتقد أنّ ميكانيكيتها تكمن في ضغط طبقة على طبقة أُخرى، ربّما تجد أنّ المجتمع لا يحتوي على المضايقات بالمقدار الكافي لإيجاد الحركة، فيضطر أصحاب تلك النظرية إلى إيجاد المضايقات لتحدث الحركة قال ماركس في بعض آثاره: ( إنّ وجود طبقة من العبيد شرط ضروري لوجود طبقة من الأحرار ) وختم بيانه هذا بقوله: ( ونتساءل كيف يمكن تحرير الشعب الألماني ؟ والجواب أنّه لا بد من تشكيل طبقة

١٩٩

مكبّلة بالقيود تماماً )(١) مثل هذه المدرسة تعتبر الإصلاحات حجر عثرة أمام تقدّمها ؛ لأنّ الإصلاحات تخفّف من الكبت وذلك يمنع الانفجار، أو يؤخّره على الأقل ولكن المدرسة التي تعتمد في حركة المجتمع على فطرة البشر الذاتية، فلن تفتي بضرورة إيجاد القيود لطبقة خاصة ؛ إذ لا يرى الضغط شرطاً ضرورياً في التكامل، ولا الإصلاحات مانعاً عن تقدمها.

وأمّا الإسلام فيعتمد في بيان موجبات تأثير دعوته وموانعه على الفطرة فقد ورد في القرآن البقاء على الطهارة الأولية كشرط لقبول الدعوة، قال تعالى( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) (٢) وورد أيضاً شرط آخر وهو الخوف والحذر الناشئان من الشعور بالمسؤولية تجاه الكون( يخشون

____________________

(١) ماركس وماركسيسم ص٣٥ ( الأصل والتعليقة ) ويتبيّن من هذا الكلام وجه للمناقشة في النظرية الماركسية القائلة: بأنّ الاستبداد والديكتاتورية إذا كانت من قبل الطبقة الكادحة فهي من مكارم الأخلاق ؛ لأنّها في مسير التكامل، ولها دور أساسي في تقدّم المجتمع وإذا كانت من الطبقة المستثمرة المستكبرة فهي تنافي الأخلاق ؛ لأنّها من عوامل ركود المجتمع ؛ وذلك لأنّ ضغط الطبقة المستثمرة يؤثّر في تكامل المجتمع بمقدار ما يؤثّر فيه ردّ فعل الطبقة الكادحة حسب نظرية ماركس إذن فلا بدّ من أن يكون الاستثمار أخلاقياً بقدر ما يكون نضال الطبقة الكادحة أخلاقياً إنّما الفرق بينهما أنّ وجهة إحدى الطاقتين نحو المستقبل، ووجهة الأُخرى نحو الماضي وهذا لا تأثير له في تكامل المجتمع ومن الواضح أنّ اختلاف الوجهة في العمل ليس مناطاً للأخلاق حسب نظرية ماركس ؛ لأنّه يقتضي أن يكون العمل الذهني ( النيّة ) مناطاً للأخلاق وهذا في رأي الماركسية نوع من المثالية.

(٢) البقرة ٢.

٢٠٠