المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 70942
تحميل: 16570

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70942 / تحميل: 16570
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بإحداث ثقب فيها بحجّة أنّه يتصرّف في مكانه، فلو منعه الآخرون كان في ذلك نجاتهم من الغرق ونجاة ذلك المسكين أيضاً.

هل الإنسان اجتماعي بالطبع ؟

من المسائل الاجتماعية العريقة أنّه: ما هي العوامل المؤثّرة في تحقّق الحياة الاجتماعية للإنسان ؟ هل هو اجتماعي بالفطرة، أي أنّه خُلق منذ خلق وهو جزء من كل وجُبل على الانجذاب نحوه، أم أنّه لم يُخلق اجتماعياً وإنّما اضطرّته إلى ذلك العوامل الخارجية فأُجبر على الحياة الاجتماعية، فهو بطبعه يميل إلى الحرية ورفض كل القيود التي يستلزمها التمدّن والعيش الاجتماعي، ولكنّه أدرك بالتجربة أنّه لا يتمكّن من إدامة الحياة وحيداً فريداً، وأنّه لا بد من الرضوخ للقيود التي تستلزمها الحياة مع الآخرين فاستسلم لها، أم أنّه وإن لم يكن مجبولاً على الحياة الاجتماعية إلاّ أنّه لم يضطر إليها أيضاً، أو أنّ الاضطرار ليس هو العامل الوحيد بل الإنسان بحكم العقل الفطري وتقديره ومحاسباته وصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الحصول على حظ أكبر من مواهب الطبيعة لا يمكن إلاّ في ظل التعاون مع الآخرين , ومن هنا اختار هذه المشاركة والتعاون ؟

والخلاصة: أنّ السؤال الوحيد هو أنّ الحياة الاجتماعية للإنسان، هل هي فطرية أم اضطرارية أم اختيارية ؟

فبناءاً على النظرية الأُولى: تكون الحياة الاجتماعية من قبيل الحياة الزوجية ؛ حيث يعيش كل من الرجل والمرأة كجزء من كل حسب الفطرة، وقد جُبلا على الانجذاب نحو هذا الكل وبناءاً على النظرية الثانية: تكون الحياة الاجتماعية من قبيل المعاهدات، التي تضطر إلى عقدها الدول التي لا ترى لها بالانفراد إمكان

٢١

المقابلة مع العدو المشترك، فلابد لها من نوع من التعاون والتعاهد فيما بينها وبناءاً على النظرية الثالثة، تكون الحياة الاجتماعية من قبيل عقد الشركة بين تاجرين يتعاونان في مؤسسة تجارية، أو صناعية، أو زراعية ؛ لكسب كميّة أكبر من المال.

والعامل الأساس بناءاً على النظرية الأُولى: هو الطبع الفطري للإنسان وبناءاً على النظرية الثانية: أمر خارج عن وجود الإنسان وبناءاً على النظرية الثالثة: هو القوّة المدركة والمقدرة للإنسان.

والتمدّن بناءاً على النظرية الأُولى: غاية عامة طبيعية يتوجّه إليه الإنسان بمقتضى فطرته، لكنّه بناءاً على النظرية الثانية أمر اتفاقي وعرضي، فهو غاية ثانوية باصطلاح الفلسفة، وهو بناءاً على النظرية الثالثة غاية يبتغيها الفكر وليس غاية طبيعية.

ثم إنّ المستفاد من القرآن الكريم أنّ التمدّن والعيش الاجتماعي ممّا جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة، قال الله تعالى في سورة الحجرات:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

فالآية الكريمة كما تشتمل على درس أخلاقي، وهو جعل التعارف غاية للتشعب والقبلية تنبيهاً على منع التفاخر بذلك، تشير أيضاً إلى النكتة الاجتماعية في كيفية خلقة الإنسان، حيث بيّن أنّه خلق على وجه ينتهي إلى تشكّله إلى أُمم وقبائل مختلفة، والانتساب إلى الأُمم والقبائل يفيد معرفة الأشخاص وتمييزهم بعضاً عن بعض، وهو شرط أساسي في الحياة الاجتماعية فلولا هذا الانتساب الذي هو الوجه المشترك بين الأفراد من جهة، ووجه الامتياز من جهة أُخرى لم يمكن معرفة الأشخاص وتمييزهم، وبالنتيجة لم يمكن تشكيل الحياة الاجتماعية المبتنية على روابط الأفراد فالانتساب إلى الأُمة

٢٢

والقبيلة وغيره من الخصائص والمميّزات الطبيعية: كالاختلاف في اللون والشكل والحجم، تعتبر أساساً في الهوية الشخصية للفرد، إذ لولا الاختلاف في هذه الأُمور وفي الانتساب ؛ لكان أفراد الإنسان كالمنتوجات المتحدة الشكل من مصنع واحد، حيث لا يمكن تمييزها بعضاً عن بعض وإذا كان كذلك، لم يمكن تشكيل التمدّن البشري، الذي يتوقّف على ارتباط الأفراد وتبادل الآراء والأفكار والمعاملات إذن فالانتساب إلى الشعوب والقبائل له حكمة وغاية طبيعية، وهو التمييز ومعرفة الأشخاص، فلا ينبغي أن يجعل ذلك مبرّراً للتفاخر والاستعلاء، فإنّ أساس الكرامة والشرف هو التقوى.

قال الله تعالى في سورة الفرقان / ٥٤:( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) ، هذه الآية الكريمة تصرّح أيضاً بأنّ الروابط النَسبيّة والسببيّة بين البشر، التي هي أساس الارتباط والتعارف، من الأُمور التي جُعلت في أصل خلقة البشر لغاية طبيعية عامة.

وقال تعالى في سورة الزخرف / ٣٢:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .

الآية الكريمة وردت ردّاً على استبعاد المشركين إعطاء وسام النبوّة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال تعالى:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ) ، استفهام إنكاري بالنسبة إلى تقسيم المواهب الطبيعية بين الخلائق، ويجيب تعالى بأنّ وسائل العيش من الاستعداد الذاتي، والأسباب الطبيعية مقسومة على الخلق من قِبله تعالى ليسخر بعضهم بعضاً في رفع حوائجه، وبذلك يصبح الجميع في خدمة الجميع، ورحمة ربّك أي موهبة النبوّة خير ممّا يجمعون.

٢٣

وقد بحثنا عن هذه الآية بإسهاب في مباحث التوحيد ( فصل المعرفة إلى أساس التوحيد ) فلا نكرّر، وإنّما نشير هنا إجمالاً إلى أنّ مفاد الآية الكريمة: أنّ الناس ليسوا سواسية من حيث الإمكانات والاستعداد الذاتي، إذ لو كانوا كذلك وكان كل أحد واجداً لما يملكه غيره وفاقداً لما يفقده غيره ؛ لم تكن بينهم بالطبع حاجة البعض إلى البعض، فلم يتحقّق الترابط والخدمات المتقابلة، فأفراد الإنسان مختلفون من حيث القابليات والإمكانيات الجسمية والنفسية والعقلية والعاطفية، وقد فضّل الله بعضهم على بعض في بعض المواهب بدرجات، وربّما يفضّل البعض الآخر على هذا البعض الفاضل في مواهب أُخرى، وبذلك أصبح كل فرد محتاجاً إلى الآخرين ومنساقاً إلى عقد الترابط معهم، وعلى هذا الأساس بُنيت الحياة الاجتماعية المترابطة فهذه الآية تدل أيضاً على أنّ التمدّن البشري أمر فطري طبيعي، وليس متمحّضاً في الاختيار والمعاهدة ولا في الاضطرار والإلجاء.

هل المجتمع أصيل في وجوده أم لا ؟

المجتمع ليس إلاّ مجموعة من الأفراد، فلولا الأفراد لم يتحقق المجتمع ولابد من التحقيق عن كيفية هذا التركيب والعلاقة بين الفرد والمجتمع للإجابة عن السؤال وبهذا الصدد يمكن إبراز عدّة نظريات:

أ - إنّ تركيب المجتمع من الأفراد تركيب اعتباري وليس واقعياً.

فالمركّب الواقعي إنّما يتحقق إذا كانت هناك مجموعة من الأُمور تؤثّر كل منها في الآخر وتتأثّر كل منها من الآخر، ويتولّد من هذا التأثير والتأثّر والتفاعل، حادث جديد له ميزاته وخصائصه، كما نجد ذلك في التركيبات

٢٤

الكيمياوية، فيتفاعل غاز الأوكسجين وغاز الهيدروجين يتولّد حادث جديد أو ماهيّة جديدة هو الماء، وله خصائص وآثار لا توجد في الغازين المذكورين ؛ إذن فالتركيب الحقيقي يستلزم أن تفقد الأجزاء - التي تشكّل المركّب بعد التركيب والاندماج - خصائصها وآثارها فتنحل في وجود آخر هو المركّب.

وهذه الميزة ليست في تركيب المجتمع من الأفراد، فأفراد الإنسان لا يندمجون مع البعض في ( كل ) هو المجتمع إذن فالمجتمع ليس له وجود أصيل عيني حقيقي، بل وجوده اعتباري وانتزاعي، والأصيل هنا هو الفرد وحياة الإنسان في المجتمع وإن كانت حياة اجتماعية إلاّ أنّ الأفراد لا يشكّلون مع بعض مركّباً حقيقياً بعنوان المجتمع.

ب - إنّ المجتمع وإن لم يكن مركّباً حقيقياً على غرار المركّبات الطبيعية إلاّ أنّه مركّب صناعي، وهو أيضاً من قبيل المركّبات الحقيقية.

فهو نظير تركّب السيارة - مثلاً - فإنّ أجزاءها مترابطة أيضاً والفرق بينها وبين المركّب الطبيعي أنّ الأجزاء في المركّب الطبيعي تفقد هويّتها وتنحل في الكل، وتبعا ًلذلك فقد تفقد الاستقلال في التأثير بالضرورة.

ولكنّ المركبات الصناعية ليست كذلك، فالأجزاء لا تفقد هويّتها، ولكن لا تستقل في التأثير فهي مترابطة بوجه خاص وآثارها أيضاً مترابطة، إلاّ أنّ ما يبرز من أثر المجموع ليس هو بعينه مجموع آثار الأجزاء كلاًّ على حدة فالسيارة - مثلاً - تنقل الأشخاص والأمتعة بسرعة معيّنة إلى مكان ما في حين أنّ هذا الأثر ليس لجزء خاص من السيارة بعينه، ولا هو مجموع آثار الأجزاء لو كانت تؤثّر مستقلاً دون ارتباط ففي تركيب السيارة، نجد الارتباط والمشاركة في التأثير بين الأجزاء على سبيل الجبر ،

٢٥

ولكنّ هويّة الأجزاء لا تنحل في الكل، فليس للكل المركّب وجود مستقل عن وجودات الأجزاء، بل هو عبارة عن مجموع الأجزاء مضافاً إلى الربط المخصوص فيما بينها.

وهكذا المجتمع، فهو مركّب من مجامع ومؤسّسات أصلية وفرعية، وهذه المجامع والأفراد كلها مرتبطة مع بعض، والتغيّر الطارئ على كل مجمع يؤثّر على سائر المجامع، سواء كان ذلك المجمع ثقافياً أم دينياً أم اقتصادياً أم قضائياً أو تربوياً والحياة الاجتماعية ظاهرة قائمة بالمجتمع ككل، من دون أن يفقد الأفراد في المجتمع أو في كل مجمع بخصوصه هويّته الشخصية.

ج - إنّ المجتمع مركّب حقيقي من نوع المركّبات الطبيعية، إلاّ أنّه يتركّب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر، فهو تركيب من الثقافات، كما أنّ العناصر المادية بالتفاعل مع بعض تمهّد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة، وبالعبارة الفلسفية أجزاء المادة بالفعل والانفعال والكسر والانكسار، فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة ويحدث المركّّب الجديد، والأجزاء تستمر في وجودها ولكن بصورة جديدة وماهيّة حادثة، كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق المجتمع وكل منهم يحمل مواهبه الفطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسيّاتهم وتتحقق نفس جديدة يُعبّر عنها بالروح الجماعية، فهذا التركيب تركيب طبيعي من جهة أنّ أجزاءه تؤثّر وتتأثّر كل من الآخر تأثّراً عينياً خارجياً، يوجب التغيير في الأجزاء وكسب هويّة جديدة، ولكنّه يتميز

٢٦

عن سائر المركّبات الطبيعية في أنّ الكل والمركّب هنا ليس موجوداً واقعياً له هويّته الخاصة، بخلاف تلك المركّبات الطبيعية فإنّ ذات الأجزاء تتبدّل بعد التركيب من جرّاء التفاعل مع بعض ويتحقق المركّب كآمر واقعي موحّد فالموجود حينئذٍ هو أمر واحد ذو أجزاء وقد تبدّلت كثرة الأجزاء إلى وحدة الكل وأمّا تركّب المجتمع من الأفراد فهو تركيب واقعي ؛ لأنّ التفاعل الواقعي يتحقق بين الأفراد - وهم أجزاء المجتمع - فتتبدل الصورة الفردية إلى صورة جماعية، إلاّ أنّ كثرة الأفراد لا تتبدل حقيقة إلى وحدة الكل، فليس هنا واحد حقيقي تنحل فيه الكثرات، بل الكل هنا موجود اعتباري انتزاعي هو مجموع الأفراد.

د - إنّ تركيب المجتمع تركيب حقيقي فوق التركيبات الطبيعية، فإنّ الأجزاء في المركّب الطبيعي لها ذوات وآثار حقيقية قبل التركيب، وإنّما تمهّد الطريق لتحقق ظاهرة جديدة بالتفاعل والتأثّر فيما بينها.

ولكنّ الإنسان قبل الاندراج في سلك المجتمع ليست له هوية إنسانية، بل هو استعداد محض له قابلية التلبّس بالروح الجماعية والإنسان مع قطع النظر عن هذه الروح حيوان محض له استعداد الإنسانية، فهو إنسان بالقوّة وإنّما تبرز إنسانية الإنسان، والشعور النفسي بالروح الإنسانية، وفعليّة الفكر الإنساني، والعواطف البشرية، وكل مميّزات الإنسان من أحاسيس وميول وأفكار وعقائد وعواطف ( إنّما تبرز ) تحت إشعاع الروح الجماعية، وهي التي تملأ الإناء الفارغ البشري، وتجعل من الشخص شخصية إنسانية والروح الجماعية تلازم الإنسان ولا تفارقه أبداً، وتتجلّى في ضمن الآثار الخلقية والدينية والعلمية والفلسفية والأدبية، فالتفاعل والتأثير والتأثّر الروحي والثقافي بين الأفراد إنّما يتم بسببها ولا تتحقق قبلها إذن فالوضع الاجتماعي مقدّم على الخصائص

٢٧

الفردية، بخلاف النظرية السابقة، حيث كان للإنسان قبل الدخول في السلك الاجتماعي شؤون نفسية، وكانت الحقائق الاجتماعية تأتي في مرحلة متأخّرة عن الخصائص النفسية للأفراد وأمّا بناءاً على هذه النظرية فالوجود الاجتماعي للإنسان والحقائق الاجتماعية شرط أساسي في تكوين الشؤون النفسية للفرد، وفي إمكان دراسة شؤونه النفسية.

فالنظرية الأُولى متمحّضة في أصالة الفرد ؛ إذ بناءاً عليها ليس للمجتمع وجود حقيقي ولا قانون ولا سنةٌ ولا مصير ولا دراسة مستقلّة والوجود الحقيقي إنّما هو للفرد، وهو موضوع الدراسة، ومصير كل فرد مرتبط به وبشؤونه ومستقل عن مصير الآخرين.

والنظرية الثانية أيضاً تستند إلى أصالة الفرد، فلا تذعن بوجود حقيقي للمجتمع ككل , ولا بتركيب واقعي بين الأفراد كمجتمع، ولكنّها تقول بوجود ارتباط أصيل وواقعي بين الأفراد نظير الرابطة الفيزيائية بين أجزاء السيارة وبناءاً على هذه النظرية ليس للمجتمع وجود مستقل عن وجودات الأفراد، وليس في الواقع الخارجي حقيقة سوى حقائق الأفراد، إلاّ أنّهم يرتبطون مع بعض كما ترتبط أجزاء السيارة أو أي آلة أو مصنع آخر وترتبط آثارهم وحركاتهم على غرار الروابط بين العلل والمعلولات الميكانيكية ؛ وعليه فللأفراد مصير مشترك، وللمجتمع - أي هذه المجموعة المرتبطة الأجزاء - تعريف وحدٌّ خاص بلحاظ وجود الرابطة العلّيّة والمعلولية الميكانيكية بين أجزائه، فتعريفه يختلف عن تعريف الأجزاء.

وأمّا النظرية الثالثة، فتلتزم بأصالة الفرد والمجتمع معاً، وهي من جهة ترفض انحلال وجود الأفراد ( أجزاء المجتمع ) في الكل، وترفض

٢٨

وجوداً مستقلاً للمجتمع على غرار المركّبات الكيماوية، وبذلك تلتزم بأصالة الفرد ومن جهة أُخرى، تلتزم بوجود تركيب من قبيل التركيب الكيماوي بين الشؤون الروحية والفكرية والعاطفية للأفراد، وتلتزم بأنّ الفرد يكتسب ماهيّة جديدة بالاندراج في المجتمع، هي الماهيّة الاجتماعية بالرغم من عدم وجود ماهية مستقلّة للمجتمع نفسه ؛ وبذلك فهي تلتزم بأصالة المجتمع فبناءاً على هذه النظرية، تحدث ظاهرة جديدة واقعية وحيّة من جرّاء التفاعل والتأثير والتأثّر المتقابل بين الأجزاء ( الأفراد )، وهذا الأمر الجديد هو الروح الجماعية والشعور والوجدان والإرادة الاجتماعية، وهو أمر زائد على الشعور والوجدان والإرادة والفكر الفردي للأفراد، وهذه الروح غالبة على الشعور الفردي.

وأمّا النظرية الرابعة فهي متمحّضة في أصالة المجتمع، فالموجود في الخارج ليس إلاّ الروح الاجتماعية، والوجدان والشعور الفردي ليس إلاّ مظهراً من مظاهر الشعور والوجدان الاجتماعي فحسب.

والآيات القرآنية الكريمة تؤيّد النظرية الثالثة، ولقد سبق منّا القول بأنّ القرآن لم يذكر هذه المسائل في إطار البحث العلمي أو الفلسفي، وإنّما يذكرها بوجه آخر، والذي يستنبط من الدراسة القرآنية للمسائل الاجتماعية هو تأييد النظرية الثالثة.

فالقرآن يرى للأُمم ( المجتمعات ) مصيراً مشتركاً، وصحيفة أعمال مشتركة، ويرى للأُمّة إدراكاً وشعوراً وعملاً وإطاعةً وعصياناً(١) .

ومن الواضح: أنّ الأُمة لو لم تكن موجودة بوجود عيني حقيقي ؛ لم يصح افتراض المصير والفهم والشعور والطاعة

____________________

(١) راجع الميزان ج ٤ ص ١٠٢.

٢٩

والعصيان لها وهذا يدل على أنّ القرآن يؤيّد وجود نوع من الحياة للمجتمع هي الحياة الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ليست مجرّد تمثيل واستعارة بل هي حقيقية واقعية، كما أنّ الموت الاجتماعي حقيقة بدوره أيضاً.

قال تعالى في سورة الأعراف / ٣٤:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ، هذه الآية تتحدث عن حياة لها أجل لا يمكن التخلّف عنه، ولا يتقدّم ولا يتأخّر وهذه الحياة متعلّقة بالأُمّة ( المجتمع )، لا الفرد ومن الواضح أنّ الأفراد لا يفقدون حياتهم الفردية دفعةً واحدة وفي آن واحد، بل بالتناوب والافتراق.

وقال تعالى في سورة الجاثية / ٢٨:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا ) .

ويظهر من هذه الآية أنّ الكتاب ( صحيفة الأعمال ) لا يختص بالفرد حيث يستقل كل من الأفراد بكتابه، بل المجتمعات أيضاً لها صحف أعمال، ويُدعى كل مجتمع إلى كتابه ؛ وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ المجتمعات تُعد من الموجودات الحيّة الشاعرة القابلة للتكليف والخطاب.

وقال تعالى في سورة الأنعام / ١٠٨:( زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) هذه الآية تدل على أنّ كل أُمّة لها شعور واحد، ومقاييس خاصة، وأُسلوب خاص للتفكير، وأنّ الإدراك والشعور الاجتماعي لكل أُمّة يختص بها، وأنّ كل أُمّة لها مقاييسها الخاصة في الحكم، خصوصاً في المسائل المربوطة بالإدراكات العلمية، ولكل أُمّة ذوق إدراكي خاص، وربّما تستحسن أُمّة عملاً بينما تستقبحه أُمّة أُخرى، فالجو الاجتماعي

٣٠

الخاص للأُمّة يصنع ذوقها الإدراكي.

وقال تعالى في سورة غافر / ٥:( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) هذه الآية تتحدث عن إرادة سوء اجتماعية لمحاولة فاشلة في معارضة الحق.

وتحكم الآية الكريمة بأنّ جزاء هذا العمل والإرادة الاجتماعية هو العذاب العام الشامل.

ثم إنّ هناك موارد في القرآن الكريم ينسب العمل الصادر من الفرد إلى مجتمعه، والعمل الصادر من جيل إلى الأجيال المتأخّرة(١) ؛ وذلك فيما كان لهم جميعاً فكر اجتماعي واحد، وإرادة اجتماعية واحدة، وكما يقال: لهم روح اجتماعية واحدة ( مثال ذلك ) ما ورد في قصة ثمود حيث عمد أحدهم إلى عقر ناقة صالح، والقرآن ينسب ذلك إلى القوم بأجمعهم فيقول:( فَعَقَرُوهَا ) ، فاعتبرهم جميعاً مجرمين، كما اعتبرهم جميعاً مستحقّي العقاب، فقال تعالى:( فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ) .

وقد أوضح ذلك الإمام عليعليه‌السلام في إحدى خطبه في نهج البلاغة، حيث قال: ( يا أيّها الناس، إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ) فبيّن الإمامعليه‌السلام أنّ الرضا والسخط مقياس - وإن أتى به واحد منهم - فهم مشتركون في حكمه وجزائه، وكذلك اجتماعهم على السخط بالنسبة إلى عمل، قالعليه‌السلام : ( إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه الرضا، فقال:( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ) ).

____________________

(١) الآية ٧٩ من سورة البقرة والآية ١١٢ من سورة آل عمران.

٣١

وهنا ينبغي أن نشير إلى أنّ الرضا بالمعصية ما دام مجرّد رضا في النفس، ولم يصاحبه عمل خارجي لا يعتبر ذنباً فلو أذنب أحد وعلم به آخر قبل العمل أو بعده ففرح بذلك لم يعتبر مذنباً، بل إرادة الذنب والعزم عليه لا يُعد ذنباً ما لم يصل إلى مرحلة العمل وإنّما يعد الرضا بالذنب ذنباً إذا كان مؤثّراً في إرادة المجرم وتصميمه وعمله، كما إذا كان الذنب جريمة اجتماعية، فالجو الاجتماعي والروح الجماعية تستقبل الذنب وترضى به وتسير نحوه، ويباشر العمل فرد من أفراد ذلك المجتمع في حين أنّ تصميمه وإرادته للعمل جزء من تصميم الكل وإرادته، وهكذا يُعدّ الذنب ذنباً للجميع، وهذا هو المراد في كلام الإمامعليه‌السلام الذي ورد تفسيراً للآية المباركة، وأمّا مجرّد الفرح والرضا من دون أن يكون لهما مدخليّة في الذنب فلا يُعدّان ذنباً.

وقد نسب في القرآن بعض الأعمال التي ارتكبتها الأجيال السابقة إلى الجيل المتأخّر، كما نسب أعمال بني إسرائيل في عهود الأنبياء السابقين إلى اليهود في عهد الرسول الأكرم (ص)، وقد حكم عليهم باستحقاق الذلّة والمسكنة لقتلهم الأنبياء بغير حق والسر في ذلك أنّ هؤلاء - من وجهة النظر القرآنية - استمرار لأولئك القوم، بل هم قوم واحد بلحاظ الروح الاجتماعية ومن هنا قيل إنّ البشرية تتشكّل من الأموات أكثر من تشكّلها من الأحياء(١) ، يعني: أنّ للأموات والسلف سهماً أكبر في تشكيل عناصر البشرية من الأحياء والباقين ومثل ذلك ما قيل: ( إنّ الأموات يحكمون على الأحياء أكثر من ذي قبل )(٢) .

____________________

(١) اوغسست كونت حسب ما أورده ريمون ارون في كتاب ( مراحل أساسي انديشة در جامعة شناسي ص١١٧ ).

(٢) المصدر السابق.

٣٢

وقد ورد في تفسير الميزان بحث في أنّ المجتمع إذا أصبح ذا فكر اجتماعي واحد، وروح اجتماعية واحدة ؛ كان حكمه حكم الفرد الواحد من الإنسان، فكما أنّ أعضاء الإنسان وقواه منحلّة ذاتاً وفعلاً في شخصية الإنسان، فلذّاتها وألمها لذّة الإنسان الكل وألمه، وسعادتها وشقاؤها سعادته وشقاؤه، كذلك أفراد المجتمع بالنسبة إلى المجتمع ككل ثم أدام بحثه قائلاً: ( وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأُمم والأقوام التي ألجأتهم التعصّبات المذهبية أو القومية أن يتفكّروا تفكّراً اجتماعياً: كاليهود والأعراب وعدّة من الأُمم السالفة، فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين، ويعاتب الحاضرين ويوبّخهم بأعمال الغائبين والماضين ؛ كل ذلك لأنّه القضاء الحق فيمَن يتفكّر فكراً اجتماعياً وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها )(١) .

المجتمع والقانون:

إذا قلنا بأنّ المجتمع موجود حقيقي له واقع خارجي، فلابد من أن تكون له قوانين وسنن خاصة به، وأمّا إذا قبلنا النظرية الأُولى في البحث السابق حول ماهيّة المجتمع، وأنكرنا الوجود العيني له، فهو فاقد للقانون بالطبع وإذا قبلنا النظرية الثانية وقلنا إنّ تركيب المجتمع من الأفراد تركيب صناعي وآلي، فالمجتمع حينئذٍ له قانون وسنّة، إلاّ أنّ جميع قوانينه وسننه تتلخّص في تنظيم الرابطة العلّيّة والمعلولية الميكانيكية بين الأجزاء، والتأثير الميكانيكي بين المجامع المختلفة في المجتمع، من دون أن يبرز للمجتمع آثار خاصة من مظاهر الحياة.

____________________

(١) الميزان ج٤ ص١٠٥ - ١٠٦ ط بيروت.

٣٣

وإذا قبلنا النظرية الثالثة فلابد أن نلتزم - أولاً - بثبوت قوانين وسنن خاصة بالمجتمع مستقلّة عن الأفراد ؛ وذلك لأنّ مقتضى هذه النظرية ثبوت حياة مستقلّة للمجتمع، وإن كان محل هذه الحياة الاجتماعية نفس الأفراد فليس لها وجود مستقل.

وثانياً: بأنّ أجزاء المجتمع ( الأفراد ) - خلافاً للنظرية السابقة - تفقد استقلالها الذاتي ولو نسبياً، وتحصل لها حالة الانتماء إلى الكل، وفي نفس الوقت تحفظ استقلالها النسبي، فإنّ حياة الفرد ومواهبه الفطرية ومكتسباته من الطبيعة لا تنحل نهائياً في الحياة الاجتماعية فالواقع أنّ مقتضى هذه النظرية أنّ الإنسان يعيش بحياتين وروحين ونفسين: حياة وروح ونفس فطرية إنسانية ناشئة من الحركة الجوهرية في الطبيعة، وحياة وروح ونفس اجتماعية ناشئة من التمدّن والحياة ضمن المجتمع والحياة الثانية حالة في الحياة الفردية ؛ وعليه فالإنسان محكوم بقوانين علم النفس، كما أنّه محكوم بقوانين علم الاجتماع وأمّا بناءاً على النظرية الرابعة فالإنسان، بما هو إنسان، محكوم بنوع واحد من القوانين والسنن، وهي القوانين الاجتماعية.

ولعلّ أول مَن صرّح من علماء المسلمين، باستقلال القوانين والسنن الحاكمة على المجتمع عن السنن والقوانين الحاكمة على الأفراد، وقال باستقلال المجتمع في شخصيّته وطبيعته وواقعيّته هو ( عبد الرحمان بن خلدون التونسي ) حيث بحث عنه بإسهاب في مقدمته على تاريخه.

وأول مَن حاول اكتشاف السنن الحاكمة على المجتمعات من بين علماء العصر، هو مونتسكيو الفرنسي من علماء القرن الثامن عشر الميلادي.

قال ريمون آرون بشأن مونتسكيو:

( إنّ هدفه التفسير الصحيح للتاريخ ودرك معطيات التاريخ فإنّ

٣٤

معطياته المعروضة ليست إلاّ ظواهر مختلفة، غير متناهية تقريباً من التقاليد والعادات والأفكار والقوانين والعوامل الاجتماعية وهذه المختلفات غير المترابطة - حسب الظاهر - تشكّل نقطة الشروع للبحث والتحقيق.

وبعد تكميل الدراسة لا بد من تأسيس نظام وقانون ليخلف هذه المختلفات غير المترابطة فمونتسكيو يريد كما أراد ( ماكس وير ) أن يتجاوز المعطيات التاريخية غير المترابطة إلى النظام المعقول وهذه هي سيرة علماء الاجتماع )(١) .

ومحصّل ما ذكره وراء الظواهر الاجتماعية المختلفة التي تظهر وكأنّ كلاًّ منها أجنبي عن الآخر نظام موحّد يكشفه العالم الاجتماعي، وكل هذه الظواهر مظاهر ذلك النظام والقانون.

وقد حكي عن كتاب ( أسباب عظمة الروم وسقوطهم ) - حول استناد الظواهر الاجتماعية المتشابهة إلى علل متشابهة - قوله:

( إنّ العالم لا تتحكّم فيه الصدفة وهذه الملاحظة يمكن أن نبحث عنها في تاريخ الروم، حيث كانوا ناجحين في سياستهم عندما كان لهم تخطيط في القيادة ولمّا تركوا مخطّطهم القيادي وسلكوا سبيلاً غيره أُصيبوا بفشل بعد فشل وهكذا كل نظام ملكي يسير صُعُداً لأسباب جسمية أو أخلاقية، وتستقر مكانها لأسباب، وتنزل نحو السقوط لأسباب أُخرى، فكل الحوادث تتبع أسبابها ولو تهاوت دولة وسقطت من جرّاء حرب أو أيّة صدفة أُخرى خارجة عن سلسلة العلل، فلابد أن تكون هناك علّة كلّيّة تسبّبت في ضعف الدولة حتى سقطت بسبب

____________________

(١) مراحل أساسي أنديشه در جامعه شناسي ص٢٦.

٣٥

حرب واحدة والخلاصة: أنّ المسار العام هو السبب للحوادث الجزئية )(١) .

والقرآن الكريم يصرّح: بأنّ الأُمم والمجتمعات من حيث إنّها أُمم ومجتمعات ( لا مجرّد أفراد المجتمع ) لها سنن وقوانين تخصّها، وكل اعتلاء وسقوط يتبع تلك السنن والقوانين، ولولا سنن المجتمع لم يكن لأفراده مصير مشترك قال تعالى بشأن بني إسرائيل:( وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ) (٢) .

المستفاد من الآيات الكريمة: أنّ الله تعالى قد قضى على بني إسرائيل في أحد الكتب السماوية أنّكم ستفسدون في الأرض مرّتين، وتطغون طغياناً كبيراً فإذا حلّ وقت الانتقام من الطغيان الأول بعثنا عليكم عباداً لنا أُولي بأسٍ شديد، فيدخلون عليكم بيوتكم ويجوسون خلال الديار، وكان وعداً حتميّاً مفعولاً، ثم تندمون وترجعون إلى سويّ الصراط فنسلّطكم عليهم ونمدّكم بالمال والعدد، فتزيدون عليهم من حيث العِدَّة والعُدَّة و - بوجهٍ عام - كلّما أحسنتم فقد أحسنتم لأنفسكم

____________________

(١) مراحل أساسي ص٢٧.

(٢) الإسراء ٤ - ٨.

٣٦

وإن أسأتم فلأنفسكم أيضاً، يعني: أنّ سنّتنا وقانوننا ثابت لا يتغيّر، ففي حالة نمنح أُمّةً القوّة والقدرة والعزّة والاستقلال، وفي حالة أُخرى نسوقها إلى المذلّة والانحطاط وإذا حلّ وقت الانتقام من طغيانكم الثاني بعد عودكم إلى الفساد سلّطنا عليكم عباداً أُخر أقوياء وأشدّاء في الحرب ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّة، وليبيدوا كل ما تسلّطوا عليه شر إبادة ولعلّ الله يرحمكم إذا عدتم إلى الصراط المستقيم، وإن عدتم إلى الفساد عدنا إلى العقوبة وتسليط الأعداء عليكم فقوله تعالى وإن عدتم عدنا بلحاظ خطابه إلى القوم والأُمّة دون الأفراد ؛ يدل على أنّه قانون وسنّة عامة للمجتمعات.

الجبر والاختيار الاجتماعيَّين:

من المسائل الأساسية المطروحة بين العلماء، وخصوصاً في القرن الأخير، هي مسألة الجبر والاختيار الفردي في قِبال مقتضيات المجتمع، وبعبارة أُخرى اختيار الروح الفردية وجبرها في قِبال الروح الجماعية.

فإذا التزمنا بالنظرية الأُولى في مبحث تركيب المجتمع، وقلنا بأنّه تركيب اعتباري محض، وأنّ الأصيل هو الفرد، لم يكن مجال لتوهّم الجبر الاجتماعي ؛ إذ ليست هناك قدرة وقوّة سوى قدرة الفرد وقوّته، ونكون بذلك قد أنكرنا قوّة المجتمع وقدرته فلا يتوهّم له سلطان على الفرد فإذا تحقق جبر عليه كان من فرد أو أفراد آخرين لا من قِبل المجتمع، كما يقوله القائلون بالجبر الاجتماعي.

كما أنّه إذا التزمنا بالنظرية الرابعة، وقلنا بأنّ الفرد، من حيث الشخصية الإنسانية مادة صرفة وكالإناء الفارغ مجرّد استعداد وقابلية، وأنّ شخصية الفرد الإنسانية وعقله الفردي وإرادته الفردية التي هي

٣٧

أساس اختياره، إنّما هي شعاع من العقل الاجتماعي والإرادة الاجتماعية، وأنّ الإرادة الفردية إغراء من الروح الجماعية تبرز في الفرد لوصول المجتمع إلى مقاصده الاجتماعية والخلاصة: إذا قلنا بأصالة المجتمع محضاً ؛ لم يكن مجال لتوهّم الحرية الفردية والاختيار الفردي في الأُمور الاجتماعية.

يقول ( آميل دور كايم ) العالم الاجتماعي الفرنسي الذي يعتقد بهذه النظرية: ( إنّ الأُمور الاجتماعية أو ( بتعبير أحسن ) الأُمور الإنسانية في قِبال الأكل والنوم أو غيرهما ممّا يتعلّق بالجهة الحيوانية في الإنسان - من مكتسبات المجتمع دون الفرد وإرادة الفرد.

ولها ثلاث مميّزات:

١- أنّها خارجة عن ذات الفرد.

٢- أنّها جبرية.

٣- أنّها عامة.

وإنّما تُعدّ خارجة عن ذات الفرد لأنّها تصدر من المجتمع ويتقبّلها الفرد، وهي موجودة في المجتمع قبل وجوده، وإنّما يقبلها تحت تأثير المجتمع: كالآداب والتقاليد الخلقية والاجتماعية والدين ونظائرها وتُعدّ جبريّة لأنّ الفرد مقهور في قبوله، ويتربّى الوجدان الفردي وفكره وإحساسه وعواطفه حسب ما تقتضيه هذه الأُمور وجبريتها تستلزم عموميتها أيضاً ).

وأمّا إذا التزمنا بالنظرية الثالثة، وقلنا بأصالة الفرد والمجتمع معاً، فالمجتمع وإن كان له قدرة غالبة على قدرة الفرد، إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم جبر الفرد في الأُمور الاجتماعية الإنسانية فالجبر الذي يقول به ( دور كايم ) إنّما يقول به غفلة عن أصالة الفطرة في الإنسان، الناشئة من تكامل الإنسان بجوهره في الطبيعة وهذه الفطرة تمنح الإنسان نوعاً من الحرية والتمكّن على العصيان أمام مقتضيات المجتمع ومن هنا نقول

٣٨

إنّ علاقة الفرد بالمجتمع يتحكّم فيها نوع من الأمر بين الأمرين(١) .

والقرآن الكريم بينما يقول باستقلال المجتمع في طبيعته وشخصيته وعينيّته وقدرته وحياته وموته وأجله ووجدانه وإطاعته وعصيانه، يصرّح أيضاً بأنّ الفرد قادر على العصيان أمام مقتضيات المجتمع ؛ ويستند القرآن في ذلك إلى ( فطرة الله ) وقد ورد في سورة النساء آية / ٩٧ أنّ قوماً يعتذرون عن عدم قيامهم بمسؤوليّاتهم الفطرية بكونهم مستضعفين في مجتمعهم ( المجتمع المكّي ) وفي الواقع يريدون أن يعتذروا عن ذلك بكونهم مجبرين أمام مقتضيات المجتمع، فلا يُقبل منهم هذا العذر ؛ إذ كان بإمكانهم على اقل تقدير أن يهاجروا، ويتركوا ذلك الجو الاجتماعي الفاسد إلى مجتمع صالح(٢) .

وقال تعالى في سورة المائدة / ١٠٥:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ ) والمراد أنّ ضلال الآخرين لا يجبركم على الضلالة إذا كنتم مهتدين.

وقال تعالى في آية الذر التي وردت إشارة إلى الفطرة الإنسانية، بعد أن أشار إلى أخذ العهد من الناس على توحيد الرب، وإيداع هذا العهد في فطرة الإنسان، قال:( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً

____________________

(١) الأمر بين الأمرين هو نظرية الشيعة في مسألة الجبر والتفويض، حيث يقول الأشاعرة بالأول، والمعتزلة بالثاني وقد اشتهر عن أئمّتناعليهم‌السلام قولهم: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ( المترجم ).

(٢)( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) النساء، آية ٩٧.

٣٩

مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) فأشار إلى أنّ هذه الفطرة تمنع من دعوى الجبر والإلجاء في اتباع سنن الآباء.

والتعاليم القرآنية كلّها مبتنية على مسؤولية الإنسان بالنسبة إلى نفسه والى مجتمعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرار يحكم بطغيان الفرد على الفساد الاجتماعي، وأكثر القصص والوقائع المذكورة في القرآن تتضمّن طغيان الفرد وثورته على مجتمعه والجو الفاسد الاجتماعي: كقصّة نوحعليه‌السلام ، وإبراهيمعليه‌السلام ، وموسىعليه‌السلام ، وعيسىعليه‌السلام ، والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحاب الكهف، ومؤمن آل فرعون، وغيرهم.

وأساس توهّم الجبر للفرد أمام المجتمع والجو الاجتماعي، هو توهّم أنّ مقتضى التركيب الحقيقي اندماج الأجزاء بعضها في بعض، وانحلال كثرتها في وحدة الكل وحدوث حقيقة جديدة، فإمّا أن نلتزم باستقلال الفرد وكرامته وحريته، ونرفض التركيب الحقيقي للمجتمع ووجوده العيني، كما هو مقتضى النظريتين الأُولى والثانية في بحث أصالة الفرد أو المجتمع، وإمّا نلتزم بالتركيب الحقيقي للمجتمع ووجوده العيني، فنرفض استقلال الفرد وكرامته وحريته كما تستوجبه نظرية ( دور كايم ) والجمع بين هذين الأمرين غير ممكن وحيث إنّ الأدلة والشواهد في علم الاجتماع تؤيّد واقعية المجتمع فلابد من رفض ما ينافيه.

والواقع أنّ المركّبات الحقيقية تختلف من وجهة النظر الفلسفية ،

____________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٤٠