المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 64811
تحميل: 15873

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64811 / تحميل: 15873
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الملحق رقم - ٢

سننُ التاريخ

الطريقة القرآنية في عرض سنن التاريخ:

الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ بُلورت في عدد كثير من الآيات بأشكال مختلفة وبأساليب متنوّعة:

١ - أُسلوب إعطاء الفكرة بصيغتها الكليّة:

من الآيات الكريمة التي أُعطيت فيها الفكرة الكليّة، فكرة أنّ التاريخ له سنن وضوابط ما يلي:

( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) .

( ولكل أُمّةٍ اجلٌ فإذا جاء أجلُهم لا يستأخِرونَ ساعةً ولا يستقدمون ) (٢) .

____________________

(١) يونس: ٤٩.

(٢) الأعراف: ٣٤.

٣٢١

في هاتين الآيتين الكريمتين، أُضيف الأجل إلى الأُمّة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك الفرد بالذات هناك إذن وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي للأُمّة، بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراده العلاقات، والصلات القائمة على مجموعة من الأفكار، والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات.

هذا المجتمع، الذي يعبّر عنه القرآن بالأُمّة، له حياة وحركة وأجل وموت، كما أنّ الفرد يتحرك فيكون حيّاً ثم يموت، كذلك الأُمّة تكون حيّة ثم تموت، وكما أنّ موت الفرد يخضع لأجل وقانون وناموس، كذلك الأُمم لها آجالها المضبوطة المحدودة وفق نواميس معيّنة.

هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلّية، فكرة أنّ التاريخ له سنن تتحكّم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد بهوياتهم الشخصية.

ويقول تعالى:

( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (١) .

ظاهر هذه الآية، أنّ الأجل الذي يترقب أن يكون قريباً، أو يهدد هؤلاء أن يكون قريباً هو الأجل الجماعي، لا الأجل الفردي ؛ لأنّ قوماً بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد، وإنّما الجماعة بوجودها المعنوي الكلّي هي التي يمكن أن يكون قد اقترب أجلها فالأجل

____________________

(١) الأعراف: ١٨٥.

٣٢٢

الجماعي هنا يعبّر عن حالة قائمة بالجماعة، لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك ؛ لأنّ الناس تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمنظار الفردي، أمّا حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي، بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها، في سرّائها وضرائها، يكون لهم عندئذٍ، أجل واحد.

يقول تعالى:

( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) (١)

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (٢) .

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ) (٣) .

هذه الآيات تشير إلى ظلم الناس، وتقول إنّ الله، لو أخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة، بعض المفسّرين حار في تصوير هذا المفهوم القرآني ؛ لأنّ الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، فيهم الأنبياء وفيهم الأئمّة، وهل يمكن أن يشمل الهلاك الأنبياء والأئمّة العدول من المؤمنين ؟ وذهب بعضهم مستنداً بهذه الآيات إلى

____________________

(١) الكهف: ٥٨ - ٥٩.

(٢) النحل: ٦١.

(٣) فاطر: ٤٥.

٣٢٣

إنكار عصمة الأنبياءعليهم‌السلام .

هذه الآيات تتحدث في الحقيقة عن عقاب دنيوي لا عقاب أُخروي، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أُمّة عن طريق الظلم والطغيان وهذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بالظالمين من أبناء المجتمع، بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم تشمل موسىعليه‌السلام وهو أطهر الناس وأزكى الناس وأشجع الناس على مواجهة الظلمة والطواغيت، حينما وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمردّه، حينما تقرر أن يتيه بنو إسرائيل أربعين عاماً نتيجة ظلمهم شمل موسى أيضاً ؛ لأنّه من تلك الأُمّة.

وحينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم، فأصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، لم يختص هذا البلاء بالظالمين من المجتمع الإسلامي بل شمل حينئذ الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) وهو أطهر الناس وأزكى الناس، وأطيب الناس، وأعدل الناس، فقتل تلك القتلة الفظيعة هو وأصحابه وأهل بيته.

هذا هو منطق سنّة التاريخ، حينما يأتي العذاب في الدنيا على مجتمع، وفق هذه السنّة لا يختص بالظالمين من أبناء ذلك المجتمع ؛ ولذلك قال تعالى في آية أُخرى:

( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) .

____________________

(١) الأنفال: ٢٥.

٣٢٤

هذا بينما نجد حديث القرآن عن العقاب الأخروي ينصبّ على العمل مباشرة.

( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ) (١) .

ويقول تعالى:

( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (٢) .

هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكّد المفهوم العام ويقول فيها تعالى:( وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) يقول فيها لنبيّه: هذه سنّة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمر، ولن تتغيّر أهل مكّة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكّة ؛ لأنّهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك وعلى كلمتك وعلى دعوتك.

في هذه الآية إشارة إلى سنّة تاريخية، سنشرحها فيما بعد، هي أنّ عملية المعارضة إذا وصلت إلى مستوى إخراج النبي من البلد، فلا يلبثون بعده إلاّ قليلاً وليس المقصود من ذلك أنّ عذاب الله سينزل عليهم من السماء، وإنّما المقصود في أكبر الظن أنّ المعارضين لا يمكثون بعد خروج النبي كجماعة صامدة ذات موقع اجتماعي، بل سينهار هذا الموقع وهذا ما حدث بالفعل في مكّة فحين أخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة لم تمكث المعارضة بعده إلاّ قليلاً ؛ إذ فقدت المعارضة في مكّة موقعها وتحوّلت هذه المدينة إلى جزء من دار

____________________

(١) فاطر ١٨.

(٢) الإسراء ٧٦ و ٧٧.

٣٢٥

الإسلام بعد سنين معدودة الآية تتحدث إذن عن سنّة من سنن التاريخ، وتؤكّد على ذلك:( وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) .

ويقول تعالى:

( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (١) .

هذه الآية تؤكّد على السنن، وتؤكّد على التتبّع لأحداث التاريخ من أجل استكشاف، هذه السنن والاعتبار بها.

يقول تعالى:

( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) .

هذه الآية أيضاً تثبّت قلبَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحدثه عن التجارب السابقة، وتربطه بقانون التجارب السابقة، وتوضح له أنّ هناك سنّة تجري عليه، وتجري على الأنبياء الذين مارسوا التجربة قبله، وأنّ النصر سوف يأتيه ولكنّ للنصر شروطه الموضوعية: الصبر . والثبات . واستكمال الشروط، ولا مبدّل لكلمة الله، كلمة الله لا تتبدل على مرّ التاريخ، هذه الكلمة هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات، التي وُضّحت في آيات متفرقة، وأُشير إليها هنا على وجه الإجمال.

هناك إذن سنّة للتاريخ:

____________________

(١) آل عمران ١٣٧.

(٢) الأنعام ٣٤.

٣٢٦

( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُورًا * اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (١) .

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (٢) .

٢ - أُسلوب استعراض نماذج مِن سنن التاريخ:

يقول تعالى:

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣) .

هذه الآية تقرّر أنّ المحتوى الداخلي النفسي والروحي للإنسان هو القاعدة، والوضع الاجتماعي هو البناءُ العلوي، وأنّ هذا البناءَ العلوي لا يتغيّر إلاّ وفقاً لتغيير القاعدة على ما يأتي شرحه بعد ذلك إن شاء الله.

خارجُ الإنسان - استناداً إلى هذه الآية - يصنعه داخل الإنسان وإذا تغيّر ما بنفس القوم تغيّر وضعهم، وعلاقتهم، والروابط التي تربط بعضهم ببعض.

هذه سنّة مِن سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي.

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٤) .

ويقول تعالى:

____________________

(١) فاطر: ٤٣.

(٢) الفتح: ٢٢ - ٢٣.

(٣) الرعد: ١١.

(٤) الأنفال: ٥٣.

٣٢٧

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) (١) .

هذه الآية تستنكر على مخاطبيها أن يأملوا في أن يكون لهم استثناء من سنن التاريخ، وتقول لهم: هل تأملون أن تدخلوا الجنّة وأن تحقّقوا النصر، وأنتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأُمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضرّاء، التي تصل إلى حدّ الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم ؟!.

إن هذه الحالات، حالات البأساء والضرّاء، التي تتعملق على مستوى الزلزال، هي في الحقيقة مدرسة للأمة، وامتحان لإرادة الأُمّة، ولصمودها، ولثباتها، كي تستطيع بالتدريج أن تكتسب القدرة على أن تكون أمة وسطاً بين الناس نصر الله إذن قريب، لكن له طريق ولكي تهتدي في الطريق إلى نصر الله سبحانه وتعالى، لا بدّ وان تعرف منطق التاريخ فيه قد يكون الدواء قريباً من المريض، لكنه لا يستطيع أن يستعمل هذا الدواء، حتّى ولو كان قريباً منه، إذا كان هذا المريض لا يعرف المعادلة العلمية التي تُثبت أنّ هذا الدواء يقضي على جرثومة دائه.

الإطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصل إلى النصر.

ويقول تعالى:

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ

____________________

(١) البقرة ٢١٤.

٣٢٨

كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (١) .

هذه الآية تبيّن علاقة قائمة بين النبوّة على مرّ التاريخ، وبين موقع المُترفين والمسرفين في الأُمم والمجتمعات هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة، وإلاّ لَما تحدّثت عنها الآية بهذا الشكل المطّرد: ( وما أرسَلنا في قَريةٍ من نَذيرٍ إلاّ قالَ مترفُوها ..).

هناك إذن علاقة سلبيّة، وعلاقة تَطاردٍ وتناقض بين موقع النبوّة الاجتماعي في حياةِ الناس على الساحةِ التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع سوف نوضحها في بحث دور النبوة في المجتمع إن شاء الله، سوف يتضح حينئذ أنّ النقيض الطبيعي للنبوة هو موقع المترفين والمسرفين هذه الآية تتحدث إذن عن سنة تاريخية.

ويقول تعالى:

( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (٢) .

هذه الآية تتحدّث عن علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر وبين هلاك تُجرّ الأُمّة إليه جرّاً، وتتحدّث عن اطرادِ هذه العلاقة على مرّ التاريخ، وهي سنّة مِن سُنن التاريخ.

ويقول تعالى:

____________________

(١) سبأ: ٣٤ - ٣٥.

(٢) الإسراء: ١٦ - ١٧.

٣٢٩

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (١) .

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٣) .

( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (٤) .

هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن علاقةٍ معيّنةٍ، هي العلاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى، وبين وفرة الخيرات وكثرة الإنتاج، أو بلغة اليوم: تتحدث عن العلاقة بين عدالة التوزيع ووفرة الإنتاج.

القرآن يشير إلى عدالة التوزيع تارة بعبارة( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ . ) وتارة بعبارة( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا ) ، ومرة أُخرى بعبارة:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ) ؛ لأنّ شريعة السماء نزلت من أجل تقرير عدالة التوزيع، ومن أجل إنشاء علاقات التوزيع على أُسس عادلة.

ويقول القرآن، لو أنّهم طبّقوا عدالة التوزيع لما وقعوا في ضيق وفقر من ناحية الثروة المنتجة، ولازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات

____________________

(١) المائدة: ٦٦.

(٢) الأعراف: ٩٦.

(٣) الجن: ١٦.

(٤) الزخرف: ٢٢.

٣٣٠

والبركات لكنّهم تخيّلوا أنّ عدالة التوزيع تقتضي الفقر، خلافاً للسنّة التاريخية التي تؤكّد عكس ذلك تؤكّد أنّ تطبيق شريعة السماء، وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع يؤدّي دائماً وباستمرار إلى زيادة الإنتاج والى كثرة الثروة، والى أن يفتحَ اللهُ على الناسِ بركات السماء والأرض هذه إذن سنّة من سننِ التاريخ.

٣ - أُسلوب التأكيد على الاستقرار والنظر والتدبير في الحوادث التاريخية:

من أجل تكوين نظرة استقرائية والخروج بنواميس وسنن كونيّة للساحة التاريخية، قال تعالى:

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) (١) .

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (٢) .

( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٣) .

( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى

____________________

(١) محمد: ١٠.

(٢) يوسف: ١٠٩.

(٣) الحج: ٤٥ - ٤٦.

٣٣١

السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (١) .

من مجموع هذه الآيات يتبلور المفهوم القرآني، الذي يقرّر أنّ الساحة التاريخية مثلُ كلّ الساحات الكونية الأُخرى، لها سنن وضوابط.

هذا المفهوم القرآني يُعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم، لأنّ القرآن - بحدود ما نعلم - أوّل كتاب عرفه الإنسان ضمّ بين دفّتيه هذا المفهوم وكشف عنه، وأصرّ عليه، وقاوم بكل ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم النظرة العفوية، أو النظرةَ الغيبية الاستسلامية لتفسير الأحداث.

كانت النظرةُ السائدة تتجه نحو تفسير أحداث التاريخ، بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، على أساس الصدفة تارة، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى تارة أُخرى.

القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية، وقاوم النظرة الاستسلامية ونبّه العقل البشري إلى أنّ لهذه الساحة سنناً وقوانين.

وحثّ الإنسان على أن يكتشف هذه القوانين، ويتعرّف عليها من أجل أن يكون إنساناً فاعلاً، ومن أجل أن يتحكّم في هذه القوانين وإلاّ حكمت هذه السنن في الإنسان وهو مغمض العينين وقال له: افتح عينيك على هذه القوانين وعلى هذه السنن لكي تكون أنت المتحكّم فيها، لا أنْ تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك.

هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهّد إلى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون، إلى أن تجري محاولات لفهم التاريخ فهماً علمياً.

____________________

(١) ق: ٣٦ - ٣٧.

٣٣٢

بعد نزول القرآن بثمانية قرون، بدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة قرون ( على أقل تقدير) اتجه الفكر الأوروبي في بدايات ما يسمّى بعصر النهضة إلى تجسيد هذا المفهوم، الذي ضيّعه المسلمون ولم يتوغّلوا إلى أعماقه.

هذا المفهوم أخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة، وبدأت هناك أبحاث متنوّعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه ونشأت على هذا الأساس اتجاهات مثاليّة ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة، كل واحدة منها تحاول أن تحددّ نواميس التاريخ وقد تكون المادية التاريخية أشهر هذه المدارس، وأوسعها انتشارا وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه هذا الجهد البشري إذن كلّه في الحقيقة استمرار لهذا التنبيه القرآني، ويبقى القرآن الكريم مجدُه في أنّه طرح هذه الفكرة لأول مرّة على ساحة المعرفة البشرية.

ثلاث حقائق قرآنية عن سنن التاريخ

الحقيقة الأُولى: الاضطراد

أي إنّ السنّة التاريخية مضطردة، ذات طابع موضوعي لا يختلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة، والتأكيد على طابع الاضطراد في السنّة هو تأكيد على الطابع العلمي للقانون التاريخي ؛ لأنّ الاضطراد والتتابع وعدم التخلّف أهم ما يميّز القانون العلمي عن بقيّة المعادلات والفروض.

من هنا استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد على طابع

٣٣٣

الاضطراد في السنّة التاريخية أن يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة، من اجل تربية الإنسان على ذهنية علمية واعية يتصرّف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ، ومن أجل إبعاد الإنسان عن الذهنية العشوائية المستسلمة الساذجة.

وقد مرّت بنا في الآيات السابقة هذه التأكيدات:

( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (١) ( وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (٢) ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله ) (٣) كما مرّ بنا رفضُ القرآن لأيّ استثناء في سنن التاريخ في الآية:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ ) (٤) .

الحقيقة الثانية: ربّانية السنّة التاريخية

إنّ السنّة التاريخية ربّانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى: ( سنّة الله )، ( كلمات الله ) ونظائرها من التعبير تؤكّد هذه الحقيقة وهذا التأكيد من القرآن الكريم على ربّانية السنّة التاريخية، وعلى طابعها الغيبي، ستهدف شدّ الإنسان بالله سبحانه وتعالى، حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون ويستهدف إشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادة من مختلف القوانين والسنن المتحكّمة في هذه الساحات لا يعنيان انعزال الإنسان عن الله تعالى ؛ لأنّ الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ،

____________________

(١) الأحزاب: ٦٢.

(٢) الإسراء: ٧٧.

(٣) الأنعام: ٣٤.

(٤) البقرة: ٢١٤.

٣٣٤

ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثّلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.

قد يَتوهم البعضُ أنّ الطابع الغيبي الذي يُلبسه القرآن الكريم للتاريخ، وللسنَنِ التاريخية، يُبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ، ويجعله يتجه اتجاه التفسير الإلهي للتاريخ، الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكّرين المسيحيين واللاهوتيين من أمثال أغسطين حيث فسّروا التاريخ تفسيراً إلهياً.

هذا التوهّم ناشئ في الحقيقة عن خلط بين طريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب، وفي إسباغ الطابع الغيبي على السنّة التاريخية، وبين ما يسمّى بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت.

هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين، وهاتين النزعتين، هو أنّ الاتجاه اللاهوتي للتفسير الإلهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها، ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعاً صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع الله بديلاً عن صلة الحادثة مع بقيّة الحوادث، وبديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثّل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة.

أمّا القرآن الكريم، فهو لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات، ولا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها بالسماء، ولا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن العلاقات والأسباب والمسبّبات القائمة على هذه الساحة التاريخية، بل إنّه يربط السنّة التاريخية بالله، ويربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله.

٣٣٥

القرآن يقرّر أولاً وجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية، إلا أنّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية.

الفرق بين الاتجاهين يمكن توضيحه بالمثال التالي: قد يفسّر إنسان ظاهرة المطر الطبيعية بأنّ المطر نزل بإرادة من الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذه الإرادة بديلاً عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر، وكأنّ نزول المطر حادثة لا علاقة لها بالأسباب الطبيعية وغير منسوبة لها، وإنّما هي مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيّار الحوادث هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر.

أمّا إذا قال شخص إنّ ظاهرة المطر لها أسبابها وعلاقاتها وإنّها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء، أي إنّ الماء يتبخّر فيتحول إلى غاز، والغاز يتصاعد سحاباً، والسحاب يتحوّل بالتدريج إلى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر وقال إنّ التسلسل السببي المتقن، وهذه العلاقات المتشابكة بين الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته مثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي للتفسير الموضوعي لظاهرة المطر ؛ لأنّ هذا الشخص ربط سنة الحادثة بالله سبحانه وتعالى، مع عدم عزلها عن بقيّة الحوادث وعدم قطع ارتباطها بمؤثّراتها وأسبابها.

القرآن الكريم حين يسبغ الطابع الرباني على السنّة التاريخية لا يريد إذن، أن يتجه اتجاه التفسير الإلهي في التاريخ، ولكنّه يريد التأكيد أنّ هذه السنن ليست خارجة من وراء قدرة الله تعالى، وإنّما هي تعبير

٣٣٦

وتجسيد وتحقيق لقدرة الله، وهي كلماته وسننه وإرادته وحكمته في الكون من أجل أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى الله، وتبقى الصلة وثيقة بين العلم والإيمان ؛ فهو ينظر إلى هذه السنن نظرة إيمانية في نفس الوقت الذي ينظر فيه إليها نظرة علمية.

القرآن الكريم بلغ في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية، وعدم جعلها مرتبطة بالصدف أن أناط نفس العمليات الغيبية في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضاً.

الإمداد الإلهي الغيبي الذي يساهم في كسب النصر، جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنّة التاريخية ومرتبطاً بظروفها غير مُنْفك عنها هذه الروح أبعد ما تكون عن تفسير التاريخ على أساس الغيب، وإنّما هي روح تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم.

قرأنا فيما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنصر في قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا . )

وفي موضع آخر من القرآن نلاحظ هذا الربط أيضاً بين الإمداد الإلهي الغيبي الذي يساهم بالنصر، والسنّة التاريخية ؛ حيث يقول تعالى:

( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ

٣٣٧

الْحَكِيمِ ) (١) .

هناك إمداد إلهي غيبي، ولكنّه مشروط بسنّة التاريخ، مشروط بقوله:( بَلَى إنْ تصبروا وَتتقوا ) .

من هذا يتضح أنّ الطابع الربّاني الذي يسبغه القرآن على سنن التاريخ بديلاً عن التفسير الموضوعي، وإنّما هو ربط هذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه وتعالى، من أجل إتمام اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.

الحقيقة الثالثة: اختيار الإنسان

إنّ البحث في سنن التاريخ خلق توهّماً عند كثير من المفكّرين بشأن وجود تعارض وتناقض بين حرية الإنسان واختياره، وبين سنن التاريخ هؤلاء ظنّوا أنّهم أمام اختيارين: إمّا أن يؤمنوا بأنّ للتاريخ سننه وقوانينه، وبذلك يتنازلون عن إرادة الإنسان واختياره، وإما أن يسلّموا بأنّ الإنسان كائن حرٌ مريد مختار، وبهذا يجب أن يلغوا سنن التاريخ وقوانينه.

هذا التوهّم عالجه القرآن مؤكّداً أنّ إرادة الإنسان هي المحور في تسلسل الأحداث والقضايا وسوف أتناول إن شاء الله بعد محاضرتين الطريقة الفنيّة في كيفية التوجيه بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص الصيغ التي يمكن في إطارها صياغة السنّة التاريخية ويكفي الآن أن نستمع إلى قوله تعالى:

____________________

(١) آل عمران: ١٢٥ - ١٢٧.

٣٣٨

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (١) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٢) .

( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) (٣) .

هذه الآيات توضح أنّ السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الإنسان بل تجري من تحت يده فهناك - إذن - مواقف إيجابية للإنسان تمثّل حريته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع جزاءاتها المناسبة ومعلولاتها المناسبة، ضمن علاقات السنن التاريخية.

اختيار الإنسان له - إذن - موضعهُ الرئيسي في التصوّر القرآني لسنن التاريخ.

ميدان السنن التاريخية

ذكرنا من قبل أنّ السنن التاريخية تجري على الساحة التاريخية.

المقصودُ بالساحة التاريخية الساحةُ التي تحوي كلّ تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرّخون والسؤال الذي نطرحه الآن هو: هل إنّ كل هذه الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرّخون، وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، محكومة بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميّز عن سنن بقيّة حدود الكون والطبيعة، أو إنّ جزءً معيّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟ الصحيح إنّ

____________________

(١) الرعد: ١١.

(٢) الجن: ١٦.

(٣) الكهف: ٦٠.

٣٣٩

جزءاً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو قوانين أُخرى لمختلف الساحات الكنونية الأُخرى.

موتُ أبي طالب، وموتُ خديجة في سنة معينة حادثة تاريخية هامة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين، وهي حادثة ذاتُ بعد في التاريخ ترتّبت عليها آثار كثيرة، ولكنّها لا تحكمها سنّة تاريخية بل تحكمها قوانين فسلجية وحياتية فرضت أن يموت أبو طالب وأن تموت خديجةعليها‌السلام في ذلك الوقت المحدّد وهذه القوانين الفسلجية والحياتية هي التي اقتضت أيضاً أن يمتّد العمر بالخليفة الثالث عثمان بن عفّان إلى أن يُقتل من قِبل الثائرين عليه من المسلمين ولو قُدر لهذا الخليفة أن يموت موتاً طبيعياً وفقاً لقوانينه الفسلجية قَبل يوم الثورة لكان من الممكن أن تتغيّر كثير من ملامح التاريخ كان من المحتمل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الخلافة، بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف امتداد عمر عُثمان إلى مقتله حادثة، أي إنّها تدخل في اهتمامات المؤرّخين ولها بُعد تاريخي أيضاً، ولعبت دوراً سلبياً أو إيجابياً في تكييف الأحداث التاريخية الأُخرى، ولكنّها لا تتحكّم فيها سنن التاريخ، بل يتحكّم فيها قوانين بُنية جسم عثمان، وقوانين الحياة التي أعطته عمراً ناهز الثمانين، مواقفُ عثمان بن عفّان، وتصرّفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ، لكنّ طول عمره مسألة حياتية أو فسلجية أو فيزيائية لا تتحكّم فيها سنن التاريخ.

سننُ التاريخ إذن لا تتحكّم على كلّ الساحة التاريخية، وعلى كل

٣٤٠