آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90169 / تحميل: 9180
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وأنّه قد عاش بعد الموت(١) .

وقالت الفرقة الثالثة: إنّ الحسن بن عليّ توفّي، والإمام بعده جعفر، واليه أوصى الحسن، ومنه قبل الإمامة، وعنه صارت إليه(٢) وقالت الفرقة الرابعة: إنّ الإمام بعد الحسن جعفر، وإنّ الإمامة صارت إليه من قِبل أبيه لا من قبل أخيه محمّد ولا من قبل الحسن، ولم يكن إماماً ولا الحسن أيضاً؛ لأنّ محمداً توفّي في حياة أبيه، وتوفّي الحسن ولا عقب له، وأنّه كان مدّعياً مبطلاً؛ والدّليل على ذلك أنّ الإمام لا يموت حتّى يوصي ويكون له خلف، والحسن قد توفّي ولا وصيّ له ولا ولد، فادّعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الإمامة في الحسن وجعفر؛ لقول أبي عبد الله جعفر بن محمّد وغيره من آبائه:«إنّ الإمامة لا تكون في أخوَين بعد الحسن والحسين» ، فدلّنا ذلك على أنّ الإمامة لجعفر وأنّها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخيه. وأمّا الفرقة الخامسة فإنّها رجعت إلى القول بإمامة محمّد بن عليّ المتوفّى في حياة أبيه، وزعمت أنّ الحسن وجعفر ادّعيا ما لم يكن لهما وأنّ أباهما لم يشِر إليهما بشيء من الوصيّة والإمامة، ولا روي عنه في ذلك شيء أصلاً ولا نَصَّ عليها بشيء يوجب إمامتهما، ولا هما في موضع ذلك وخاصّة جعفر، فإنّ فيه خصالاً مذمومة وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل. وأمّا الحسن فقد توفّي ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف(٣) ، فلمّا بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر وبطلت عمّن لا خلف له لم يبق إلاّ التعلّل بإمامة أبي جعفر محمّد بن عليّ أخيهما؛ إذ لم يظهر منه إلاّ الصَّلاح والعفاف، وإن له عقباً قائماً معروفاً مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول ممّا لا يجوز بطلان مثله، فلابدّ من القول بإمامته وأنّه القائم المهديّ أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلاً، وهذا ممّا

____________________

١ - في فرق الشيعة شرح مضاف في ردّ عقيدة هذه الفرقة، وشبّهها بالواقفة.

٢ - في فرق الشيعة أيضاً تفصيل مضاف إلى ما ذكر، في تعزيز هذه الفرقة من قبل عليّ بن طاحن الخزّاز وأُخت فارس بن حاتم بن ماهويه القزوينيّ. وهذه الفقرة الثانية موجودة في الملل والنحل أيضاً (ص ١٢٨-١٢٩) ممّا يَدلّ على الاقتباس من فرق الشيعة الموجود مع فارق واحد، وهو أنّ الشهرستانيّ ذكر فارس بن حاتم نفسه، لا أخته. وهذا سهو؛ لأنّ فارس بن حاتم قتله أحد أصحاب الإمام العسكريّعليه‌السلام بأمر الإمام نفسه (رجال الكشّيّ ٣٢٥). ومَن قُتل قبل وفاة الإمام الحادي عشرعليه‌السلام - أي: قبل سنة ٢٦٠هـ - فلا يمكن أن يشارك جعفر في ادّعائه.

٣ - يتلوه شرح في فرق الشيعة حول فسق جعفر.

١٨١

لا يجوز.

وقالت الفرقة السادسة: إنّ للحسن بن عليّ ابناً سمّاه محمّداً، ودلّ عليه، وليس الأمر كما زعم من ادّعى أنّه توفّي ولا خلف له، وكيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيّته وجرت أموره على ذلك وهو مشهور عند الخاصّ والعامّ ثمّ توفّي ولا خلف له، ولكن خلفه قائم ولد قبل وفاته بسنين، وقطعوا على إمامته وموت الحسن وأنّ اسمه محمّد، وزعموا أنّه مستورٌ لا يُرى، خائف من جعفر وغيره من أعدائه، وأنّها إحدى غيباته، وأنّه هو الإمام القائم، وقد عرف في حياة أبيه ونصّ عليه ولا عقب لأبيه غيره، فهو الإمام لا شكّ فيه.

قالت الفرقة السابعة: بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، وإنّ الّذين ادّعوا له ولداً في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم؛ لأنّ ذلك لو كان لم يَخفَ كما لم يَخفَ غيره، ولكنّه مضى ولم يُعرف له ولد.

ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف الخ...

قالت الفرقة الثامنة: إنّه لا ولد للحسن أصلاً...(١) ، ولكن هناك حبل قائم قد صحّ في سريّة له وستلد ذكراً إماماً متى ما ولدت؛ فإنّه لا يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجّة(٢) .

قالت الفرقة التّاسعة: إنّ الحسن بن عليّ قد صحّت وفاة أبيه وجدّه وسائر آبائه، فكما صحّت بالخبر الذي لا يكذّب مثله فكذلك صحّ أنّه لا إمام بعد الحسن، وذلك جائز في العقول والتعارف، كما جاز أن تنقطع النبوّة فلا يكون بعد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة. ورووا عن الصادقين:« أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلاّ أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم فيرفع عنهم الحجّة إلى وقت» ، والله عزّ وجلّ يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة...

قالت الفرقة العاشرة: إنّ أبا جعفر محمّد بن عليّ الميّت في حياة أبيه كان الإمام بوصيّة من أبيه إليه وإشارته ودلالته ونصّه على اسمه وعليه، فلمّا حضرت وفاة محمّد أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته ويقال له: (نفيس), وكان ثقةً أميناً عنده، ودفع إليه الكتب والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأمة، وأوصاه إذا حدث بأبيه حدث الموت يؤدّي ذلك كلّه إلى أخيه جعفر، [ونفيس] دعا جعفراً وأوصى إليه ودفع إليه جميع ما

____________________

١ - في فرق الشيعة شرح يدور حول قول هذه الفرقة في ردّ من قال بوجود ابن مستور للإمام الحادي عشر، وردّ هذه المقالة من قبل المعتقدين بوجوده.

٢ - لا وجود لهذه الفرقة في الملل والنحل، لكنّ صاحبه يشير إليها عند ذكر الفرقة التالية.

١٨٢

استودعه أبو جعفر محمّد بن عليّ أخوه الميّت في حياة أبيه.

قالت الحادية عشرة منهم: لا ندري ما نقول في الإمام [بعد الحسن]، هو من ولد الحسن أم من إخوته، فقد أشتبه علينا الأمر إنّا نقول: إنّ الحسن بن عليّ كان إماماً وقد توفّي وإنّ الأرض لا تخلو من حجّة، ونتوقّف ولا نقدم على شيء حتّى يصحّ لنا الأمر ويتبيّن.

وقالت الفرقة الثّانية عشرة، وهم الإماميّة...(١) .

لا وجود لهذه الفرقة في كتاب فرق الشيعة. ولمّا كان أكثر من ثلاث عشرة فرقة غير موجود في النسخة الحاضرة، فإنّ هذه الفرقة قد سقطت من أصل النسخة.

العيون والمحاسن (نقلاً عن أبي محمّد نوبختيّ)

افترق أصحابه [أي أصحاب الإمام الحسن بن عليّ] بعده أربع عشرة فرقة؛ قالت فرقة ممّن دانت بإمامة الحسن: إنّه حيّ لم يمت، وإنّما غاب وهو القائم المنتظر.

وقالت فرقة أخرى: إنّ أبا محمّد مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهديّ. واعتلّوا في ذلك بخبر رَوَوه أنّ القائم سُمّي بذلك؛ لأنّه يقوم بعد الموت.

قالت فرقة أخرى: إنّ أبا محمّد توفّي لا محالة، وإنّ الإمام من بعده أخوه جعفر بن عليّ واعتلّوا في ذلك بالرواية عن أبي عبد الله:« أنّ الإمام هو الذي لا يوجد منه ملجأ إلاّ إليه» . قالوا: فلمّا لم نَرَ للحسن ولداً ظاهراً التجأنا إلى القول بإمامة جعفر أخيه.

ورجعت فرقة ممّن كانت تقول بإمامة الحسن عن إمامته عند وفاته، وقالوا: لم يكن إماماً وكان مدّعياً مبطلاً، وأنكروا إمامة أخيه محمّد، وقالوا: الإمام جعفر بن عليّ بنصّ أبيه عليه. وقالوا: وإنّما قلنا بذلك لأنّ محمّداً مات في حياة أبيه، والإمام لا يموت في حياة أبيه، والحسن لم يكن له عقب والإمام لا يخرج من الدنيا حتّى يكون له عقب.

وقالت فرقة أخرى: إنّ الإمام محمّد بن عليّ أخو الحسن بن عليّ، ورجعوا عن إمامة الحسن، وادّعوا حياة محمّد بعد أن كانوا ينكرون ذلك.

وقالت فرقة أخرى: إنّ الإمام بعد الحسن ابنه المنتظر، وإنّه عليّ بن الحسن، وليس كما تقوله القطعيّة إنّه محمّد بن الحسن، وقالوا بعد ذلك بمقالة القطعيّة في الغيبة والانتظار حرفاً بحرفٍ.

قالت فرقة أخرى: إنّ القائم بن الحسن ولد بعد أبيه بثمانية أشهر، وهو المنتظر، وأكذبوا من زعم أنه ولد في حياة أبيه، ولا يجوز مكابرة العيان.

____________________

١ - يلاحظ في فرق الشيعة أنّ هذه الفرقة جاءت على أساس تعداد الفرقة الثانية عشرة. ولا يُشبه كلام المؤلّف كلام الشيخ المفيد الذي نقله عن النوبختيّ.

١٨٣

قالت فرقة أُخرى: إنّ أبا محمّد مات من غير ولد ظاهر، ولكن عن حبل في بعض جواريه. والقائم بعد الحسن محمول به ما ولدته أُمّه بعد وأنّها تجوز أن تبقى مائة سنة حاملاً به، فإذا ولدته ظهرت ولادته.

قالت فرقة أُخرى: إنّ الإمامة قد بطلت بعد الحسن، وارتفعت الأئمّة، وليس في الأرض حجّة من آل محمّد، وإنّما الحجّة الأخبار الواردة عن الأئمّة المتقدّمين، وزعموا أنّ ذلك سايغ إذا غضب الله على العباد فجعله عقوبة لهم.

قالت فرقة أخرى: إنّ محمّد بن عليّ أخا الحسن بن عليّ كان الإمام في الحقيقة مع أبيه عليّ، وأنّه لمّا حضرته الوفاة وصّى إلى غلام له يقال له: (نفيس) وكان ثقةً أميناً ودفع إليه الكتب والسلاح، ووصّاه أن يسلّمه إلى أخيه جعفر، فسلّمه إليه. وكانت الإمامة في جعفر بن محمّد على هذا التّرتيب.

قالت فرقة أخرى: قد علمنا أنّ الحسن كان إماماً، فلمّا قبض التبس الأمر علينا فلا ندري: جعفر كان الإمام بعده أو غيره، والّذي يجب علينا أن نقطع على أنّه لابدّ من إمام ولا نُقِدم على القول بإمامة أحدٍ بعينه حتّى تبيّن لنا ذلك.

فقال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر...(١) .

وقالت فرقة أخرى: إنّ الإمام بعد الحسن ابنه محمّد، وهو المنتظر، غير أنّه قد مات وسيحيى ويقوم بالسيف فيملأُ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(٢) .

وقالت الفرقة الثالثة عشرة مثل مقالة الفطحيّة...، فزعموا أنّ الحسن بن عليّ توفّي، وأنّه كان الإمام بعد أبيه وأنّ جعفر بن عليّ [بن محمّد بن عليّ] الإمام بعده (جاء في فرق الشيعة شرح لمقالة هذه الفرقة وتشابهها مع الفطحيّة، وهو يختلف عمّا ذكره الشّيخ المفيد).

وقالت الفرقة الرّابع عشرة منهم: إنّ أبا محمّدعليه‌السلام كان الإمام بعد أبيه، وإنّه لمّا حضرته الوفاة نصّ على أخيه جعفر بن عليّ بن محمّد بن عليّ، فكان الإمام من بعده بالنّص عليه والوراثة له، وزعموا أنّ الّذي دعاهم إلى ذلك ما يجب على العقل من وجوب الإمامة مع فقدهم لولد الحسن وبطلان دعوى من ادّعى وجوده فيما زعموا من الإمامة(٣) .

____________________

١ - جعل الشيخ المفيد هذه الفرقة في رأس سائر فرق الشيعة. وذكرها قبلها كلّها وكلامه هو كلام النوبختيّ عادةً. ويختلف عمّا جاء في فرق الشيعة المطبوع.

٢ - لا وجود لهذه الفرقة في الملل والنحل أيضاً.

٣ - لا وجود لهذه الفرقة في الملل والنحل أيضاً.

١٨٤

الملل والنحل للشهرستانيّ (ص ١٢٩-١٣١)

وأمّا الّذين قالوا بإمامة الحسن، افترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة؛ الفرقة الأُولى قالت: إنّ الحسن لم يمت، وهو القائم. ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهراً؛ لأنّ الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبت عندنا أنّ القائم له غيبتان، وهذه إحدى الغيبتين، وسيظهر ويُعرف ثمّ يغيب غيبةً أخرى. الثّانية قالت: إنّ الحسن مات لكنّه يجيء وهو القائم؛ لأنّا رأينا أنّ القائم هو القيام بعد الموت، فنقطع بموت الحسن لا شكّ فيه ولا ولد له فيجب أن يجيء بعد الموت. الثالثة قالت: إنّ الحسن قد مات وأوصى إلى جعفر أخيه، ورجعت إمامة جعفر.

الرابعة قالت: إنّ الحسن قد مات والإمام جعفر، وإنّا كنّا مخطئين في الائتمام به؛ إذ لم يكن إماماً، فلمّا مات ولا عقب لا بتنا أنّ جعفر كان محقّاً في دعواه، والحسن مبطلاً.

الخامسة قالت: إنّ الحسن قد مات وكنّا مخطئين في القول به، وإنّ الإمام كان محمّد بن عليّ أخو الحسن وجعفر. ولمّا ظهر لنا فسق جعفر وإعلانه به وعلمنا أنّ الحسن كان على مثل حاله إلاّ أنّه كان يتستّر عرفنا أنّهما لم يكونا إمامين، فرجعنا إلى محمّد ووجدنا له عقباً، وعرفنا أنّه كان هو الإمام دون أخويه.

السادسة قالت: إنّ للحسن ابناً، وليس الأمر على ما ذكروا أنّه مات ولم يُعقب. ولد قبل وفاة أبيه بسنتين فاستتر خوفاً من جعفر وغيره من الأعداء، واسمه محمّد، وهو الإمام القائم المنتظر.

السابعة قالت: إنّ له ابناً، ولكنّه ولد بعد موته بثمانية أشهر. وقول من ادّعى: أنّه مات وله ابن باطل؛ لأنّ ذلك لم يَخفَ.

الثامنة قالت: صحّت وفاة الحسن وصحّ أن لا ولد له، وبطل ما ادّعى من الحبل في سريّة له، وثبت أنّ لا إمام بعد الحسن، وهو جائز في المعقول أن يرفع الله الحجّة عن أهل الأرض لمعاصيهم، وهي فترة وزمان لا إمام فيه، والأرض اليوم بلا حجّة كما كانت الفترة قبل مبعث النّبيّ.

العاشرة قالت: نعلم أنّ الحسن قد مات، ولا بدّ للنّاس من إمام، ولا يخلو الأرض من حجّة، ولا ندري من ولده أو غيره(١) .

بعد أن فرغنا من نقل المعلومات الواردة في كتاب المقالات والفرق لأبي القاسم سعد بن عبد الله الأشعريّ، والواردة في كتاب فرق الشيعة لأبي محمّد النوبختيّ كما نقلها الشيخ المفيد، وما يقابلها في كتاب فرق الشيعة المطبوع، نذكر

____________________

١ - لا وجود لهذه الفرقة في الملل والنحل أيضاً.

١٨٥

فيما يأتي الملاحظات المستنبطة من المقايسة بينها:

١ - لا شكّ أنّ المعلومات الموجودة في كتاب الغيبة ورجال الكشّيّ مأخوذة من كتاب أبي القاسم الأشعريّ القمّيّ؛ لأنّه بالإضافة إلى ما ذكره العلاّمة المجلسيّ الذي كان يقتني الكتاب فإنّ الشيخ الطوسيّ عندما ينقل منه، يقول: (قال)، ولا يقول: (أخبرني) أو (حدّثني). وهذا يدلّ على أنّه نقل منه مباشرة ولم ينقل عنه مُعَنعَناً. أمّا الكشّيّ، فمع أنّه عدّ سعد بن عبد الله الأشعريّ أحد وسائط الرواية في نقل ما يدور حول أصحاب محمّد بن بشير، إلاّ أنّه لم يصرّح باسم أحد في نقل ما يحوم حول أصحاب عبد الله بن سبأ، واكتفى بقوله: عن أحد الفضلاء. ونلحظه ينقل لفظ الأشعريّ نفسه فيما يخصّ محمّد بن نصير النميريّ. ويتبيّن لنا من مقايسة هذه المعلومات بالمعلومات التي أخذها الشيخ الطوسيّ من كتاب سعد بن عبد الله أنّه نقل من كتاب الأشعريّ أيضاً. يضاف إلى ذلك أنّ تصرُّفَ الشيخ الطوسيّ في كتاب رجال الكشّيّ يجعلنا لا نعلم على وجه التحديد ما كان عليه أصل الكتاب، وماذا سقط منه أو بُدِّل فيه.

٢ - إذا أنعمنا النظر في كتاب فرق الشيعة المطبوع - الذي يؤسفنا أن ليس في أيدينا نسخة قديمة منه - وجدنا أنّه مضافاً إلى ما فيه من التحريفات والأخطاء يبدو كأنّه نسخة مستعملة كتبها شخص من أصل الكتاب لنفسه. ويحتمل سقوط بعض الموضوعات من أصل النسخة، ولعلّ هذا البعض هو سلسلة الرواة أو مصادر الأخبار وأسنادها. وإنّ الموضوعات التي نقلها الشيخ الطوسيّ، والكشّيّ من سعد بن عبد الله لا تختلف عمّا جاء في كتاب فرق الشيعة المطبوع إلاّ قليلاً كما يتبيّن ذلك من الجدول السابق. وإذا كان هناك اختلاف يسير في زيادة لفظٍ أو إسقاطه فلا يكون مدعاةً للتعجّب كثيراً؛ لأنّ الألفاظ المضافة أو الساقطة لم تؤثّر على أصل الموضوع نقصاً وزيادةً؛ إذ أنّ معظمها جمل مترادفة تكرّر الموضوعات السابقة نفسها بعبارات أُخرى، أو تتحدّث عن مضمون الكتاب الأصليّ بألفاظٍ غير ألفاظه.

١٨٦

وكان هذا التصرّف مألوفاً من قبل الناقلين أو الناسخين. كما أنّنا لو قايسنا بين ما نقله الشيخ الطوسيّ وما نقله الكشّيّ عن كتاب سعد بن عبد الله في ما يخصّ محمّد بن نصير النميريّ لوجدنا أنّ كلاًّ منهما قد تصرّف في أصل الكتاب حسب ذوقه. يضاف إلى ذلك أنّ الناسخين يُعمِلون أذواقهم الخاصّة في أغلب الأوقات فينقلون مضمون ما جاء في المخطوطات، وقلّما ينقلون الألفاظ الواردة فيها بعينها. وقد لاحظت ذلك في أربع مخطوطات من كتاب سياست نامه للخواجه نظام الملك كانت بيدي لمقابلتها وطبع واحدة منها. وعلى الرغم من أنّ مضمونها واحد لكنّ عباراتها متباينة، فلم أقف على عبارة المؤلّف الأصليّة.

وإذا كانت المعلومات الواردة هي لسعد بن عبد الله الأشعريّ، وكانت المعلومات المنقولة من كتاب فرق الشيعة المطبوع هي ذاتها المذكورة للأشعريّ فما يحملنا على أن لا نعدّ الكتاب الموجود المطبوع من مؤلّفات سعد بن عبد الله، ونعدّه من كتب أبي محمّد النوبختيّ، في حين لا قرينة عندنا أو إشارة تدلّ على انتسابه إلى النوبختيّ؟

لقد كان أبو القاسم الأشعريّ، وأبو محمّد النوبختيّ متعاصرين، وماتا في العقد الأوّل من القرن الرابع الهجريّ. فإذا كان أحدهما مطّلعاً على كتاب الآخر، وكان الكتاب الحالي للنوبختيّ، فكيف نفسّر التماثل القائم بين ما جاء في كتاب النوبختيّ وما نُقل عن الأشعريّ؟ وهل أخذ النوبختيّ المعلومات الواردة في كتاب الأشعريّ نصّاً بلا ذكر السند، وبادر إلى ذلك العمل الذي يمثّل نوعاً من السرقة الأدبيّة مع ما كان عليه من العلم والاطّلاع والإحاطة بالكلام والحكمة والأدب والملل والنحل، أو أخذ الأشعريّ ما جاء في كتاب النوبختيّ نصّاً وامتنع عن ذكر اسمه وكتابه على خلاف ما هو مألوف، وهو الذي كان من فقهاء الشيعة ومحدّثيهم الثقات، وكان مصدراً لنقل كثير من رواياتهم، وكلاهما كان معروفاً لدى علماء الإماميّة؟

١٨٧

وعلى فرض صحّة أحد الشقّين، فلا بدّ أن نعدّ الشخص الذي ارتكب هذا العمل سارقاً. وتتنزّه ساحة النوبختيّ والأشعريّ - اللّذَين كانا من ذوي الفضل والشأن - عن هذا الافتراء المستقبح. وإذا نسبنا كتاب فرق الشيعة إلى الأشعريّ، فلا نشعر بالحاجة إلى الفرضين المتقدّمين(١) .

وننقل فيما يأتي نصّاً القرائن التي ذكرها شيخ الإسلام الزنجانيّ في رسالته التي بعثها إليّ، واستدلّ بها على أنّ الكتاب الحالي من تأليف النوبختيّ. ثمّ نبدي رأينا فيها:

قال: (إنّ ما نقله الكشّيّ من هذا الكتاب (كتاب أبي القاسم الأشعريّ) في ترجمة محمّد بن بشير الأسديّ هو نفس ما جاء في هذا الكتاب (فرق الشيعة المطبوع) كما يبدو. ويستبين من الموازنة بين الاثنين أنّ اختلافاً بيّناً ملحوظ بين اللفظين، بخاصّة أنّ في آخر عبارة الكشّيّ فقرة مضافة غير موجودة في فرق الشيعة. وهكذا فإنّ العبارة المنقولة في كتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ في ترجمة محمّد بن نصير النميريّ تختلف عن عبارة هذا الكتاب أيضاً. ولمّا كان أبو محمّد النوبختيّ وسعد بن عبد الله القمّيّ الأشعريّ متعاصرين فيمكن أن نفهم من عباراتهما أنّ كتاب سعد متأخّر عن كتاب النوبختيّ؛ لأنّ المعروف هو أنّ التصرّف يحصل غالباً في الكتاب المتأخّر حين ينقل صاحبه من الكتاب المتقدّم عليه. وهذا هو الملحوظ في الفقرتين المنقولتين عن سعد بن عبد الله بالنسبة إلى عبارة كتاب فرق الشيعة. والسبب الآخر للشكّ هو الاختلاف في ترتيب عدد الفرق الأربع عشرة الذي حكاه الشيخ المفيد عن الحسن بن موسى النوبختيّ مع الترتيب الموجود في هذا الكتاب المطبوع. وظهر لي هنا أنّ الشيخ المفيد قد تصرّف في عبارة الكتاب ولم ينقل

____________________

١ - يتبيّن من ملاحظة المعلومات المتقدّمة حول الفرق أنّ الكشّيّ قد اقتبس كتاب سعد نفسه ما عدا الذي ذكره حول وجه تسمية الفطحيّة وأحوال عبد الله بن سبأ ومحمّد بن نصير النميريّ.

١٨٨

نصّها لطولها. فقد قدّم الفرقة الإماميّة الأصليّة الواردة في كتاب النوبختيّ (يقصد الكتاب المتداول هذا اليوم) على أنّها الفرقة الثانية عشرة؛ لأهمّيّتها. وقرّر مقالاتها من عنده حسب مذهب الإماميّة. ثمّ ذكر الفرق الأُخرى ملخّصاً ومتصرِّفاً وفقاً للسياق الموجود في كتاب النوبختيّ. وإذا تأمّلنا فيه، عرفنا ذلك عند أوّل وهلة. علماً أنّ الشيخ المفيد يعمد في أُسلوبه إلى الإيجاز وإيصال المعنى المطلوب لا الإطالة بنقل ألفاظ الآخرين بحذافيرها، كما يُستشفّ ذلك من سائر رسائله وكتبه. وسقطت أيضاً فرقة من النسخة الموجودة عندي من فرق الشيعة. والفرقة الثالثة عشرة في كتاب فرق الشيعة هي الفرقة الرابعة عشرة في كتاب الفصول، والفرقة الثالثة عشرة ساقطة من كتاب الفصول... ويفيد سياق التعبير في الكتاب الحالي أنّ النَّفَس هو نَفَس شخص متكلّم مثل النوبختي لا نَفَس فقيه ومحدّث مثل سعد بن عبد الله الأشعريّ).

أمّا ملاحظاتي فهي:

في الاختلاف اليسير الموجود بين العبارات الّتي نقلها الكشّيّ والشيخ الطوسيّ من كتاب أبي القاسم الأشعريّ، وبين الفقرة المذكورة في رجال الكشّيّ حول محمّد بن بشير الأسديّ المضافة إلى كتاب فرق الشيعة المطبوع، ألا يمكن أن نتمسّك بنفس القرائن التي أوردها شيخ الإسلام حول تصرّف الشيخ المفيد في العبارة، ونقول: إنّ الشيخ الطوسيّ، والكشّيّ - كما ذكرنا سلفاً دليل ذلك - قد نهجا ذات الأُسلوب في نقل عبارة سعد بن عبد الله، وأضاف الكشّيّ من عنده أشياء بعد نقله من كتاب سعد بن عبد الله؟

إذا ظنّ شيخ الإسلام أنّ سعد بن عبد الله قد أخذ حقّاً من كتاب فرق الشيعة للنوبختيّ مصرّحاً بذلك أو غير مصرّح، فلا يليق بالشيخ الطوسيّ والكشّيّ أن لا يراجعا كتاب أبي محمّد النوبختيّ - مع غاية شهرته - في هذا الموضوع على

١٨٩

الأقل، في حين كانا يحسبانه مصدراً للأشعريّ، وينقلان هذه الموضوعات عن سعد بن عبد الله، في حين ليس في أيدينا أيّ شيء يدلّ على أنّ كتاب النوبختيّ كان قَبل كتاب الأشعريّ. وقد توفّي الأشعريّ سنة ٢٩٩ أو ٣٠١هـ، وكانت وفاة النّوبختيّ بين سنة ٣٠٠ و٣١٠هـ، وكلاهما عاش في أيّام الغيبة الصُّغرى، وعاصر افتراق الشيعة أربع عشرة فرقة. فما هو الداعي إلى اعتماد أحدهما على الآخر في نقل الحوادث الواقعة في عصرهما؟ وما الذي يدفع سعد بن عبد الله إلى نقل عبارة النوبختيّ ذاتها وينسبها إلى نفسه دون أن يشير إلى مصدرها، ولا يلتفت الآخرون إلى ذلك بخاصّة الشيخ الطوسيّ الذي كان من الملمّين بعلم الرجال ومصنّفات الشيعة، وكان قد رأى معظم كتب الإماميّة؟

أمّا الاختلافات الموجودة بين لفظ الشيخ المفيد في العيون والمحاسن، ولفظ كتاب فرق الشيعة المطبوع، وعدم ترتيب الفرق الأربع عشرة في الكتابين، فهما دليلان واضحان على أنّ فرق الشيعة المطبوع هو للأشعريّ لا للنوبختيّ؛ لأنّ التشابه الموجود بين الموضوعات التي نقلها الكشّيّ والشيخ الطوسيّ، وبين كتاب فرق الشيعة غير موجود بين لفظ الشيخ المفيد ولفظ مؤلّف الكتاب المذكور؛ إذ يضاف إلى غاية الاختصار الملحوظ في كتاب الشيخ المفيد، وعدم تشابه ألفاظهما أنّ عدد الفرق يختلف بين الاثنين أيضاً، وأنّ الشيخ المفيد أضاف بعض الموضوعات في كتابه. ونشير فيما يأتي إلى الفروق المهمّة بين لفظ الشيخ المفيد، أي: لفظه المنقول من كتاب فرق الشيعة، وبين لفظ الكتاب نفسه:

١ - الموضوعات المنقولة في كتاب العيون والمحاسن حول الفرقة الأُولى (الفرقة الثانية عشرة في كتاب فرق الشيعة المطبوع) أي: الفرقة الإماميّة الاثني عشريّة، تختلف تماماً عما هو مذكور في كتاب فرق الشيعة لفظاً وموضوعاً، ولا تتشابهان أبداً.

٢ - في ذكر الفرقة الرابعة (الثالثة في كتاب فرق الشيعة) التي ذهبت إلى إمامة

١٩٠

جعفر بعد وفاة أخيه الإمام العسكريّعليه‌السلام ، ينقل الشيخ المفيد حديثاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام لا وجود له في كتاب فرق الشيعة. والحديث هو:«الإمام هو الذي لا يوجد منه ملجأٌ إلاّ إليه» .

٣ - يختلف لفظ الشيخ المفيد ولفظ صاحب فرق الشيعة تماماً في حديثهما عن الفرقة الخامسة (الفرقة الرابعة في كتاب فرق الشيعة). وعلى الرغم من نقل مضمون واحد، لكن لا تشمّ رائحة النقل من كتاب فرق الشيعة أبداً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفرقة الآتية.

٤ - عندما تحدّث الشيخ المفيد عن الفرقة السابعة (الفرقة السادسة عند النوبختيّ) ذكر أنّ اسم الولد الذي نُسب إلى الإمام الحادي عشرعليه‌السلام - ويعتقد أصحاب هذه الفرقة أنّه الإمام القائم بعده - عليّ، في حين ذهب النوبختيّ إلى أنّ اسمه محمّد، وذكره الشهرستانيّ بهذا الاسم أيضاً. يضاف إلى ذلك أنّ لفظ الشيخ المفيد يختلف عن لفظ فرق الشيعة من حيث المضمون. وكذلك نلحظ اختلافاً بين لفظ الشيخ المفيد الذي هو لفظ النوبختيّ نفسه عادةً وبين لفظ فرق الشيعة عند ذكر الفرق الأُخرى وتستبين هذه النقطة أيضاً من ملاحظة المعلومات المتقدّمة حول الفرق.

أمّا الشَّبَه بين بعض عبارات النوبختيّ وعبارات الكتاب الحالي عند عرض عقائد الفرق الشيعيّة الأربع عشرة ومقالاتها فمرجعه إلى أنّ أصحاب كتب الملل والنحل كانوا ينقلون مقالات الفرق المختلفة غالباً بعباراتهم التي كانوا يقرّرون فيها عقائدهم؛ ولذلك كانت ألفاظهم تظلّ في كتب المقالات والفرق والملل والنحل. فلا بدّ أن نحمل الشبه الموجود بين بعض عبارات النوبختيّ وعبارات فرق الشيعة المطبوع في نقل مقالات الفرق على هذا الأساس.

هذه هي ملاحظاتي حول فرق الشيعة المطبوع، وذكر القرائن التي تدعم نسبته إلى أبي القاسم سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ. وأهدْفُ من وراء هذا التفصيل

١٩١

في الموضوع المذكور إلى أن ألفت نظر القرّاء الكرام إلى القَدْح الموجود في نسبة ذلك الكتاب إلى النوبختيّ. ولعلّ أحدهم يملك أدلّة أخرى تدعم نسبة الكتاب إلى النوبختيّ أو تدحضها فينشر ذلك ويميط اللثام عن هذا الموضوع المهمّ من الوجهة التاريخيّة.

وأمّا ما يراه شيخ الإسلام الزنجانيّ أنّ منحى مؤلّف كتاب فرق الشيعة منحىً كلاميّ؛ لذلك فإنّ نسبته إلى أبي محمّد النوبختيّ المتكلّم أقرب من نسبته إلى أبي القاسم الأشعريّ الفقيه، فلا أحسب أنّه دليل قاطع على ذلك؛ لأنّ الفقهاء يومئذٍ كانوا ينتهجون هذا الأُسلوب أحياناً في مقابل خصومهم طوعاً أم كرهاً، وكان ذلك العصر عصر المجادلات والمناظرات. ونجد أنّ الشيخ الصدوق تحدّث في القسم الأوّل من كتابه كمال الدين وتمام النّعمة كمتكلّم في ردّه على آراء الخصوم ومناقشتهم.

فرق الشيعة بعد وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام

يُفهَم من كتاب فرق الشيعة الحاليّ، والعبارات المنقولة عن النوبختيّ أنّ الشيعة انقسموا بعد وفاة الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام إلى أربع عشرة فرقة. ولكن كان هناك من يطرح مقالة في الإمامة ويجمع حوله الأنصار، كما ظلّ النزاع قائماً حول خليفة الإمام الحادي عشر، ممّا أدّى إلى ظهور فرق جديدة أُخرى. وبلغ عددها في عصر المسعوديّ مؤلّف مروج الذهب عشرين فرقةً. وذكر المسعوديّ مقالاتها في كتابين من كتبه هما المقالات في أُصول الديانات وسرّ الحياة(١) .

ونلحظ من بين الفرق الإحدى عشرة التي ذكرها الشهرستانيّ - وهي مجمعة

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ٣٤٦ (طبعة مصر).

١٩٢

على إمامة الإمام الحادي عشرعليه‌السلام (١) - تسع فرق تشبه الفرق المذكورة في كتاب فرق الشيعة، وكتاب العيون والمحاسن. وفيه فرقتان مضافتان هما الفرقة التاسعة، والفرقة الحادية عشرة، وفيما يأتي نصّ مقالاتهما:

التاسعة: قالت: إنّ الحسن قد مات وصحّ موته. وقد اختلف الناس هذا الاختلاف، ولا ندري كيف هو. ولا نشكّ أنّه قد ولد له ابن، ولا ندري قبل موته أو بعد موته، إلاّ أنّا نعلم يقيناً أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وهو الخلف الغائب، فنحن نتولاّه ونتمسّك باسمه حتّى يظهر بصورته.

الحادية عشرة: فرقة توقّفت في هذه المخابط وقالت: لا ندري على القطع حقيقة الحال لكنّا نقطع في الرضا ونقول بإمامته في كلّ موضع اختلفت الشيعة فيه، فنحن من الواقفيّة في ذلك إلى أن يُظهر الله الحجّة ويظهر بصورته، فلا يشكّ في إمامته من أبصره، ولا يحتاج إلى معجزة وكرامة وبيّنة، بل معجزته اتّباع الناس بأسرهم إيّاه من غير منازعة ومدافعة.

وإذا أضفنا هاتين الفرقتين إلى الفرق الأربع عشرة المذكورة فإنّ عدد الفرق الشيعيّة، بعد وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، يبلغ ستّ عشرة فرقة. وإذا ضَمَمنا إليها رأي أصحاب الحلاّج، والرأي المنسوب إلى أبي سهل النوبختيّ، والرأي القائل بثلاثة عشر إماماً، فإنّ عددها يقترب ممّا ذكره المسعوديّ. ولكن لا يُعلَم ما إذا كانت هذه الفرق هي نفس الفرق التي ذكر المسعوديّ مقالاتها في كتابيه، ولعلّ عددها زاد على ذلك بسبب التشتّت العجيب الذي طرأ على الشيعة بعد وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، وربما كان بعضها غير الفرق المذكورة في كتب المسعوديّ، بَيد أنّ

____________________

١ - ذكر الشهرستانيّ الإماميّة على حدة، ولم يذكر الفرقة العاشرة والثانية عشرة اللتين كانتا تنكران إمامة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، وهما مذكورتان في كتاب فرق الشيعة. وذكر الفرقة الثامنة ضمن فرقة أُخرى. ولم يتطرّق إلى الفرقة الثالثة عشرة والرابعة عشرة. كما أنّ الفرقة الثالثة عشرة غير موجودة في كتاب فرق الشيعة.

١٩٣

إشارة المسعوديّ تُشعر بأنّ عدد فرق الشيعة قد بلغ في عهده عشرين فرقة في الأقلّ.

إنّ الفرق التي أخذنا تفصيل مقالاتها من كتب عديدة وسنقدّم فهرساً بها فيما يأتي، هي غير التجمّعات التي مثّلها أصحاب الهلاليّ، والبلاليّ، والشلمغانيّ، والنميريّ، والغلاة الآخرون، ممّن سنشير إلى عقائدهم لاحقاً. وفيما يأتي فهرس بفرق الشيعة بعد وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام مع إشارة إلى المصادر التي ذكرتها:

١ - الإماميّة الاثنا عشريّة (الفرقة الأولى في العيون والمحاسن، والثانية عشرة في فرق الشيعة).

٢ - القائلون بحياة الإمام العسكريّعليه‌السلام وغيبته ورجعته بوصفه المهديّ (فرق الشيعة ١؛ العيون والمحاسن ٢؛ الملل والنحل ١؛ غيبة الطوسيّ ١٤١؛ كمال الدين ٢٤).

٣ - المعتقدون بوفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام وقيامه بعد وفاته (فرق الشيعة: ٢؛ العيون والمحاسن ٣؛ الملل والنحل ٢؛ غيبة الطوسيّ ٦٢، ١٤٢).

٤ - فرقة من الجعفريّة، تذهب إلى وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام وإمامة أخيه جعفر بنصّ منه (فرق الشيعة: ٣؛ العيون ٤؛ الملل ٣؛ غيبة الطوسيّ ١٤٣).

٥ - فرقة أُخرى من الجعفريّة تعتقد بإمامة جعفر بنصّ من الإمام الهاديّعليه‌السلام ، وترى بطلان إمامة أخيه العسكريّعليه‌السلام (فرق الشيعة: ٦؛ العيون ٥؛ الملل ٤).

٦ - المحمّديّة وهم المعتقدون بإمامة محمّد بن الإمام عليّ الهادي الذي كان قد مات في حياة أبيه. ويَرَون أنّ الإمام العسكريّعليه‌السلام وجعفر قد ادّعَيا الإمامة، وينتظرون قيام محمّد بوصفه المهديّ والقائم (فرق الشيعة: ٥؛ العيون ٦؛ الملل ٥؛ غيبة الطوسيّ ٦٠ و١٢٩، كمال الدين ٦٣).

٧ - القائلون بإمامة ولد للإمام العسكريّعليه‌السلام يُدعى محمّداً (يسمّيه الشيخ المفيد عليّاً نقلاً عن النوبختيّ). وُلد قبل وفاة أبيه بعامين، واختفى خوفاً من جعفر

١٩٤

والأعداد الآخرين (فرق ٦؛ العيون ٧؛ الملل ٦).

٨ - المنكرون وجود ولد للإمام العسكريّعليه‌السلام في حياته؛ إذ يعتقدون أنّ ولداً وُلد له بعد وفاته بثمانية أشهر، ويزعمون غيبته وينتظرون رجعته (فرق الشيعة: ٧؛ العيون ٨؛ الملل ٧).

٩ - المنكرون وجودَ ولدٍ للإمام العسكريّعليه‌السلام أصلاً. ويعتقد هؤلاء أنّ إحدى إماء الإمامعليه‌السلام حملت بولد يزعمون أنّه الإمام بعد أبيه متى ولدته حتّى لو كان بعد مائة سنة. (فرق ٨؛ العيون ٩؛ غيبة الطوسيّ ٦١. وذكر الشهرستانيّ هذه الفرقة ضمن الفرقة الثامنة).

١٠ - المعتقدون بانقطاع الإمامة بعد وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام بسبب معصية الناس وغضب الله عليهم (فرق الشيعة: ٩؛ العيون ١٠؛ الملل ٨؛ غيبة الطوسيّ ٥١، ٦٣، ١٤٥).

١١ - الفرقة النفيسيّة القائلة بإمامة محمّد نجل الإمام الهاديّعليه‌السلام في حياته، والمعتقدة بإمامة أخيه جعفر بعده بنصّ من محمّد نقله نفيس غلام الإمام الهاديعليه‌السلام . وهذه الفرقة تنكر إمامة الإمام العسكريّعليه‌السلام (فرق الشيعة:١١؛ العيون ١١. ولا وجود لهذه الفرقة في الملل والنحل وغيبة الطوسيّ).

١٢ - الشكّاكون في الإمامة. ويعتقدون بوفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام وعدم خلوّ الأرض من حجّة، لكنّهم ينتظرون وضوح أمر الإمامة. (فرق ١١؛ العيون ١٢؛ الملل والنحل ١٠؛ غيبة الطوسيّ ١٦٣).

١٣ - القائلون بوجود ولد منتظر للإمام العسكريّعليه‌السلام يُدعى محمّداً، بَيد أنّهم يذهبون إلى وفاته وبعثه بعد ذلك (فرق: ليس لهم ذكر؛ العيون ١٣؛ الملل: لا وجود لهم فيه؛ غيبة الطوسيّ ٦٠).

١٤ - المعتقدون بوفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام المنتظرون قيام ولده الغائب. ويرى هؤلاء أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، ولكنّهم يمترون في أنّ الولد المذكور ولد قبل

١٩٥

وفاة أبيه أو بعدها (الملل ٩).

١٥ - الفَطحيّة ويذهبون إلى وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام وإمامة جعفر بعده (فرق ١٣؛ العيون ١٤؛ الملل: لا وجود لهم فيه؛ غيبة الطوسيّ ٦٢-١٤٥).

١٦ - جماعة اشتبه عليهم الأمر هل كان للإمام العسكريّعليه‌السلام ولد أم لا؟ وهؤلاء ينتظرون وضوح المسألة. لكنّهم كانوا قد قبلوا وجوده (غيبة الطوسيّ ١٦ و١٤٤).

١٧ - الواقفة في الإمامة. كانوا يقولون: الحقيقة خافية علينا، وإذا ظهر اختلاف بين الشيعة في مسألة فإنّا نفزع إلى رجل من آل محمّد (الرضا من آل محمّد)(١) ، حتّى يُظهر الله حجّته على الخلق، وحين يظهر هذا الشخص فلا حاجة إلى المعجزة والكرامة؛ لقبول إمامته إذ أنّ اتّباع الناس إيّاه معجزة بلا نزاع (الملل ١١).

١٨ - القائلون بثلاثة عشر إماماً، وهؤلاء يعتقدون بوفاة الإمام الثاني عشر وإمامة ولد له(٢) . (غيبة الطوسيّ ١٤٧).

١٩ - أصحاب الحلاّج الذين يَرَون أنّ الإمامة قد خُتمت بعد الإمام الثاني عشر، وأنّ القيامة قد أزِفَت(٣) .

٢٠ - أتباع عقيدة نسبها صاحب الفهرست إلى أبي سهل النوبختيّ(٤) .

تتشابه مقالات هذه الفرق العشرين كثيراً؛ ولذلك لم يفرّق بينها المؤلّفون القدامى. يضاف إلى ذلك أنّ معظم هذه الفرق قد اندثر بسبب قلّة أتباعها، ولم يَبقَ

____________________

١ - كان أنصار العلويّين يرفعون هذا الشعار عندما لم يحدّدوا شخصاً منهم بعينه، كما أنّ الحلاّج في بادئ أمره دعا الناس إلى إمامة شخص بهذا الاسم دون أن يصرّح به (قسم من كتاب المنتظم لابن الجوزيّ في حاشية صلة تاريخ الطبريّ ص ٥٠ pssion sal-Halladj p. ٧٥ نقلاً عن أنساب الأشراف للبلاذريّ) راجع: كتاب كمال الدين ٧١ وغيره للوقوف على استعمال هذا الشعار.

٢ - هؤلاء هم غير القائلين بثلاثة عشر إماماً أحدهم زيد بن عليّ، مثل أبي نصر هبة الله بن محمّد. (انظر: ص١٣٩-١٣٨ من هذا الكتاب).

٣ - ص١٣٩-١٣٨ من هذا الكتاب.

٤ - ص١٣٩ من هذا الكتاب.

١٩٦

منها إلاّ الإماميّة الاثنا عشريّة الذين نبغ فيهم متكلّمون ورواة وفقهاء وسياسيّون كبار، فنشطوا على مرّ الأيّام، ولم تصمد أمامهم فرقة تذكر. ومن هنا يَرَون أنّ انقراض الفرق الأُخرى وبقاءهم أحد الأدلّة على حقّانيّة مقالاتهم.

١٩٧

١٩٨

الفصل الثامن

أبو إسحاق إبراهيم مؤلّف كتاب (الياقوت)

(النصف الأوّل من القرن الرابع)

الكتاب الوحيد المستقلّ الذي تركه أحد كبار الأُسرة النوبختيّة الكثيرين، ولا ريب في انتسابه إليه هو كتاب الياقوت. وقد ألّفه أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت. وكان في عداد أشهر الكتب الكلاميّة، وقام جماعة من العلماء بشرحه والاستناد إلى أقواله.

بَيد أنّنا لا نجد في كتب التاريخ والتراجم ذكراً لمؤلّفه الجليل الذي كان من متكلّمي الشيعة االقدماء. ولعلّ كتابه من أقدم الكتب الكلاميّة المتوفّرة المأثورة عن هذه الفرقة. والعجيب حقّاً أن لا يذكره أحد المؤلّفين بمن فيهم الشيعة.

وصل إلينا كتاب الياقوت في ضمن الشرح الذي كتبه عليه العلاّمة الحسن بن المطهّر الحلّيّ (٦٤٨-٧٢٦هـ) بعنوان أنوار الملكوت في شرح الياقوت. ونقل الشارح كتاب الياقوت كلّه في شرحه. وسبق العلاّمةَ الحلّيّ في شرحه المؤرّخُ والمتكلّم المعتزليّ المعروف عزّ الدّين عبد الحميد بن أبي الحديد (٥٨٦-٦٥٦هـ)(١) ؛ إذ كان له

____________________

١ - ذكرنا في ص ٤٨ و٦٩ من هذا الكتاب، تبعاً لصاحب فوات الوفيات وغيره، أنّ وفاة ابن أبي الحديد =

١٩٩

شرح عليه أيضاً(١) . ولكن لا أثر اليوم لهذا الشرح، ولم ينقل أحد منه شيئاً فيما أعلم.

وعندما ينقل مؤلّفو الكتب الكلاميّة قولاً عن مؤلّف الياقوت فإنّهم يذكرونه باسم (ابن نوبخت)، إلاّ العلاّمة الحلّيّ فإنّه يذكره باسم (الشيخ أبو إسحاق). كما يذكره في مقدّمة كتاب أنوار الملكوت، التي سننقلها نصّاً باسم (الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت). وهذه الكنية والاسم موجودان في مقدّمة النسخ الثلاث التي رأيتها من كتاب أنوار الملكوت بصيغة واحدة، فلا اختلاف بينها(٢) .

ولا أدري لماذا ذكر الميرزا عبد الله الأفنديّ في رياض العلماء(٣) أنّ اسمه إسماعيل، على الرغم من تصريح العلاّمة الحلّيّ باسمه.

وكذلك تبعه بعض المؤلّفين الجدد من الشيعة في العراق وسورية(٤) ، فذكروا أنّ اسمه إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت. ولا نعرف المصدر الذي رجع إليه صاحب رياض العلماء. ولمّا كان مؤلّف كتاب الياقوت - كما سنرى - من الذين عاشوا بعد الغيبة الصغرى، وكان معاصراً للإمام أبي الحسن الأشعريّ (٢٦٠-٣٢٤هـ) وأبي بكر محمّد بن زكريّا الرازيّ (المتوفّى سنة ٣٢٠ هـ) - أي من رجال النصف الأوّل من القرن

____________________

= كانت في سنة ٦٥٥هـ، ثمّ تبيّن لنا بعد التحقيق أنّها كانت سنة ٦٥٦هـ. ونقل ابن الفوطيّ في كتاب الحوادث الجامعة ٣٣٦ شعراً له في رثاء أخيه القاضي موفّق الدين أبي المعالي القاسم بن أبي الحديد الذي توفّي في جمادى الآخرة من تلك السنة، وذكر أنّه عاش بعده أربعة عشر يوماً. ونقل هندوشاه النخجوانيّ في كتاب تجارب السَّلف الفارسيّ حكاية عن لقاء ابن أبي الحديد بالخواجه نصير الدين الطوسيّ بعد دخول التتر بغداد، ممّا يدلّ على أنّه كان حيّاً عندما غزاها هولاكو في ٤ صفر ٦٥٦هـ.

١ - شرح نهج البلاغة ٤: ٥٧٥؛ روضات الجنّات ٤٢٣.

٢ - مخطوطة المكتبة الرضويّة بمشهد المقدّسة، مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلاميّ، مخطوطة صديقي الفاضل الميرزا فضل الله شيخ الإسلام. وقد تفضّل عليّ باستنساخ نسخة منها وإرسالها اليّ.

٣ - تاريخ تأليفه سنة ١١١٦ هـ. وكان مؤلّفه من معاصري العلاّمة المجلسيّ الثاني، وتوفّي في الفترة الواقعة بين سنة ١١٣٠ و١١٤٠هـ.

٤ - منهم صاحب كتاب الشيعة وفنون الإسلام ٤٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288