• البداية
  • السابق
  • 49 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13420 / تحميل: 4941
الحجم الحجم الحجم
حجر بن عدي

حجر بن عدي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكبيرة التي كانوا يفرضونها على الزراعة والتجارة، حتى كان البعض- تهرباً من ذلك يلجأ إلى تسجيل مقاطعاته باسم أحد الحكّام، أو أحد أقرباء الدولة، لكنها كانت تتحوّل تدريجياً إلى جيب ذلك الشخص القريب من جهاز الدولة)(١) .

ومن هنا عاش الشعب فقيراً، حتى المال الذي كدح سنيناً من أجل أن يحصل عليه، كان يؤخذ منه على شكل ضرائب، أو غير ذلك، وهكذا عاش الناس في ظل الحكم الأموي:

دينياً: الإرهاب الفكري وأزمة الانتهاكات.

سياسيّاً: تصفية العناصر الثورية.

اجتماعياً: التلاعب بالأموال، وحرمان الشعب.

ولذا كان على ثورة حِجْر، ليس فقط أن تعارض، وإنما تعارض - وعلى الأصعدة الثلاثة - وبعد ذلك تضع خطّة إصلاحية إسلامية، وهذا ما فعلت!.

ولكن كيف عملت؟.

____________________

(١) ١٠ - ١ = صفر ص١١٤.

٢١

هكذا خَرَجَتْ المُعارَضَةُ إلى العَلَنِ

إذاً..

كان الوضع فاسداً، من جميع النواحي السياسية والاجتماعية والدينية، كان فاسداً ومُتعفّناً.

فماذا فعلت الثورة على هذه الجبهات الثلاث؟.

وكيف حاولت تغيير ذلك الفساد الشامل؟.

لأنّ الفساد كان يعمّ جميع النواحي الهامّة في المجتمع، لذلك كان على الثورة أن لا تصلح ثقباً دون آخر.. إنّ على الثورة أن تصلح جميع الثقوب، لكي يبدو (ثوب المجتمع) جميلاً، وفي نفس الوقت يحميه من لسعات البرد الأمويّة. من هنا كان على الثورة أن تعمل على الجبهات الثلاث.

الإمام يُبعث:

وحيث كانت (العادة الأمويّة) من شتم الإمام متجذّرة في

٢٢

خّطَبِ الولاة والأمراء، وحيث كان الاعتداء يتمّ في كل يوم على الرسالة الإسلامية، لذا كان الاهتمام الأوّل يجب أن يبدأ من هذه النقطة؛ لأنّ دافع الناس، هو الرسالة الإسلامية، حيّة الناس آنذاك لم تكن طبيعية بغير الرسالة، نقطة انطلاقهم، وهدفهم أيضاً لم يكن سوى الرسالة، لذلك كان لابدّ للثورة أن تبرز هذه النقطة: قضيّة الاعتداء على الرسالة وعلى الرسول.. كان يجب عليها أن تظهر للناس قضية شتم الإمام عليعليه‌السلام .

وذلك لعدة أمور:

١ - بما أنّ شتم الإمام يعني الاعتداء على الرسالة؛ لأنّه اعتداء على الرسول - كما بيّنا - وهو أمر يجب معارضته ورفضه، ورفض أصحابه - وفقاً لما يقوله الإسلام -( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ.. ) وقضية الرفض هذه لا يمكن أن تكون من (وراء الستار)، إنّما يجب أن تكون ظاهرة وعلنيّة؛ لكي تأخذ أثرها في الجماهير، وتبعث فيهم روح التحمس والرفض، وهذا لا يتمّ إلاّ بإظهار قضية الإمام.

٢ - لأنّ الإمام عليعليه‌السلام لا زال موجوداً في نفوس الجماهير المؤمنة، لذلك كان على المعارضة أن تثير قضية الإمام، لكي تعيده بمبادئه، وليس كما هو موجود في النفوس، وبالتالي إيجاد التطلّع في الناس إلى الحقّ والحرية، باعتبار أنّ الإمام علي كان

٢٣

يمثّل ثورة إسلامية ضدّ قيم الباطل، وفي سبيل توفير الحرية والقوت للفقراء، وفي سبيل الناس.

وبإحياء قضية الإمام، يمكن إعادة الرباط القومي الذي يشدّ الجماهير بالإمام عليعليه‌السلام ، وبمبادئ الإمام وأفكاره، وهذا ما تخشاه السلطة الأمويّة، أن تعود إلى الناس صورة الإمام، وتعود معه - طبيعياً - صورة العدالة، والحق، والحرية، وكرامة الإنسان.. وكان هذا هو الشبح الذي يهدد السلطة الأمويّة.

ومن هذا المنطلق أي إِحياء قضية الإمام، وهي قضية الإسلام والعدالة والحرية، نرى حِجْرَاً كزعيم للثورة.. في كل وقت عندما كان يسمع شتم الإمام، يقف ويقول: (بل إياكم يلعن الله..)، ولهذا أيضاً نراه عندما يرتقي المغيرة بن شعبة - والي الكوفة - المنبر ويصل إلى شتم الإمام.. عند ذلك يقوم حِجْر ويقول:

«بل إياكم يلعن الله، وأنا أشهد أنّ من تزكّون أحقّ بالذم، وأنّ من تذمون أحقّ بالفضل» .

وهكذا انطلقت المعارضة - الثورة - في إِحيائها لقضية الإمام عليعليه‌السلام ، لكي يعود علي للجماهير، يصافحهم، يسأل عنهم، ويشعر بشعورهم، ويعطيهم من مواقفه الثورية، ومن تعاليمه، لكي يستعينوا بها في درب الموت الأُموي.. أي المنطلق، إسلامي وهو رفض الاعتداء على الرسالة.. والوسيله،

٢٤

إحياء قضية الإمام في وقت كان الناس فيه بأمسّ الحاجة إلى قيادة الإمام وتعاليمه.

بهذا الشكل عملت الثورة على الجبهة الدينية.

المعارضة تتكتل:

أمّا في الجبهة السياسية.. وحيث كان الضغط والإرهاب والقمع الأموي للشيعة عامة، ولكل من يُفكّر في مسار التفكير العلوي.. حيث كانت التصفيات الأمويّة للعناصر الشيعية الثائرة، والقرارات التي زرعت الجوّ الإرهابي في الكوفة، كان على الثورة أن تعمل في سبيل مواجهة هذا الإرهاب لكي تقاومه، ولذلك لجأت إلى أسلوب (التكتّل).

ولأنّ الشيعي الرافض للحكم الأموي، وغيره من الحكومات الظالمة، أصبح مضطرّاً إلى أن يخفي هويته.. مبدأه العقائدي، اتجاهه السياسي، وانعكست هذه الظاهرة على المجتمع، فأصبح الناس يعيشون عزلة فكريّة عن بعضهم البعض، فكلّ فرد يشعر أنّه معزول فكرياً عن الآخر، ونتيجة لهذا الشعور لا يتجاوب مع أيِّ فرد يتحدّث معه حول قضايا (المبدأ والهوية والاتجاه)؛ لأنّ كل هذا كفيل بتحديد مصيره.

من هذه الحالة كان على المعارضة أن تجمع الناس، وأن تجعلهم يتكتلون ضمن دائرة محددة، تكتسب القوّة من تلاقي أفكار هؤلاء الأفراد الذين هم ضمن هذه الدائرة، وتخرجهم من عزلتهم

٢٥

الفكريّة.. فجمعت الناس تحت لواء الثورة على الباطل.. ولأنّ هؤلاء كانوا واثقين تماماً من منطلقات- الثورة- الإسلامية، لذلك فقد التفوا حولها بسرعة، وأصبحوا يعقدون (اجتماعات سرية) ليلاً، من أجل أن يتلقّى كلّ فرد المهام المحددة له، وكيفية العمل آنذاك بالإضافة إلى أنّهم كانوا يعقدون (اجتماعات علنية) في المسجد، وغيره من مراكز التجمع الجماهيرية، لكي لا يشعر الفرد الشيعي أنّه معزول عن بقية إخوانه الذين يفكّرون بنفس تفكيره، ومظهر من مظاهر التلاحم الشعبي للوقوف أمام القمع الأموي.

ونستطيع أن نعرف هذا جيداً، ونعرف مدى كثافة وخطورة تلك المجتمعات، إذا تأملنا قليلاً في الرسالة التي بعث بها (عمرو بن حريث) والي الكوفة إلى زياد، يبيّن له فيها التطورات الأخيرة التي حدثت في الكوفة، والتي كانت من الخطورة إلى حدٍّ أنّ زياد - بعد أن علم بها - أتى على الفور؛ لتدارك الموقف.

وليست هذه هي المرّة الأولى التي يحذّر فيها زياد، فقد سبق أن حذّره أحد أصحابه، وهو عمارة بن عقبة.

وعن طريق التكتّل، ومحاولة التجمع، وإزالة حواجز العزلة الفكريّة بين كل فرد وآخر، استطاعت الثورة بزعامة حِجْر أن تجعل من حلقتها ما يقرب من ثلثي المسجد(١) من

____________________

(١) الغدير ج١١.

٢٦

الناس المجتمعين.. وعن طريق (التكتّل والتجمع) الذي سلكته الثورة، استطاعت أن تقاوم النشاط السياسي الأموي المضاد، وأن تصمد في مواجهة الأجهزة الأمويّة.

الجماهير تستجيب:

أمّا كيف استطاعت الثورة أن تعمل في المجال الاجتماعي، فهذا ما سيتّضح إذا علمنا أنّ الحياة الاجتماعية، والحالة الاجتماعية ليست في الواقع إلاّ انعكاساً صافياً للناحيتين الدينية، والسياسية على (مرآة) المجتمع، ولذلك فإنّ أيّ قرار سياسيّ لن تعرف آثاره، ولن ترى نتائجه إلاّ في الوسط الاجتماعي.

فتصفية العناصر المؤمنة، والطلائع الشيعية الثائرة، لم تكن إلاّ خطوة سياسية، ولكن آثارها انعكست على الناحية الاجتماعية، حيث أخذ الناس يتفرّقون ويعيشون عزلة فكريّة عن بعضهم البعض.

وإشاعة الجو الإرهابي، بالقتل والتنكيل والقمع، لم تكن إلاّ مرحلة ضمن خطّة سياسية تستهدف قتل الروح الثورية في الجماهير، وهذه المرحلة السياسية لم يكن لها أيّ تأثير، إلاّ على الحالة الاجتماعية للشيعة في الكوفة، حيث أثرت - عكسيّاً - وبفعل قيام أفراد مناضلين في إحياء روح المجتمع الشيعي مرة ثانية.

وأيضاً.. الاحتكار، الاستغلال، تسخير الناس بالجملة، وتدويل الأموال بيد فئة قليلة من المجتمع لم يكن إلاّ خطّة

٢٧

سياسية، اقتصادية من أجل السيطرة على المال، وعلى الموارد الاقتصادية للمجتمع، ولكن آثارها لم تكن إلاّ اجتماعية، ولم تنعكس إلاّ على الصعيد الاجتماعي، وكان ذلك الانعكاس، الحرمان العام.. وهنا كانت القضية الرئيسية، لأنّ الوضع الديني الذي كان سائداً، والحالة السياسية التي كان يعيشها المجتمع اندمجتا، وكانت الحالة الاجتماعية هي النتيجة.. وكان أبرز ما في الحالة الاجتماعية، قضية الفقراء، وقضية الحرمان، وقضية الحقوق.

ولأنّ الاستغلال حين يكون في مكان ما يكون الفقر فيه.

وحيث يكون الاحتكار والاستئثار تكون الفاقة.

وعندما يكون الفقر تكون قضية الفقراء.

وعندما تكون قضية الفقراء فلابد أن تكون هنالك إغيديولوجية تطالب بحقوق الفقراء.

وعندما توضع الإيديولوجية موضع التنفيذ.. تكون الثورة.

ولأنّ حرمان الناس من حقوقهم كان أبرز قضية اجتماعية، وأكبرها سعة وشمولية، لأنّها تشمل قضية أكبر قطاع اجتماعي (لأنّها تشمل معظم الشعب).

لهذا انطلقت ثورة حِجْر لكي تعارض وجود الحرمان، أو المحرومين؛ لأنّ مبدأه الذي هو منطلق ثورته يفرض على الثورة أن تطالب بحقوق الفقراء والمحرومين؛ لأنّه:

(ما جاع فقير إلاّ بما متع به غني) .

٢٨

وكان عليه أن يقوم في سبيل الفقراء والمستضعفين..

( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ) .

ومن هم المستضعفون؟. إنّهم:

( الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا ) .

وبالطبع هذا لا يعني المتسلطين على الحكم، والذين يظلمون مباشرة، وإنّما أيضاً يشمل كل من يسكت على ظلم هؤلاء لأنّ:

(من رضي بعمل قوم حشر معهم).

ولأنّ الدين الإسلامي (منطلق ثورة حِجْر) كان يفرض مناصرة الفقراء، والمطالبة بحقوقهم، لهذا بدأ حِجْر في المطالبة للفقراء.. ولكن كيف؟

في سبيل أن يضمن ثقة الجماهير به وبحركته، ومن أجل إحباط الدعاية الأمويّة المضادة التي تقوم بها السلطة ضدّ حركته، وتشويهها أمام الجماهير.. في سبيل ذلك، بدأ حِجْر معارضته العلنية - وبالطبع لم يكن هدفه أن يكسب ثقة الجماهير فقط - إنّما يكسب ثقة الجماهير؛ لكي يستعين بهم في ثورته من أجلهم.

ولذا بدأ يطرح نفسه على الساحة الشيعية كمعارض علني للسلطة الأمويّة، وبدأ بمعارضة شتم الإمام، على المنبر.. وتطوّر الأمر شيئاً فشيئاً، إلى أن بدأ يحرّك الجماهير عن طريق التوعية، إلى أن أصبحت الجماهير قادرة على رفع صوت الرفض، وهذا ما أدركه، وتيقن منه حِجْر بعد (حادثة الرفض الجماعي)..

٢٩

حيث كان المغيرة بن شعبة، والي الكوفة الأموي يخطب على المنبر، وكعادته بدأ يشتم الإمامعليه‌السلام .

وعند ذلك قام حِجْر وأشار بيده، ثم قال بصوت رفيع سمعه كل من في المسجد وخارجه:

(أيها الإنسان، إنّك لا تدري بمن تولعت لهرمك (يعني لقد أصبحت مخرّفاً)، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين).

وعند ذلك كانت الاستجابة الجماهيرية، وراء صرخة حِجْر، عندما قام أكثر من ثلثي من في المسجد يقولون:

(صدق والله حِجْر وبرّ، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنّ ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعاً).

وتتطوّر المطالبة بحقوق الفقراء إلى مرحلة أخرى وتقفز، لتأخذ شكلها العملي عندما كانت القافلة محمّلة بالذهب والفضة، وأحمال الأموال، وكانت تتجه آمنة مطمئنّة إلى الشام، أثر كتاب تلقّاه المغيرة من معاوية طلب من المغيرة إرسال مال له، ويأتي هذا الأخير ليفرّغ بيت مال المسلمين، ويحمّل القافلة.. وينظر الفقراء إلى القافلة نظرات غاضبة؛ لأن المال مالهم، وكسيرة في نفس الوقت؛ لأنّها لا تستطيع أن تفعل شيئا.

ويعلم حِجْر وأصحابه بالخبر، وتتأكد لديهم صحّة الأنباء التي

٣٠

سمعوها، ويجتمعون اجتماعاً عاجلاً، لبحث الموقف.. وفي أقلّ من ساعة، كانوا خارج الكوفة، مختفين وراء باب السور.. وتأتي القافلة، تتهادى بأحمالها، وتعبر الباب للخروج، فيقف حِجْرَاً أمامها، وتجفل مقدمة القافلة ويأخذ بزمامها فيما بعد.. فيصيح عليه أحد الحرس. ثم يعود بها إلى الكوفة ليوزعها على الفقراء (لا والله حتى يوفّى كل ذي حقٍّ حقه).

وبعد هذا..

وبعد أن شعر الحكم الأموي بأنّ الثورة تحركت إلى مواقعها الأمامية للمواجهة الفعلية؛ بدأ في ملاحقة واعتقال أفراد من الثوار، وأيضاً يسلم حِجْر نفسه لضمان استمرار الثورة حيّة، وكإحدى طرق التقيّة والمرونة الرساليّة الثورية.

ولكن هل تنتهي فصول الثورة؟

بالطبع كلاّ.. ثمّ كلاّ أيضاً. لأنّ الثورة - أي ثورة رسالية - لا تنتهي بانتهاء الثائر، وإنّما تبقى حيّة في ضمير الأمّة، وتبقى دماً في شريان الأمّة، لا تستطيع الأمّة العيش بدون ذلك الدم. ذلك الدم الذي أعطى ولا زال يعطي ثوّاراً.. ويعلّم الأمّة:

(أن عمل الثورة - أي ثورة - السياسي يجب أن لا ينفصل عن العمل الإسلامي، وعن الأهداف السماويّة، وفي سبيل أن يبقى الدين الإسلامي هو المنطلق، والجماهير المؤمنة هي الغاية).

٣١

في الطريق إلى الشهادة

في مسيرة كل ثورة نقاط ضوء مشعّة، تظل مشتعلة للأخير، لكي تنير الدرب أمام الأجيال القادمة.

وفي حيّة كل ثائر مواقف مبدئية شجاعة لا تستحقّ منّا الإعجاب والثناء والتقدير فقط، وإنّما هي جديرة بأن تكون قدوة للثائرين على مرّ الأيام.

ولأنّ الإنسان يجب أن يكون دائماً في ثورة تغييريّة ضد شهوات نفسه وذاته.. ضدّ القيم الفاسدة التي تعشعش فيه، ضدّ مجتمعه الخامل الذي يحول بينه وبين التطلع إلى السماء.. وضدّ الحاكم الذي يمنعه من الانطلاق، لهذا السبب يجب أن يتخذ له مثلاً وقدوة؛ لكي يسير على طريقه، ويستنير بنوره، لذلك سنستعرض بعض المواقف الثورية المبدئية في حيات الثورة.. والثائرين في طريقهم إلى الشهادة ضدّ الجلاّدين.

٣٢

وعلينا في البداية أن نحدد موقفنا الذي نحن فيه، لكي نجعل من (ثوار الحقّ) نموذجاً لمواقفنا التي يجب أن نتخذها، وبالذات هذه المواقف؛ لأنّها تقطع أيّ عذر، أو تبرير قد نتخذه تجاه المواقف الثورية للأئمةعليهم‌السلام ، كالتعلل بأنّهم كانوا معصومين، وأنّه لا قِبَل لنا ولا قدرة على الاقتداء بهم.

وكمحاولة من أجل السير في ضوء تلك الثورة المضيئة، وفي سبيل أن نعرف كيف نثور؟ بل وكيف نستمر في الثورة؟ علينا أن نذهب إلى تلك المشاعل الحمراء، التي أوقدها الثوّار العقائديون، وأيضاً من أجل أن نستفيد من ضوئها الثوري؛ لكشف أعداء الثورة، ولخدمة المسيرة الثوريّة المبدئية.

رَفَضَ أن يتنازلَ عن مبادئهِ ذرّة

فرفضوا أن يتنازلوا عن دمهِ قطرة:

عجيبة قضية المبادئ.. وأعجب منها روح من يُضَحْي في سبيلها.. ذلك أنّه عندما تكون القضية، قضية: أن يكون الدين ومبادئ الحقّ والعدل، أو لا يكون، فإنّ كلّ شيء يصبح رخيصاً، المال والبنون والنفوس.

حتى لو كلّفت القضية أن تضع حياتك في كفّة، والمبدأ في أخرى، فعليك أن تضحي بحياتك من أجل إعطاء الحياة للمبدأ.

ومن هنا كانت عظمة إبراهيمعليه‌السلام حينما أشعلت النار

٣٣

وأضرمت من الحطب، ووضع في الآلة التي ستقذفه إلى ضرام النار.. حتى تلك اللحظة، لم يفكّر أن يتراجع، ليعيش بدون مبدئه، كان يفكّر أنّ عليه أن يبقى صامداً؛ لكي يعطي الحياة للمبدأ.

وكانت عظمة محمّد أن واصل مسيرته، وجهاده في سبيل المبدأ، وتحمل كل أشواك الطريق.

وكانت عظمة حِجْر أنّه واصل مسيرته للأخير، ولم يتراجع.

لقد جاهد وناضل وسجن أيضاً، وإلى الرمق الأخير كان لا يزال صامداً على مبدئه.

ولقد طورد، وقتل أمامه ابنه، ووضعت حياته ثمناً لشراء ضميره، فلم يقبل أن يبيع، ولقد حاول أعداؤه - جهد ما استطاعوا - أن ينزعوا منه صموده، فلم يقدروا، ولقد أرادوا أن يجعلوا منه عبداً خاضعاً لهم - بعد شرائهم لمبدئه - لكنّه رفض إلاّ أن يعيش حرّاً مع مبادئه.

ولذلك نرى حِجْر..

وقد صعد زياد المنبر، وأخذ يخطب في الناس، وقبل نهاية الخطبة، ذكر أصحاب عثمان، وترحّم له ولهم، وأخذ يمدحهم (بما ليس فيهم طبعاً)، وبعد ذلك ذكر الإمام وأصحابه، فشتمهم واسترسل إلى أن أوشك وقت صلاة العصر أن ينتهي.. نرى حِجْرَاً يقوم من مكانه منادياً:

الصلاة!! الصلاة!.

٣٤

ولم يتحرك أحد.. بينما استمر زياد في شتمه للإمام، وقام حِجْر للمرة الثانية ونادى بصوت أعلى:

الصلاة!! الصلاة!.

ولمّا لم يتحرّك أحد.. قام للمرة الثالثة قائلاً ومقاطعاً لزياد:

(شاهت الوجوه ذلاًّ.. يمنعكم زياد صلاتكم)!.

ثم قام وكبّر للصلاة، وابتدأ يُصلّي، مما أجبر زياد على أن يقطع الخطبة، وينزل من المنبر.

هكذا تمرّد حِجْر مؤكداً:

أن مبادئ الله يجب أن تنفذ، وأن تطبق، حتى ولو كان الوالي أو الحاكم يريد أن يؤخر ذلك.. أحكام الدين يجب أن تمارس من دون إذن الحاكم.. الصلاة يجب أن تكون في خطّ الصلاة أي ضدّ الخنوع، والخضوع، والاستسلام للحاكم المستبد.

* * *

(إنّ أصحابك قد استجابوا لأمير المؤمنين(؟؟..) وإنّ أمير (...؟ يقول: إن تبرءوا من عليّ، يخلَ سبيلكم، وتعودوا إلى أهلكم، وإن لم تفعلوا، فإنّه القتل).

هذه كلمات أحد رسل زياد لحجر، عندما قبض عليه واعتقل وأودع السجن، بعد أن كُبّل بالحديد، وعزل عن الناس، إلاّ قلّة من أصحابه من (رفقاء الدرب)، وحينما سمع حِجْر ذلك ضحك، وبالطبع لقد كان الجواب معروفاً.

٣٥

لقد وضعوا حياته ثمناً لبراءته من الإمام، ولتخليه عن مبادئه، إلاّ أنّه كان يقول، ضمن موقفه، وفي كل وقت:

(أتأمرونني أن أترك دين الله وأخسر دنياي وآخرتي؟ أتخيرونني بين الحقّ والباطل وتريدون أن أختار الباطل على الحقّ)؟.

هكذا كانت قضية حِجْر مع المبادئ، لقد رفض أن يتنازل عن مبادئه ذرة واحدة.. فرفضوا أن يتنازلوا عن دمه قطرة واحدة..

عندما يحضر الجلاّد لقتلك

فأعلن كلمتك بصراحة:

أن يصمد الإنسان على موقف، ويبدأ منه مسيرته، ويستمر على ذات الموقف.. وينتهي هو لكي يبقى موقفه، وتبقى مسيرته، ينتهي وهو لا يزال على ذات الموقف.. أي أنّه:

يبدأ منه، ويعيش معه، وينتهي إليه، ولا يتردد لحظة واحدة في اختيار المواقف تجاه الأحداث لأنّه يعرف من أين ينطلق، وكيف يسير، ويعرف تماماً أن مصيره سيكون مع ذلك الموقف، بل لا يفكر لحظة، في أن يتردد.. فكل ذلك من صفات المؤمن العقائدي الذي لا يخشى في سبيل الثورة الاسلامية لومة لائم.

وهكذا كان كل الأبطال وكل الأنبياء وكل الذين اتبعوهم اتباعاً رسالياً، وكل الثائرين من أجل الله.. صموداً في الموقف،

٣٦

صموداً في الانطلاق، صموداً في المسيرة، وأخيراً تتويجاً لذلك الصمود بالنصر أو الشهادة.

وهكذا كان حِجْر وأصحاب حِجْر لأنهم كانوا ينتمون إلى جيل الأنبياء العظام والذين جاهدوا في سبيل قضية الله في الأرض..

فعندما كان المغيرة يخطب في أحد الأيام ويكثر من شتم الإمام، كان حِجْر - دائماً - يقوم ويعترض كلامه، فما كان من المغيرة ذات مرة، إلاّ أن هدده قائلاً: (يا حِجْر اتق غضب السلطان، فإنه كثيراً ما يهلك أمثالك)!.

وبالرغم من هذا التهديد الشديد لحجر، إلاّ أنّه استمر في معارضته ورفضه، ذلك لأنّه يعرف موقفه من الباطل، ويعرف أن صموده على هذا الموقف يعني انتصار الرسالة وانتصار الحقّ، وفي هذه المرة، وحيث لم يكن التهديد من قبل السلطة كافياً، فكّر الوالي الجديد في وسيلة أخرى لتجميد نشاط حِجْر، فاستعمل وسيلة الترغيب، ووعده بالأموال، والعطاءات الخاصة، والهدايا المستورة، فبمجرد أن جاء زياد بن أبيه إلى الكوفة والياً عليها، طلب حِجْر إليه، وقال له ضمن كلامٍ طويل: (وهذا سريري فهو مجلسك).

ويسكت حِجْر ولا يعطيه جواباً مقنعاً، ولكنّه يعطيه الجواب الصارم، عندما يخرج ويعاود نشاطه الثوري، ويعاود عقد الاجتماعات مع عناصره، لكي يثبت للناس أن الثائر الرسالي، موقفه واحد، وعمله يتّجه في اتجاه واحد، سواء كان الوالي هو المغيرة أو زياد, معاوية أو غيره.. وكان هذا الموقف صامداً حتى في ليلة الشهادة.

وبعد أن عرف الثوار إلى أين هم صائرون، بعد أن عرفوا أنّ تلك السيوف التي تبرق الآن لمّاعة بيضاءٍ، سيختفي بريقها ولمعانها حينما تأخذ طريقها إلى رقابهم.

في تلك الليلة كان اختبار الموقف الأخير، قال لهم الجلادون: (يا هؤلاء.. لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء.. فأخبرونا قولكم في عثمان؟.

وكان الموقف واحداً.. كان منذ البداية واحداً، واستمر إلى النهاية.. إنّه واحدٌ، رُغم أنّ السيف الذي يواجههم الآن، هو غير السيف الذي طاردهم في الكوفة، لكن ما دام السيفان يلتقيان على درب الباطل.. ويسيران في نفس الاتجاه، فإنّ الموقف هو واحد، وإن اختلف السيفان. ولذلك قالوا وبصوت واحد: (إنّه أوّل من جار في الحكم، وعمل بغير الحقّ).

ويسألونهم ثانية: (أوَ تتبرءون من هذا الرجل؟) أي الإمام، فقالوا وقضيّتهم لا تزال ترتسم أمامهم: (بل نتولاّه، ونتبرّأ ممن تبرّأ منه).

وهكذا علّم حِجْر كل الثائرين: (إذا جاء الجلاد لقتلك). (فأعلن كلمتك بصراحة).

هذه بعض المواقف التي كان عليها حِجْر لأنّه كان يريد إقامة

٣٧

الحقّ، وتحطيم الباطل، ولذلك ضحّى، ومن أجل ذلك ثار، وكان موقفه صامداً وواحداً، ولم يتغير؛ لأنّه كان يريد إقامة أمر الله، لهذا كان شديداً في الحقّ لأنّه:

(لا يقيم أمر الله إلاّ من لا يصانع (لا يُداري أحداً في الحقّ)، ولا يضارع (لا يتشبه بالباطل) ولا يتبع المطامع).

ومن هنا رفض أن يحني رقبته للجلاد الأموي؛ لأنّه منذ البدء رفض الخنوع، والانحناء أمام الباطل الأموي، وتابع رفضه هذا للأخير قائلاً:

(ما كنت لأعين الظالمين).

وبقوله هذا لخّص لنا كل منطلقاته، ووضّح هدف ثورته.. وعلّمنا أيضاً أنّه:

(إذا جاء الجلاّد لقتلك)

(فلا تمدّ عنقك لسيفه)!.

٣٨

يوميات الثائر

إلى هنا كنّا قد عرفنا حِجْرَاً (الثائر)، ولكي تتكامل رؤيتنا إلى حِجْر، ولكي نعرف حِجْرَاً، بصورة أكثر، تعال نتعرف على مسيرة ثورته، وكيف كانت الأحداث تتابع..

بدأت المعارضة تتحول إلى عمل ثوري، عندما بدأت تمارس المعارضة عملياً، ولأنّها قد كثّفت من (اجتماعاتها السريّة) مع عناصرها، لهذا كان على السلطة أن تتدارك الوضع الخطير، فأرسل عمرو بن حريث - والي الكوفة بالنيابة - كتاباً إلى زياد يخبره فيه بالوضع، وبسرعة قدم زياد إلى الكوفة من البصرة، وصعد المنبر، وخطب في الناس:

(أمّا بعد: فإنّ غب (عاقبة) البغي والغي وخيم، وإنّ هؤلاء جمّوا (كثروا) فأشِروا وأمِنوني فاجترؤوا على الله (...؟)، ولئن لم تستقيموا

٣٩

لأداوينّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حِجْر، وأدعه نكالاً لما بعده).

المطاردة:

وبعد خطبته أمر برئيس شرطته (محمّد بن الأشعث) فأتاه، فقال له زياد: (أذهب وائتني بحجر في الحال)، فذهب الأخير إلى دار حِجْر، ولكنّ أصحاب حِجْر شتموه وقالوا: (لن نأتيه، ولا كرامة لكما)، فرجع ابن الأشعث وأخبر زياداً، فصعد زياد المنبر، وخطب في الناس قائلاً:

(يا أهل الكوفة أتشجون بيدٍ، وتأسون بأخرى؟ أبدانكم معي، وقلوبكم مع حِجْر الأحمق (...؟)، والله لتظهرنَّ لي براءتكم، أو لآتينَّكم بقوم أقيم بهم أودكم).

فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلاّ طاعتك، وما فيه رضاك.

فانتهز زياد الفرصة فقال:

(فليقم كل رجل منكم فليدع - من عند حِجْر - مَن من عشيرته وأهله). ففعل هؤلاء وانسحب أكثر أصحاب حِجْر عنه.

وهنا قد يثار السؤال الذي هو: لماذا تفرّق الناس عن حِجْر بعد أن كانوا ملتفّين - أكثرهم - حوله؟

٤٠