المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 71872
تحميل: 16714

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71872 / تحميل: 16714
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الموازين

من أجل فهم ( نظرة ) مدرسة معيّنة إلى ( هوية ) التاريخ نستطيع الاستفادة من مجموعة ( موازين ) لننطلق منها إلى تكوين فكرة دقيقة عن نظرة تلك المدرسة إلى الحركات التاريخية وماهية أحداث التاريخ.

نعرض هنا الموازين التي توصلنا إليها مؤكدين إمكان وجود موازين ظلّت خافية علينا.

قبل أن نطرح هذه الموازين، ونتبيّن من خلالها نظرة الإسلام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم صرّح - في رأينا - ببعض الأُصول التي تعطي للمؤسسات المعنوية في المجتمع ( أولوية ) على المؤسسات المادية.

أحد هذه الأُصول الصريحة تذكرها الآية الكريمة:

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (١) .

فمصير الأُمّة يرتبط بموجب هذه الآية بمحتواهم الداخلي، وبما يعتمِلُ في أنفسهم وهي بذلك ترفض بصراحة الجبر الاقتصادي في

____________________

(١) الرعد: ١١.

٢٦١

التاريخ مع ذلك نعرض ما توصّلنا إليه من معايير ؛ لنتبيّن المنطق الإسلامي على ضوئها:

١ - إستراتيجية الدعوة:

كلّ مدرسة فكرية صاحبة دعوة هادفة تعتمد على طريقة معيّنة في الدعوة، وهذه الطريقة ترتبط من طرف بالهدف الأساس للمدرسة الفكرية، ومن طرف آخر ترتبط بنوع نظرة تلك المدرسة لماهية الحركات والنهضات في التاريخ.

أسلوب الدعوة يعني طريقة توعية الأفراد، أو التركيز على مراكز الثقل الخاصة لدفع الناس نحو الحركة مدرسة ( أوغست كونت ) مثلاً تدّعي أنّها تنحو منحىً علمياً في هذا المجال، وتحصر جوهر تكامل الإنسان في ذهنه، وتعتقد أنّ الذهن الإنساني طوى المرحلة الأساطيرية والمرحلة الفلسفية وبلغ المرحلة العلمية ومن الضروري أن تركّز هذه المدرسة في توعيتها على ما تسميه العلم، وتعتمد على عتلة العلم في التحريك.

والماركسية التي تتبنّى نظرية ثورة الطبقة العاملة، تركّز في توعية الطبقة العاملة على تصعيد الصراع الطبقي، وتعتمد على إثارة عُقَد الحقد والشعور بالغبن والحرمان.

إلى جانب الاختلاف في أسلوب الدعوة بين المدارس الفكرية، ثمّة اختلافات أُخرى بين المدارس ترتبط أيضاً بنظرة تلك المدارس إلى الإنسان والتاريخ هذه الاختلافات تتمثل في أبعادِ تأثير الدعوة، وارتباطِ الدعوة بالقوّة وجوازِ ممارسة القوّة.

٢٦٢

بعض المدارس - مثل المسيحية - تحصر الأخلاقية، في المواجهة السلمية مع الأفراد، وتعتبر ممارسة القوّة بأيّ شكل وفي أي زمان عملاً غير أخلاقي ؛ لهذا تؤكّد تعاليم المسيحية على الفرد المسيحي أن يديرَ خدّه الأيسر لِمَن صفعه على خدّه الأيمن، وأن يسلّم قبّعته لمَن سلبه رداءه وعلى الجانب الآخر من هذه المدارس تقف مدارس أُخرى مثل مدرسة ( نيتشه ) التي تحصر الأخلاقية في ممارسة القوّة ؛ لأنّ كمال الإنسان - في رأيها - يتمثّل في القدرة، والإنسان الأكمل هو الإنسان الأقوى ونيتشه يعتبر الأخلاق المسيحية رقّاً وضعفاً وذلّة، وعاملاً أساسياً على ركود البشرية.

بعض الاتجاهات ترى أنّ الأخلاق مرتبطة بالقوّة، لكنّها لا تعتبر كل قوّة أخلاقية، فالماركسية - مثلاً - ترى أنّ القوّة التي يمارسها المستثمِرون ضد المستثمَرين غير أخلاقية ؛ لأنّها تستهدف صيانة الوضع القائم وصدّ الحركة لكنّ القوّة التي يمارسها المستثمَرون أخلاقية ؛ لأنّها تتجه نحو تغيير المجتمع وتطويره.

بعبارة أُخرى: هناك مجموعتان متصارعتان في الصراع المستمّر المهيمن على المجتمعات، الأول ينهض بدور ( الأطروحة ) والآخر بدور ( الطباق ) القوّة التي تمارسها الأطروحة غير أخلاقية لرجعتها، والقوّة التي يمارسها الطباق أخلاقية لخصلتها الثورية التكاملية والقوة الأخلاقية في مرحلة معيّنة من مراحل التاريخ تواجه قوة أُخرى تناهضها في المرحلة التالية، وتُصبح عند ذلك رجعية ؛ لأنّها تصبح خصماً لقوة أخلاقية جديدة من هنا كانت الأخلاق نسبية، وما هو أخلاقي في مرحلة معيّنة يمسي ضدّ الأخلاق في مرحلة أعلى وأكمل.

الإسلام يرفض جميع الاتجاهات والنظريات السابقة، يرفض حصر

٢٦٣

الأخلاقية في المواقف السلمية، ويُضفي على القوة والاقتدار أحياناً صفة أخلاقية ؛ ولهذا فالنهوض بوجه الظلم والطغيان في نظر الإسلام مقدّس وواجب شرعي والجهاد باعتباره حركة مسلّحة واجب في ظروف خاصة.

نظرية نيتشه بلا ريب نظرية تافهة معادية للإنسانية وللتكامل الإنساني.

النظرية الماركسية تقوم على أساس مفهومها عن تكامل التاريخ.

الإسلام يسمح لأتباعه أيضاً ممارسة القوّة بوجه المجموعات المعادية للتكامل، لكنّه - خلافاً للماركسية - يضع ممارسة القوة في المرحلة الثانية من المواجهة لا في المرحلة الأُولى أمّا المواجهة في المرحلة الأُولى فتقوم على أساس الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ممارسةُ القوة بوجه الجبهة المعادية للتكامل لا تكتسب صفة أخلاقية، إلاّ إذا انسدّت أبواب الإقناع الفكري ( الحكمة ) والإقناع الروحي ( الموعظة ).

من هنا اتجه جميع الأنبياء في دعوتهم أولاً إلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وحينما تستوفي هذه الطريقة أغراضها، وتعجز عن مواصلة طريق الهداية ؛ تصبح ممارسة القوة والأعمال الجهادية - في نظر الأنبياء - أخلاقية هذا الموقف ينطلق من الاتجاه الروحي للنظرة الإسلامية هذه النظرة تؤمن أنّ للبرهان والاستدلال والموعظة قوة هائلة، أي كما أنّها تؤمن بقوة نقد السلاح - على حد تعبير ماركس - تؤمن أيضاً بقوة سلاح النقد، وتستثمر هذه القوة، في مجالها الخاص.

نظرة الإسلام الروحية إلى الإنسان، وبالتالي إلى المجتمع والتاريخ، نستطيع أن نفهمها من هذه المرحلية في الدعوة، مِنَ التركيز على الهداية

٢٦٤

الفكرية والروحية في المرحلة الأُولى، ثم على ممارسة القوّة في مرحلة تالية ؛ إذ إنّ طريقة الدعوة ( الاكتفاء بالموعظة، أو الاكتفاء بالقوة، أو ممارسة الموعظة أولاً، ثم ممارسة القوة في المرحلة الثانية ) تبيّن نظرةَ المدرسة إلى حركة التاريخ ودورَ الكفاح في هذه الحركة.

نتناول الآن جانباً آخر من إستراتيجية الدعوة يرتبط بسبل التوعية الإسلامية، والمسائل التي تركّز عليها الدعوة في التوعية.

التوعية الإسلامية تقوم بالدرجة الأُولى على أساس التذكير بالمبدأ أو المعاد وهذه طريقة الإسلام وطريقة جميع الرسالات الإلهية التي يذكرها القرآن الأنبياء يحركّون ذهنَ الإنسان ليفكّرَ مِن أين جاء ؟ وإلى أين سيذهب ؟ وكيف بدأ الخلق ؟ وما هي المرحلة التي يطويها الآن ؟ والى أين يتجه العالم ؟.

أُولى المسائل التي تُثيرها دعوة الأنبياء في النفوس هي مسؤوليةُ الإنسان أمام الكون والوجود وإثارةُ المسؤولية الاجتماعية في نفس الإنسان جزء من إثارة مسؤوليته أمام الكون والوجود لقد ذكرنا من قبل أنّ السور المكّيّة خلال الأعوام الثلاثة عشر من دعوة الرسول الأعظم، ركزّت على التذكير بالمبدأ والمعاد(١) .

الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأ يدعو الناس قائلاً: ( قُولوا لا إله إلاّ الله تُفلحوا )، أي إنّه دعى إلى نهضة عقائدية

____________________

(١) بعض المسلمين ( التقدميين ) المعاصرين أنكروا المعاد فيما كتبوه من تفسير لبعض سور القرآن، ورفضوا نزول أيّة آية في المعاد، وراحوا يفسّرون ( الدنيا ) في القرآن أنّها ( النظام الأسوأ في الحياة ) أي نظام الاستثمار والتمييز، و ( الآخرة ) أنّها ( النظام الأفضل ) أي النظام الذي يزول فيه الاستثمار والإجحاف والتمييز والملكية الخاصة وهذا المذهب في فهم القرآن يعني: أنّ كتاب الله العزيز رَفضَ النظرة الدينية قبل المدارس المادية الحديثة بألف عام !!!

٢٦٥

وإلى تغيير فكري صحيح إنّ التوحيد يستوعب جميعَ التعاليم والأفكار الإسلامية، لكنّ الدعوة إلى التوحيد في بداية مراحل نبوّة الرسول لم تكن تستهدف أكثر من نبذ الشرك في المعتقدات والعبادات، وتوجيه الناس إلى التوحيد الفكري والعبادي، والناس في بداية الدعوة ما كانوا يستوعبون أكثر من هذه الأبعاد التوحيدية.

هذه التوعية التي تنفذ إلى أعماق فطرة البشر، تخلق في النفوس حميّة الدفاع عن العقيدة، واندفاعاً نحو نشرها، وبذلاً للغالي والنفيس على طريقها.

الأنبياء بدأوا ممّا أُطلق عليه في عصرنا اسم البناء الفوقي ؛ ليصلوا إلى البناء التحتي مدرسة الأنبياء نظرت إلى الإنسان أنّه موجود مرتبط بعقيدته ورسالته وإيمانه أكثر من ارتباطه بمصالحه أي إنّ الفكر والعقيدة في هذه المدرسة بناء تحتي، والعمل، أي ارتباط الإنسان بالطبيعة ومواهب الطبيعة والمجتمع، بناء فوقي.

الدعوة الدينية ينبغي أن تسلك طريق الأنبياء، أي أن يرافقها تذكير مستمر بالمبدأ والمعاد، الأنبياء دفعوا المجتمع نحو التحرّك بإيقاظ هذا الإحساس، وتفجير هذه المشاعر، ونفضِ الغبار عن هذا الوجدان، وبثّ هذه التوعية بالاستناد إلى رضا الله وأوامره وجزائه.

في القرآن وردَت كلمة رِضوان في ثلاثة عشرَ موضعاً، وهي نقطة التركيز المعنوي في الرسالات الإلهية من أجل دفع المجموعة المؤمنة وهذه التوعية يمكن أن نسمّيها توعية إلهية أو توعية كونية.

التوعية الإنسانية تحتل المرتبة الثانية في التعاليم الإسلامية، وهي تتجه إلى تحسيس الإنسان بكرامته وشرفه وعظمته، فالإنسان - في نظر المدرسة الإسلامية - ليس بالحيوان الذي يعود وجوده إلى فوزه على سائر

٢٦٦

أقرانه من الحيوانات الأُخرى في معارك تنازع البقاء خلال مئات ملايين السنوات الماضية، بل إنّه موجود فيه نفخة من روح الله، وتسجد له الملائكة إلى جانب انطواء الكائن البشري على ميول حيوانية إلى الشهوة والشرّ والفساد فهو جوهر طاهر يتنافى بالذات مع كل الرذائل من: فساد وكذب وإراقة دماء وحقارة وخضوع للظلم والقوة إنّه مظهر من مظاهر عزّة ربّ العالمين:( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( شَرَفُ المرء قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عَنِ الناس ).

وقول عليعليه‌السلام لصحبه يوم صفين: ( الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين).

وقول الحسين بن عليعليه‌السلام : ( إنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظالمين إلاّ بَرَما ).

وقوله: ( هَيهات مِنّا الذلّة ) . كل هذه الأقوال تركّز على الشعور بالكرامة، والشرف الذاتي الذي يحمله الإنسان بالفطرة.

في المرحلة الثالثة يركّز الإسلام على التوعية الاجتماعية، وعلى الحقوق والمسؤوليات الاجتماعية، ونجد في مواضع متعددة من القرآن، دفعاً للناس استناداً إلى الحقوق الفردية أو الاجتماعية المسلوبة.

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (٢) .

____________________

(١) المنافقون: ٨.

(٢) النساء: ٧٥.

٢٦٧

وهذه الآية تركّز على توعيتين روحيتين لدفع الناس نحو الجهاد.

الأُولى: أنّ هذا السبيلَ سبيلُ الله.

والثانية: وجود أفراد مستضعفين راسفين في أغلال الظالمين.

ويقول تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * |الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمور ) (١) .

وفي هذه الآية نرى الإذنَ بالجهاد والدفاع يستندُ إلى ما تعانيه المجموعةُ المؤمنةُ من ظلم واغتصاب حقوق لكنّها تشيرُ إزاء ذلك إلى هدف أسمى من الحقوق المغتصبة، وهو: صيانة دُور ِعبادةِ الله باعتبارها القلب المعنوي النابض للمجتمع من الهدم.

ويقول تعالى:

( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (٢) .

وفي هذه الآية حثٌّ واضحٌ على النهوض واجتناب السكوت.

والقرآن يذمّ الشعراءَ، ويستثني منهم الشعراء المؤمنين وأهل الذكر

____________________

(١) الحج: ٣٩ - ٤١.

(٢) النساء: ١٤٨.

٢٦٨

والأعمال الصالحة، والذين يدافعون عن أنفسهم بالشعر أمام مَن ظَلَمَهم بالشعر.

( . إِلاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) (١) .

الإسلام إذ يأبى على الإنسان المسلم أن يخضع للظلم، ويعتبر ذلك من أعظم الذنوب، ويكلّف الإنسان بنيلِ حقوقه، فإنّما يطرح أوامرَهُ ونواهيه هذه في إطار القيم الإنسانية.

القرآن لا يستند أبداً إلى العُقَد النفسية، والى تحريك الحَسَد والشهوة، لا يقول: إنّ الآخرين تمتّعوا وتنعّموا فلِمَ لا تكونون أنتم مكانهم ؟!

الإسلام لا يجيز للفرد، لو اغتُصبت أموالهُ أن يقعد ساكتاً بحجّة الترفّع عن الماديات ! وهكذا لا يجيز السكوت أمام الاعتداء على العرض من هنا كان ( المقتول دون أهله وماله ) شهيداً في المفهوم الإسلامي لكن حثّ الإسلام على الدفاع عن المال، ليسَ تأجيجاً للحرص والطمع، بل تحريكاً نحو الدفاع عن ( الحقّ ) باعتباره من القِيَم الإنسانية، وهكذا حثّه على الدفاع عن العرض ليس تضخيماً لشهوة الجنس، بل تشجيعاً على الدفاع عن أكبر نواميس المجتمع، وهو العفاف الذي كُلّف الرجل بصيانته.

٢ - هوية أتباع الرسالة:

كل مدرسة فكرية تضفي على أتباعها هوية خاصة فالنظرية

____________________

(١) الشعراء: ٢٢٧.

٢٦٩

العنصرية - مثلاً - تشخّص أتباعها من خلال لونهم أو دمهم وحين يقول أحد أتباع هذه النظرية ( نحن ) فإنّما يقصد ذوي البشَرة البيضاء مثلاً والنظرية الماركسية تُضفي على أتباعها الصفة ( العمّالية )، وحين يقول أحد أتباعها ( نحن ) فإنّه يعني العمّال أو الكادحين والمسيحية تشخّص هوية معتنقيها بأنّهم أتباع السيد المسيح، باعتباره فرداً مشخّصاً دون الالتفات إلى خطّ السيد المسيح وإلى أهدافه.

وتتميّز الرسالة الإسلامية برفضها لكل الهويات العنصرية والطبقية والمهنية والمحلّية والإقليمية والفردية، لم تُضف هذه الرسالة على أتباعها اسم: العرب أو الساميين، أو الفقراء أو الأغنياء أو المستضعفين، أو البيض أو السود، أو الآسيويين، أو الشرقيين أو الغربيين، أو المحمديين أو القرآنيين أو أهل القبلة وأمثالها، كل هذه العناوين لا تشخّص هوية كلمة ( نحن ) بين أتباع هذه الرسالة.

هوية هذه الرسالة وهوية أتباعها تنفي كل تلك الهويات والعناوين المذكورة، وتبقى هوية واحدة تمثّلها ( العلاقة ) بين الإنسان والله، أي الإسلام والتسليم لله تعالى وحده.

الأُمّة الإسلامية هي الأُمّة التي أسلَمت وجههَا لله، واستسلمَت للحقيقة، واستسلمت للوحي الذي أشرق مِن أُفق الحقيقة على قلب أشرف أبناء البشر من أجل هداية الإنسانية.

الإسلام، أو التسليم للحقيقة، هو الذي يوحّد بين أبناء هذا الدين، وهو الطابع الذي يميّز أتباعه ويجمع الأفراد تحت لوائه.

الهوية التي تشخّص بها المدرسةُ أتباعها، معيارٌ جيّد لفهم أهداف تلك المدرسة ونظرتها إلى الإنسان والمجتمع و التاريخ.

٢٧٠

٣ - الدوافع والموانع

ذكرنا من قبل أنّ المدارس الفكرية تختلف في نظرتها إلى العوامل المحرّكة في التاريخ.

بعضها يعتقد أنّ العامل المحرّك يتمثّل في الضغوط التي تتعرّض لها طبقة من قِبَل طبقة أُخرى، وفي الرجعية الذاتية لطبقة والتقدمية الذاتية لطبقة أُخرى، وبعضُها يرى أنّ هذا العامل يتمثّل في الفطرة السليمة التوّاقة للكمال والتطوّر البشري وبعضُها يتبنّى عوامل أُخرى لحركة التاريخ.

العامل الذي تتبنّاه المدرسة الفكرية في حركة التاريخ، يفرز مفاهيمَ معيّنة عن دوافع هذه الحركة، وعن الموانع التي تقف بوجهها.

المدرسة التي تتبنّى الضغوط الطبقية باعتبارها العامل المحرّك للتاريخ، تسعى إلى خلق هذه الضغوط في المجتمع الذي قد ينعدم فيه الاضطهاد الطبقي، من أجل إنقاذ المجتمع من الركود والسكون ودفعه نحو الحركة.

يقول ماركس في بعض مؤلّفاته: ( من أجل أن توجد طبقة من الأحرار ؛ لا بدّ أن توجد إلى جانبها طبقة من العبيد ).

ثم يقول: ( كيف يمكن إذن تحرير الشعب الألماني ؟ جوابنا هو أنّه لا بدّ من تشكيل طبقة مكبّلة بالقيود تماماً )(١) .

____________________

(١) ماركس وماركسيسم، ص ٣٥ ( النص والحاشية ) من هنا نفهم أنّ الماركسية تناقض نفسها حين تقول: ( إنّ القوّة التي تمارسها الطبقة المسحوقة هي وحدها أخلاقية ؛ لأنّها تتّجه على مسيرة التكامل وتلعب دوراً في التطوّر أمّا القوّة التي تمارسها الطبقة المسيطرة فهو غير أخلاقية ؛ لأنّها تصدّ الحركة ).

٢٧١

مثل هذه المدرسة تنظر إلى ( الإصلاحات ) على أنّها موانع في طريق الحركة التكاملية لأنّها تقلّل من الضغوط التي تعانيها الطبقة المسحوقة، والتقليل من الضغط يؤدّي إلى تأخير الانفجار والثورة إن لم يصدَّها أمّا المدرسة المؤمنة بالحركة الفطرية الذاتية للمجتمع فلا تُفتي إطلاقاً بضرورة تشكيل طبقة مكبّلة بالقيود ؛ لأنّها ترفض أن تكون الضغوط شرطاً لازماً للتكامل، كما أنّها ترفض أن تكون الإصلاحات التدريجية مانعاً أمام الحركة التطوّرية.

الموانع والدوافع التي حدّدها الإسلام على هذا الصعيد تدور حول الفطرة دوافعُ الحركة في نظر القرآن تارة تكون التقوى، أي البقاء على النقاء الفطري الأصيل( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) (١) ، وتارةً تكون الإحساس بالمسؤولية أمام نظام الكون( يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) ،( وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) . وأحياناً تكون حيوية الفطرة:( لتنذر مَن كان حيّاً ) (٢) .

مقابل ذلك، حدّد الموانع في الفساد الروحي والأخلاقي، وإثم القلب(٣) ، ورين القلب(٤) ، وانسداد القلب(٥) ، وعمى القلوب(٦) ،

____________________

=

فالماركسية في الواقع تعتقد أنّ الاضطهاد، الذي تمارسه الطبقة المسيطرة، له في التكامل دورٌ لا يقل عن دور رَدّ الفعل الذي تُبديه الطبقة المسحوقة فكِلا العملين أخلاقيان مؤثّران في دفع مسيرة التكامل في نظر الماركسية، مع فارق بينهما في الاتجاه، أحدهما منشدّ بالماضي، والآخر بالمستقبل، ومن البديهي أنّ الانشداد الذهني بالماضي لا المستقبل لا يمكن أن يكون معياراً للأخلاقية ؛ لأنّ الاستناد إلى النوايا الذهنية نوعٌ من المثالية في نظر الماركسية.

(١) البقرة: ٢.

(٢) راجع الآيات: طه: ٣، الأنبياء: ٤٩، فاطر: ١٨، يس ١١.

(٣) البقرة: ٢٨٣

(٤) المطففين: ١٤.

(٥) البقرة: ٧.

(٦) الحجّ: ٤٦.

٢٧٢

ووقر الآذان(١) ، وقدسية النفس(٢) والاقتداء بآثار الآباء(٣) ، وإطاعة الكبراء والسادة(٤) واتباع الظن(٥) وأمثالها.

الإسراف والترف والنعيم يذكُرها القرآن على أنها من الموانع لأنّها تضخّم الخصال الحيوانية وتحّول الإنسان إلى بهيمة، أو سبُع ضارٍ، وهي لذلك تصدّ حركة الإنسان على طريق الخير والصلاح والتكامل.

المفاهيمُ الإسلامية تذهب إلى أنّ الشبّان أكثر تقبلاً للدعوة من المسنين لأن الشبان أبعد عن تلوّث الفطرة من المسنين، بسبب قلة أعمارهم وهكذا الفقراء أكثر استعداداً لتقبّل الدعوة من الأغنياء، لأن الفقراء بعيدون عن الثروة والرفاه.

الدوافع والموانع التي يعرضها القرآن تشير إلى أن العامل المحرك للتاريخ - في رأي الإسلام - روحيّ اكثر من أن يكون اقتصادياً مادياً.

٤ - تقدم المجتمعات وانحطاطها:

لكلّ مدرسة إجتماعية نظرتها الخاصة إلى أسباب تقدم المجتمعات وانحطاطها وزوالها وهذه الأسباب توضّح من جانب آخر نظرة تلك المدرسة إلى المجتمع والتاريخ والى مسيرة التكامل والهبوط.

القرآن الكريم يشير إلى هذه المسائل في عَرضِه لقصص الأمم

____________________

(١) فصلت: ٤٤.

(٢) ضد تزكيتها: الشمس ١٠.

(٣) الزخرف: ٣٣.

(٤) الأحزاب: ٦٧.

(٥) الأنعام: ١١٦.

٢٧٣

والشعوب ولنلق نظرة على القرآن لِنرى العوامل التي يركزّ عليها في هذا المجال، أهي مادية اقتصادية، أم عقائدية أخلاقية ؟ أم إنّه يركز على الإثنين معاً.

عوامل تقدّم المجتمعات وانحطاطها يحدّدها القرآن في أربعة ظواهر نشير إليها باختصار.

ألف - العدل والظلم:

وهذا العامل تكرّر ذكره في القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال يقول تعالى:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .

الآية الكريمة تذكر علوَّ فرعون في الأرض، والقاء التفرقة والتمييز بين الناس تحت عناوين مختلفة، واستضعاف طائفة منهم، وإذلال هذه الطائفة عن طريق ذبح الأبناء واستحياء النساء هذا الظلم يؤدّي إلى فساد المجتمع وانهدامه، ولذلك وَصَفَ القرآن فرعون:( إنّه كانَ مِنَ المُفسدين ) .

ب - الاتحاد والتفرقة: يقول تعالى:

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ

____________________

(١) القصص: ٢.

٢٧٤

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١) .

وبعدها بآية يقول:

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

وقريب من معنى الآية الأخيرة يقول تعالى:

( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) (٣) .

ويقول أيضاً:

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (٤) .

ج - الالتزام أو عدم الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عَن المنكر:

القرآن تحدّث كثيراً عن ضرورة الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر.

بعض الآيات تشير بصراحةٍ إلى أنّ عدم الالتزام بهذا المبدأ يؤدّي إلى هدم كيان الأُمّة، يقول تعالى:

( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (٥) .

وفي المأثور روايات مستفيضة عن الدورِ الإيجابي والسلبي للأمر

____________________

(١) آل عمران: ١٠٣.

(٢) آل عمران: ١٠٥.

(٣) الأنعام: ٦٥.

(٤) الأنفال: ٤٦.

(٥) المائدة: ٨٢.

٢٧٥

بالمعروف والنهي عن المنكر، لا مجال لنقلها.

د - الفسق والفجور وفساد الأخلاق:

وفي هذا المجال وردت آيات كثيرة أيضاً، بعضها يعتبر ( التَرَفَ ) و( المترفين )(١) سبَبَ الهلاك وبعضها الآخر يركّز على ( الظلم ) بما في ذلك ظلم الإنسان لنفسه وظلم الأُمّة لنفسها.

وكل انحراف عن المسيرة الإنسانية الصحيحة ظلم في المفهوم القرآني ؛ فالظلم له مفهوم عام يشمل ظلمَ الآخرين، وهذا ما أشرنا إليه من قبل، وشمل أيضاً كلَّ أنواع الفسق والفجور، والانحراف الأخلاقي والمعنى الثاني للظلم تكرّر أكثر في القرآن الكريم.

كثيراً ما يشير القرآن إلى أنّ الظلم بمعناه العام يؤدّي إلى هلاك الأُمّة ولا يَسعُنا في هذا الاستعراض الموجز نقل تلك الآيات.

من كلّ هذه المعايير نستطيع أن نستنتج رأي القرآن في أُسس المجتمع والتاريخ.

والقرآن يركّز على بعض ما يسمّونه بالأبنية الفوقية للمجتمع، ويعتبرها قادرةً على النهوض بالدور الحاسم الموجّه.

____________________

(١) راجع الآيات: هود: ١١٦، الأنبياء: ١٣، المؤمنون: ٣٣، ٦٤.

٢٧٦

تطوّر التاريخ

المسألة التي تحدّثنا عنها في الفصول السابقة دارت حول ماهية التاريخ ونتحدّث الآن عن مسألة تطوّر التاريخ، باعتبارها المسألة الثانية من المسائل الهامّة في حقل الدراسات التاريخية.

نعلم أنّ الإنسان ليس بالموجود الاجتماعي الوحيد، فبعض الأحياء الأُخرى، تعيش حياة اجتماعية بدرجة وأُخرى لها وجود اجتماعي، وتسود حياتها مظاهر التعاون وتقسيم الواجبات والمسؤوليات، في إطار مجموعة من القواعد والقوانين والنظم.

النحل - كما نعلم جميعاً - أحد هذه الأحياء لكن هناك اختلافاً رئيسياً بين الوجود الاجتماعي للإنسان، والوجود الاجتماعي لهذه الأحياء، هو أنّ الحياة الاجتماعية لتلك الأحياء ثابتة ذات شكل واحد، وليس هناك أي تغيّر وتطوّر في نظام حياتها أو في مدنيّتها على حدّ تعبير موريس مترلينك، إن صحّ تعبيره.

أمّا الحياة الاجتماعية للإنسان فمتغيّرة متطوّرة، بل ذات تعجيل، أي إنّ سرعة تغيّرها تزداد بالتدريج ؛ لهذا ينقسم تاريخ الحياة الاجتماعية للإنسان إلى مراحل مختلفة مع بعضها في مختلف المجالات.

٢٧٧

في مجال طرق المعيشة نرى: مرحلة الصيد، والمرحلة الزراعيّة، والمرحلة الصناعية وفي مجال النظام الاقتصادي نرى: مرحلة النظام الاشتراكي ومرحلة نظام الرق، ومرحلة الإقطاع، والمرحلة الرأسمالية وعلى صعيد النظام السياسي نشاهد: مرحلة نشوء الدويلات، ومرحلة الاستبداد، ومرحلة الارستقراطية ومرحلة الديمقراطية وعلى الصعيد الجنسي: نرى انقسام التاريخ إلى مرحلة سلطة المرأة ومرحلة سلطة الرجل . وهكذا في سائر المجالات.

وهنا يطرح فلاسفة التاريخ عادة سؤالاً حول حقيقة تطوّر التاريخ وتكامله هل التغييرات التي شهدها تاريخ الحياة الاجتماعية للبشر تتّجه نحو التطوّر والتكامل ؟ وما هو معيار التكامل في هذا المجال ؟

بعضهم شكّك في تكامل مسيرة البشرية(١) ، وبعض آخر اعتقد أنّ حركة التاريخ دوريّة، تبدأ من نقطة ثم تعود إليها بعد أن تطوي عدّة مراحل، فالتاريخ يعيد نفسه، وعلى سبيل المثال، حينما يقوم نظام قبلي قاسٍ على يد أفراد يتميّزون بطابع البداوة، فإنّ هذا النظام يؤدّي بطبيعته إلى قيام نظام أرستقراطي والنظام الارستقراطي بما فيه من احتكار للسلطة يؤدّي إلى ثورة شعبيّة واستتباب حكم ديمقراطي الفوضى والإفراط في ممارسة الحريات الممنوحة في النظام الديمقراطي ؛ يجرّان إلى عودة الاستبداد والقسوة وعودة الروح القَبَليّة.

لسنا هنا في صدد مناقشة هذه المسألة، فنتركها إلى فرصة أُخرى، ونبني بحثنا على قبول التطوّر في مسيرة التاريخ العامة.

____________________

(١) راجع: ما هو التاريخ، ام، اج، كار ودروس التاريخ، ويل ديورانت ولذائذ الفلسفة، ديورانت.

٢٧٨

من المؤكّد أنّ كل الذين يؤمنون بالحركة التطوّرية لمسيرة التاريخ، يعترفون بأنّ واقع المجتمعات ليس دائماً أفضل من ماضيها، ويعلمون أنّ مسيرة المجتمعات لا تتجه نحو التطوّر باستمرار دون تقهقر أو توقّف، فالركود والانحطاط والتقهقر، وهبوط منحنى التطور وتأرجحه، بل حتى السقوط والانهيار ظواهر تعتري المجتمعات دون شك المقصود هنا هو أنّ المجتمعات البشرية تتجه في مسيرتها بمجموعها نحو التطور.

كتب فلسفة التاريخ تطرح عدّة نظريات حول عوامل التطور الاجتماعي، ولو أمعنّا النظر في هذه النظريات لألفيناها لا ترتبط غالباً بموضوع عوامل التطوّر، ولرأيناها بعيدة عن المسألة الأساسية التي ينبغي أن تعالجها.

نستعرض هذه النظريات كما طرحتها كتب فلسفة التاريخ ؛ لنبيّن بعد ذلك أخطاءها وبُعدَها عن معالجة الموضوع:

١ - النظرية العنصرية:

وهذه النظرية تذهب إلى أنّ بعض السلالات البشرية لها قابلية صنع الحضارات والثقافات، وبعضها الآخر يفتقد إلى هذه القابلية، وبعضها ينتج العلوم والفلسفة والصناعات والفنون والأخلاق، وبعضها الآخر يستهلك هذه المنتجات.

أصحاب هذه النظرية يستنتجون ضرورة تقسيم العمل بين السلالات، فالسلالات الكفوءة تتولّى مسؤوليات السياسة والتعليم ونشر الثقافة والحضارة والفنون والصناعات، أمّا السلالات الأُخرى فمعافة من هذه الأعمال، وتنهض بدلاً من ذلك بالأعمال الجسمية الشاقّة شبه الحيوانية التي لا تتطلب فكراً وذوقاً أرسطو كان يتبنّى هذه النظرية ،

٢٧٩

ومن هنا كان يؤمن بحقّ الرقّيّة والاسترقاق.

اعتقد بعض بأنّ العامل الدافع لحركة التاريخ، هو الأجناس الخاصة: فالجنس الشمالي متفوّق على الجنس الجنوبي، وذلك الجنس هو الذي دفع عجلة الحضارة، الكونت غوبينو، الفيلسوف الفرنسي - الذي شغل منصب السكرتير الأوّل في السفارة الفرنسية لدى طهران قبل قرن - من أصحاب هذه النظرية.

٢ - النظرية الجغرافية:

البيئة الطبيعية - بموجب هذه النظرية - هي صانعة الحضارات والمدنيات والصناعات في المناطق المعتدلة ينشأ المزاج المعتدل والأدمغة المقتدرة أبو علي بن سنينا يشرح في بداية كتابه ( القانون ) بالتفصيل تأثير البيئة الطبيعية على الشخصية الفكرية والذوقية والعاطفية للإنسان.

وهذه نظرية لا تقوم طبعاً على أساس العنصر أو الدم، ولا تعتقد أنّ سلالة بشرية معيّنة تتميّز بالكفاءة الذاتية أينما عاشت، بل تؤمن أنّ اختلاف الأجناس البشرية يعود إلى اختلاف البيئة الطبيعية، ومع تنقّل السلالات البشرية في البيئات الجغرافية المختلفة تنتقل الكفاءات أيضاً بين الأجناس البشرية بالتدريج فالمناطق الجغرافية في الحقيقة هي الخلاّقة والمطوّرة، استناداً إلى هذه النظرية.

مونتسكيو عالم الاجتماع الفرنسي في القرن السابع عشر دافع عن هذه النظرية في كتابه ( روح القوانين ).

٣ - نظرية الأبطال:

هذه النظرية تؤمن أنّ النوابغ هم الذين يصنعون التاريخ، أي

٢٨٠