المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 64732
تحميل: 15869

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64732 / تحميل: 15869
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام والمادّيّة التاريخية

هل تقبل الإسلام فكرة المادية التاريخية ؟

هل يقوم منطق القرآن في تحليل القضايا التاريخية على أساس المادية التاريخية ؟

ذهبت فئة إلى الإجابة عن هذين السؤالين بالإيجاب، وقالوا إنّ القرآن طرح هذه الفكرة قبل ماركس بألف عام، ولعلّ أول مَن تبنّى هذه المسألة الدكتور علي الوردي العراقي، الذي عُرف بكتاباته المثيرة واليوم، فإنّ هذه الفكرة سائدة بين فئة من الكتّاب المسلمين المصرّين على التظاهر بالتجدّد والعصرية.

نحن نعتقد أنّ هذه الفئة إمّا أن لا تفهم الإسلام أو لا تفهم المادية التاريخية، أو لا تفهمهما معاً الفرد المطّلع على منطق الإسلام يستطيع بعد تعرّفه على الأسس الخمسة والنتائج الست للمادية التاريخية، أن يفهم التناقض الموجود بين المنطق الإسلامي والمادية التاريخية.

هذا الاتجاه الفكري في فهم المجتمع والتاريخ يشكّل - في اعتقادنا - خطراً كبيراً على الفكر الإسلامي، خاصة إذا اتّخذ طابعاً إسلامياً

٢٢١

زائفاً من هنا نرى من الضروري دراسة المسائل التي تُثير شبهة تبنّي الإسلام للاقتصاد باعتباره البناء التحتي للمجتمع، وتبنّي التفسير المادي للتاريخ.

الفئة المذكورة من الكتّاب اكتفت في استدلالها بذكر بضع آيات وأحاديث، لكننّا سنطرح في هذا الفصل ما يمكن أن يثير هذه الشبهة على نطاق أوسع ؛ كي يكون بحثنا شاملاً كاملاً في هذا الحقل:

الشبهة الأُولى:

القرآن الكريم طرح مفاهيم اجتماعية عديدة، ذكرنا في بحث - المجتمع - ما يقارب من خمسين كلمة من الألفاظ الاجتماعية في القرآن الكريم.

وعند دراسة الآيات القرآنية التي استعملت تلك الكلمات يبرز أمامنا نوع من الثنائية في النظرة القرآنية للمجتمعات.

فالقرآن يطرح هذه الثنائية تارة على أساس مادي . أي على أساس التمتّع بالنعم المادية والحرمان منها فأحد القطبين يطلق عليه أسماء خاصة مثل: الملأ والمستكبرين والمسرفين والمترفين، ويطلق على القطب الثاني أسماء أُخرى مثل: المستضعَفين والناس والأراذل والأرذلين(١) ، ويعتقد بتعارض هذين القطبين.

ومن جهة أُخرى، يعرض القرآن نوعاً آخر من الثنائية في المجتمع على أساس المفاهيم المعنوية، أحد القطبين يمثّله الكافرون

____________________

(١) هذا التعبير القرآني يطلقه القرآن على لسان المعارضين طبعاً.

٢٢٢

والمشركون والمنافقون والفاسقون والمفسدون، والقطب الآخر يمثله: المؤمنون والموحّدون والمتّقون والصالحون والمصلحون والمجاهدون والشهداء.

ولو أمعنا النظر في هاتين الثنائيتين ؛ لرأينا في القرآن الكريم نوعاً من الانطباق بين القطب المادي الأول والقطب المعنوي الأول، وهكذا بين القطب المادي الثاني والقطب المعنوي الثاني بعبارة أُخرى: سنجد أنّ الكافرين والمشركين والمنافقين والفاسقين هم أنفسهم: الملأ والمستكبرون والمسرفون والمترفون والطواغيت، لا غيرهم وهكذا سنجد المؤمنين والموحدين والصالحين والمجاهدين هم: المستضعفين والفقراء والمساكين والأرقّاء والمظلومين والمحرومين أنفسهم لا غير.

وهذا يعني أنّ المجتمع ينطوي على قطبين لا أكثر: المترفين والظالمين والمستغلين وهم الذين يشكّلون فئة الكافرين . والمستضعفين الذين يشكلون مجموعة المؤمنين كما يعني أنّ تقسيم المجتمع إلى مستكبر ومستضعف هو الذي خلق تقسيم المجتمع إلى كافر ومؤمن، فالاستكبار منطَلَق الشرك والنفاق والكفر والفسق والفساد، والاستضعافُ منطَلَق الإيمان والتوحيد والصلاح والتقوى والإصلاح.

من أجل أن يتضح هذا الانطباق تكفي مراجعة سورة الأعراف من الآية التاسعة والخمسين:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ . ) إلى الآية السابعة والثلاثين بعد المئة:( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا . ) ، وهذه الآيات الأربعون استعرضت باختصار قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، وفيها جميعاً ( عدا قصة لوط ) نشاهد أتباع الأنبياء ينتمون إلى فئة المستضعفين ،

٢٢٣

والطبقة التي ناهضتهم ووقفت بوجههم تتكوّن من الملأ والمستكبرين(١) .

هذا الانطباق لا نستطيع أن نجد له تفسيراً ودليلاً سوى الشعور الطبقي، وهذا الشعور يلازم المادية التاريخية ويستلزمها، فالمجابهة بين الإيمان والكفر هي في نظر القرآن - إذن - انعكاس عن المجابهة بين المستضعفين ( بفتح العين ) والمستضعِفين ( بكسر العين ).

القرآن يصرّح بأنّ الملكية والثروة التي يعبّر عنها القرآن بكلمة ( الغنى ) تبعث على الطغيان، أي التمرّد على تعاليم الأنبياء:( إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ) (٢) .

ونرى القرآن كذلك يعرض قصة قارون ليبيّنّ أثر الملكية السيئ، فقارون كان سبطياً لا قبطياً، أي من الفئة التي كان فرعون قد استضعفها وهذا الفرد المستضعف ذاته تمرّد على قومه وطغى عليهم حينما أُتيحت له فرصة الغنى والإثراء:( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) (٣) .

ممّا سبق يتضح أنّ الأنبياء ثاروا ضد الطغيان، أي إنّهم ثاروا في الحقيقة بوجه المثرين والمالكين، والقرآن يصرّح أنّ أئمّة الجبهة المعارضة

____________________

(١) راجع أيضاً سورة الكهف، الآية ٢٨ بشأن أتباع خاتم النبيين وسورة هود، الآية ٢٧ والشعراء، الآية ١١١ بشأن أتباع نوح وسورة يونس، الآية ٨٣، حول أتباع موسى والأعراف، الآيات ٨٨ - ٩٠، حول أتباع شعيب والأعراف، الآيتين ٧٥ و ٧٦ بشأن أتباع صالح ونكتفي بالإشارة إلى هذه الآيات تجنباً للإطالة.

(٢) العلق: ٧.

(٣) القصص: ٧٦.

٢٢٤

للأنبياء كانوا من المترفين أي الغارقين في الترف والنعيم:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) (١) .

جبهة الأنبياء والجبهة المعارضة، أو بعبارة أُخرى جبهتا الإيمان والكفر انعكاس عن المواجهة بين طبقتين اجتماعيتين هما: الطبقة المستضعَفة والطبقة المستضعِفة.

الشبهة الثانية:

القرآن يتوجّه في خطابه إلى الناس، والناس هم جماهير الشعب المحرومة، وهذا الاتجاه يدل على اعتراف القرآن بالشعور الطبقي، وعلى اعتباره الطبقة المحرومة هي الطبقة الوحيدة المؤهّلة للدعوة الإسلامية، ويدل أيضاً على أنّ منطلق الإسلام طبقي واتجاهه طبقي، أي إنّه دين المحرومين والمستضعِفين، كما أنّ الإيديولوجية الإسلامية تخاطب المحرومين والمستضعفين لا غيرهم وهذا دليل آخر على أنّ الإسلام يرى الاقتصاد بناءاً تحتياً للمجتمع، كما أنّه يؤمن بمادية هوية التاريخ.

الشبهة الثالثة:

القرآن يصرّح أنّ القادة والمصلحين والمجاهدين والشهداء، بل وحتى الأنبياء ينبثقون من بين عامة الجماهير لا من الطبقة المرفّهة المنعّمة، يقول القرآن حول نبي الإسلام:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ . ) (٢) .

____________________

(١) سبأ: ٣٤.

(٢) الجمعة: ٢.

٢٢٥

والأُمّيون هم المنسوبون إلى الأُمّة، والأُمّة هي الجماهير المحرومة.

وحول شهداء طريق الله يقول القرآن:( وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) (١) .

انبثاق قادة النهضات والثورات من بين الجماهير المحرومة، يعني ضرورة انطباق الموقف العقائدي والاجتماعي مع المكانة الاقتصادية والطبقية، وهذه الضرورة لا يمكن تفسيرها إلاّ على أساس مادية التاريخ، وعلى أساس اعتبار الاقتصاد بناءً تحتياً للمجتمع.

الشبهة الرابعة:

القرآن يؤكّد أنّ نهضة الأنبياء تتجه نحو البناء التحتي للمجتمع، لا نحو البناء الفوقي.

ويمكن الاستنباط من الآيات القرآنية أنّ هدف بعثة الأنبياء ورسالتهم هو إقامة العدل والقسط والمساواة الاجتماعية، وإزالة الفواصل الطبقية.

الأنبياء تحرّكوا دوماً من البناء التحتي الذي هو هدف بعثتهم ليصلوا إلى البناء العلوي، لا من البناء العلوي نحو البناء التحتي.

البناء الفوقي المتمثّل في العقيدة والإيمان والإصلاح والأخلاق والسلوك هو الهدف الثاني للأنبياء، وينشدونه بعد إصلاح البناء التحتي.

روي عن الرسول الأكرم أنّه قال: ( مَن لا معاش له لا معاد له ) وهذه العبارة تعني: تقدم المعاش على المعاد، وتقدم الحياة المادية على الحياة

____________________

(١) القصص: ٧٥.

٢٢٦

المعنوية، وارتباط الحياة المعنوية باعتبارها بناءً فوقياً بالحياة المادية باعتبارها بناءً تحتياً.

وقال الرسول أيضاً: ( اللّهمّ بارك لنا في الخبز، لولا الخبز ما تصدقنا ولا صلّينا ) وهذه العبارة تفرز نفس المفاهيم المذكورة.

واليوم، قد أُشيع بين الناس أنّ نشاطات الأنبياء كانت مقتصرة على مسائل البناء الفوقي، وكانوا يستهدفون دعوة الناس إلى الإيمان والصلاح والعقيدة والأخلاق والسلوك الحسن، ولم يكن لهم شأن بمسائل البناء التحتي، أو أنّ مسائل البناء التحتي كانت تأتي بالدرجة الثانية من الأهمية لهم، أو أنّهم كانوا يعتقدون أنّ كل الأُمور يتم إصلاحها تلقائياً حينما يؤمن الناس بالرسالة، وأنّ مظاهر العدالة والمساواة تستتب من تلقاء نفسها في المجتمع المؤمن، إذ سيتقدّم المستثمرون بأنفسهم ليعيدوا إلى المحرومين والمستضعفين حقوقهم، وبعبارة أُخرى: إنّ الأنبياء يحققون أهدافهم بسلاح العقيدة والإيمان، وأتباعهم ينبغي أن يسلكوا نفس هذا الطريق.

وهذه الإشاعة ليست إلاّ مكراً وخداعاً، ينشرها المستثمرون ورجال الدين المرتبطون بهم من أجل مسخ تعاليم الأنبياء، وهذا التضليل أضحى مقبولاً بين الأكثرية الساحقة من أبناء الأُمّة، وعلى حدّ قول ماركس: ( أولئك الذين يستطيعون أن يصدّروا إلى المجتمع بضاعة مادية، قادرون أيضاً أن يصدّروا إليه بضاعة فكرية أولئك الذين يحتلون مركز القيادة المادية للمجتمع، هم قادة المعنويات وأصحاب السلطة الفكرية أيضاً(١) .

____________________

(١) الإيديولوجية الألمانية.

٢٢٧

طريقة عمل الأنبياء كانت عكس ما تتصوّره الأكثرية اليوم، الأنبياء أنقذوا المجتمع أولاً ( من الشرك الاجتماعي، ومن التمييز الطبقي، ومن الاستضعاف والاستكبار، أي من جذور الشرك العقائدي والأخلاقي والسلوكي، ثم توصّلوا بعد ذلك إلى التوحيد الاعتقادي والتقوى الخلقية والعلمية ).

الشبهة الخامسة:

القرآن يضع منطق المعارضين للأنبياء مقابل منطق الأنبياء وأتباعهم، ويوضح أنّ منطق المعارضين كان دوماً منطق المحافظة والتقليد والرجعية، على العكس من منطق الأنبياء الذي يتّصف دوماً بالتجدد وكسر التقاليد، والتطلّع إلى المستقبل.

القرآن يوضح أنّ الفئة الأُولى تستعمل نفس المنطق الذي يمارسه المنتفعون من الأوضاع القائمة في المجتمعات الطبقية، كما تدل على ذلك الدراسات الاجتماعية، كما أنّ منطق الأنبياء وأتباعهم هو نفس منطق المحرومين والمسحوقين، كما تدل عليه دراسات علم الاجتماع أيضاً.

القرآن يؤكّد بشكل خاص على خصائص المنطقين، وما ذلك إلاّ لأنّ القرآن يريد أن يوضح أنّ المنطقين - تماماً مثل أصحابهما - كانا متجابهين على مرّ التاريخ، ويريد أن يضع المعيار الدائم في هذا المجال القرآن يعرض مشاهد متعددة للمجابهة بين المنطقين، ويستطيع الباحثون أن يراجعوا الآيات ٤٠ - ٥٠ من سورة الزخرف، والآيات ٢٣ - ٤٤ من سورة المؤمن، والآيات ٤٩ - ٧١ من سورة طه ،

٢٢٨

والآيات ١٦ - ٤٩ من سورة الشعراء، والآيات ٣٦ - ٣٩ من سورة القصص.

وعلى سبيل المثال نقرأ الآيات ٢٠ - ٢٤ من سورة الزخرف مع بعض التوضيح:( وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) .

في هذه الآيات نرى الجبهة المعرضة للأنبياء تتمسّك بمنطق الجبر والقضاء والقدر الجبري، وتدّعي أنّها فاقدة الاختيار ( لو شاء الرحمن ما عبدناهم )، وهذا المنطق هو منطق المنتفعين من الأوضاع السائدة، منطق الذين لا يريدون حدوث تغيير في الوضع القائم، فيبرّرون موقفهم بالقضاء والقدر.

وهذه الجبهة المعارضة تتشبّث أحياناً بالتقاليد الموروثة عن آبائهم، ويضفون على تلك التقاليد صفة القداسة( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) ، وهو نفس المنطق السائد بين المحافظين والمنتفعين من الأوضاع السائدة.

والأنبياء - مقابل ذلك - يتحدثون عن ( الأهدى ) أي الأكثر علمية وأكثر تحريراً وإنقاذاً:( قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ ) ، وهذا هو منطق الثوريين والكادحين والمسحوقين في الأوضاع السائدة.

٢٢٩

والجبهة المعارضة، حين تعجز عن إقامة الحُجّة والدليل، تقول كلمتها النهائية:( إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) لأنّ هذه الرسالة تشكّل خطراً على مكانتهم الاجتماعية والطبقية.

الشبهة السادسة:

وأوضح من كل ما سبق موقف القرآن من الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، فالقرآن يؤكّد أنّ هذا الصراع سينتهي بانتصار المستضعَفين، تماماً كما تؤكّد على ذلك المادية التاريخية استناداً إلى منطق الديالكتيك.

القرآن في موقفه هذا يشير في الحقيقة إلى الاتجاه الجبري والضروري للتاريخ، مؤكّداً أنّ الطبقة التي تحمل الصفات الثورية ذاتياً ستنتصر في نضالها مع الطبقة التي تفرض عليها مكانتها الطبقية أن تكون رجعية ومتحجّرة بالذات:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (١) ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسرائيل بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) (٢) .

وهذا المفهوم القرآني بشأن نهاية الصراع، ينطبق تماماً مع المبدأ الذي استنتجناه من المادية التاريخية ؛ إذ قلنا إنّ الخصلة الذاتية للاستثمار هي الرجعية والتحجّر، وهذه الخصلة محكومة بالفناء لا محالة ؛

____________________

(١) القصص: ٥.

(٢) الأعراف: ١٣٧.

٢٣٠

لأنّها ضد السنّة التكاملية للطبيعة، والخصلة الذاتية للطبقة المحرومة هي التنوّر والحركة والثورة، وهي خصلة منتصرة حتماً ؛ لأنّها منسجمة مع السنن التكاملية للطبيعة.

لا بأس أن ننقل هنا مقتطفاً من مقال نشرته أخيراً مجموعة من المثقفين المسلمين المتمركسين ( نسبة إلى ماركس ) على شكل كرّاس، وفي هذا المقال، ذُكرت الآية:( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ . ) ثم علّقوا عليها بما يلي:

( إنّ الذي يثير الانتباه أكثر من غيره، موقف الله، وكل مظاهر الطبيعة من مستضعفي الأرض لا شك أنّ المستضعفين في المفهوم القرآني هم الجماهير المحرومة المغلولة المعزولة جبراً عن دورها في تقرير مصيرها . انطلاقاً من هذا المفهوم، ومع الأخذ بنظر الاعتبار موقف الله، وكل مظاهر الوجود إزاء المستضعفين، أي الإرادة المطلقة المهيمنة على الوجود بشأن الامتنان عليهم، يُطرحُ هذا السؤال: تُرى مَن هم الذين يحققون هذه الإرادة الإلهية ؟

الجواب على هذا السؤال واضح، فحين ندرس تركيب المجتمعات بما تنطوي عليه من قطبين متصارعين هما: قطبا الاستضعاف والاستكبار، ونعلم من جهة أُخرى أنّ إرادة الله تتجه إلى إمامة المستضعفَين، ووراثتهم للأرض، وإلى تحطيم أنظمة الاستكبار وزوالها، نفهم أنّ المستضعَفين أنفسَهم وقادتهم والمثقفين الملتزمين، الذين نشأوا في أجوائهم، هم الذين يجسّدون الإرادة الإلهية.

٢٣١

بعبارة أُخرى: إنّ هؤلاء الرسل(١) والشهداء(٢) المنبثقين من بين المستضعَفين، هم الذين يقطعون الخطوات الأُولى في النضال مع الأنظمة الطاغوتية المستغلّة، خطواتٍ تمهّد الطريق أمام إمامة المستضعفين ووراثتهم للأرض.

هذا المعنى هو في الواقع انعكاس لمعرفتنا القرآنية عن الثورات التوحيدية والتطوّرات التاريخية(٣) أي إنّ الثورات التوحيدية تدور من وجهة النظر الاجتماعية حول محور إمامة المستضعَفين ووراثتهم للأرض، كما أنّ قادة هذه الثورات وطلائعها ينبغي أن ينبثقوا بالضرورة من بين المستضعَفين، وأن تكون منطلقاتهم الإيديولوجية ومكانتهم الاجتماعية هي ذات المنطلقات الفكرية والمكانة الاجتماعية للمستضعفين . )

وهذا القسم من المقال ينطوي على عدّة مواضيع:

أ - المجتمع في رأي القرآن يتكون من قطبين هما دوماً قطب المستضعِف والمستضعَف.

ب - إرادة الله ( وعلى حد تعبير أصحاب المقال: موقف الله وكل مظاهر الطبيعة ) تتجه نحو إمامة ووراثة المستضعَفين وكل المستثمَرين في

____________________

(١) في الحاشية أُشير إلى الآية الثانية من سورة الجمعة، وإلى الآية ١٢٩ من سورة البقرة، واستنتجوا منها أنّ الأنبياء انطلقوا من ( الأُمّة )، والأُمّة تعني الجماهير المحرومة.

(٢) في الهامش أُشير إلى الآية ٥٧ من سورة القصص:( وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) وفسّروا الشهيد بالمقتول في سبيل الله، قالوا: إنّ الشهداء ينبثقون دوماً من الأُمم والجماهير.

(٣) هؤلاء السادة يضفون على ما يدبّجونه اسم ( المعرفة القرآنية ) دون أن يجرأوا على التصريح بأنّهم يفرضون المادية التاريخية الماركسية على القرآن.

٢٣٢

التاريخ بشكل عام، سواء كانوا موحّدين أو مشركين أو وثنيين، أو مؤمنين أو غير مؤمنين أي إنّ كلمة ( الذين ) في الآية للاستغراق وتفيد العموم وسنّة الله تدور حول انتصار المستضعَفين وحول محور الاستضعاف فقط.

بعبارة أُخرى: إنّ الماهية الأساسية للنضال على مرّ التاريخ هي الصراع بين المحرومين والظالمين، وقوانين التكامل للعالم تتجه نحو انتصار المحرومين على الظالمين.

ج - إرادة الله تتحقق عن طريق المستضعفين أنفسهم، ومن الضروري أن يكون القادة والطلائع والأنبياء والشهداء من المستضعَفين، لا من القطب الآخر.

د - ثمّة انطباق قائم دوماً بين الموقف الفكري والاجتماعي والمكانة الطبقية للأفراد.

وهكذا نرى كيف أنّ الآية الكريمة يُستنبط منها عدّة مبادئ ماركسية حول التاريخ ! وكيف أنّ القرآن شرح أفكار ماركس، قبل ولادة ماركس بألف ومئتي عام !!

وما هي النتيجة من وراء كلّ هذه الاستنباطات ؟ هؤلاء السادة لهم جواب جاهز يتركّز على تحليل ثورة علماء الدين، يقولون: إنّ القرآن علّمنا أنّ قادة الثورات وروّادها هم بالضرورة من طبقة المستضعفين، واليوم نرى علماء الدين ( الذين يشكّلون أحد أقطاب الاستثمار الثلاثة ) قد غيّروا مواقفهم واتخذوا صفة الثورية فما هو السر في هذا التغيير ؟ لا بد أن تكون ثمّة مسألة وراء الكواليس وهذه المسألة هي

٢٣٣

إنّ النظام الحاكم(١) ألفى وجودَه معرضاً للخطر، فأوعز إلى علماء الدين التابعين له أن يتقمّصوا الثورية لإنقاذ النظام ! هذه هي نتيجة الفهم القرآني بل الماركسي الذي يتبجّح به هؤلاء وواضح مَن هو المنتفع من هذا الاستنتاج !

____________________

(١) أي نظام الشاه، والكرّاس المذكور صدر في عصر الطاغوت بإيران.

٢٣٤

نقد الفهم المادّي للإسلام

ما قيل عن نظرة القرآن إلى المادية التاريخية، إمّا أن يكون خاطئاً أساساً، أو صحيحاً مقروناً باستنتاج خاطئ وها نحن نناقش الشبهات السابقة على الترتيب:

أولاً: لا يمكن أن نستنتج من القرآن الكريم أي تطابق بين القطبين الماديين والقطبين المعنويين، بل الآيات القرآنية تفيدنا عدم وجود مثل هذا التطابق.

القرآن، في سرده للأحداث التاريخية، يعرض لنا مؤمنين برزوا من طبقة الملأ المستكبرين، وثاروا ضد طبقتهم وقيم طبقتهم.

ومن أمثلة ذلك: مؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون التي كانت شريكة فرعون في النِعَم(١) .

القرآن كرّر ذكر سحرة فرعون بشكل مثير، مؤكّداً أنّ الوجدان الفطري للإنسان، واندفاعه الفطري نحو الحق والحقيقة يدفعه إلى تجاوز الأخطاء والانحرافات، وإلى تحدّي تهديدات فرعون، وإن كان هذا التهديد يبلغ درجة قطع الأيدي والأرجل من خلاف.

____________________

(٢) التحريم: ١١.

٢٣٥

نهضة موسىعليه‌السلام هي أساساً تتنافى مع المادية التاريخية.

صحيح إنّ موسى كان من بني إسرائيل لكنه تربّى منذ طفولته في قصر فرعون، ونشأ نشأة الأُمراء، ثم ثار ضد النظام الذي نشأ وترعرع فيه، وتركه مُؤثراً حياة رعاة الأغنام حتى بُعث بالرسالة وواجه فرعون بشكل سافر الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في صغره يتيماً، ونشأ فقيراً، ثم استغنى بعد زواجه بخديجة والقرآن يشير إلى ذلك قائلاً:( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ؟ وفي فترة استغنائه ورفاهه لاذ بالخلوة والعبادة و كان ينبغي أن يكون في هذه الفترة - حسب نظرية المادية التاريخية - محافظاً ومدافعاً عن الوضع القائم، لكنّه في هذه الفترة بدأ بدعوته الثائرة ضد أصحاب الثروة والرقيق، وضد المرابين، وضد النظام الوثني القائم في مكّة المؤمنون والموحدّون وحملة مشعل ثورة التوحيد لم يكونوا دوماً من طبقة المستضعفين، والأنبياء كانوا ينتقون الأفراد ذوي الفطرة السالمة، أو الملوثة قليلاً حتى من الطبقات المستثمرة ويدفعونهم إلى الثورة على أنفسهم بالتوبة أو الثورة على طبقتهم، وطبقة المستضعفين لم تكن دوماً من زمرة المؤمنين وثوّار التوحيد.

القرآن يعرض مشاهد، يُدين فيها قسماً من المستضعفين، ويحشرهم في زمرة الكافرين والمستحقّين للعذاب الإلهي(١) .

فالمؤم

نون إذن ليسوا جميعاً من طبقة المستضعفين، وليس جميع المستضعفين من طبقة المؤمنين، وادّعاء هذا التطابق لا أساس له ،

____________________

(١) النساء: ٩٧، إبراهيم: ٢١، سبأ: ٣١ - ٣٧، غافر: ٤٧ - ٥٠.

٢٣٦

لكنّ الذي لا شك فيه أنّ أكثرية أتباع الأنبياء هم من الطبقة المستضعفة، أو هم على الأقل من الطبقة التي لم تستضعف الآخرين، وأكثر المعارضين للأنبياء هم من المستضعفين.

نعم، الفطرة الإلهية، التي تشكّل أرضية تقبّل الرسالة الإلهية، مشتركة في الجميع، لكنّ الطبقة المستثمرة والمسرفة والمترفة متورّطة بعقبة كبرى هي التلوث بوضعها الموجود والاعتياد عليه ينبغي على أفراد هذه الطبقة أن يحرّروا أنفسهم من ركام الانحراف، وقليل هم الأفراد الذين يستطيعون ذلك أمّا المستضعفون فليس أمامهم مثل هذه العقبة، بل إنّهم - إضافة إلى استجابتهم لنداء الفطرة - ينالون حقوقهم المغتصبة من هنا نرى أكثر أتباع الأنبياء من المستضعفين، وأكثر معارضيهم من غير المستضعفين أمّا مسألة التطابق بالشكل المذكور فلا واقع لها.

الأُسس التي تقوم عليها النظرة القرآنية للتاريخ تختلف عن أُسس المادية التاريخية.

في النظرة القرآنية، الروح لها أصالة وليس للمادة أي تقدّم عليها والاحتياجات المعنوية والدوافع المعنوية هي الأُخرى أصيلة في وجود الإنسان، وليست مرتبطة بالاحتياجات المادية والفكر أيضاً له أصالة مقابل العمل، والشخصية الفطرية النفسية للإنسان مقدمة على شخصيته الاجتماعية.

النظرة القرآنية تؤكّد أصالة الفطرة، وتعتقد أنّ الكائن الإنساني - مهما بلغ درجة من المسخ والانحراف، بل وحتى إذا بلغ مرحلة فرعون - يحمل في أعماقه فطرة إنسانية مغلولة مكبّلة، ولهذا يمكن لأكثر الأفراد مسخاً أن يتحرّك في اتجاه الحقّ والحقيقة، وإن ضعف هذا

٢٣٧

الامكان ولهذا أيضاً نرى الأنبياء يتّجهون بالموعظة أولاً إلى الظالمين رجاء تحرير فطرتهم المغلولة، وأملاً في انتفاض شخصيتهم الفطرية على شخصيتهم الاجتماعية الدنيئة ونحن نعلم أنّ هذا الهدف قد تحققّ في مواضع كثيرة في إطار التوبة.

موسىعليه‌السلام يُكلَّف في المرحلة الأُولى من دعوته لأن يذهب إلى فرعون، وأن يذكّره ويوقظ فطرته، ثم ليجابهه إن لم ينفع التذكير.

فرعون - كان في نظر موسى - موجوداً قد كَبَّلَ واسترقَّ إنساناً في داخل نفسه، كما كبّلَ واسترقَّ بني الإنسان في الخارج.

موسى يتجه بادئ ذي بدءٍ إلى تحرير الإنسان الأسير داخل فرعون . إلى إثارة فرعون الفطري، الذي هو انسان، أو قُل بقايا إنسان، ضد فرعون الاجتماعي الذي تبلور في المجتمع:

( اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) (١) .

القرآن يرى أنّ الهداية والإرشاد والتذكير والموعظة والبرهان والاستدلال المنطقي ( أو الحكمة على حدّ التعبير القرآني ) عوامل ذات قيمة وقوّة وتأثير، وقادرة على تغيير مسير الإنسان، وتبديل شخصيته، وإحداث ثورة معنوية في محتواه الداخلي.

القرآن لا يحدّ من دور الفكر والإيديولوجية، خلافاً للماركسية والمادية التي ترى دور التوجيه محدوداً بتصعيد الصراع الطبقي لا غير.

____________________

(١) النازعات: ١٧ - ١٩.

٢٣٨

ثانياً: القرآن خاطب ( الناس ) والناس هم عامة أفراد البشر، لا الطبقة المحرومة فقط كما زعم أصحاب المقال معاجم اللغة العربية لم تفسّر هذه الكلمة بالطبقة المحرومة، ولم يرد في كلام العرب ما يشير إلى هذا المفهوم للكلمة وفي القرآن تكرّرت مراراً عبارة( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) كما وردت كلمة ( الناس ) في الآية( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) وليس المقصود في جميعها المحرومين، بل عامة الناس.

وتعميم الخطاب القرآني ينطلق من نظرية الفطرة التي تقوم عليها النظرة القرآنية.

ثالثاً: الادّعاء أنّ القادة والأنبياء والطلائع والشهداء منحصرون بفئة المستضعفين، خطأ آخر في فهم النظرة القرآنية القرآن لم يقل هذا إطلاقاً.

ومن المضحك الاستدلال بالآية:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً . ) للاستنتاج أنّ الأنبياء انبعثوا من ( الأمّة ) والأمّة هي الجماهير المحرومة !!

كلمة الأُميّين في الآية منسوبة إلى الأم لا إلى الأمّة، وهي تعني غير الدارسين، ثم إنّ كلمة الأمّة لا تعني الجماهير المحرومة، بل تعني المجتمع بكل فئاته ومجموعاته.

أكثر من ذلك مهزلة استدلالهم بالآية ٧٥ من سورة القصص حول الشهداء:( وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) ففسّروا الشهيد أنّه المقتول في سبيل الله، وقالوا: إنّ الآية تعني أنّ الله يبعث في كل أمة شهيداً، أي فرداً ثائراً، ثم يقول للأُمم هاتوا برهانكم، أي

٢٣٩

هاتوا بشخصيتكم الثائرة المقتولة في سبيل الله.

وهذا التفسير للآية يتضمّن ثلاثة أخطاء:

١ - هذه الآية ترتبط بآية قبلها، وكلا الآيتين ترتبطان بيوم القيامة والآية السابقة لها هي:( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .

٢ - كلمة ( نَزَعنا ) في الآية لا تعني بعثنا وأثَرنا، بل فَصَلنا.

٣ - ( شهيداً ) في الآية لا تعني المقتول في سبيل الله، بل الشاهد على الأعمال، وهي صفة كل نبي، وليس في القرآن الكريم مورد واحد استعملت فيه كلمة ( الشهيد ) بالمعنى المتداول اليوم، أي المقتول في سبيل الله غير أنّ الكلمة بهذا المعنى وردت على لسان الرسول والأئمّة الأطهار، ولم ترد في القرآن.

وهكذا نرى كيف أنّ الآية تُمسخ مسخاً من أجل تبرير فكرةٍ ماركسية هزيلة.

رابعاً: هدف الأنبياء، تحدثنا عنه في حلقة ( النبوّة )(١) ولا حاجة إلى إعادته هنا، ونكتفي بالإشارة إلى طريقة دعوة الأنبياء.

ذكرنا في مباحث التوحيد العملي(٢) أنّ الأنبياء لم يحصروا اهتمامهم - كما يظن بعض المتصوّفة - بإصلاح ذات الإنسان عن طريق قطع ارتباطه بالخارج، ولم يكرّسوا جهودهم في نطاق إصلاح العلاقات

____________________

(١) ( الوحي والنبوّة ) الحلقة الثالثة من هذه السلسلة.

(٢) ( التصوّر التوحيدي ) الحلقة الثانية.

٢٤٠