المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 65068
تحميل: 15892

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65068 / تحميل: 15892
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخارجية بل عملوا في الحقلين معاً، والقرآن الكريم يبيّن الهدف في آية واحدة:

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) .

يبقى الحديث عن نقطة البدء، هل بدأ عمل الأنبياء من الداخل أم من الخارج ؟ هل بدأوا من تغيير المحتوى الداخلي عن طريق بثّ روح العقيدة والإيمان والمشاعر المعنوية في النفوس وتغيير الأفكار والعواطف، ثم دفعوا بالمجموعة المتغيّرة لأن تُقيم التوحيدَ الاجتماعي، والإصلاح الاجتماعي، والعدل والقسط في المجتمع ؟ أم إنّهم ركّزوا على الماديات وعلى الحرمان المادي، وحرّكوا الناس ابتداء نحو إزالة الحرمان والتمييز الاجتماعي، ثم راحوا في مرحلة تالية يبثّون مفاهيم الإيمان والعقيدة والأخلاق ؟.

لو ألقينا نظرة على حياة الأنبياء وطريقتهم في الدعوة لالفينا أنّ الأنبياء بدأوا أعمالهم من الفكر والعقيدة والإيمان والعواطف المعنوية وربط الناس بالله وتذكيرهم باليوم الآخر ولا أدلّ على ذلك من ترتيب نزول آيات القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم خلال الأعوام الثلاثة عشر من دعوته في مكة.

خامساً: أمّا بشأن منطق الجبهة المعارضة للأنبياء، فمن الطبيعي أن يكون منطقاً محافظاً، غير أنّ الذي يُستنبط من القرآن الكريم هو أنّ هذا المنطق منطق زعماء الجبهة المعارضة وهؤلاء هم الملأ والمستكبرون

____________________

(١) آل عمران: ٦٤.

٢٤١

الذين يصدرون إلى المجتمع هذه البضاعة الفكرية - على حد قول ماركس - إلى جانب تصديرهم بضاعتهم المادية.

ومن الطبيعي أيضاً أن يكون منطق الأنبياء منطق التحرّك والتعقّل وعدم الالتفات إلى التقاليد والأعراف السائدة لكن هذا المنطق ليس انعكاساً طبيعياً وجبرياً عن فقر الأنبياء وحرمانهم، بل هو منطق الأفراد الذين بلغوا مرحلة الكمال في إنسانيتهم، أي في منطقهم وتعقّلهم وعواطفهم ومشاعرهم الإنسانية وسنوضح - فيما بعد - أنّ الإنسان كلما ارتقى على مدارج النموّ والكمال الإنساني، تقل تبعيّته لمحيطه الطبيعي والاجتماعي ولظروفه المادية ويتجّه نحو التحرّر والاستقلال.

منطق الأنبياء المستقل يفرض عدمَ تقيّدهم بالعادات والتقاليد، ودعوة الناس إلى التحرّر من الالتزام الأعمى بتلك الأعراف والتقاليد.

سادساً: ما قيل حول الاستضعاف والاستشهاد بآية الاستضعاف:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) مرفوض لسببين.

١ - وجود آيات عديدة تصوّر حركة التاريخ بشكل يختلف عن التصوير الذي استنتجه هؤلاء الكتّاب من آية الاستضعاف.

٢ - عدم عمومية الآية وعدم كلّيتها لارتباطها بالآيات السابقة والتالية لها.

وسنفصّل الكلام في هاتين النقطتين.

اتجاه حركة التاريخ في نظر القرآن:

القرآن الكريم يؤكّد أنّ حركة التاريخ تتجه نحو انتصار الإيمان على

٢٤٢

الإلحاد، وانتصار التقوى على الفجور، وانتصار الصلاح على الفساد وانتصار العمل الصالح على العمل الطالح.

يقول تعالى:

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (١) .

هذه الآية تَعِدُ بالنصر المؤمنين العاملين الصالحات، فهي لا تدور حول محور الاستضعاف والحرمان، بل حول محور إيديولوجي وأخلاقي.

والذي تبشّر به هذه الآية هو:

١ - الاستخلاف: أي استلام السلطة في المجتمع وزوال السلطة السابقة.

٢ - استتباب الدين، أي تحقّق القِيَم الخلقية والاجتماعية الإسلامية: كالعدل والعفاف والتقوى والشجاعة والإيثار والمحبّة والعبادة والإخلاص وتزكية النفس ونظائرها.

٣ - رفض كل ألوان الشرك في العبادة والطاعة.

وفي آية أُخرى يقول تعالى:

( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرض لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٢) .

____________________

(١) النور: ٥٥.

(٢) الأعراف: ١٢٨.

٢٤٣

ويقول:( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١) .

ربّما يقال أنّ آية الاستضعاف لها نفس دلالة الآيات المذكورة بشأن الاستخلاف ووراثة الأرض، أي إنّ المستضعفين هم أنفسهم المؤمنون والصالحون والمتّقون، والعكس صحيح أيضاً وهذا القول مرفوض أيضاً لسببين:

١ - لما أثبتناه من قبل بشأن عدم انطباق الاستضعاف مع الإيمان، فقد قلنا إنّ النظرة القرآنية تتجه نحو إمكان وجود فئة مؤمنة غير مستضعفة، وإمكان وجود فئة مستضعفة غير مؤمنة غير أنّ أكثرية أتباع العقيدة التوحيدية في المجتمع الطبقي - كما ذكرنا - هم من فئة المستضعفين ؛ لأنّ هذه الفئة متحرّرة من العوائق التي تقف أمام فطرة الفئة الأُخرى لكن الفئة المؤمنة غير منحصرة بفئة المستضعفين إطلاقاً.

٢ - آية الاستضعاف، على افتراض انفصالها عن الآيات السابقة والتالية لها، تشير إلى نوع معيّن من حركة التاريخ، والآيات الأُخرى بشأن الاستخلاف ووراثة الأرض تشير إلى نوع آخر من حركة مسيرة التاريخ.

آية الاستضعاف تدور حول الصراع الطبقي، والطاقة المحركة فيها مستمدّة من اضطهاد الطبقة المستكبرة، ومن الروح الرجعية لطبقة المستضعِفين والروح الثورية لطبقة المستضعَفين، والنتيجة النهائية لهذا الصراع تتمثل في انتصار الفئة المستضعفة سواء كانت من الذين آمنوا

____________________

(١) الأنبياء: ١٠٥.

٢٤٤

وعملوا الصالحات بالمفهوم القرآني أم لم تكن، ودلالتها تشمل كل الشعوب المناضلة ضدّ الاستكبار كشعوب فيتنام وكمبوديا وأمثالها.

وإن أردنا توضيح هذه الآية من وجهة النظر الإلهية، لا بدّ أن نقول: إنّ هذه الآية توضح مبدأ حماية الله للمظلومين كما ورد في الآية:( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (١) وبعبارة أُخرى، آية الاستضعاف تجسّد مفهوم ( العدل الإلهي ).

أمّا آية الاستخلاف والآيات المشابهة لها فهي تبيّن اتجاهاً آخر من حركة التاريخ، وتوضّح من وجهة النظر الإلهية مبدأ أوسع وأشمل من مبدأ العدل الإلهي، غير أنّه يشتمل على مبدأ العدل الإلهي أيضاً.

وهذا الاتجاه يتمثّل في النضال المترفّع عن الدوافع المصلحية والمادية، نضال لله وفي الله، قاد سيرته الأنبياء وأتباعهم المؤمنون، واتجهت البشرية على خطّهِ نحو بناء صرح الحضارة الإنسانية.

وهذا النضال وحده يستحق اسم حرب الحق مع الباطل، وهو الذي يدفع عجلة التاريخ على طريق الإنسانية والمعنويات الإنسانية.

العامل المحرّك في هذا النضال لم يكن اضطهاداً طبقياً، بل هو الدافع الفطري الغريزي نحو الحقيقة، ونحو تفهّم طبيعة الوجود ونحو العدالة أي نحو صنع المجتمع المطلوب.

الشعور بالغبن والحرمان لم يدفع بعجلة التطوّر البشري، بل إنّ الذي دفع هذه العجلة نحو الأمام هو الاندفاع الفطري التكاملي.

الاستعدادات الحيوانية للكائن الإنساني اليوم هي ذات استعداداته

____________________

(١) إبراهيم: ٤٢.

٢٤٥

في بدأ الخليقة، ولم تتطوّر على مرّ التاريخ، لكن الاستعدادات الإنسانية تتفتّح بالتدريج، وتتحرّر أكثر فأكثر من القيود المادية والاقتصادية متجهة نحو الالتزام بالإيمان والعقيدة الاتجاه الذي يتكامل على خط مسيرة التاريخ لا يتمثل في النضال المادي والمصلحي والطبقي، بل في النضال الإيديولوجي، الإلهي، الإيماني وهذه هي الميكانيكية الطبيعية لتكامل الإنسان، ولحتمية انتصار الصالحين والمجاهدين في سبيل الله، أمّا المظهر الإلهي في هذا الانتصار وفي هذا التكامل على مرّ التاريخ فيتمثّل في تجلّي مظاهر ( ربوبية ) الله و( رحمته ) التي تقتضي تكامل الموجودات، بينما ( العدل الإلهي ) يفرض بروز مظهر الانتقام والجبروت الإلهي لا غير.

ممّا سبق يتبيّن لنا أنّ آية الاستضعاف لها منطقها الخاص، وآية الاستخلاف ( والآيات المشابهة لها ) ذات منطق خاص أيضاً، من حيث الطبقة المنتصرة، واتجاه حركة التاريخ، والعامل الطبيعي لحركة التاريخ، وتجلّي الصفات الإلهية كما اتضح أيضاً أنّ آية الاستخلاف تقدّم نتائج أشمل وأجمع.

ما تحقّقه البشرية طبق آية الاستضعاف جزء صغير ممّا تحققه طبق أية الاستخلاف والقيم تقدّمها آية الاستضعاف، أي دفع الظلم عن المظلوم، أو حماية الله للمظلومين، هي جزء من القيم التي تقدمها آية الاستخلاف.

آية الاستضعاف ليست أصلاً عاماً: النقطة الثانية التي نتناولها في حديثنا عن آية الاستضعاف هي أنّ الآية لا تطرح أصلاً عاماً ومبدأ كليّاً، وهي لذلك لا تستهدف توضيح مسار حركة التاريخ ولا العامل الطبيعي في هذه الحركة، ولا تريد أن تقول إنّ النصر النهائي حليف

٢٤٦

المستضعفين لأنّهم مستضعفون لا غير.

وهؤلاء الذين استنتجوا من الآية مبدأً كليّاً، فصلوها عمّا قبلها وبعدها، وذهبوا إلى أنّ كلمة ( الذين ) في الآية تفيد العموم والاستغراق وليست كذلك إذ هي مرتبطة بآية تسبقها وآية تليها:

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (١) .

فالفعلان ( نمكّن ) و ( نُري ) في الآية الثالثة معطوفان على ( نمنّ ) في الآية الثانية ومحتوى عبارة ( ونُري فرعون وهامان . ) في الآية الثالثة يرتبط بمحتوى الآية الأُولى، أي إنّ هذه العبارة تبيّن مصير فرعون، بعد أن بيّنت الآية الأُولى علوّ فرعون وتجبّره.

وهذا الارتباط بين الآية الثالثة والثانية من جهة، والآية الثالثة والأُولى من جهة أُخرى، يجعل بين الآيات الثلاث ارتباطاً لا يمكن معه تجريد الآية الثانية وفصلها، واستنباط مبدأ عام منها وكلمة ( الذين ) في الآية الثانية لا تفيد الاستغراق، بل إنّها اسم موصول للذين ظلمهم فرعون واستضعفهم.

هذا إضافة إلى أنّ ( المنة ) التي ذكرتها الآية الثانية، تتمثل فيما أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل من نبي وكتاب أي إنّ الآية تقول:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) بموسى والكتاب

____________________

(١) القصص: ٤ - ٦.

٢٤٧

الذي ننزله على موسى( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً . ) .

من هنا نفهم أنّ هذه الآية تشكّل مصداقاً من مصاديق آية الاستخلاف ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال الاحتمال بأنّ المراد من الآية إمامة بني إسرائيل ووراثتهم للأرض لكونهم مستضعَفين حسب، بقطع النظر عن اتّباع النبي المبعوث فيهم والتمسّك بالرسالة المنزلة إليهم.

فهم خاطئ لطبيعة الثقافة الإسلامية:

قد يَطرح أتباعُ الفهم المادي للإسلام مسألة أُخرى ترتبط بالثقافة الإسلامية ويقولون إنّ هذه الثقافة إمّا أن تكون ثقافة الطبقة المستضعَفة روحاً ومعنى، وإمّا أن تكون ثقافة، الطبقة المستكبرة، أو أن تكون ثقافة جامعة.

لو كانت الثقافة الإسلامية ثقافة الطبقة المستضعفة، للَزِم أن تنطبع بطابع طبقتها، أي أن تدورَ في دعوتها ورسالتها واتجاهاتها حولَ محور المستضعَفين.

ولو كانت هذه الثقافة ثقافة طبقة المستكبرين - كما يدعّي أعداء الإسلام - لدارت حولَ محور تلك الطبقة، ولأوضحت ثقافة رجعية معادية للبشرية وبعيدة بالضرورة عن الطابع الإلهي وهذا ما لا يقبله أي مسلم إضافة إلى أنّه يتنافى مع كل محتويات هذه الثقافة.

يَبقى أن نقول إنّ الثقافة الإسلامية ثقافة جامعة، أي إنّها ثقافة محايدة غير منتمية وغير ملتزمة وغير مسؤولة، وإنّها ثقافة انعزالية تترك ما لله لله، وما لَقيصر لَقيصر، وإنّها ثقافة تستهدف المصالحة بين الماء

٢٤٨

والنار، وبين الظالم والمظلوم، وبين المستثمِر والمستثَمَر، وتجمع كلّ هؤلاء تحتَ سقف واحد، ومثل هذه الثقافة تتّجه عملياً نحو حماية مصالح طبقة المستثمِرين والمستأثِرين والمستضعفين، تماماً مثل الفئة التي تتخذ جانب الحياد والعزلة والتفرّج على مسرح الصراع الاجتماعي بين المستثمرِين والمسحوقين، فمثل هذه الفئة تحمي عملياً طبقة المستثمرين، وتفسح لها مجالَ الاستثمار.

من كل هذا يستنتج أصحاب الفهم المادّي أنّ الثقافة الإسلامية ليست ثقافة محايدة، وليست حامية الطبقة المستضعِفة، وهي لذلك لا بد أن تكون ثقافة طبقة المستضعَفين في منطلقاتها واتجاهاتها ودعوتها.

وهذا الاتجاه في فهم الثقافة الإسلامية خاطئ تماماً، وهو جزء من الأخطاء التي تعتري المثقفين المسلمين الشغوفين بالمادية التاريخية.

الميول تجاه المادية التاريخية بين هذه الفئة مِن مثقفينا المسلمين يعود في رأيي إلى عاملين:

الأول: هؤلاء ظنّوا أنّ الاتجاه نحو المادية التاريخية ضرورة لا بدّ منها، مِن أجل إظهار الثقافة الإسلامية بمظهر الثقافة الثورية، أو من أجل إضفاء ثقافة ثورية على الإسلام.

وكل ما أطلقه هؤلاء من تصريحات، بشأن فهمهم الخاص للقرآن وبشأن استنباطاتهم من آية الاستضعاف، هو تبرير لظنّهم المذكور، ولفكرتهم تلك التي آمنوا بها مسبقاً ومن هنا نرى ابتعاد هؤلاء بشدّة عن منطق الإسلام، ونرى هبوط المنطق الإنساني الفطري الإلهي الإسلامي المقدّس إلى مستوى المنطق المادّي.

هذه الفئة خالت أنّ الطريق الوحيد لاتصاف الثقافة بالصفة

٢٤٩

الثورية أن تكون مرتبطة بالطبقة المحرومة المسحوقة فقط، وأن تنطلق من هذه الطبقة، وأن تتجه في دعوتها ومواقفها نحو هذه الطبقة ومصالحها، وأن تكون المكانة الاجتماعية لقادتها وروّادها ودعاتها قائمة في تلك الطبقة، وأن يكون موقفُها من الطبقات والفئات الأُخرى موقفَ الحرب والصراع والعداء لا غير.

هذه الفئة من المثقفين يظنون أنّ طريق الثقافة الثورية ينبغي أن ينتهي بالبطن بالضرورة، وأن كلّ الثورات الكبرى في التاريخ، بل وحتى الثورات التي نهض بها أنبياء الله، هي ثورات البطن ومن أجل البطن ! ومن هنا فإنّ أبا ذر الصحابي الكبير الحكيم المؤمن المخلص الداعية المجاهد، هو في مفهوم هؤلاء ( أبو ذر البطن ) و ( أبو ذر المعقّد ) الذي خَبرَ الجوع جيداً، وأجاز، بل أوجب حمل السيف انطلاقاً من إحساسه بالجوع !! قيمة أبي ذرّ في مفهوم هؤلاء تتمثّل في إحساسه الشخصي بالجوع، وإحساسه بما يعانيه الجياع من أمثاله، وفيما يحمله من عُقَد تجاه الفئة التي أجاعته وأجاعت الآخرين، ومقاومته لهذه الفئة . لا غير وكل شخصية هذا الموحّد العارف، المؤمن المجاهد، المخلص المسلم، الذي يُعَدّ بحقّ لقمان هذه الأُمّة يحصرونها بهذه الدائرة الضيّقة.

هذه الفئة تعتقد أنّ الثورة - كما يقول ماركس - ( تنطلق فقط من الحركة الثورية العنيفة ومن الانتفاضة الجماهيرية )(١) .

هؤلاء لا يستطيعون أن يتصوّروا ثقافة أو مدرسة فكرية أو إيديولوجية ذات منطلق إلهي ودعوة شاملة عامة، تخاطبُ الإنسان، بل الفطرة الإنسانية في الحقيقة، وتتجه نحو العدل والمساواة والطُّهر

____________________

(١) ماركس وماركسيسم، ص٣٩.

٢٥٠

والمعنوية والحبّ والإحسان ومقارعة الظلم، وقادرة في الوقت ذاته أن تُحدث هزّةً عظيمة وثورةً عميقة . ثورةً إلهية تنطوي على حماس إلهي، ونشاط معنوي، ودوافع ربّانية، وَقِيم إنسانية، ومثل هذه الثورة تحققت مراراً في تاريخ البشرية، وثورةُ الإسلام نموذج واضح لها.

هذه الفئة تعتقد أنّ الثقافة الملتزمة المسؤولة الإيجابية المكافحة ينبغي أن تنطلق بالضرورة من ثقافة الطبقة المحرومة المسحوقة، ولا تستطيع أن تتصور غيرَ ذلك.

أصحاب هذا اللون من التفكير خالوا أنّ الثقافة الجامِعة هي بالضرورة ثقافة محايدة متفرّجة، ولم يستطيعوا أن يفهموا أنّ الثقافة الجامعة لا يمكن على الإطلاق أن تكون محايدة غير مسؤولة، وغير ملتزمة، إن كان منطلقها إلهياً واتجاههُا في الدعوة إنسانياً، أي اتجاهٌ نحو الفطرة الإنسانية.

الشعور بالالتزام والمسؤولية لا ينتج عن الانتماء إلى الطبقة المحرومة، بل عن الانتماء إلى الله والى الوجدان الإنساني، وهذا هو العامل الأول لخطأ هؤلاء السادة في فهمهم لعلاقة الإسلام بالثورة.

الثاني: العامل الثاني لهذا الاتجاه المادي في فهم الإسلام، ينطلق من سوء فهم هؤلاء السادة لاتجاهات الإسلام الاجتماعية هؤلاء شاهدوا بوضوح أنّ التفسير القرآني لنهضات الأنبياء يتجه إلى تصوير مواقف الأنبياء الصلبة لصالح المستضعفين، كما أنّهم آمنوا من جهة أُخرى إيماناً تامّاً بالمبدأ الماركسي القائل بانطباق الاتجاه والمنطق، أو بعبارة أُخرى ( الانطباق بين القاعدة الاجتماعية والقاعدة العقائدية والعملية ) وخرجوا من كل ذلك بنتيجة على النحو التالي: لّما كان القرآن يصوّر اتجاه النهضات المقدّسة، التقدّمية بأنّه لصالح المستضعفين ومن أجل

٢٥١

تأمين حقوق هذه الطبقة وحرياتها فمنطلق جميع النهضات المقدسة التقدمية، في نظر القرآن إذن، الطبقة المحرومة المسحوقة المستضعفة، من هنا فإنّ النظرة القرآنية تذهب إلى أن هوية التاريخ مادية واقتصادية، وان الاقتصاد ( بناء تحتي ).

ممّا ذكرنا سابقاً، اتضح أنّ القرآن يؤكّد على نظرية الفطرة، وعلى منطق خاص يتحكّم بحياة الإنسان ينبغي أن نسمّيه منطق الفطرة، ويقابله المنطق النفعي الذي هو منطق الإنسان المنحطّ الحيواني، ومن هنا فالإسلام رفض مبدأ ( انطباق المنطلق والاتجاه ) أو ( انطباق القاعدة الاجتماعية والقاعدة العقائدية ) ويعتبره مبدأ غيرَ إنساني أي إنّه يتحقق في الأفراد الذين لم يبلغوا درجة الإنسانية، ولم ينالوا القسط اللازم من التعليم والتربية الإنسانية، والذين يدور منطقهم حول المنفعة، ولا يتحقق في الأفراد المتعلمين المتربّين المرتفعين إلى مستوى الإنسانية الذين منطقهم منطق الفطرة.

إضافةً إلى ذلك فإنّ من المجاز والتساهل القول بأنّ الإسلام يتجه في موقفه لصالح المستضعَفين الإسلام يتجه نحو العدالة والمساواة ومن الطبيعي أن يكون المنتفعون من هذا المجال هم المحرومين والمستضعفين، وأن يكون المتضررون هم المبتزّين والمستثمرين.

أي إنّ الإسلام حين يتجه إلى تأمين مصالح طبقة معيّنة، يستهدف تحقيق قيمة إنسانية وتثبيت مبدأ إنساني وهنا تتضح مرة أُخرى قيمة مبدأ الفطرة الذي يقرّره القرآن بوضوح، والذي ينبغي أن نعتبره أُمّ المعارف في إطار المعارف الإسلامية لقد قيل الكثير عن الفطرة، ولكن قَلَّ أن اهتمّ باحث بأعماقها وأبعادها الواسعة كثيراً ما نرى أفراداً يتحدثون عن مبدأ الفطرة وهم

٢٥٢

غافلون عن أبعادِهِ الواسعة ؛ لذلك يتوصّلون في خاتمة أبحاثهم إلى نظريات معارضة لهذا المبدأ.

تفسير خاطئ لمنشأ الدين:

مثقفونا المبهورون بالمادية التاريخية، يقعون في خطأ آخر حين يتحدثون عن نشأة الدين ومنطَلَقِه لقد دارت بحوثنا السابقة عن منشأ الظواهر التاريخية في نظر الدين ( أي الإسلام طبعاً) ونبحث الآن عن الدين نفسه باعتباره ظاهرة اجتماعية تاريخية كان لها وجود على أي حال، منذ فجر التاريخ، ولا بدّ من توضيح منشأ هذه الظاهرة الاجتماعية واتجاهها.

ذكرنا - من قبل مراراً - أنّ المادية التاريخية الماركسية تؤمن بمبدأ التطابق بين المنطلق والاتجاه في جميع الظواهر الحضارية.

العرفاء والحكماء يؤمنون بمبدأ ( النهايات هي الرجوع إلى البدايات ) بشأن الحركة العامة لنظام الوجود . والماركسية تؤمن بشيء مثلِ هذا في مجال الشؤون الفكرية والفنيّة والفلسفية والدينية، وفي جميع الظواهر الحضارية الاجتماعية أي إنّها تذهب إلى أنّ كل فكرة تتجه باتجاه منشئها ومنطلقها، وليس ثمّة أفكار أو أديان أو ثقافات محايدة، خالية من الاتجاه، كما لا يمكن أن تكون ذات اتجاه يستهدف وضعاً اجتماعياً غيرَ الوضع الاجتماعي الذي انطلقت منه.

الماركسية تَرى أنّ لكلّ طبقة نوعاً معيّناً من الأفكار والأذواق، ومن هنا فإنّ المجتمع الطبقي يسوده نوعان من الآلام، ونوعان من الأفكار الفلسفية، ونوعان من النظم الأخلاقية، وشكلان من الفنون، وطريقتان من الشعر والآداب، ولونان من الأذواق والأحاسيس

٢٥٣

والنظرات إلى الوجود، وأحياناً شكلان من العلم أي حينما يكون البناء التحتي وعلاقات الإنتاج على شكلين، تُصبح كل تلك الظواهر على شكلين ونظامين.

ماركس يستثني شخصياً من هذه الثنائيات في النُظُم شيئين هما:

الدين والحكومة، فهو يعتقد أنّ هاتين الظاهرتين من اختراع الطبقة المستغِلّة، ومن طريق الاستثمار التي تمارسها هذه الطبقة من هنا فمن الطبيعي أن يَكون اتجاه هاتين الظاهرتين ومواقفهما لصالح هذه الطبقة المستثمِرة والطبقة المستثمَرة لا يمكن أن تكون - بحكم مكانتها الاجتماعية - منطلقاً للدين، ولا منطَلقاً للدولة الدين والدولة مفروضان على الطبقة المستثَمرة من قِبل الطبقة المناهضة فليس هناك إذن شكلان من الدين، كما لا يوجد شكلان من الحكومة أيضاً.

بعض المثقفين المسلمين يدّعون - خلافاً لنظرية ماركس - وجود شكلين من الدين في المجتمع ويقولون:

كما أنّ المجتمع الطبقي يسوده نوعان من الأخلاق والآداب وسائر الظواهر الحضارية، وكل نوع له منطلق واتجاه يتناسب مع الطبقة التي ينتمي إليها، أحدها ينتمي إلى الطبقة الحاكمة والآخر إلى الطبقة المحكومة . كذلك الدين له في المجتمع دوماً شكلان: الأول الدين الحاكم الذي يمثّل دين الطبقة الحاكمة، والدين المحكوم الذي يمثّل دين الطبقة المحكومة.

ويقولون إنّ الدين الحاكم هو دين الشرك، والدين المحكوم هو دين التوحيد الدين الحاكم دين التمييز، والدين المحكوم دين المساواة الدين الحاكم دين التبرير للوضع القائم، والدين المحكوم دين الثورة على الوضع القائم الدين الحاكم دين الجمود والسكون والسكوت، والدين

٢٥٤

المحكوم دين الانتفاض والتحرّك والاعتراض المذهب الحاكم أفيون الشعوب، والمذهب المحكوم طاقة محرّكة للشعوب.

ويقولون إنّ نظرية ماركس القائلة إنّ الدين يتّجه بشكل مطلق نحو تأمين مصالح الطبقة الحاكمة، ومعاداة الطبقة المحكومة، وإنّ الدين أفيون الشعوب، إنّما تصدق بشأن الدين الذي ينطلق من أوساط الطبقة الحاكمة، وهو الدين الذي كان حاكماً وسائداً بالفعل، ولا تصدق بشأن الدين المحكوم، أي دين الأنبياء الواقعيين الذين لم تسمح لهم الأنظمة الحاكمة أن يبرزوا ويعربوا عن وجودهم.

هؤلاء ( المثقفون ) رفضوا نظرية ماركس التي تعتبر الدين يتجه بشكل مطلق نحو مصالح الطبقة الحاكمة، وظنّوا بذلك أنّهم رفضوا نظرية ماركس، جاهلين أنّ أقوالهم - وإن عارضت آراء ماركس وأنجلز وماو وسائر روّاد الماركسيّة - تعتبر تفسيراً ماركسياً مادّياً للدين، وهو تفسير فظيع للغاية وهؤلاء لم يلتفتوا لذلك حتماً ؛ فهم افترضوا للدين - على أي حال - منطلقاً طبقياً، وتبنّوا مبدأ انطباق المنطلق والاتجاه بعبارة أُخرى: هؤلاء قَبِلوا مبدأ ماديّة الدين، ومادية كل ظاهرة حضارية، غاية الأمر أنّهم قبلوا وجود دين ينطلق من الطبقة المحرومة ويتجه نحو مصالحها، خلافاً لرأي ماركس والماركسيين.

إنّهم في الحقيقة توصّلوا إلى نتيجة جيّدة بشأن اتجاه المذهب المحكوم، لكنّهم أخطأوا في منطلق هذا المذهب حين اندفعوا إلى إضفاء الطابع المادي الطبقي على هذا المنطلق.

وما هي النتيجة التي يحصل عليها هؤلاء المثقفون المسلمون من كل هذا التحليل ؟.

٢٥٥

النتيجة هي أنّ مذهب الشرك، والمذهب الحاكم المرتبط بالطبقة الحاكمة، هو المذهب التاريخي العيني الذي كان له دور في الحياة، إذ إنّ جبر التاريخ كان يساند الحاكمين، وكانت القوّة السياسية والاقتصادية في أيديهم، ومن الطبيعي أن يكون دينُ الحاكمين، الذي يبرّر وجودهم، قائماً مسيطراً أمّا مذهب التوحيد فلم يستطع أن يدخل المسرح الاجتماعي، ويحقّقَ له وجوداً خارجياً وعينياً، مذهبُ التوحيد لم ينهض بأيّ دور تاريخي في المجتمع، ولم يستطع أن ينهض بمثل هذا الدور ؛ لأنّ البناء الفوقي لا يستطيع أن يسبق البناء التحتي.

ومن هنا استنتج هؤلاء: أنّ نهضات الأنبياء التوحيديين نهضات محكومة فاشلة في التاريخ، وما كان بمقدورها أن تكون غير ذلك أنبياء دين التوحيد بشرّوا بدين المساواة، ولم يمضِ طويلاً حتى عاد مذهب الشرك يواصل حياته مستتراً بنقاب التوحيد، وتعاليم الأنبياء، وعاد يحرّف هذه التعاليم ليرتزق منها، ثم عاد أقوى ممّا سبق وأشدّ وطأة على الطبقة المحرومة.

واستنتجوا أنّ الأنبياء الحقيقيين عملوا في الواقع على منح الناس كسرة من الخبز، لكنّهم جلبوا الويلات للجماهير، وأضحوا ذريعة بيد الطبقة المعارضة، فشدّدت هذه الطبقة الخناق على المحرومين والكادحين، فما أراده الأنبياء من تعاليمهم لم يتحقق، وما تحققّ لم يريدوه، وبتعبير الفقهاء: ما قُصِد لم يقع، وما وَقَع لم يُقصَد.

الماديون والمعادون للدين يرددّون: أنّ الدينَ أفيونُ الشعوب، وعاملُ ركود وسكون، ومبررٌ للظلم والتمييز، وحامي الجهل، وساحر الجماهير . وكل هذه العبارات صحيحة في رأي هؤلاء المسلمين الماديين، غير أنّها تصدق فقط بشأن الدين الحاكم ودين الشرك ودين

٢٥٦

التمييز المهيمن في كل عصور التاريخ، أمّا الدين الحقيقي، دينُ التوحيد، ودينُ المحكومين والمستضعَفين فكان دوماً مطروداً مِن مسرح الحياة والتاريخ.

واستنتج هؤلاء أيضاً: أنّ الدور الوحيد الذي نهض به الدين المحكوم هو الانتقاد والاعتراض تماماً، مثل دور الأقلية المعارضة داخل الحكومة التي تتمتّع بالأكثرية في البرلمان، فهذه الأقلّية - مهما كانت تقدّمية رائدة - لا تقوى على شيء سوى الاعتراض والانتقاد، بينما حزب الأكثرية لا يعير أهميّة لهذه الانتقادات، ويسير في إدارة المجتمع بالشكل الذي يرتأيه، ويستفيد أحياناً من اعتراضات الأقلّية لدعم مكانته فالنظام الحاكم قد يسقط تلقائياً على أثر ازدياد الضغط، غير أنّ اعتراضات الأقلّية تفتح عين النظام على ضرورة تقوية نفسه وتحصينها.

التفسير المذكور خاطئ تماماً، في تحليل ماهية دين الشرك، وفي تحليل ماهية دين التوحيد، وخاطئ في تصوير الدور الذي نهض به الدينان في التاريخ.

الدين كان موجوداً دوماً في التاريخ دون شك، دين التوحيد، أو دين الشرك، أو كلاهما، واختلف علماء الاجتماع في أسبقية دين التوحيد أو دين الشرك أغلب علماء الاجتماع ذهبوا إلى ظهور مذهب الشرك أوّلاً، ثم تكامَلَ هذا المذهب بالتدريج وبلغ درجة التوحيد وبعضهم ذهب إلى عكس ذلك والروايات الدينية، بل بعض الأُصول الدينية، تؤيّد الاتجاه الثاني.

أمّا بشأن منشأ دين الشرك، وهل إنّه ظهر على يد طغاة التاريخ لتبرير ظلمهم وجورهم ؟ أم ثمّة عوامل أُخرى لظهوره ؟ يذكر المحققون

٢٥٧

عوامل أُخرى، ولا يمكن بهذه البساطة قبول فكرة أنّ الشرك وليدُ التمييز الاجتماعي.

وتحليل دين التوحيد على أنّه تبرير لمطاليب الطبقة المحرومة المعادية للتمييز والمساندة للأخوة والمساواة، هو الآخر بعيد عن الروح العلمية، ولا ينسجم - إضافة إلى ذلك - مع الأُسس الإسلامية إطلاقاً.

التفسير المذكور يُضفي على الأنبياء صفة ( الأبرياء الفاشلين ) فهم ( فاشلون ) ؛ لأنّهم انهزموا أمام الباطل، ولم يستطع دينُهم أن يتغلغل في المجتمع، ولا أن يحتلّ مكانة توازي على الأقل مكانة المذهب الحاكم الباطل، ولم ينهض بدور سوى الاعتراض على المذهب الحاكم وانتقاده.

والأنبياء ( أبرياء ) لأنّهم - خلافاً لادعاء الماديين - لم يقفوا إلى جانب - المستثمِرين والطامعين، ولم يكونوا عاملَ ركود وسكون واتجاههم لم يكن لصالح هذه الطبقة، بل بالعكس من ذلك، كانوا ينبثقون من المستضعَفين والمسحوقين، ويقفون إلى جانبهم، ويتحسّسون آلامهم، ويسعون على طريق الطبقة المستضعفة وكسب حقوقها المغتصبة.

وكما أنّ الأنبياء - في نظر أصحاب هذا الاتجاه - أبرياء في طبيعة دعوتهم ورسالتهم واتجاههم، كذلك هم أبرياء تماماً في فشلهم، أي إنّهم غير مسؤولين عن هذا الفشل ؛ إذ إنّ ( جبر التاريخ ) الناشئ عن الملكية الخاصة كان يساند أعداءهم.

ظهور الملكية الخاصة، في رأي هؤلاء، قَسّم المجتمع جبراً على قسمين: قسم مستضعَف وقسم مستضعِف، القسم المستضعِف المالك للإنتاج المادي، كان مالكاً بالضرورة للإنتاج المعنوي، ولا يمكن الوقوف بوجه جبر التاريخ الذي هو التعبير المادي للقضاء والقدر فهو قضاء

٢٥٨

وقدر من لدن إله أرضي مادي إنّها القدرة الحاكمة التي تحمل اسم البناء التحتي الاقتصادي، ولولُبها الرئيس وسائلُ الإنتاج ؛ فالأنبياء غير مسؤولين لهذا عن فشلهم.

هذا الدفاع عن الأنبياء الحقيقيين ينطوي على إدانة للنظرة الإلهية إلى نظام الوجود التي تذهب إلى أنّ هذا النظام ( خير ) و ( حقّ ) وأنّ الخير غالب فيه على البشر.

الإلهيّون ينظرون إلى نظام الوجود بتفاؤل، ويدّعون أنّ نظام الوجود حقّ وحقيقة وخير، ويعتقدون أنّ ظواهر الشر والباطل والانحراف لها وجود عرضي وطفيلي ومؤقّت وغير أصيل فالحق هو محور نظام الوجود والنظام الاجتماعي البشري:

( أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض ) (١) .

هذه النظرة تؤمن أيضاً بانتصار الحقّ على حَلَبة الصراع بين الحقّ والباطل:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٢) .

وتذهب إلى أنّ يدَ الله مَعَ رُسُله:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (٣) .

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ

____________________

(١) الرعد: ١٧.

(٢) الأنبياء: ١٨.

(٣) غافر: ٥١.

٢٥٩

وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) .

التفسير المذكور لمنشأ الدين يشكك في هذه الأُصول، ومع أنّه يرفع التهمة عن الأنبياء والرسل وسائر المصلحين في التاريخ، فهو يلقي التهمة على ربّ الأنبياء.

وهنا تبرز مشكلة، هي إنّ القرآن ينظر إلى مسيرة العالم بنوع من التفاؤل، ويؤكّد أنّ ( الحقّ ) هو محور الوجود ومحور الحياة الاجتماعية للبشر والحكمة الإلهية تذهب - اعتماداً على هذه الأُصول - إلى أنّ الخيرَ غالب على الشر، والحقَّ على الباطل، وترى أنّ وجود الشرّ والباطل عَرَضي وطفيلي ويفتقد الأصالة . هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، نشاهد أنّ مطالعة أحداث التاريخ السابقة والحالية تبعث على نوع من التشاؤم بالنسبة لنظام الوجود ؛ وهذا ما يدفع إلى تقبل نظرية القائلين أنّ التاريخ مفعم بالفجائع والظلم والجور والاستثمار.

تُرى، كيف يمكن حلّ هذا التناقض ؟ هل نحن خاطئون في فهم نظام الوجود والنظام الاجتماعي ؟ أم خاطئون في فهم النظرة القرآنية للوجود ؟ أم ثمّة تناقض بين الواقع القائم والقرآن لا يمكن حلّه هذه الشبهة طرحناها في كتاب ( العدل الإلهي )، قدر ما يتعلّق الأمر بنظام الوجود وتوصلنا - بحول الله - إلى حلّها وما يتعلّق بمسيرة التاريخ والحياة الاجتماعية من هذه الشبهة، فسنعالجه في فصل قادم تحت عنوان ( صراع الحق والباطل ) وسنبيّن رأينا - بإذن الله - في هذه الشبهة وسنكون مسرورين لو أفادنا المعنيّون بآرائهم في هذه المسألة.

____________________

(١) الصافات: ١٧٢.

٢٦٠