آل نوبخت

آل نوبخت0%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس إقبال آشتياني
تصنيف: الصفحات: 288
المشاهدات: 78900
تحميل: 6959

توضيحات:

آل نوبخت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78900 / تحميل: 6959
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علماء الكلام زنادقة، ولا يرى أنّ المشتغلين في الكلام من أهل الفلاح(١) .

١ - كان مخالفو أهل الكلام - أي أصحاب الحديث والسنّة - يقولون: حَسْبُ المسلمين في الهداية إلى الإيمان ودفع الضلال ما واصل إليهم عن الآباء والأسلاف بطريق النقل، وينبغي أن تتيسّر معرفة الاعتقادات بالأدلّة السمعيّة، أي الأدلّة الّتي استخرجها السابقون من القرآن والأحاديث النبويّة وأوصلوها إلينا، يضاف إلى ذلك أنّ إجماع المسلمين أيضاً حجّة في كلّ أمر، وتجب طاعته و اتّباعه، وكان هؤلاء يرون عدم الاستعانة بالعقل في أُصول الدين والبحث فيها؛ إذ أنّ العقل قاصر عن فهم هذه المسائل، ولابدّ من الإقرار بأحكام الدين كما وصلنا لا نزيد فيها ولا ننقص شيئاً، وينبغي الاحتراز - عند الحديث عن صفات الله - عن ذكر الكيفيّة، وتشبيه ذاته المقدّسة بالأشياء، وعلى الرغم من هذا النهي الشديد نجد أنّ فريقاً من المتكلّمين يستخدم في تأويل الآيات القرآنيّة وبيان ذات الله تعالى وصفاته كلمات تشمّ منها رائحة التشبيه والتجسيم، وهذا الفريق الذي عُرف بالمشبّهة والمجسّمة لم يسلم من سخط عامّة المسلمين وأُولي النظر والاستدلال، ذلك أنّ هؤلاء كانوا يذهبون إلى أنّ الله لا يشبه عباده في أيّ صفة من صفاته، وكلّ صفة موجودة فيه تخالف مثلها في الإنسان. على سبيل المثال، يختلف علم الله وقدرته وإرادته عن علم الإنسان وقدرته وإرادته، ويقال لهؤلاء: أهل التنزيه.

٢ - فتح المعتزلة باب الاستدلال العقليّ في المناظرات الأصوليّة على عكس أصحاب السنّة والحديث، وذهبوا إلى أنّ الأدلّة العقليّة أو اليقينيّة ضروريّة لمعرفة الاعتقادات، ومن هذا المنطلق رفضوا إثبات الصفات بوصفه مخالفاً للتوحيد، كما رفضوا الاعتقاد بوصفه مغايراً للعدل، ودوّنوا أُصول عقائدهم بالنظر والاستدلال.

____________________

١ - تلبيس إبليس ٨٨.

٦١

٣ - ظهرت فرقة أُخرى بين الزّهاد والعبّاد والمعرضين عن الدنيا، في مقابل أنصار الأدلّة النقليّة والعقليّة. وكان أُسلوبها في معرفة ذات الباري تعالى تصفية الباطن وتزكية النفس، عن طريق الرياضات(١) والمجاهدات(٢) ، وكانت ترى أنّ أداة ذلك الخطرات(٣) ، والوساوس(٤) ،(٥) ، وتتلخّص عقيدة هذه الفرقة المعروفة بأهل الكشف أو المتصوّفة في مراعاة أربعة أُصول، هي: رياضة النفس، ومجاهدة الطبع، ومنعه من الأخلاق الرذيلة، ودفعه إلى الأخلاق الحميدة كالزهد، والحلم، والصبر، والإخلاص، والصدق، وهي التي مَن فاز بها حَسُن ذكره في الدنيا، وأدرك ثواب الآخرة(٦) .

وفي البدء كان معظم المسلمين يراعون هذه الأُصول، وإذا زعم المتصوّفة أنّهم أوّل من عرف الله بالرياضة والمراقبة والتفكّر، فإنّ مقالاتهم التي انتشرت عنهم، واعتقادهم بالحلول ووحدة الوجود، ورغبتهم في السماع والرقص وغيرهما ممّا تغلغل بينهم، كلّ ذلك دفع جماعة من العلماء والمتكلّمين إلى ردّ

____________________

١ - الرياضة عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسيّة، فإنّ تهذيبها عن خلطات الطبع ونزعاته، (التعريفات للجرجانيّ ٥٠، اصطلاحات الفتوحات المكّيّة ملحق الكتاب ١١٧).

٢ - المجاهدة حمل النفس على المشاقّ البدنيّة ومخالفة الهوى على كلّ حال، (التعريفات ٨١. اصطلاحات الفتوحات المكّيّة ١١٧).

٣ - الخطرات والخاطرات والخواطر جمع الخَطْرَة والخاطرة والخاطر: ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد الّذي لا عمل للعبد فيه، وما كان خطاباً فهو أربعة أقسام: ربّانيّ وهو أوّل الخواطر، وهو لا يخطئ أبداً، وقد يعرف بالقوّة والتسلّط وعدم الاندفاع، وملكيّ: وهو الباعث على مندوب أو مفروض، ويسمّى: إلهاماً، ونفسانيّ: وهو ما فيه حظّ النفس ويسمّى هاجساً، وشيطانيّ: وهو ما يدعو إلى مخالفة الحقّ وارتكاب الفحشاء والمعاصي (التعريفات ٤٣، واصطلاحات الصوفيّة ١٥٧).

٤ - الوسوسة: الكلام الخفيّ الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع، (مجمع البحرين ٣٥٢).

٥ - تلبيس إبليس ١٧٤، الفهرست ١٨٣، معجم الأُدباء ٢: ٢٧٩.

٦ - تلبيس إبليس ١٧٣، أوّل من أشتغل في علم الكلام ببغداد على مذاق المتصوّفة أبو حمزة محمّد بن إبراهيم الصوفيّ (المتوفّى سنة ٢٦٩هـ) تاريخ بغداد ١: ٣٩٣.

٦٢

عقائدهم، فتمهّدت الأرضيّة في كثير من المدائن الإسلاميّة لإيذائهم.

وبلغ المعتزلة ذروة عزّهم واقتدارهم في الفترة الواقعة بين حكم المأمون وحكم المتوكّل (١٩٨-٢٣٢هـ)، ذلك أنّ المأمون كان عارفاً بعلم الكلام، ومن محبّي البحث والجدل في المسائل الدينيّة، وكانت له صداقة عامّة مع المعتزلة. ونُقل عنه دعوته المتكلّمين من مناطق مختلفة إلى بغداد وحثّهم على المناظرات في المسائل الاعتقاديّة، كما طلب كتب الفلسفة اليونانيّة من الخارج وشجّع المترجمين على ترجمتها وشرحها، وكان يُمضي معظم أوقاته مع أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام، وأبي الهُذيل العَلاّف، وثُمامة بن الأشرس، وأبي عبد الله أحمد بن أبي دوْاد الإياديّ (المتوفّى سنة ٢٤٠هـ)، وهم من رؤساء المعتزلة الكبار. وهذا ما جعله يتعلّق بالمعتزلة تعلّقاً قلبيّاً، ويناصر عقائدهم بسبب تلك المعاشرة، لكنّه لم يُبدِ تعصّباً يذكر في هذا المجال، بل كان يرغب كثيراً في أن يتناظر متكلّمو الفرق المختلفة فيما بينهم ويثبتوا حقّانيّة عقائدهم بإقامة البرهان والحجّة، وهو نفسه كان يقول: غلبة الحجّة أحبّ إليّ من غلبة القدرة؛ لأنّ غلبة القدرة تزول بزوالها وغلبة الحجّة لا يُزيلها شيء(١) .

وقيل: إنّ المأمون ركن إلى الاعتزال بواسطة ثُمامة بن الأشرس(٢) ، وقرّب إليه أحمد بن أبي دوْاد الذي كان في عداد الشعراء والمتكلّمين والفصحاء أُولي الشأن، وفوّض إليه القضاء، وكان يحترمه احتراماً بالغاً حتّى إنّه أوصى أخاه المعتصم أن يستشيره في أُموره جميعاً، ولا يختار وزيراً غيره.

وكان أحمد بن أبي دوْاد من تلاميذ واصل من عطاء، وساعد نفوذه في حكومة المأمون، وميل المأمون إلى الاعتزال على أن يمسك المعتزلة بزمام الأُمور تقريباً.

____________________

١ - تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ١٠: ١٨٦.

٢ - الفرق بين الفرق ١٥٧.

٦٣

وحاولت هذه الفرقة أن تستغلّ منصب أحمد بن أبي دوْاد القاضي، وميل المأمون إلى عقائدها فتفرض أفكارها على مخالفيها بواسطة العامِلين في الجهاز الحكوميّ. واستمرّ هذا الوضع من سنة ٢١٨ إلى سنة ٢٣٢هـ حيث جلوس المتوكّل على العرش.

الاعتقاد بخلق القرآن

أصدر المأمون في ربيع الأوّل سنة ٢١٨هـ أمراً إلى شرطته بامتحان القضاة والمحدّثين - وهو ما كان يعرف بالمحنة -، وذلك بمؤازرة أحمد بن أبي دوْاد ومستشاريه الآخرين من المعتزلة، فمن قال منهم بخلق القرآن أُقرّ على عمله، وقُبلت شهادته، ومن خالف هذه العقيدة فلا تقبل شهادته وحكمه، وكتب المأمون وابن أبي دوْاد رسائل عديدة إلى الأمصار الخاضعة للحكم العبّاسيّ في تنفيذ هذا الحكم، وأكّدا ذلك كثيراً.

وكان هناك خلاف عامّ بين الفرق الإسلاميّة في القرآن، ففي حين كانوا يتّفقون على أنّ الله تعالى متكلّم، أي متّصف بصفة الكلام كانوا يختلفون في معنى الكلام وحدوثه وقِدَمه؛ إذ أنّ لكلّ منهم رأيه الخاصّ في هذا الموضوع؛ فأصحاب الحديث والسنّة يَرَون أنّ كلام الله قديم وأزليّ وليس مخلوقاً، وعلى الرغم من أنّ الإمام أحمد بن حنبل المروزيّ (١٦٤-٢٤١هـ) إمام أهل الحديث في عصر المأمون والمعتصم والواثق يذهب إلى ما ذهبت إليه المعتزلة والشيعة أنّ كلام الله حروف وأصوات تركّب بعضها على بعض للإفهام، بَيْد أنّه كان يقول أيضاً إنّ هذا التركيب من الحروف والأصوات ثابت في عالم الأزل بهذا الشكل، قائم بذات الباري تعالى. وإنّ المسموع من أصوات القرّاء، والمرئيّ من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم، حتّى أنّ بعض أتباعه كان يعتقد أنّ كلّ نسخة من نسخ

٦٤

القرآن، بل غلافها أيضاً أزليّ(١) ، وكان الإمام أحمد بن حنبل نفسه لا يرى مصلحة في البحث في هذا الموضوع أساساً؛ إذ يعدّه مخالفاً لسيرة السلف، وكان ينهى أتباعه عن الخوض به(٢) .

وذهب المعتزلة والشيعة إلى سُخف هذه العقيدة، وذكروا أنّ الكلام فعل الله، فلا يمكن القول بقدمه وأزليّته، بل القرآن مخلوق وحادث، ومعنى قولنا: إنّ الله متكلّم أنّه يُوجِد الكلام في بعض الأجسام، ويقول أبو الحسين الخيّاط المعتزليّ: لعمري أن لو عاش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في زمان المعتزلة لَنصَّ لأُمّته على خلق القرآن نصّاً مفسّراً(٣) .

كان البحث في كلام الله - وهو ما احتدم بعد ظهور الأشاعرة - من أوّل وأهمّ المباحث الّتي حام حولها الجدل بين المسلمين، ولما كان هذا المبحث مطروحاً بين الفرق الإسلاميّة قبل انتشار كتب الفلسفة، ولم يهتمّ به الفلاسفة كثيراً، فإنّ البعض يرى أنّ علم الكلام عُرِف بهذا الاسم للسبب المذكور.

وكان الاعتقاد بقدم القرآن عامّاً تقريباً في أواخر العصر الأُمويّ، ولم يجرؤ أحد على معارضته، وكان الجعد بن دِرهَم أوّل من عارضه، إذ أظهر الاعتقاد بخلق القرآن، وذكرنا سابقاً أنّه قُتل في أيّام هشام بن عبد الملك (١٠٥-١٢٥هـ) لهذا السبب.

وشاع الاعتقاد بخلق القرآن في زمن هارون الرشيد بسبب نفوذ المعتزلة، غير أنّ قدرة الرشيد وتعصّبه حالا دون جهر المعتزلة برأيهم هذا، بخاصّة أنّه كان يقتل كلّ من يتظاهر بهذه العقيدة شرّ قتلة.

وأصبح هذا الاعتقاد علنيّاً في عصر المأمون، كما ذكرنا ذلك سابقاً، وانحاز

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٩٩.

٢ - تلبيس إبليس ٩٤.

٣ - الانتصار ١٦٠.

٦٥

المأمون إلى أصحاب هذا الاعتقاد، بل قطع شوطاً في هذا المجال بشدّة وتعصّب، ومهّد هو وأعضاء حكومته الأرضيّة للتضييق على المعارضين، وبلغت محنة القضاة والشهود والمحدّثين أشدّها.

وكان الإمام أحمد بن حنبل أكثر الناس إصراراً على عقيدته القديمة، ومعارضة رأي المأمون والمعتزلة(١) . ولم يقرّ بهذا القول على الرغم من تشدّد شرطة المأمون إلى أن صُفِد وأُشخص إلى المأمون الذي كان يؤمئذ في الشام، ولكنّه لم يصل إليه؛ إذ نُعي إليهم المأمون وهو في الطريق، فأُرجع إلى بغداد.

وحذا المعتصم حذو أخيه المأمون في هذا الموضوع؛ إذ ظلّ الاعتقاد بالقرآن في عهد المعتصم (٢١٨-٢٢٧هـ) على ما كان عليه في عصر أخيه، وبلغ أحمد بن أبي دوْاد منصب قاضي القضاة أيّام المعتصم، فاستخدم سلطته في هذا المجال أكثر من السابق، وتفاقمت الملاحقة (المحنة) في زمن المعتصم ففاقت ما كانت عليه في أيّام المأمون، وبلغت مبلغاً أنّ المعتصم كان يُكره الإمام أحمد بن حنبل المتمسّك بعقيدته على أن يترك هذه العقيدة بمحضر من الملأ المجتمعين ويناظر المخالفين. وكان قد أمهله ثلاثة أيّام، وذلك في سنة ٢١٩هـ. ولما رأى تمسّكه بعقيدته أمر بجلده، فجُلد ثماني وثلاثين جلدة، وعومل بقسوة حتّى أُغمي عليه وورم جلده. ثمّ لما خاف المعتصم تمرّد الحنابلة وسائر المعارضين عليه أمر بحبسه، وعندما حكم الواثق نجل المعتصم (٢٢٧-٢٣٢هـ)، سار سيرة عمّه وأبيه، وكان يجالس الفلاسفة والمعتزلة وأهل البحث والجدل كعمّه المأمون، وكان من خواصّه: أحمد بن أبي دؤاد، وجعفر بن حرب الهمداني (المتوفّى سنة ٢٣٦هـ)، وهما من كبار رؤساء المعتزلة، وقام بتفتيش العقائد الدينيّة، وتواصلت (المحنة) في عصره، فأسخط عليه كثيراً من الناس، فأطلقوا ألسنتهم في الطعن عليه ولعنه، وأبدى أفراد

____________________

١ - انظر: تاريخ بغداد ٥: ١٧٧ للتعرّف على تفصيل ذلك الإصرار وتعذيب أربعة من علماء مرو.

٦٦

حكومته تعصّباً شديداً في هذا المجال حتّى أنّهم عندما كانوا يَفْسدون المسلمين من أسر الروم سنة ٢٣١هـ، وَفَد رسولُ أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة إلى ديار الروم ليسأل الأسرى عن عقيدتهم؛ فمن كان يعتقد بخلق القرآن ونَفي الرؤية عن الحقّ تعالى، فُودي به وأحسن إليه، ومن أبى تُرك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأُسارى الرجوع إلى أرض النصرانيّة على القول بذلك(١) .

وعندما تربّع المتوكّل على كرسيّ الحكم سنة ٢٣٢هـ، لم يسلك مدارج أسلافه: المأمون، والمعتصم، والواثق. فأوقف المجادلة والمناظرة ونهج منهج أصحاب الحديث والسنّة، واحترم الإمام أحمد بن حنبل، واتّخذه مشيراً له، وبهذا انتهت المحنة.

ومنذ ذلك الحين، أخذت قدرة المعتزلة بالتضاؤل؛ لأنّ أصحاب الحديث والسُّنّة قد نشطوا مرّة أخرى وحالوا الدفاع عن عقائدهم، ودحض آراء المعتزلة ومقالاتهم من جهة، وأنّ الشيعة أصبحت قادرة على مناوءة المعتزلة ونقض بعض عقائدهم بواسطة عدد من المتكلّمين الذين نبغوا في وسطها من جهة أُخرى، ففقدت المعتزلة شوكتها وشأنها الأوّل تدريجاً.

كان علم الكلام في البداية وسيلة لتقدّم المعتزلة والشيعة، وشاقّه أصحاب الحديث والسنّة، ثمّ استقطب اهتمام المسلمين عامّة شيئاً فشيئاً، ذلك أنّ أصحاب الحديث والسنّة رأوا أن لا سبيل إلى تفنيد اعتراضات المخالفين إلاّ التمسّك بأدلّتهم الكلاميّة نفسها، وانتهاج أُسلوبهم في الاستدلال والكلام. وكانت استعانتهم بالأدلّة الكلاميّة أوّل الأمر من أجل الدفاع عن أُصول عقائدهم، ولم يتيسّر لهم تغيير أسسهم الدينيّة، بَيد أنّ معظم علمائهم تَبنَّوا الكلام في أوائل القرن الرابع الهجريّ من أجل إثبات عقائدهم وتقريرها، وكان هذا في وقت ما يزال فيه عدد من كبراء

____________________

١ - التنبيه والإشراف ١٩١.

٦٧

المعتزلة مشغولين ببثّ عقائدهم في البصرة وبغداد كأبي علي محمّد بن عبد الوهاب الجُبّائيّ (٢٣٥-٣٠٣هـ)، وابنه أبي هاشم عبد السلام الجبّائيّ (المتوفّى سنة ٣٢١هـ)، وأبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبيّ البلخيّ (المتوفّى سنة ٣١٩هـ)، وأبي بكر أحمد بن عليّ بن الإخشيد(١) (٢٧٠-٣٢٦هـ) واجتمع حول كلّ واحد منهم عدد من التلاميذ.

وكان أبو الحسن عليّ الأشعريّ (٢٦٠-٣٢٤هـ) من تلاميذ أبي عليّ الجبّائيّ، تلمذ له مدّة متّبعاً عقائد المعتزلة، ثمّ اعترض على بعض آرائه وافترق عنه وتاب من الاعتزال علانيةً، وتبنّى آراء الإمام الشافعيّ في الفروع، واستخدم الأدلّة الكلاميّة في تحقيق الاعتقادات مع نهي السلف عن ذلك، واستطاع أن يوفّق بين أصول الكلام وعقائد أهل السنّة، فأصبح واضعاً لعلم الكلام ناشراً إيّاه بين أهل السنّة.

وشمّر عن ساعد الجدّ لمناظرة المعتزلة وردّ مقالاتهم بعد أن دوّن أُصول عقائده، ولمّا كان قويّاً في الكلام مطّلعاً اطّلاعاً تامّاً على الحديث والسنّة، فقد أفلح تماماً في هذا الميدان، واستطاع هو وتلاميذه من جهة، ومتكلّمو الشيعة - كما سنرى - من جهة أُخرى أن يُحدِقوا بالمعتزلة ويخمدوا جذوتهم تقريباً، فلم ينهض بالأمر منهم رجل مشهور من أُولي البحث والمناظرة يتصدّى للأشعريّة بعد أبي عليّ وأبي هاشم الجبّائيّين وأبي القاسم البلخيّ إلاّ قليل، وتقارنت آخر فترة لنفوذهم بالبرهة التي حكم فيها الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد (٢٢٦-٣٨٥هـ) وزير

____________________

١ - أبو بكر أحمد بن عليّ بن بيغجور (أو اجور أو معجور (الفصل ٤: ٢٠٣؛ والفهرست ١٧٣) ) بن الإخشيد من أشهر متكلّمي المعتزلة ومصنّفيهم وصلحائهم، وهو أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم رئاسة المعتزلة. ثمّ وقعت الفُرقة بينهم بعد هؤلاء الثلاثة، والآخران هما أبو هاشم الجبّائيّ، وأبو القاسم الكعبيّ البلخيّ. (انظر: كتاب الفِصَل لابن حزم الظاهريّ ٤: ٢٠٣، والفهرست ١٧٣، وتاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ٤: ٣٠٩، للتعرّف على ترجمة أبي بكر الإخشيد وعقائده وكتبه).

٦٨

البويهيّين وتلميذ أبي هاشم الجبّائيّ، وكان الديالمة يشجّعونه بسبب عدائهم للحكّام وأهل السّنّة.

وكان المعتزلة اللامعون في الفترة الأخيرة هم قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد الأسد آباديّ الهمدانيّ (النصف الثاني من القرن الرابع)، وأبو الحسين محمّد بن عليّ البصريّ (المتوفّى ٤٣٦هـ)، وأبو عُبَيد الله محمّد بن عمران المرزبانيّ الخراسانيّ (٢٩٧-٣٨٤هـ) وهو من كبار الكتّاب والأُدباء، وكانت عقائده في الاعتزال قريبة من عقائد الشيعة، وله كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدامى، وفي أهل العدل والتوحيد (المعتزلة) وذكر بعض مجالسهم ويقع في ألف ورقة تقريباً(١) .

وكان للمذهب المعتزليّ أتباعه حتّى فترة استيلاء المغول على البلاد الإسلاميّة أواسط القرن السابع الهجريّ. وكان العلاّمة الكبير جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ (٤٦٧-٥٣٨هـ)، والأديب المؤرّخ المشهور عبد الحميد بن أبي الحديد (٥٨٦-٦٥٥هـ) شارح نهج البلاغة في القرن السادس والسابع الهجريّ يتبنّيانه. ثمّ أفَلَ نجمه تدريجاً وعاد لا يذكر له أثر في يومنا هذا تقريباً.

____________________

١ - الفهرست ١٣٢-١٣٤، وتاريخ بغداد ٣: ١٣٥-١٣٦.

٦٩

٧٠

الفصل الخامس

الشيعة ومتكلّموهم الأُوَل

عندما ظهر المعتزلة، صار المسلمون خمس فرق هي: الشيعة، وأهل السنّة - أي: أصحاب الحديث والرواية - والخوارج، والمعتزلة، والمرجئة(١) ، ثمّ انقسمت هذه الفرق إلى فرق فرعيّة أُخرى، وظهرت من بين بعضها فرق أيضاً، تعدّ كلّ واحدة منها فرقة مستقلّة بسبب اختلاف مقالاتها بعضها مع بعض، وكان هناك خلاف بين أصحاب الملل والنحل حول المتصوّفة، والباطنيّة، وبعض الفرق الأُخرى، فمنهم من ذكرها في عداد الفرق الإسلاميّة، ومنهم من لم يحسبها مسلمة بسبب بعض عقائدها.

فرق الشيعة المختلفة

كان لقب الشيعة يطلق في البداية على الذين يعتقدون أنّ الإمامة حقّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثَبَتوا على مودّته وولايته بالرغم من مبايعة الناس أبا بكر؛ لذلك عُرفوا بأنّهم (شيعة عليّ) أي: أتباعه. ومن

____________________

١ - الانتصار ١٣٩، والفصل ٢: ١١١، وفرق الشيعة ١٥.

٧١

هؤلاء: المقداد بن الأسوَد، وسلمان الفارسيّ، وأبو ذرّ الغِفاريّ، وعمّار بن ياسر. وهم أوّل من عُرف بالتشيّع بين المسلمين، والشيعة في هذا المجال هم مجموع المعتقدين بالإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهذه الشريحة تعدّ الأصل الذي انبثقت منه فرق الشيعة عامّة(١) ، ذلك أنّ الفرق الشيعيّة التي ظهرت بعد كالشريحة الصغيرة المذكورة كانت تؤمن أنّ الإمامة حقّ لآل عليّ، وإنّما اختلفت في الإمام الذي يخلف الإمام السابق له، ومقامه، وهل تختم الإمامة به أو لا، وهذا ما أدّى إلى الإمامة، ولمزيد الاطّلاع يمكن الرجوع إلى الكتب المصنّفة في الملل والنحل والمقالات، وأخصّ بالذكر كتاب فرق الشيعة لأبي محمّد الحسن بن موسى النوبختيّ، ومقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعريّ.

كانت فرق الشيعة تقسّم في البداية إلى ثلاثة أقسام كبيرة، ثمّ تشذّرت كلّ فرقة فرقاً عديدة:

١ - الغلاة أو الغالية: وهم الذين غَلّوا في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولادهعليهم‌السلام ، وقالوا بأُلوهيّتهم، وهؤلاء ليسوا من الشيعة في شيء حقّاً، فهم إمّا أن يكونوا قد ألصقوا أنفسهم بهم، أو أنّ المناوئين المعاندين للشيعة جعلوهم في عداد الشيعة.

٢ - الإماميّة: وهم الذين يَرَون أنّ تعيين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إماماً كان من قِبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذهبون إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اختار ابن عمّه لهذا المقام في حياته، وأعلَمَ المسلمين بهذا الاختيار، ومن بايع أبا بكر، وعمر مخالفاً

____________________

١ - فرق الشيعة ٦ و١٦. وأحسب أنّ مؤلّف كتاب فرق الشيعة قد سها؛ إذ جعل الشيعة فرقاً، فالشيعة فرقة واحدة تهتدي بالقرآن وسنّة نبيّها الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وتؤمن بإمامة عليّ بن أبي طالب والأئمّة الأحد عشرعليهم‌السلام جميعاً بعده، عملاً بوصيّته واقتداءً بسنّته، وأمّا ما حُسب على الشيعة من سائر الفرق فقد كانوا شيعةً ثمّ انحرفوا فتفرّقوا فرقاً مختلفة كالزيديّة والإسماعيليّة وغيرهما(م).

٧٢

أمر نبيّه فقد سلك سبيل الضلال، وعمل خلاف ما أوصى به النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله . وتنعقد الإمامة لقرابة الرسول بالنصّ والتوقيف كما يعتقد الإماميّة، والإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه. وسمّى مناوئو الشيعة هؤلاء (الشيعة) (الرافضة)؛ لأنّهم رفضوا إمامة أبي بكر، وعمر، وتركوا هذين الحاكمين، وهذه التسمية نابعة من روح عدائيّة لا محالة.

٣ - الزيديّة: وهم الذين بايعوا زيداً بالكوفة بعد وفاة أبيه السّجادعليه‌السلام (أيّام حكومة هشام بن عبد الملك)، ولمّا كان زيد من تلاميذ واصل بن عطاء المعتزليّ، فقد نَهَج الاعتزالَ في الأُصول، وأصبح أتباعه قاطبة معتزلة.

وانقسم الإماميّة بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى فرقتين كبيرتين: الأُولى: اختارت الإمام عليّ بن الحسين - وجدّتُه فاطمة الزهراءعليها‌السلام - إماماً لها، ومنها ظهرت الزيديّة، الثانية: اتّخذت محمّد بن الحنفيّة إماماً - وهو ابن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من غير فاطمةعليها‌السلام - وسارت خلفه، وعُرفت هذه الفرقة بالكيسانيّة، وكيسان كان لقباً للمختار بن أبي عُبيد الثَقَفيّ الذي كان يترأس هذه الفرقة، وهو الذي قام مطالباً بدم الحسينعليه‌السلام ، ويرى الكيسانيّة أنّ محمّد بن الحنفيّة وصيّ أبيه، والمختار كان عامله.

وبايعت فرقة من الكيسانيّة أبا هشام عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة بعد وفاة أبيه سنة ٨١هـ ولمّا مات أبو هاشم سنة ٩٨هـ التفّ جماعة من أصحابه حول محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب لزعمهم أنّه وصيّ أبي هاشم، وجدّوا كثيراً في التبليغ لعقيدتهم والسير بهم قُدُماً، وعُرفوا منذ ذلك الحين بشيعة آل العبّاس أو الراونديّة، وهم الذين أجلسوا بني العبّاس (أولاد محمّد المذكور) على دفّة الحكم آخر المطاف. وسُمّي الإماميّة: الشيعة العَلَويّة، تمييزاً لهم عن شيعة بني العبّاس.

وذهبت الشيعة العلويّة إلى أنّ الإمام بعد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب

٧٣

وولديه الحَسَنَينعليهم‌السلام هو زين العابدين أبو محمّد عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، ولمّا توفّي سنة ٩٤هـ ذهبوا إلى إمامة ولده أبي جعفر محمّد بن عليّ الملقّب بباقر العلم إماماً خامساً لهم (٥٩-١١٤هـ) في مقابل الزيديّة الذين بايعوا أخاه زيداً، ثمّ ذهبوا إلى إمامة ولده أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام (٨٣-١٤٨هـ) إماماً سادساً لهم.

ثمّ انقسم الشيعة العلويّة إلى ستّ فرق بعد وفاة الإمام الصادقعليه‌السلام - وحَظِيت إحداها فيما بعد بأهمّيّة كبيرة - ففرقة قالت: إنّ الإمام السادس لم يَمُت بل غاب وعلينا أن ننتظر رجعته؛ لأنّه هو المهديّ، وتُعرف هذه الفرقة بالناووسيّة.

وذهبت فرقة أُخرى إلى إمامة ولده إسماعيل الذي مات في حياة أبيه، إذ كانت تعتقد أنّه لم يَمُت، وهو خليفة أبيه الحقّ، ولن يموت حتّى يملك العالم، ويدير شؤون الناس، وعُرف هؤلاء بالإسماعيليّة أو الخطّابيّة نسبة إلى رئيسهم أبي الخطّاب محمّد، وهؤلاء يمثّلون النواة لفرق الإسماعيليّة المهمّة التي ظهرت بَعدُ.

أمّا الفرقة الثالثة فقد التفّت حول محمّد بن إسماعيل حفيد الإمام الصادقعليه‌السلام بعد وفاة الإمام، ولما كان (مبارك) - وهو أحد غلمان الإمام الصادق رئيساً لها فقد دُعيت بالمُباركيّة، وأدّى ظهور هذه الفرقة إلى انتماء جماعة من الإسماعيليّة إليها.

وقالت جماعة من المباركيّة والخطّابيّة: إنّ روح الإمام السادس حلّت في بدن أبي الخطّاب، ثمّ انتقلت منه إلى بدن محمّد بن إسماعيل، فالإمامة لولده من بعده، وسمّي هؤلاء: القَرامطة؛ لأنّ رئيسهم كان يدعى: قُرْمطويه.

واختارت الفرقة الرابعة محمّد بن جعفر الصادق إماماً لها، ورئيسها يحيى بن أبي السُّمَيط، وعرفت بالسُّمَيْطيّة نسبة إليه.

واتّخذت الفرقة الخامسة ابن الإمام الأكبر عبد الله بن جعفر الأفطح إماماً فسُمّيت بالأفطحيّة.

وأمّا الفرقة السادسة من الشيعة العلويّة فقد آمنت بإمامة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام (١٢٨-١٨٣هـ)، وأنكرت إمامة عبد الله الأفطح، وتضمّ هذه الفرقة كبار

٧٤

أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام وعلماء الشيعة ومتكلّميهم كأبي جعفر مؤمن الطاق، وأبان بن تغلب، وهشام بن الحكم وهشام بن سالم.

وعندما توفّي الإمام موسى بن جعفر الملّقب بالكاظم، وهو الإمام السابع للشيعة الإماميّة، برز خلاف بين أصحابه فانقسموا خمس فرق، أشهرها فرقتان: الأُولى أنكرت موته وزعمت مهدويّته، وخَتْم الإمامة به، وقالت: إنّه حيّ ولن يموت حتّى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه الفرقة هي الواقفة.

أمّا الثانية فهي على خلاف الواقفة، إذ قطعت بوفاة الإمام وذهبت إلى إمامة ولده أبي الحسن عليّ بن موسى الرِّضاعليه‌السلام (١٥٥-٢٠٣هـ) فاشتهرت بالقطعيّة.

وعلى الرغم من أنّ الشيعة انقسمت إلى عدّة فرق بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام - وقد بلغت أربع عشرة فرقة بعد وفاة الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ (٢٣٢-٢٦٠هـ) - لكنّ هذه الفرق لم تتمتّع بشأن يذكر، إذ كان الشأن والشهرة كلّها للشيعة الذين آمنوا بإمامة الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد (١٩٥-٢٢٠هـ) بعد أبيه الرِّضاعليه‌السلام ، ثمّ اعتقدوا بإمامة ولده الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد الهاديعليه‌السلام (٢١٤-٢٥٤هـ) إماماً عاشراً لهم، وبعد وفاته قالوا بإمامة ولده الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ (٢٣٢-٢٦٠هـ) إماماً حاديَ عشرَ لهم.

وانقسمت الشيعة بعده - كما قلنا - إلى أربع عشرة فرقة، لكنّها لم تصمد في مقابل الإماميّة، وبادت كلّها.

ويعتقد الشيعة الإماميّة أنّ الدنيا لا تخلو من إمام أبداً، والله تعالى مختار أن يُظهر الإمام بين الخلق أو يخفيه عن أنظارهم؛ لأنّ الأرض لا تخلو من حجّة أبداً، وحجّة الله بعد الإمام الحادي عشر ولده الغائب، وإذا شاء الله فإنّه سيظهر بَعدَ أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلاً، وسنتحدّث في الفصول القادمة عن غيبة الإمام الثاني عشر وعقيدة الإماميّة في هذا الموضوع.

٧٥

الإمامة

إنّ أكبر خلاف برز بين المسلمين في المسائل الدينيّة يحوم حول الإمامة، أي خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ تناظروا وتجادلوا وتنازعوا، وأبدَوا تحمّساً في ذلك، ولم يُلحظ خلاف بينهم بلغ في شدّة هذا الخلاف، ويعود السبب إلى اتّسام الإمامة بالطابع السياسيّ غالباً وإذا ما تفوّقت عقيدة لفرقة من الفرق، فإنّ هذه الفرقة ستمُسك بزمام الأُمور الدنيويّة للمسلمين كما تمسك بشؤونهم الدينيّة، وكان هذا الخلاف قائماً بين المسلمين ولا يزال منذ أن طرأ على المسلمين يوم وفاة نبيّهم العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتعني كلمة الإمام لغةً: مَن يأتمّ به الناس فيتّبعونه ويأخذون عنه؛ لأنّهم يؤمّون أفعاله، أي يقصدونها فيتّبعونها، ويقال للطريق: إمام؛ لأنّه يُؤَمّ، أي: يُقصَد ويتّبع(١) . أمّا اصطلاحاً، فهي: رئاسة عامّة في أُمور الدنيا والدين نيابةً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويدور خلاف بين شتّى الفرق الإسلاميّة حول من يستحقّ منصب الإمامة، وكيف يتمّ تعيين الإمام، وهل تجب الإمامة أو لا، وهل يكفي إمام واحد أو عدّة أئمّة.

وكانت الفرق الإسلاميّة عامّة ترى وجوب الإمامّة، غير أنّ فرقة من الخوارج، واثنين من رؤساء المعتزلة لا يرون ذلك، وقال النجدات - وهم قوم من الخوارج -: إنّه ليس بواجب أصلاً، وعلى الناس أن يتعاملوا فيما بينهم على سبيل الحقّ وبحكم القرآن، وقال أبو بكر الأصمّ من المعتزلة: لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج، ويجب عند ظهور الظلم، وقال هشام الفُوَطيّ منهم (معاصر للمأمون العبّاسيّ): بالعكس، أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرائع

____________________

١ - مجمع البحرين ٥٢٥.

٧٦

الشرع، لا عند ظهور الظلم؛ لأنّ الظَّلَمة ربما لم يطيعوه، وصار سبباً لزيادة الفتن لنا(١) .

كان المتكلّمون على ثلاثة آراء في طريق وجوب الإمامة، فالأشاعرة وأهل السنّة والجماعة، وثلّة من المعتزلة يثبتون وجوب الإمامة عن طريق النقل، أي الأدلّة السمعيّة، أمّا الجاحظ، وأبو القاسم الكعبيّ، وأبو الحسين البصريّ فإنّهم يثبتونه بالأدلّة السمعيّة والعقليّة، وأمّا الإسماعيليّة والشيعة الإماميّة فإنّهم يثبتونه بالأدلّة العقليّة فحسب(٢) .

ويقول متكلّمو الإماميّة: الإمامة واجبة عقلاً على الله تعالى، وهو الحقّ، والدليل على حقّيّته هو أنّ الإمامة لطف، وكلّ لطف واجب على الله تعالى، فالإمامة واجبة على الله تعالى، واللطف هو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية، وهذا المعنى حاصل في الإمامة؛ لأنّ الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مُرشد فيما بينهم يردع الظالم عن ظلمه، والباغي عن بغيه، وينتصف للمظلوم من ظالمه، ويحملهم على القواعد العقليّة والوظائف الدينيّة، ويردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في أُمور معاشهم، وعن القبائح الموجبة للوبال في معادهم، بحيث يخاف كلّ واحد من مؤاخذته على ذلك، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، ولا نعني باللطف إلاّ ذلك ويكون الإمامة لطفاً، وهو المطلوب(٣) .

ويرى الإسماعيليّة أيضاً - كالإماميّة - أنّ الإمامة واجبة عقلاً على الله تعالى، لكنّهم لا يعتقدون كالإماميّة أنّ نصب الإمام ينبع من قاعدة اللطف، بل كانوا يقولون:

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٢٧٣، ومقالات الإسلاميّين ٤٦٠، والفِصَل ٤: ٨٧-٨٨، وكتاب الألفين ٨.

٢ - الإماميّة يثبتونه بالأدلة العقليّة والنقليّة معاً لا بالأدلّة العقليّة وحدها، فليُنْتَبَه!(م)

٣ - شرح الباب الحادي عشر ٥٢-٥٣.

٧٧

لما كان العقل لا يكفي لمعرفة الله تعالى، فيجب أن يكون الإمام معلّماً للناس في هذا السبيل(١) ، ويأخذ الناس منه عن طريق التعليم، لذلك تُسمَّى هذه الفرقة: التعليميّة أيضاً(٢) .

ويعتقد علماء الإماميّة أنّ كلّ ما دلّ على وجوب النبوّة فهو دالّ على وجوب النبوّة فهو دالّ على وجوب الإمامة؛ إذ الإمامة خلافة عن النبوّة قائمة مقامها إلاّ في تلقّي الوحي الإلهيّ بلا واسطة، ولكن الإمامة لطف عامّ: والنبوّة لطف خاصّ؛ لأنّه يمكن أن يخلو الزمان من نبيّ، بَيْد أنّه لا يخلو من إمام(٣) . ولذلك ترى الإماميّة أنّ مبحث الإمامة من فروع مبحث النبوّة وتوابعه، ومن أعظم أركان الدين، ولا يستقيم الإيمان بدون الاعتقاد بالإمامة، ويقال للمرء مؤمناً مطلقاً إذا كان على عقيدة الإماميّة(٤) ، في حين ترى الفرق الإسلاميّة الأخرى أنّ الإمامة من فروع الدين(٥) ، وأقحم متكلّمو السنّة هذا المبحث في كلامهم لدحض عقائد الشيعة في هذا الباب(٦) .

وبعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نشب الخلاف بين المهاجرين والأنصار حول الخلافة كما قلنا سابقاً، وبايعت الأكثريّة من قريش أبا بكر، أمّا الشيعة وهم أقليّة فكانوا يَرَون أنّ الإمامة حقّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وغُلب الأنصار الذين كانوا يدّعون هذا المقام لهم، ثمّ انقرضوا تدريجاً. ومنذ ذلك الحين فُتح باب البحث فيمن يصلح لمقام الإمامة، وترى فرق الشيعة بأسرها، وأهل السنّة، وبعض فرق المعتزلة، وأكثريّة المرجئة أنّ الإمامة لا تصحّ في غير قريش. بَيْد أنّ الخوارج جميعهم وأكثريّة المعتزلة وبعض المرجئة يذهبون إلى أنّ من نهض لإقامة أحكام القرآن وسنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الإمام سواءً كان قرشيّاً أم عربيّاً من غير قريش أم من الموالي. وترى الشيعة أنّ الإمامة حقّ لبني هاشم. أمّا أنصار الإمامة في قريش

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٢٧٢.

٢ - تلبيس إبليس ١١٢.

٣ - شرح الباب الحادي عشر ٥٣، وكتاب الألفين ٣.

٤ - مجمع البحرين ٥٧٢.

٥ - شرح الباب الحادي عشر ٥١، والألفين ١٠.

٦ - شرح المقاصد ٢: ٢٧١.

٧٨

فيرون أنّها تكون في غير بني هاشم أيضاً، وتذهب الراونديّة شيعة بني العبّاس إلى أنّ الإمامة لأولاد العبّاس بن عبد المطّلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا العلويّة فإنّها تقول بإمامة أولاد عليّ، وتطرّقنا سابقاً إلى اختلاف الزيديّة والكيسانيّة والإسماعيليّة في هذا الميدان.

ويلحظ في موضوع تعدّد الأئمّة أنّ البعض لا يجيز وجود أكثر من إمام في زمان واحد، في حين يجيز البعض الآخر ذلك؛ إذ يمكن أن يكون إمامان في عصر واحد: أحدهما ناطق، والآخر صامت، فإذا مات الناطق، حلّ الصامت محلّه، وثمّة من يرى وجود ثلاثة أئمّة في آن واحد.

واختلف المسلمون في تعيين الإمام وتثبيته، ففريق منهم يرى أنّ الإمامة تثبت بالإجماع، فإذا أجمع المسلمون أو جماعة ذات شأن منهم على أحد واختاروه للإمامة، فهو الإمام، وهؤلاء يعرفون بأهل الإجماع، ومن هذا المنطلق استصوبوا إمامة الخلفاء الراشدين، ومعاوية، ومروان بن الحكم، وأولاده، وفريق آخر يذهب إلى أنّ الإمامة من أهمّ المسائل الدينيّة، ولا يمكن أن يغفل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه المسألة في حياته، فيترك أمّته هَمَلاً بلا خليفة يرعى شؤونها الدينيّة والدنيويّة ويدافع عن دينها، فهو - على عكس التصوّر المذكور - قد نصَبَ ابن عمّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ونصّ على خلافته، وهؤلاء يُعرفون بأهل النصّ، ومنهم الإماميّة، والكيسانيّة، والإسماعيليّة.

وكان الراونديّة يَرَون أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وارثُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذلك كانوا يعتقدون أنّ الإمامة إرث لبني العبّاس، وكان الخوارج يختارون لهم إماماً من بينهم في كلّ عصر، ويشترطون عليه أن يسير وفق عقائدهم، ويكون عادلاً، وإذا ما تمرّد فإنّه يُخلع من الإمامة، وقد يُقتَل، ويعتقد الزيديّة أنّ كلّ فاطميّ يخرج فهو إمام يجب اتّباعه، بشرط أن يكون عالماً زاهداً شجاعاً سخيّاً حتّى لو كان من أولاد الإمام الحسنعليه‌السلام .

إنّ أحد شروط الإمامة عند الإماميّة هو أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه، ولكنّ

٧٩

الزيديّة وأكثر المعتزلة لا يتّفقون معهم في هذا الرأي ويقولون: قد يكون بين رعيّة الملك من هو أفضل منه، فكذلك أتباع الإمام إذ يمكن أن يكون فيهم من هو أفضل منه؛ ولذلك لا قدح عندهم في إمامة المفضول، كما نلاحظ أنّ جماعة من المعتزلة - لا سيّما معتزلة بغداد - كانوا يذهبون إلى صحّة إمامة أبي بكر، وهو مفضول بالنسبة إلى عليّ بن أبي طالب - مع أنّهم كانوا يَرَون أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل من أبي بكر.

وإذا كنّا قد أشرنا في السطور المتقدّمة إلى أُصول عقيدة الإماميّة الاثني عشريّة في باب الإمامة، فإنّنا ننقل فيما يأتي خلاصة عقيدتهم فيها ليزداد الموضوع جلاءً:

١ - يجب أن يكون الإمام معصوماً، والمقصود من عصمته هو أنّه لا حاجة عنده إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية عمداً أو سهواً مع قدرته على ذلك، ووافقهم الإسماعيلية في هذا الموضوع.

٢ - الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه؛ لأنّ العصمة من الأُمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله، أو إنّ الله العالم بعصمته يحكم بإمامته بالنّص، أو تظهر على يده معجزة تدلّ على صدقه، ولابدّ أن يكون التنصيص من الله أو من النبيّ أو من الإمام السابق.

٣ - الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه.

٤ - الإمام بالحقّ بعد رسول الله بلا فصل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأولاده الأحد عشر من بعده، وكلّهم معصومون، وهم أفضل الخلائق في عهدهم، ونُصب كلّ منهم إماماً بنصّ صريح من قبل الإمام السابق له(١) .

الإماميّة ومتكلّموهم الأُوَل

كانت فرق الشيعة من الغلاة والزيديّة والكيسانيّة والإماميّة قليلة العدد قياساً

____________________

١ - شرح الباب الحادي عشر ٥٣-٥٨.

٨٠