آل نوبخت

آل نوبخت0%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس إقبال آشتياني
تصنيف: الصفحات: 288
المشاهدات: 78913
تحميل: 6962

توضيحات:

آل نوبخت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78913 / تحميل: 6962
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٣١٢هـ. وعندما أقال المقتدر العبّاسيّ أبا القاسم عبد الله بن أبي عليّ محمّد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقانيّ من الوزارة سنة ٣١٣هـ، وعيّن مكانه أبا العبّاس أحمد بن عبيد الله الخصيبيّ يوم الخميس، الحادي عشر من شهر رمضان تلك السنة، صادر الوزيرُ الجديد ممتلكاتِ الوزير السابق وممتلكات عمّاله وكتّابه، ومنهم أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي سُجن وحُكم عليه بدفع غرامة(١) .

ثمّ عزل المقتدرُ الخصيبيَّ عن الوزارة في الحادي عشر من ذي القعدة سنة ٣١٤هـ، وعيّن مكانه أبا الحسن عليّ بن عيسى الجرّاح مرّة أُخرى، ونصب أبا القاسم عبد الله بن محمّد الكلواذانيّ نائباً له.

وفي حوار دار بين الخصيبيّ وعليّ بن عيسى حول الشؤون الماليّة في بداية الوزارة الثانية لعليّ بن عيسى طلب الوزير الجديد من الخصيبيّ الأموال التي كانت قد صودرت في أيّام وزارته، فقال الخصيبيّ إنّ نسخة ممّا كتبه الأشخاص المصادرة أموالهم، والذين تكفّلوا بدفع الغرامة اللاّزمة إنّما هي عند هشام بن عبد الله متصدّي ديوان المصادرين. فدفع هشام قائمة بأسماء العمّال والكتّاب الذين تكفّلوا غرامةٍ - وكانوا قد أودعوا تعهّداً خطّيّاً في هذا المجال - إلى عليّ بن عيسى. ومن هؤلاء العمّال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي كان مسؤولاً عن أموال النهروانات(٢) قبل الوزارة الثانية لعليّ بن عيسى، وكان في ذمّته مال كثير على ما أفاده تقرير هشام بن عبد الله، ولم يدفع إلاّ مبلغاً ضئيلاً منذ تعيين عليّ بن عيسى وزيراً إلى أن جاء الوزير الجديد من الشام إلى العراق(٣) .

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ١٤٤.

٢ - النهروانات هي النهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل وكانت واقعة شرق السواد على ضفاف دجلة بين بغداد وواسط.

٣ - تاريخ الوزراء للصابي ٣١٢.

٢٢١

يستبين من هذا الكلام أنّ إسحاق بن إسماعيل، بعد أن كان سجيناً في عهد الخصيبيّ - أي: في رمضان سنة ٢١٣هـ - وصودرت أمواله، تولّى مسؤوليّة أموال النهروانات، وظلّ في منصبه حتّى أواخر وزارته التي لم تَدُم أكثر من أربعة عشر شهراً.

وحدثت جفوة بين المقتدر وخادمه وصاحب شرطته مؤنس المظفّر سنة ٣١٥هـ. وكان مؤنس قد نُصب والياً على الروم، وامتنع عن المثول أمام المقتدر لتوديعه بسبب الجفوة المذكورة. والتفّ حوله عسكر السلطان العبّاسيّ وجميع قادته وحواشيه وغلمانه فاضطرّ المقتدر إلى استعطافه، بَيْد أنّ جماعة من عسكره ظلّوا على تمرّدهم. ومن أسباب ذلك أنّ عليّ بن عيسى كان قد أحال دفع نفقاته ونفقات بطانته إلى أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، لكنّه لم يدفعها إليهم. ولا حَقَ عليُّ بن عيسى إسحاقَِ بن إسماعيل وقبض عليه فسجنه هو وكاتبه أحمد بن يحيى جلخت وجماعة من أصحابه. ثمّ عزله بعد أن أخذ منه تعهّداً بدفع ٥٠٠٠٠ دينار من المال الذي كان في ذمّته(١) ، وكان يومئذٍ على مال واسط. وفي يوم الثلاثاء الخامس عشر من ربيع الأوّل سنة ٣١٦هـ عزل المقتدرُ عليَّ بن عيسى، ونصب مكانه الكاتب الحَسَن الخطّ والأديب البليغ المعروف أبا علي محمّد بن عليّ بن مُقلة الذي لم يتجاوز الرابعة والأربعين منم عمره آنذاك. وأمره - كخطوة أُولى - أن يردع مسؤولي الدواوين عن المطالبة بالمصادرات والغرامات، وأن يُعيد عدداً من العاملين إلى مناصبهم التي كانوا قد فُصلوا منها. ومن هؤلاء أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي كان عليّ بن عيسى قد عزله، فأقرّه على أموال واسط(٢) .

ومنذ هذا التاريخ حتّى ٣٢٠هـ التي نُصب فيها القاهر العبّاسيّ حاكماً،

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ١٦٠.

٢ - صلة تاريخ الطبريّ لعريب بن سعد القرطبيّ ١٣٦.

٢٢٢

لا نمتلك معلومات حول سيرة إسحاق بن إسماعيل غير أنّ الذي تفيده القرائن هن أنّ حكومته كانت تسير نحو التقدّم تدريجاً، إلى أن قُتِل المقتدر فأصبح مِن بَعده من ذوي النفوذ والاقتدار في البلاط.

وبعد قتل المقتدر في ٢٨ شوّال سنة ٣٢٠هـ أراد مؤنس المظفّر وسائر رجال البلاط أن ينصبوا أحداً مكانه. وكان رأي مؤنس أن يخلفه ولده أبو العبّاس أحمد، بَيد أنّ إسحاق بن إسماعيل لم يوافقه على ذلك ولم يستحسن الرجوع إلى ما كانوا عليه بعد أن تخلّصوا من شرّ المقتدر الذي كانت له أمّ وخالة وخدم كثيرون على حدّ تعبيره. وذكر أنّ عليهم أن يختاروا من يدبّر حاله وحالهم. وأصرّ على ذلك حتّى أقنع مؤنساً بالعدول عن أبي العبّاس أحمد، واختيار أبي منصور محمّد نجل المعتضد بعد إضفاء لقب (القاهر) عليه(١) .

استهلّ القاهر عمله بمصادرة ممتلكات المقتدر وأُمّه. وأجبر أُمّه على تسليم أموالها جميعاً للديوان، وأوكل أبا الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ في بيعها. فامتنعت من ذلك وقالت: إنّه كان قد وقف هذه الأموال على الكعبة والأمصار الإسلاميّة والضعفاء والمساكين، فلا يحقّ للقاهر أن يسلبها صفة الوقف. أمّا أملاكي فإنّي أضعها تحت تصرّف عليّ بن عبّاس النوبختيّ لبيعها. وشهد القاضي عمر بن محمّد وغيره برفع الوقفيّة عن تلك الأملاك بحضور القاهر. وأوكل القاضي عليّ بن عبّاس النوبختيّ ببيعها. كما خوّل أبا طالب النوبختيّ، وأبا الفرج أحمد بن يحيى جلخت، وأبا يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ ببيع العقارات التي كانت قد صودرت من أُمّ المقتدر ببغداد(٢) .

وعندما تقلّد القاهر الأمر، استوزر أبا عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة الذي كان في

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٢، وسائر كتب التاريخ في وقائع سنة ٣٢٠هـ.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٥.

٢٢٣

مهمّة ببلدة فارس. وأشار عليه مؤنس أن يُنيب عنه أبا القاسم الكلواذانيّ ريثما يصل إلى بغداد.

وصل أبو عليّ قادماً من شيراز في العاشر من ذي القعدة سنة ٣٢٠هـ، وتسلّم مقاليد الوزارة. وتغيّر على الكلواذانيّ لبعض الأسباب فأوقفه وصادر أمواله. وقبض على جماعة من الكتّاب والعمّال، أحدهم إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، وأوكل أمرهم جميعاً إلى أبي عبد الله محمّد بن خلف النيرمانيّ الذي كان من عمّاله الحاذقين ليطالبهم بالأموال التي كانت في ذمّتهم، فخاف إسحاق بن إسماعيل ومن معه على أنفسهم لاشتهار محمّد بن خلف بالغلظة والشدّة، ففكّروا في الخلاص منه.

لجأ إسحاق النوبختيّ إلى أبي جعفر محمّد بن شيرزاد الذي كان من العاملين في الديوان ومن أصدقائه القدماء فتحدّث أبو جعفر مع ابن مقلة بشأنه. فقال ابن مقلة إنّه مضطرّ إلى إبقائه في السجن؛ لأنّه كان قد قصّر في أداء مالٍ كان عليه أن يدفعه إلى هارون بن غريب(١) في عهد المقتدر، وذكر أنّه لا يطلقه لئلاّ يفعل ما فعله سابقاً. ثمّ سيّر مع أبي جعفر حاجباً من حجّاب الوزارة وبعث بهما إلى إسحاق. ومذ وقعت عين إسحاق على الحاجب، صاح وأخذ بتلابيب أبي جعفر، وطلب منه أن يذهب إلى مؤنس وأن لا يتركه حتّى يخلّصه من مخالب ذلك المجنون، أي: محمّد بن خلف النيرمانيّ. فذهب أبو جعفر إلى مؤنس وألحّ عليه إلحاحاً شديداً، فأرسل أحد رجال البلاط إلى أبي عليّ بن مقلة ليطلق إسحاق، أو ينقذه من محمّد بن خلف ثمّ يشخصه إليه. فلم يَرَ أبو عليّ بُدّاً من أن يستجيب لطلب مؤنس، ويهتمّ بموضوع إسحاق. واستطاع أبو عبد الله البريديّ خلال ذلك أن يخلّص نفسه وإخوته من قبضة محمّد بن خلف، وأن ينقذ إسحاق بن إسماعيل من محنته

____________________

١ - ابن خال المقتدر وأحد أمرائه.

٢٢٤

أيضاً، فخرج الجميع من سجنهم في يوم واحد(١) . وبعد مضيّ مدّة استدعى ابنُ مقلة إسحاق، وأخذ منه تعهّداً خطّيّاً أن يدفع ٢٠٠٠ دينار إلى الديوان في كلّ شهرٍ. وعليه أن يعمل بتعهّده كما كان يفعل في عهد المقتدر. كما أخذ تعهّداً خطيّاً من أولاد البريديّ بدفع ٤٥٠٠ دينار(٢) .

لم تَدُم وزارة ابن مقلة في عهد القاهر أكثر من تسعة أشهر وثلاثة أيّام، إذ وزر من بعده أبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله بن وهب في غرّة شعبان سنة ٣٢١هـ. فاعتقل أبا جعفر محمّد بن شيرزاد الذي كان قد سعى في خلاص إسحاق من السجن، وكانت له منّة عليه، وطالبه بمال كثير. فهبّ إسحاق لإغاثة صديقه القديم أبي جعفر بن شيرزاد شكراً له على صنيعه، وتوسّط له عند أبي جعفر الوزير. فأنقذه من سجنه وأرسله إلى بيته بعد أن أودع تعهّداً خطّيّاً بخطّ ابن شيرزاد على أن يدفع ٢٠٠٠٠ دينار(٣) .

وكان لإسحاق النوبختيّ نفوذ كبير في عهد وزارة أبي جعفر محمّد بن القاسم وتأثير عظيم في قلب الوزير. يضاف إلى ذلك أنّه لمـّا كان متولّيّاً أمر أملاك واسط وحوالَي الفرات، وكان من أعيان بغداد وأصحاب الأملاك والثروة الطائلة فيها، فقد نافس كبار عصره - بما فيهم السلطان العبّاسيّ - في الثراء. من هنا كان يعدّ ملاذاً للمعزولين والمغضوب عليهم كغيره من بعض أفراد الأُسرة النوبختيّة في عصره، فكان يصلح بينهم وبين الوزير.

ومن أشهر الأُسر التي كانت ضالعة في شؤون الحكومة يومئذٍ وكان لها شأنها الكبير لكفاءتها وكياستها هي أُسرة البريديّ التي كانت تتولّى أمر أموال البصرة والأهواز منذ مدّة، بخاصّة أنّ كعبهم علا كثيراً في وزارات ابن مقلة؛ لأنّ أحدهم

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٦-٢٤٩.

٢ - نفسه ٥: ٢٥٣.

٣ - نفسه ٥: ٢٧٠.

٢٢٥

وهو أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن يعقوب بن إسحاق البريديّ كان قد سعى كثيرا في نصب ابن مقلة وزيراً للمقتدر سنة ٣١٦هـ على رغم عليّ بن عيسى. واستحصل منه أمراً بخراج الأهواز، وأمراً ببعض أعمالها الأُخرى لأخويه أبي يوسف يعقوب، وأبي الحسين عليّ، وذلك بعد إعطائه رشوةً مقدارها ٢٠٠٠٠ دينار. وكان أبو عبد الله المذكور متهوّراً مكّاراً داهيةً. وصودرت أمواله وأموال إخوته مرّتين عندما عُزل ابن مثلة من الوزارة خلال فترتين متواليتين. الأُولى في سنة ٣١٨هـ حين فرض عليه المقتدر الإقامة الجبريّة ببغداد، وطالب الإخوة الثلاثة بدفع ٤٠٠٠٠٠ دينار، وهدفه من ذلك أن يدفعوا مقداراً منه في الأقلّ، لكنّهم دفعوه كلّه وعادوا إلى مناصبهم. أمّا الثانية فكانت في سنة ٣٢١هـ بعد فرار ابن مقلة واستتاره في عصر القاهر ولمّا اختفى ابن مقلة خوفاً من القاهر، أخفى البريديّون أنفسهم أيضاً. وولّى أبو جعفر محمّد بن القاسم أحد أصدقائهم على الأهواز والبصرة. وتوسّط إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ بينهم وبين الوزير وأخذ منه الأمان فخرجوا من مخبئهم. ثمّ حثّ الوزير على أن يتحدّث مع السلطان العبّاسيّ بشأنهم ويُعلمه أنّ المصلحة تقتضي إرجاعهم إلى البصرة والأهواز. فقبل الوزير ذلك وتحدّث مع السلطان، ورغّب القاهر في تحصيل مالٍ أكثر من قِبَله فاستجاب القاهر ووعده بالعمل في أوانه.

واستشار السلطان أحد أطبّاء البلاط، فعزم على عزل أبي العبّاس الخصيبيّ من الوزارة، والقبض على أبي جعفر الوزير، وأولاد البريديّ، وإسحاق النوبختيّ. بَيْد أنّه قرّر في البداية أن يجبر الوزير على أخذ مَن كانوا قد تعهّدوا بدفع الأموال، لئلاّ تضيع الأموال التي كان الوزير قد وعد بأخذها، وذلك بدعوتهم إلى داره، وإذا ما نُفِّذت الخطَّة فإنّه يحبس الوزير.

أرسل القاهر أحد خدمه إلى دار أبي جعفر الوزير ليقبض على أولاد البريديّ وإسحاق النوبختيّ الذين كان يظنّ أنّهم فيها. وكان أولاد البريديّ على علمٍ بهذا

٢٢٦

الأمر بواسطة جواسيسهم فاختبأوا قبل وصول مبعوث القاهر. وذهب الخادم إلى دار إسحاق فطفق يفتّشها بحجّة أنّ القاهر قد أُخبر بوجود عدد من الجواري المغنيّات والعازفات على العود فيها(١) . وأمره أن يركب معه ويتوجّه إلى السلطان. وبعد أن علم إسحاق بالأمر، وكان لا يظنّ أنّ الهدف من ذلك إيذاؤه شخصيّاً، أمر جواريه أن لا يَحُلْن دون الخادم في طلب العازفات، ويَدَعْنَه ينجز مهمّته. ثمّ توجّه إلى دار الوزير، فجاء الخادم إليها مباشرة، وقبض عليه وأودعه السجن.

وأرسل السلطان العبّاسيّ مأمورين آخرين لتفتيش دور أولاد البريديّ وإسحاق النوبختيّ. ففتّشوا دور إسحاق في االنوبختيّة وضفاف دجلة، فاستسلم حرمه وأولاده، وقُبض على كاتبه أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفيّ، وكلّف القاهر عليَّ بن عيسى بتولّي أعمال واسط والأراضي التي تُروى من الفرات، بدل إسحاق النوبختيّ(٢) .

إنّ أبا يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ بنصبه القاهر وإجباره مؤنساً على ذلك، إنّما كان يسعى في دمه. ذلك أنّه لقي حتفه على يد القاهر الناكر للجميل بعد سنتين؛ إذ قتله شرّ قتلة وجحد حقّ نعمة من له فضل عظيم عليه. وكان أبو منصور محمّد القاهر - قبل تقلّده الأمر - يريد أن يشتري جارية تسمّى (رتبة) كانت معروفة بجمالها وحسن غنائها. لكنّ إسحاق النوبختيّ غلاّ في ثمنها واشتراها، فاستاء أبو منصور محمّد من هذا العمل وأضمر له حقداً. وكان قد حدث مثل ذلك بين القاهر وأبي السرايا نصر بن حمدان.

قرّر القاهر أن يقتل أبا السرايا، وإسحاق النوبختيّ سنة ٣٢٢هـ وجاء نفسه

____________________

١ - مع أنّ القاهر كان يعاقر الخمرة ويسمع الأغاني ويعاشر الجواري العازفات لكنّه حرّم الخمر والنّبيذ سنة ٣٢١هـ. وقبض على المغنّين رجالاً ونساءً، ونفاهم.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٧٠-٢٧١.

٢٢٧

ووقف على البئر التي أراد أن يلقي فيها هذين المسكينين. فجيء بإسحاق مصفّداً وأُلقي فيه حيّاً. ثمّ أُحضر أبو السرايا، ولمّا أرادوا إلقاءه، تضرّع كثيراً فلم ينفعه. فتعلّق بسعفة نخلة كانت قريبة من البئر فراراً من الموت، فبادر الجلاوزة إلى قطع يده فوقع في البئر. ثمّ طُمّت البئر بالتراب إلى حافّتها، وخُتمت حياة إسحاق الذي كان من أعيان عصره ومن رجالات الأُسرة النوبختيّة بهذا النحو المروِّع. وأشعر هذا العمل عامّة الذين كانوا قد سَعَوا في نصب القاهر سلطاناً أنّهم ارتكبوا خطأً كبيراً. وفي آخر المطاف أُطيح بالقاهر نتيجةً لهذه الممارسات الشنيعة، ونُصب مكانه أبو العبّاس أحمد نجل المقتدر في جمادى الأُولى سنة ٣٢٢هـ بعد إضفاء لقب (الراضي بالله) عليه.

وليس بأيدينا معلومات عن نجل أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل - وهو أبو الفضل يعقوب - إلاّ عن طريق المدائح التي أنشدها البُحتريّ بحقّه. ولمّا كان تاريخها قبل سنة ٢٨٢هـ التي توفّي فيها البُحتريّ، ولم يَرد ذكره في التواريخ، فمن المحتمل أنّه توفّي يومئذٍ ولم يدرك عهد اقتدار أبيه. ونقرأ في ديوان البُحتريّ مديحتين لهذا الشاعر بحقّ أبي الفضل يعقوب. نقلنا قسماً من إحداهما في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، أمّا الثانية فقد أنشدها الشاعر أيّام بؤس يعقوب، منها هذان البيتان:

تَفديك أنفُسُنا اللاتي نضُنُّ بها

مِن مؤلماتِ الذي تشكو وأوصابِهْ

لستَ العليلَ الذي عُدناهُ تكرِمَةً

بل العليلُ الذي أصبحتَ تُكْنى بِه(١)

____________________

١ - ديوان البحتريّ ١٩٢. إشارة إلى أبي الفضل، وهي كنية يعقوب بن إسحاق.

٢٢٨

الفصل العاشر

أبو الحسين عليّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)

ونجله أبو عبد الله حسين (وفاته في سنة ٣٢٦هـ)

أبو الحسين عليّ بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت من فرع آخر من السلالة النوبختيّة. يتّصل نسبه ونسب أولاد المتكلّم المعروف أبي سهل إسماعيل بن عليّ وأعمامه بأبي سهل بن نوبخت؛ إذ تفيد المعلومات الواصلة إلينا أنّ اثنين من أولاد أبي سهل بن نوبخت الكثيرين - وهما إسماعيل وإسحاق - كانت لهما أُسرتان وجيهتان. فإسحاق والد عليّ بن إسحاق وجدّ أبي سهل إسماعيل، وأخيه أبي جعفر محمّد لأبيهما، وجدّ أبي محمّد الحسن بن موسى لأُمّه. وكان لأخيه إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت ولدان: أحدهما عبّاس، وهو والد أبي الحسين عليّ المترجَم له في هذا الفصل، والجدّ الأعلى لأبي الحسن موسى بن حسن بن محمّد بن عبّاس المعروف بابن كبرياء الذي سنشير على سيرته في الفصل الثالث عشر، والآخر إسحاق والد يعقوب، وعليّ والحسن الذين تقدّم ذكرهم في الفصل الماضي.

كان أبو الحسين عليّ بن عبّاس من كبار الكتّاب والأعيان والشعراء في بغداد،

٢٢٩

ومن الكرماء الذين يرعون الأدب، وقد عاصر أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ، وكانت تربطهما علاقة واحدة؛ إذ كان والد أبي الحسين عليّ، وهو عبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت، ووالد أبي سهل إسماعيل، وهو عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت يعدّان ابني عمّ. وكان أبو الحسين عليّ ينظر بعين الاحترام إلى أبي سهل إسماعيل الذي كان عميد الأُسرة النوبختيّة ورئيس الإماميّة في عهده، وقال في مدحه شعراً.

وكان أبو الحسين عليّ تلميذاً في الشعر والأدب لاثنين من كبار شعراء العرب، هما البُحتريّ، وابن الروميّ. وهذان كانا من خاصّة آل نوبخت، ومدّاحيهم، وأغذياء نعيمهم. وجمع أبو الحسين قسماً من أخبارهما وأشعارهما في حياتهما ونقلها إلى الآخرين بالرواية(١) .

ذكره ابن النديم في مصافِّ الشعراء الكتّاب وقال إنّ دفتر شعره كان يبلغ مائتي ورقة(٢) . وذهب الذهبيّ وأبو بكر محمّد بن يحيى الصوليّ (المتوفّى ٣٣٥ أو ٣٣٦هـ) صاحب كتاب الأوراق وتلميذ أبي سهل إسماعيل بن عليّ - الذي كان من معاصريه وكان يعيش معه في مدينة واحدة - إلى أنّ شعره كان سلساً فصيحاً(٣) .

نقل ياقوت الأبيات الآتية من شعره في حقّ أبي سهل إسماعيل بن عليّ عندما كان أبو سهل قد شرب دواءً.

يا محييَ العارفات والكَرَم

وقاتلَ الحادثاتِ والعدمِ

كيف رأيتَ الدواءَ أعقبكَ اللهُ

شفاءً به من السّقمِ

لئن تخطّت إليكَ نائبةٌ

حَطّت بقلبيَ ثقلاً من الألمِ

____________________

١ - معجم الأُدباء ٥: ٢٢٩؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ f. ٣٦ a (مخطوطة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢ - الفهرست ١٦٨.

٣ - تاريخ الإسلام f. ٣٦ a؛ كتاب الأوراق f. ١٠٣ a (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢٣٠

شَرِبتَ فيها الدواءَ مُرتجياً

دفعَ أذىً من عِظامكَ العِظَمِ

والدهرُ لا بدَّ مُحدِثٌ طَبِعاً

في صفحَتَي كلِّ صارمٍ خَذِمِ(١)

ونقل أبو إسحاق الحصريّ القيروانيّ في زهر الآداب الأبيات الآتية له:

إنْ يخدِم القَلَمَ السَّيفُ الذي خَضِعَت

له الرّقابُ ودانَت خوفَهُ الأُمَمُ

فالموتُ والموتُ لا شيءٌ يغالِبُهُ

مَا زالَ يَتبَعُ مَا يجري بِهِ القَلَمُ

بذا قضى اللهُ للأقلام مُذ بُرِيَت

إنّ السُّيوفَ لها مُذ أُرهِفَت خَدَمُ

وقال الشاعر المشهور أبو الطيّب أحمد بن الحسين المتنبّي (٣٠٣-٣٠٥هـ) معارضاً مضمون ما ورد في شعر أبي الحسين النوبختيّ. ومضمون شعره في الحقيقة هو مقلوب مضمون شعر أبي الحسين:

مازِلتُ أُضْحِكُ إبلي كلّما نَظَرتْ

إلى مَن اختضبت أخفافُها بِدَمِ

أسيرُها بين أصنامٍ أُشاهِدُها

ولا أُشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصَّنَمِ

حتّى رجعتُ وأقلامي قوائل لي:

المجدُ للسيفِ، ليس المجدُ للقلمِ

اكتُبْ بنا أبداً بعد الكتابِ بهِ

فإنّما نحن للأسيافِ كالخدم(٢)

وقد وَهِم بعض الرواة في نقل أبيات أبي الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ باسم أبي الحسن عليّ بن عبّاس بن الروميّ. وهذا الوهم ناتج عن تشابه اسميهما واسمَي أبويهما(٣) . كما أنّ كنيتيهما تتماثلان أيضاً. ولعلّ هذه النقطة من الأسباب التي أدّت إلى اختلاف المؤلّفين في كنية عليّ بن عبّاس، إذ ذكر بعضهم أنّه

____________________

١- معجم الأُدباء ٥: ٣٢٩.

٢- من قصيدة مطلعها:

حتّام نحن نُساري النجم في الظُّلَمِ

وما سراهُ على خُفٍّ ولا قدمِ

انظر ديوان المتنبي، طبعة الشيخ ناصيف اليازجي ٥٣٦-٥٤٠ في مرثية أبي شجاع فاتك (المتوفّى سنة ٣٥٠).

٣- زهر الآداب ٢: ١٢٧.

٢٣١

أبو الحسين، وذكر بعض آخر أنّه أبو الحسن. ونحن نرجّح كنية أبي الحسين للأسباب التي سنذكرها.

وما نعرفه عن الحياة الإدارية لأبي الحسين النوبختيّ هو أنّه لمّا عاد المقتدر العبّاسيّ إلى العرش مرّة أُخرى سنة ٣١٧هـ واستوزر أبا عليّ بن مقلة، وكانت الأموال لا تكفي لدفع رواتب العسكر، فقد وكلّ عليّ بن عبّاس النوبختيّ في بيع بُرودٍ كانت في الخزانة، وبيع بعض الأملاك العائدة له(١) . وعندما أراد القاهر العبّاسيّ - كما قلنا سابقاً - أن يعرض أملاك السيّدة أمّ المقتدر للبيع سنة ٣٢٠هـ أجبرها أن توكّل علي بن عبّاس النوبختيّ في بيعها(٢) .

ذكر الصوليّ أنّ عليّ بن عبّاس النوبختيّ توفّي في سنة ٣٢٤هـ وعمره يناهز الثمانين. بَيد أنّ الذهبيّ الذي نقل لفظ ياقوت نفسه في معجم الأُدباء ذكر أنّه مات سنة ٣٢٧هـ (ذكر السنة بالحروف) في حين جاء في النسخة المطبوعة من معجم الأدباء أنّه مات سنة ٣٢٩ (ذكر السنة بالأرقام). ويبدو أنّ الاختلاف بين رواية الذهبيّ، وما جاء في معجم الأدباء المطبوع نابع من أُسلوب الناشر غير المقبول في استبدال الحروف بالأرقام، لذلك نلحظ أخطاء كثيرة وردت في معجم الأدباء المطبوع لهذا السبب. على أيّ حال يترجّح قول الصوليّ الذي كان من معاصري عليّ بن عبّاس النوبختيّ ومعاشريه على أقوال غيره في تاريخ وفاة النوبختيّ؛ ولهذا اخترناه. وذكر ياقوت أيضاً أنّ كنية عليّ بن عبّاس أبو الحسن (لو ركنّا إلى صحّة النسخة المطبوعة) غير أنّ ابن النديم ذكر أنّ كنيته أبو الحسين. وقوله أقرب إلى الصواب؛ لأنّ عليّ بن عبّاس كان له ولد يُدعى أبا عبد الله حسين، وعصر ابن النديم كان قريباً من عصره.

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٠٠.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٥، وص٢٢٣ من هذا الكتاب.

٢٣٢

آل نوبخت والبُحتريّ

كان أبو عُبادة الوليد بن عبيد البُحتريّ الشاعر الكبير (٢٠٦-٢٨٣هـ) - كما أشرنا مراراً - كأبي نواس، وابن الروميّ - ممّن مدح آل نوبخت، وكان من خاصّتهم ومعاشريهم. ومن الذين مدحهم: أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل، وأبو الفضل يعقوب بن إسحاق بن إسماعيل. وكان بين آل نوبخت من اهتمّ بجمع أشعاره وأخباره. وأكثر من اعتنى منهم بذلك أبو الحسين عليّ وابنه أبو عبد الله حسين كما يبدو. وكان أبو الحسين عليّ يقرأ الأدب والشعر في شبابه على البُحتريّ وابن الروميّ. ولمّا كان نفسه ذا قريحة شعريّة متعلّقاً بالأدب والشعر فقد كان يجمع أخبارهما وأشعارهما. ونقل أبو الفرج الأصفهانيّ في الأغاني حكاية حول البُحتريّ كان عليّ بن عبّاس النوبختيّ قد نقلها إلى عمّه(١) . وأورد أبو إسحاق القيروانيّ حكاية أُخرى في هذا الباب، في كتاب زهر الآداب. وهي في الحقيقة درس صغير علّمه البُحتريّ أبا الحسين عليّ بن عبّاس في الأدب عندما دار الحديث حول مقطوعة مشهورة لأبي نواس.

روى الصوليّ أنّ أبا نواس مرّ ذات يومٍ بالمدائن ومعه عدد من أصحابه، فنزلوا بساباط (بلاش آباد)، ودخلوا مكاناً طيّباً من إيوان كسرى، فشاهدوا آثار جماعة كانوا قد اجتمعوا هناك. ومكثوا خمسة أيّام أمضَوها في شرب الخمر. ثمّ طلبوا من أبي نواس أن ينشدهم في وصف ما شاهدوا فقال:

ودارِ نَدامى عَظّلوها وأدلَجوا

بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارِسُ

مَساحِبُ مَنْ جَرِّ الزقاقِ على الثّرى

وأضغافُ رَيحانٍ جَنِيٌّ ويابُ

ولَمْ أرَ منهم غير ما شهدت به

بِشَرقيِّ ساباطَ الدّيارُ البَسابِسُ

حبستُ بها صحبي فجمّعتُ شملَهُم

وإنّي على أمثال تِلكَ لَحَابسُ

أقَمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً

ويوماً له يوم التّرحُّلِ خامِسُ

____________________

١ - الأغاني ١٨: ١٦٩.

٢٣٣

تُدارُ علينا الرّاحُ في عَسجديّةٍ

حَبَتْها بأنواعِ التصاويرِ فارسُ

قرارتُها كِسرى، وفي جَنباتِها

مَهاً تَدَّريها بالقِسيِّ الفَوارسُ

فلِلرّاحِ ما زُرَّتْ عليها خُيوبُها

وللماءِ ما دارت عليها القوانِسُ(١)

يقول عليّ بن عبّاس النوبختيّ: (قال لي البُحتريّ: أتعلم من أين أخذ أبو نواس مضمون البيت الثالث؟ قلت له: لا قال: من بيت أبي خراش:

ولم أدرِ مَنْ ألقى عليه رداءهُ

سِوى أنّه قد سُلَّ عن ماجدٍ محضِ(٢)

قلتُ: يختلف هذا عن ذلك. قال: (طريقة الكلام واحدة وإن اختلف المعنى)(٣) .

ونقل الخطيب البغداديّ أيضاً مقطوعة شعريّة تدور حول أخبار البُحتريّ عبر عدد من الوسائط، عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ(٤) .

آل نوبخت وابن الروميّ

كان الشاعر الشيعيّ المعروف أبو الحسن عليّ بن العبّاس بن الروميّ من المتربّين عند آل نوبخت ومن مادحيهم، وكان أكثر تعامله مع أبي سهل إسماعيل بن عليّ وأخيه أبي جعفر محمّد الكاتب، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل، ونجله أبي الفضل. وقد ذكرنا سابقاً مدحه لهم.

____________________

١ - عُدّ شعره هذا آية على ميل الشاعر إلى إيران والآداب الفارسيّة (أخبار أبي نواس ١: ٣٨-٣٩). وكان الجاحظ يقول ما مضمونه: لم يسبق أحد أبا نواس في إيراد هذا المضمون وتقدّمُه في هذا المعنى ثابت. (زهر الآداب ٣: ١٥٨).

٢ - أبو خِراش خويلد بن مرّة الهُذَليّ من شعراء صدر الإسلام توفّي في عهد الخليفة الثاني (الشعر والشعراء ٤١٨). وهذا البيت من قصيدةٍ له في رثاء أخيه عروة، وهي موجودة كاملةً في زهر الآداب للقيروانيّ ٣: ١٥٩؛ وشرح ديوان الحماسة لأبي تمّام ٢: ١٤٣-١٤٥. وبعض أبياتها موجود في كتاب الشعر والشعراء وديوان الحماسة للبُحتريّ ٢٥٦.

٣ - تاريخ بغداد ١٣: ٤٤٧.

٤ - زهر الآداب ٣: ١٥٨.

٢٣٤

وتلمذ أبو الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ لابن الروميّ أيضاً؛ لذلك نقل قسماً من أخباره وأشعاره لمعاصريه.

وذكر ابن الروميّ في مدائحه لآل نوبخت عطاياهم وفواضلهم وهباتهم مراراً، منها أنّه خاطب أبا جعفر محمّد بن عليّ عند التماس الكسائيّ له:

عجائبُ هذا الدهرِ عندي كثيرةٌ

فيابنَ عليٍّ لا تَزِدْني عَجَائبا

عَلَينا بنُعماكُم مِن اللهِ أنعُمٌ

فلا تَجعلوها بالجفاءِ مَصائبا(١)

ووصف نفسه في قصيدة أُخرى أنّه خادم آل نوبخت، وسمّى أبا جعفر محمّد بن عليّ المُنعِمَ عليه في الغيبة والحضور(٢) . مع هذا من العجب أن يستنتج ماسينيون من كلام ورد في مروج الذهب - ونقلنا فقرة منه في ترجمة أبي سهل إسماعيل سابقاً - أنّ أبا سهل كان متّهماً بِسَمِّ ابن الروميّ(٣) . وننقل فيما يأتي كلام المسعوديّ نصّاً لدحض هذه التهمة الواهية:

قال، بعد أن ذكر وفاة أبي الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المكتفي العبّاسيّ الذي كان سفّاكاً عظيم الهيبة، وبعد أن نقل قتل عبد الواحد بن الموفّق على يده، ونسبة سمّ ابن الروميّ إلى الوزير المذكور:

(ولابن الروميّ أخبار حِسانٌ مع القاسم بن عبيد الله وأبي الحسن عليّ بن سليمان الأخفش النحويّ، وأبي إسحاق الزجّاج النحويّ. وكان ابن الروميّ الأغلب عليه من الأخلاط السوداء، وكان شَرِهاً نَهماً وله أخبارٌ تدلّ على ما ذكرناه من هذه الجمل مع أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ وغيره من آل نوبخت)(٤) .

إنّ هذا الكلام لا يُشعِر أبداً أنّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ كان ضالعاً

____________________

١ - ديوان ابن الروميّ ١٨٢ طبعة كامل الكيلانيّ.

٢ - نفسه ١٩٣.

٣ - passion s,al-Halladj, p. ١٤٧, note.

٤ - مروج الذهب ٧: ٢٣٣ (طبعة أجنبيّة).

٢٣٥

في سمّ ابن الروميّ أو أنّه كان متّهماً بذلك. يضاف إليه أنّ قصّة ابن الروميّ، والقاسم بن عبيد الله مِنَ القصص المشهورة في التاريخ. ولم يَرد في أيّ كتاب أنّ أبا سهل النوبختيّ كان له أدنى دورٍ في قتل ابن الروميّ، أو كان متّهماً بذلك في الأقلّ.

أبو عبد الله الحسين بن عليّ (نجل أبي الحسين عليّ بن عبّاس)

المتوفّى سنة ٣٢٦هـ

كان أبو عبد الله الحسين بن عليّ نجل أبي الحسين عليّ بن عبّاس المذكور من الكتّاب وعمّال الدواوين أيضاً. أصبح ذا شخصيّة مهمّة في السنين الخمس أو الستّ الأخيرة من عمره، وصار من رجالات الطراز الأوّل في بغداد ونائباً للوزراء فيها أيّام الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح الذي كان يومئذٍ ذا نفوذ واقتدار بالغ.

إنّ ما نعرفه عن أبي عبد الله الحسين النوبختيّ يعود إلى السنين الخمس أو الستّ الأخيرة من عمره، في حين يستبين من القرائن أنّه كان في عداد الكتّاب في بعض الولايات قبل هذا التاريخ أيضاً، بخاصّة أنّه كان ينوب عن الأُمراء والشخصيّات التي كانت تتولّى الأعمال الديوانيّة المهمّة في تلك الأرجاء بتكليفٍ من دار الحكومة، كما كان يعمل تحت إشراف أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ. وقبل مقتل هارون بن غريب ابن خال المقتدر العبّاسيّ كان يدير أعمال واسط و(صلح) و(مبارك) نيابة عنه، أي: قبل سنة ٣٢٢هـ. وهذه الأعمال هي التي كانت مِن قبلُ في عهدة أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، وبعد القبض عليه قلّدها القاهر أبا الحسن عليّ بن عيسى سنة ٣٢١هـ.

عندما تقلّد الراضي بالله الأمرَ سنة ٣٢٢هـ تعهّد أبو يوسف يعقوب البريديّ بالأعمال المذكورة، وأبقى أبا عبد الله الحسين بن عليّ الذي كان يديرها سابقاً من

٢٣٦

قبل هارون بن غريب، نيابة عنه في واسط(١) .

ولا ندري كم ظلّ الحسين بن عليّ النوبختيّ في خدمة أبي يوسف البريديّ، بَيد أنّ ما نعرفه هو أنّه أصبح من خاصّة كتّاب أبي بكر محمّد بن رائق سنة ٣٢٣هـ. وانبرى لمخاصمة آل البريديّ، وحصل على منزلة رفيعة ونفوذ فائق لدى ابن رائق.

وكان أبو بكر محمّد وأخوه أبو إسحاق إبراهيم ولدا رائق غلامَي المعتضد العبّاسيّ. وعندما استعاد المقتدر قدرته سنة ٣١٧هـ ولاّهما على شرطة بغداد فأبليا بلاءً حسناً وبقياً في منصبهما حتّى سنة ٣١٨هـ.

ثمّ استعملهما سنة ٣١٩هـ على البصرة وإدارة أعمالها. ولكن لم تمض فترة قصيرة حتى أجبر مؤنسُ المظفّرُ المقتدرَ على إخراج ياقوت وابنه محمّد، فخرجا من بغداد يوم الأربعاء الثامن من رجب سنة ٣١٩هـ، واستحوذ مؤنس على المقتدر، واستدعى ولدَي رائق وجعلهما حاجبين للمقتدر فشكراه على ذلك. بَيد أنّ المقتدر عزلهما بعد مدّة، وأرجع ياقوتاً إلى منصبه.

توتّرت العلاقة بين مؤنس والمقتدر سنة ٣١٩هـ، وكانت بين محمّد بن ياقوت ومؤنس منافسة قديمة. وعندما عيّنه المقتدر على شرطة بغداد ومحتسبيها، وعيّن أباه ياقوتاً حاجباً، طلب مؤنس من المقتدر أن يعزلهما، فاستجاب المقتدر مضطرّاً وأعاد ابنَي رائق إلى الحجابة. وبعد فترة قصيرة تولّيا ضمان أعمال واسط من الديوان وآزرا المقتدر في الحرب التي انتهت بمقتله سنة ٣٢٠هـ.

وعندما قُتل المقتدر وفرّ أُمراء جيشه، هرب ولدا رائق مع هارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت نحو واسط. ثمّ استبدّ محمّد بن ياقوت وكاتبه أبو إسحاق محمّد بن أحمد القراريطيّ الإسكافيّ (٢٨١-٣٥٧هـ)، ولم يعاملا الرؤساء الآخرين

____________________

١ - تكملة تاريخ الطبريّ f. ٥٧ a (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢٣٧

- بخاصّة ولدَي رائق - معاملة حسنة، ممّا أدّى إلى استياء سائر الأُمراء من محمّد بن ياقوت. واستغلّ أبو عبد الله البريديّ الخلاف القائم بين أُمراء جيش المقتدر سنة ٣٢١هـ وكانت له صداقة قديمة بأبي عليّ بن مقلة وزير السلطان العبّاسيّ الجديد القاهر بالله فاستمدّ الوزير على العُصاة فأمدّه، واستطاع أن يبدّد شملهم بالمكر والتدبير وذلك المَدَد. وخوّل ولدَي رائق حكومة البصرة ففصلهما عن محمّد بن ياقوت، واستسلم ابن ياقوت. وبعد فترة قصيرة أمر ابن مقلة بإطلاق أملاك ابن رائق التي كانت قد أُوقفت.

استولى ولدا رائق في الأيّام الأخيرة من حكومة القاهر على البصرة والأهواز تدريجاً، وعَظُمت شوكتهما فأخضعا جميع المناطق الواقعة في نطاق هاتين المدينتين لسلطتهما وبعثا بالرسل إلى شتّى المناطق.

ولمـّا تقلّد الراضي العبّاسيّ الأمر اختار أبا بكر محمّد بن رائق حاجباً له. فقدم هذا من الأهواز إلى واسط. وفوّض ابنُ مقلة حكومةَ الأهواز إلى أولاد البريديّ.

وتزامن دخول محمّد بن رائق إلى واسط مع هجوم أبي الحسن عليّ بن بويه الديلميّ عليها واحتلالها. فخرج ابن رائق منها ودخلها ابن بويه بعد هزيمة محمّد بن ياقوت (سنة ٣٢٢هـ).

وحينما صالح ابن بويه السلطان العبّاسيّ وعاد إلى فارس، تقلّد ابن رائق أعمال واسط والبصرة مرّة أُخرى كمعاون فيهما. وفي تلك البرهة ذاتها عيّن أبا عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ كاتباً له. وأوكل تدبير أُموره إلى ذلك الرجل الكفوء الذي جمع إلى فنّ الإنشاء وطهر الفطرة، كفاءة الإدارة والخبرة. ولكن لمّا ارتقى عمل ابن رائق تدريجاً بفضل تدبيره، فإنّ حسد الآخرين لكاتبه كان يتزايد على مرّ الأيّام. وأكثر مَن كان يسعى في هذا السبيل هو أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفيّ الكاتب السابق لأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ وربيب نعمته، الذي دخل - بعد قتل وليّ نعمته - في خدمة أبي إسحاق القراريطيّ كاتب محمّد بن

٢٣٨

ياقوت. ولمـّا حبس الوزير أبو عليّ بن مقلة أخا محمّد بن ياقوت بتدبيره سنة ٣٢٣هـ، صار أبو عبد الله الكوفيّ في خدمة أبي الحسين نجل الوزير، وأصبح من كتّابه.

وعندما توجّه أبو عليّ بن مقلة في هذه السنة إلى الموصل وخَلَف ولده أبا الحسين مكانه في بغداد، ظلّ أبو عبد الله الكوفيّ ملازماً له، بَيْد أنّه كان يفضّل الابتعاد عن البلاط والوزارة. وحين وصل كتاب أبي عبد الله البريديّ من الأهواز معرباً فيه عن تعذّر إرسال المال المقرّر إلى الديوان، ورأى أبو عبد الله الكوفيّ ملامح الغضب على وجه أبي الحسين الوزير، بالغ في تضخيم مضمون الكتاب في عينه وتطوّع للذهاب إلى الأهواز وجمع مال عظيم والإتيان به إلى بغداد. وكتب أبو الحسين كتاباً إلى أبي عبد الله البريديّ يذكر فيه رفض عذره ويُعلمه بمهمّة أبي عبد الله الكوفيّ. ثمّ ذهب الكوفيّ إلى الأهواز بعد إرسال الكتاب. ولمّا كان خائفاً من أبي عبد الله البريديّ، حاول أن يعبّر عن عدائه لخصومه كي يسلم منه. فطفق يعيب ابن مقلة وينتقص منه ويتحدّث عن اضطراب الوضع في بلاط السلطان العبّاسيّ. وممّا ذكره أنّ ابن مقلة بدّد موارد واسط والبصرة بعد تفويض أمرهما إلى محمّد بن رائق. وأعلمه أنّ المسؤول عن تخلخل الوضع، وتعاظم نفوذ ابن رائق هو كاتبه ومدبّر أُموره أبو عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ. فأحسن إليه أبو عبد الله البريديّ وحثّه على الإطاحة بأبي عبد الله النوبختيّ، بسبب العداء الدفين الذي كان بين أُسرته وبين النوبختيّ، وأبدى له استعداده لبذل المال مهما كان من أجل ذلك. ثمّ اتّخذه نديماً ومستشاراً له تنفيذاً لهذه الخطّة.

وأمضى سنةً كاملةً عنده معزّزاً محترماً، وكان همّه يومئذٍ التخلّص من ثلاث شخصيّات كان لها فضل كبير عليه. ولمـّا كان طموحاً محبّاً للجاه والسمعة فقد أعدّ العدة لإيذاء أبي عليّ بن مقلة، وابنه أبي الحسين، وأبي عبد الله النوبختيّ الذين كانوا من أكبر رجال الدولة آنذاك واستطاع أخيراً أن يقمعهم.

٢٣٩

أمّا محمّد بن رائق فقد كان نفوذه في واسط والبصرة يتعاظم على كرور الأيّام. ولمـّا توفّي أبو بكر محمّد بن ياقوت في حبسه، وكان منافساً قويّاً له، زاد طغيانه واستبداده حتّى جمع حوله جيشاً جرّاراً. ودعا سريّة من جنود مرداويج بن زيار - وكانت قد بقيت بلاد رئيس بعد قتله - ووعدها خيراً وأمّر عليها بَجْكم، وجعلها في خدمته. واستدعى بَجْكم عدداً آخر من أهل الديلم والترك إلى واسط بأمر ابن رائق، وأخضعهم لحكومته. فاستظهر ابن رائق بهم وأبى إرسال المال الذي كان في ذمّته إلى عاصمة الحكم العبّاسيّ سنة ٣٢٤هـ وأعلم السلطان العبّاسيّ بحاجته إلى المال ليصرفه على الجند.

اقترح أبو عليّ بن مقلة على السلطان العبّاسيّ أن يأذن له بالذهاب إلى واسط والبصرة على رأس جيش من أجل تطويع ابن رائق وأخذ المال منه، فوافق السلطان على ذلك. بَيد أنّه كان قد بعث إليه رسولين، وطلب منه أن يُرسل أبا عبد الله النوبختيّ إلى بغداد لمحاسبته. فأبى ابن رائق إرساله، لكنّه عطف إليه الرسولين بهبات أغدقها عليهما. وأعطاهما رسالة سرّيّة إلى السلطان مضمونها أنّ السلطان إذا استدعاه إلى بغداد فسيكفيه تدبير الأعمال عامّة، ويريح باله من نفقات الجيش وواجباته.

ولمـّا رأى ابن مقلة رفض ابن رائق مبعوثه، عزم على مواجهة السلطان؛ ليبعث رسولاً إلى ابن رائق، وللحؤول دون قلقه من تحرّك الوزير والجيش أخذ يطمئنه أنّ الوزير يريد التوجّه نحو الأهواز. وبينا هو عازم على الذهاب عند السلطان لأربع عشرة بقين لجمادى الأُولى سنة ٣٢٣هـ، قام مظفّر بن ياقوت أخو محمّد بن ياقوت - الذي كان يظنّ أنّ الوزير هو السبب في حبس أخيه وقتله - بالقبض عليه بمؤازرة قراولان حجريّة، وأرغم السلطان على عزله، فاستجاب الراضي العبّاسيّ الذي كان دُمية بيد أُمراء الجيش والعاملين في البلاط.

وفي تلك المعمعة قَتَل أبو عبد الله البريديّ - بحيلةٍ وتدبيرٍ ما - ياقوتاً أبا محمّد

٢٤٠