جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله0%

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 64

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: سيد هادي خسروشاهي
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: الصفحات: 64
المشاهدات: 9090
تحميل: 5062

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 64 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9090 / تحميل: 5062
الحجم الحجم الحجم
جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢١

العُرْوَةُ الوُثْقَى: فَجْرُ الصَحَافَةِ الإسْلامِيَةِ

وحصل أنْ اتفق أعضاءُ جمعيّةِ العروةِ الوثقى على إصدار جريدةٍ عربيةٍ، كما تُشير المقالة الافتتاحيّة للجريدةِ: (واختاروا أنْ يكون لهمْ في هذه الأيّام جريدةٌ بأَشْرَفَ لسانٍ عندهم، وهو اللسان العربي، وأنْ تكون في مدينةٍ حُرّةٍ، كمدينةِ باريس ليتمكّنوا بواسطتها من بثِّ آرائهم وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية؛ تنبيهاً للغافل وتذكيراً للذاهِل).

وقد كتب على غلافها: ( بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ) . العروة الوثقى لا انفصال لها.

مدير السياسة جمال الدين الحسينيّ الأفغانيّ.

المحرِّرُ الأوّل: الشيخ محمّد عبده

تُرْسَلُ الجريدةُ إلى جميعِ الجهات الشرقيّة.

مَنْ شاء أنْ يبعث إليْنا بتحارير أو رسائل، في أيِّ موضوعٍ كان، رغبةَ نشره في الجريدة أو التنبيه على أمرٍ مهمٍ، فَلْيُرْسِلْهَا إلى إدارة الجريدة بهذا العنوان:martelaParis ٦Rue

مُسَاهَمَاتُ القَادَةِ السِيَاسِيِّيْنَ

وتُشير بعضُ المصادر إلى مساهمة سعد زغلول باشا (١٨٥٧ - ١٩٢٧) في العمل. كما أنّه توجد في بعض الوثائق الأُخرى إشارةً إلى مساهمة إبراهيم المويلحي (١٨٤٦ - ١٩٠٦). ومِنَ المعروف أنّ الأفغانيّ ترك حقيبةً مِنَ الوثائقَ والأوراقَ عند صديقه الحاج محمّد حسن أمين الضرب، في إحدى رِحْلَتَيْهِ إلى طهران. وقد نَشَرَتْ جامعةُ طهران قِسْمَاً مِنْ هذه الوثائق قبل سنواتٍ. وتوجد

٢٢

ما بين الوثائق مقالةٌ بقلم الكاتب المصري إبراهيم المويلحي، حوالي العام ١٨٨٦م، حيث يُشير فيها المويلحي إلى وصوله إلى الأربعين مِنَ العُمُرِ، ويتحدّثُ في مقالةٍ إلى خلافه مع رياض باشا، الذي أجبره على ترك مصر والإقامة في أوروبّا. وفي العام ١٨٨٣م كان يعيش في ايطاليا وهناك سمع خبر قدوم الأفغاني إلى باريس. وكانتْ بينهما صداقةٌ وطيدةٌ في مصر. ويقول: (بعد أنْ سمعتُ أنّ الأفغانيّ قد جاء إلى باريس مِنَ الهند كتبتُ إليه، واتفقنا أنْ نَنْشُرَ جريدةَ العروةَ الوثقى).

والظاهر أنّ المويلحي كغيره مِنْ أصدقاء ومريدي الأفغانيّ كان عضواً في جمعيّة العروة الوثقى، ولم تكنْ له مساهمةٌ مباشرةٌ مستمِرَّةٌ في المجلّة. ولم تكنْ هيئةُ تحريرِ المجلّة تَضُمُّ إلاّ الأفغانيّ وعَبْدَه ومترجِمَاً، كما يشير إلى هذا محمَد رشيد رضا في (تأريخ الأُستاذ الإمام) بقوله: (ولمْ يكنْ مُحَرِّرٌ سِوَاه، إلاّ مَنْ كانَ يُتَرْجِمُ بعضَ الأخبار مِنَ الجرائد الأُوروبيّة، وَيُلْقِيْهَا إلى الشيخ لِيُصَحِّحَهَا، وينفخُ فيها روحَ البشر).

تَوْزِيْعُ الجَرِيْدَةِ مَجّانَاً

كانتْ الجريدةُ تُرْسَلُ إلى البلدانِ الإسلاميّة مجّاناً، وقد كُتِبَ في الصفحة الأُولى مِنْ كلِّ عددٍ: (تُرْسَلُ الجريدةُ إلى جميعِ الجِهاتِ الشرقيّةِ مجّاناً. وقد عُيِّنَتْ أُجرةُ البريد: خمسة فرنكات في السنة لِمَنْ تَسْمَحُ بها نفسُه). وكذلك ذَكَرَ مُحَرِّرُ الجريدةِ في مقالته الافتتاحية في العدد الأوّل: (إنّ المجلّة) تُرْسَلُ إلى الذين نَعْرِفُ أسماءهم مجّاناً، بدون مقابل؛ لِيَتَدَاوَلَهَا الأميرُ والحقيرُ والغنيُّ والفقيرُ، ومَنْ لَمْ يصل إلينا اسمه فما عليه إِلاّ أنْ يكتب إلى إدارةِ الجريدةِ بالاسم المعروف به، ومَحَلِّ إقامته على النهج الذي يُرِيْدُهُ).

وكانَ المصدرُ الماليُّ للمجلّة يأتي مِنْ جمعيّة العروة الوثقى. وقد تساءل بعضُ الباحثين عَنِ احتمال أنْ يكون السلطان العثماني قد أرسل مساعداتٍ

٢٣

للمجلّةِ، لأنّ المويلحي يقول في ترجمته الذاتيّة ((وأنشأ الأفغانيّ الجريدةَ في باريس، ودافع عَنْ حقوق الدين، ودعا المسلمين للوحدة بِاسْمِ أمير المؤمنين (أي: الخليفة العثماني) وأبغض هذا الخديوي)). والظاهر أنّه لمْ تكنْ هناك مساعدةٌ مباشِرَةٌ مِنَ الآستانة، رغم أنّ السياسة الوحدويّة الإسلاميّة للمجلّة تصبُّ لصالح السلطان. وممّا يؤيِّد ذلك، كثرةُ المشاكِل الماليّة التي واجهتْ المجلّة بعد ثمانية أشهر، وأدّتْ إلى توقّف نشرها.

مَكَانَةُ (العُرْوَةِ)

صَدَرَ العددُ الأوّل مِنَ العروة الوثقى في يوم الخميس ١٣ آذار (مارس) العام ١٨٨٤م (١٥ جمادي الأُولى ١٣٠١هـ) واستمرّتْ حوالي ثمانية أشهر، حتّى توقّفتْ بعد صدور العدد الثامن عشر والأخير منها في ١٧ تشرين الأول (اكتوبر) عام ١٨٨٤.

برغم أَعْدَادِهَا القليلة وفترة حياتها القصيرة، فقد احتلّتْ العروة الوثقى في تأريخ الحركة والصحافة الإسلامية الحديثة مكانةً مرموقةً، لم تصل إليها أيُّ جريدةٍ حتى الآن. فقد كانتْ الصحيفةُ الإسلاميّةُ الوحيدةُ التي حَقَّقَتْ لنفسها عالميّةَ الانتشار؛ إذْ كانتْ تُوَزَّع في مُخْتَلَفِ أنحاء العالم مِنْ مصرَ والشام والعراق والجزيرة العربية وإيران وإلى أفغانستان والهند. وبفضل انتشارها الواسع استطاعتْ العروةُ الوثقى أنْ تُبَلِّغَ رِسَالَتَهَا الإيقاظيّة إلى مختلف الشعوب المسلمة في أقاصي العالَم وأَدَانِيْهِ. وكانتْ في عصرها أعظمُ صحيفةٍ إسلاميّةٍ وعربيّةٍ وأعمقُ تأثيراً، حيث تجاوز مدى تأثيرها زمنَ نَشْرِهَا القصير، بَلْ وَقَرْنَهَا كُلَّهُ. ولدرجةِ تأثير العروة الوثقى على العقول يكفيك أنْ نشير إلى قصّة محمّد رشيد رضا (١٨٦٥ - ١٩٣٥) مُنْشِئ مجلّة (المَنَار) والتحوّل الذي أحدثتْه العروةُ الوثقى في نفسه، بحيث غيّرتْ مسيرةَ حياتِهِ. كان محمّد رشيد رضا في مَطْلَع شبابه مُتَزَهِّدَاً مُتَصَوِّفَاً، وفي العام ١٨٩٣م وعمره ٢٨ سنة، رأى في

٢٤

محفوظاتِ والدِهِ بعضَ نُسَخِ (العروة الوثقى). ويصوِّر هو نفسُهُ ذلك الانقلاب الروحي الذي اعْتَلَجَ في داخله بقوله: (فكانَ كلُّ عددٍ مِنْها كَسِلْكٍ مِنَ الكهرباء، اتصل بي فأحدث في نفسي مِنَ الهزّة والانفعال والحرارة والاشتعال، ما قذف بي مِنْ طورٍ إلى طورٍ ومن حالٍ إلى حالٍ. وكان الأثرُ الأعْظَمُ لتلك المقالات الإصلاحيّة الإسلاميّة، ويليه تأثير المقالات السياسية في المسألة المصريّة). ويقول رشيد رضا (إنّ الإسلام ليس روحانيّاً أُخرويّا فقط، بل هو دينٌ رَوْحَانِيٌّ جِسْمَانِيٌّ أُخْرَوِيٌّ دُنْيَوِيٌّ، مِنْ مَقَاصِدِهِ هِدَايَةُ الإنسان إلى السيادة في الأرض بالحق؛ ليكونَ خليفةَ اللهِ في تقرير المَحَبَّةِ والعدل).

أُنْشِئَتْ العروةُ الوثقى؛ لهدفِ إيقاظ الشعوب الشرقيّة عموماً، والمسلمين خصوصاً، والدفاع عن حقوقهم، والتنبيه إلى خطط المستعمرين، وتدخُّلاتهم في البلاد الإسلاميّة والدعوة إلى المقاومةِ. وتشيرُ المقالةُ الافتتاحيّةُ للعروة إلى سياسةِ الجريدة قائلةً: (سَتَأْتِي في خِدْمَةِ الشرقيين على ما في الإمكان، مِنْ بيانِ الواجباتِ التي كانَ التفريطُ فيها موجِبَاً للسقوط والضَعْفِ، وتوضيح الطرق التي يَجِبُ سُلُوكُهَا؛ لتدارك ما فاتَ، والاحتراس من غوائل ما هو آتٍ.. وتَكْشِفُ الغطاءَ ما استطاعتْ عن الشُبَه التي شَغَلَتْ أوهامَ المُتْرَفِين ولَبَسَتْ عليهم مسالكَ الرشد.. وإنّ الظهور في مَظْهَرِ القوّة لدفع الكوارث، إنّما يَلْزَمُ له التمسّك ببعضِ الأُصولِ التي كانَ عليها آباءُ الشرقيين وأسلافُهُم، وهي ما تمسّك به أعزُّ دولةٍ أُوروبيةٍ وأَمْنَعَهَا.. وَتُنَبِّه على أنّ التكافُؤ في القوى الذاتيّة والمُكْتَسَبَةِ، هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسيّة. وَتَهْتَمّ بِدَفْعِ ما يُرْمَى به الشرقيون عموماً والمسلمون خصوصاً مِنَ التُهَمِ الباطلةِ التي يُوَجِّهُهَا إلَيْهِم مَنْ لا خبرةَ لَهُ بِحَالِهِمْ، ولا وقوفَ له على حقائق أُمورهم، وإبطال زعْم الزاعمين: إنّ المسلمين لا يتقدّمون إلى المدنيّة ما داموا على أُصولهم التي فاز بها آباؤُهُمُ الأوّلون.. وتُراعِي في جميعِ سَيْرِها تقويةَ الصِلات العموميّةِ بين الأُمم، وتمكين الأُلفة في أفرادها، وتأييد المنافع المُشْتَرَكَةِ بينها).

٢٥

شِعارَاتُ الأُمّةِ والمَجَلّةِ

انطلاقاً مِنْ هذه الأهداف، تناولتْ الجريدةُ خلال أعدادها موضوعاتٍ عِدّة كانَ مِنْ أهمِّها:

١ - المقاومة ضِدَّ الاستعمار الأُوروبِّي، وخاصّةً البريطاني. تحكي الجريدةُ عَنْ جرائم الاستعمار في الهند ومصر، وتُثِيْرُ المسلمين ضِدَّهُ وتدعوهم إلى المقاومة والجهاد: (إنّ السَّعْيَ لإعلاء كلمة الحقّ، وبَسْطَة المُلْك، وعموم السيادة، واجبُ المسلمين. فلا تجد آيةً مِنْ آياتِ القرآنِ الشريفِ إلاّ وهي داعيةٌ إليه، جاهزةٌ بمطالبة المسلمين بالجدِّ فيه، حاظرةٌ عليهم أنْ يتوانَوا في أداء المفروض منه)، (يا أيّها المصريّون: هذه دِيَارُكُمْ وأموالُكم وأعراضُكم وعقائدُ دينِكم وأخلاقُكم وشريعتُكم، قبض العدوُّ على زِمَامِ التصرّف فيها غِيْلَةً واخْتِلاسَاً..). وإلى جانب ذلك كان هناك انتقاداتٌ عَدِيْدَةٌ للسياسيين ورجال الدين المصريين، كالشيخ الميرغني، الذين نادَوا بوجوب طاعة الانكليز وبِتَرْكِ المقاومة، كما تَنْتَقِدُ الجريدةُ السياسيين العملاءَ وغيرَ الوطنيين، كتوفيق باشا ونوبار باشا. ويتحدّثُ الأفغانيُّ عَنْ حركة المهدي في السودان وجهادِهِ ضِدَّ الانكليز، وَيُؤَيِّدُ مواقفَ المهدي وصمودَه ضِدَّ الاستعمار، ويُهَاجِمُ بلا ترددٍ السياسةَ البريطانيةَ والحاكمَ الانكليزي للسودان (غوردون). ويدعو الدولة العثمانيّة لِئَلاّ تُشَارِك بجيش مع الانكليز ضِدَّ المهدي، وَمِنَ المعروف أنّ بريطانيا عَجَزَتْ عَنْ أَنْ تَنَالَ مِنْ ثورةِ الأفغانيّ، وهجومهِ الرهيبِ على الاستعمارِ والمستعمرين رغم نفوذها، فَلَجَأَتْ إلى سِلاح المالِ والمُلْكِ وأَرْسَلَتْ إلى الأفغانيّ تدعوه لزيارةِ لندن؛ لتسأله رأيه في حركة المهدي، ولتحصل منه على فتوى شرعيّة تُنَاهِضُهُ بها، ثُمّ عَرَضَتْ عليه عرشَ السودان قائلةً: (إنّها تعْلَم مَقْدِرَتَهُ، وتقدِّرُ رأيَه حقَّ قَدْرِه، ولأنَّها تُريد أنْ تسلك مع الحكومات الإسلاميّة مسلكَ المودَّةِ والولاء!) وكان مِمَّا قَالَهُ له اللورد سالسبوري حسب الوقائع الرسميّة: (لذلك تصوّرْنا أنْ نُرْسِلَكَ إلى السودان

٢٦

بِصِفَةِ سلطانٍ عليهِ، فَتَسْتَأْصِل جذورَ فتنةِ المهديّ، وتمهِّد لإصلاحات بريطانيا فيه).

ورفض الأفغانيّ أنْ يَقَعَ في الفخِّ البريطانيِّ، وَسَخَرَ مِنَ العَقْلِيَّةِ الانكليزيّة قائلاً: (إنّ السودان ليس مُلْكَاً لبريطانيا حتّى تتصرّف في عرشِه). ويَذْكُرُ الأفغانيّ في عددٍ آخر رِضَى السلطان العثماني عَنْ حركةِ المهدي.

٢ - الوحدة الإسلامية: وكانتْ مِنْ أهمّ المسائل التي اهتمّتْ بها العروةُ الوثقى. وقد دعتْ العلماءَ والشعوبَ إلى الوحدةِ وتَرْك التعصُّبات الطائفيّة: (من الواجب على العلماء بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها أنْ ينهضوا لإحياء الرابطة الدينيّة). (إنّ أقوى رابطةٍ تربط بين المسلمين هي الرابطةُ الدينيّةُ.. وما توجّهتْ عنايةُ الإفرنج إلى بثِّ الأفكار السابقة (أي الأفكار الإباحيّة والإلحاديّة) بين أرباب الديانة الإسلاميّة؛ إلاّ لِيُنْقِضُوا بذلك بناءَ الملَّةِ الإسلاميّةِ ويُمزّقوا إرَبَاً وشِعَبَاً). (الميلُ للوحدة والتطلّعُ للسيادة وصدقُ الرغبةِ في حفظ حوزة الإسلام، كلّ هذه صفاتٌ كامنةٌ في نفوسِ المسلمين).

ويدعو الأفغانيُّ المصريين إلى الوحدة ضدَّ عدوِّهم المستعمِر، ويدعو العثمانيين إلى مُسَانَدَةِ مُسْلِمي الهند. كما أنّه يدعو الإيرانيين والأفغانيين أنْ يتَّحِدُوا ضدَّ الإنكليز. إنّ الوحدة الإسلاميّة عِنْد الأفغانيّ لَمْ تكنْ قضيّةً سياسيّةً مرحليّةً فحسب، بل اعتبرها جُزءاً مِنَ الأُصول الأساسيّة التي يدعو إليها الإسلام، وهي أمرٌ ضروريٌّ سياسيّاً ودينيّاً وحضاريّاً: (هل آنَ الأوان ليصبحَ العالمُ الإسلاميُّ مِنْ( أدرنة إلى بشاور) دولةً إسلاميةً متّصِلةَ الأرض، متّحِدةَ العقيدة، يجمع أهلَها القرآنُ؟.. أليس لكلّ واحدٍ مِنْهم أنْ ينظر إلى أخيه بما حكم الله مِنْ قوله:( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ؟ فَيَقِفُوْنَ بالوحدة سدّاً يُحُوْلُ عنْهم هذه السيول المتدفِّقة عليهم مِنْ جميعِ الجوانب. لا ألْتَمِسُ بقولي هذا أنْ يكون مالكُ الأمر - في الجميع - شخصاً واحداً. فإنّ هذا رُبّما كان عسيراً، ولكنْ أرجو أنْ يكونَ سلطانُ جَمِيْعِهِم القرآنَ، وَوِجْهَةُ وِحْدَتِهِم الدينَ.. ولكلِّ ذي مُلْكٍ على مُلْكِهِ

٢٧

يسعى بجهده؛ لحفظ الآخر ما استطاع، فإنّ حياتَه وبقاءَه ببقائِهِ).

٣ - أسبابُ تخلُّفِ المسلمينَ: ناقشتْ العروةُ الوثقى أسبابَ تخلُّفِ المسلمين، وتحدّثتْ عَنْ بعضها: كتفرّق المسلمين، وَتَشَتُّتِ قِوَاهم، وعقيدةِ بَعْضِهِمْ بِالجَبْر، وجهلِ الحُكّامِ، وعدمِ المعرفةِ بحقائق الإسلام، والتمسُّكِ بالأوهام، وإهمالِ العلم. وانتقدتْ نظرَ الشرقيين إلى الغربيين: (إنّ نظر الشرقيين إلى الأُوروبّيين بغير الحقيقة جَعَلَهُم وَهْمَاً، وَهُمْ بهذا الظنّ يستسلمون لأعدائهم كَرْهَاً، ويُجارُوْنَهُم في أهوائهم نِفاقاً). كذلك انتقدتْ بعضَ الأُدباء المسلمين وشُعراءِهم؛ لأنّهم (يَحصرُون رواياتِهم في حكاياتٍ مضحكةٍ وقِصَصٍ هَزَلِيَّةٍ.. ورجاءنا فيهم أنْ يسلكوا مسالكَ أُدباءِ الأُممِ المتقدِّمةِ. وأنْ يأخذوا في مُنْشَآتِهِم وأشعارِهم طريقاً يُنْهِضُونَ فيه الهِمَمَ الخامدةَ، ويحرِّكونَ القلوبَ الجامدةَ، ويُحيُونَ مكارمَ الشِيَم،ويُورِدُوْنَ الأُمّةَ مَوْرِدَ سَابِقِيْهَا مِنَ الأُمَمِ).

وكما اعتقد الأَفغانيُّ وأصحابُه أنّ اللهَ جَعَلَ (بقاء الأُمم ونماءها في التحلِّي بالفضائل، وجَعَلَ هلاكها ودمارها في التخلِّي عنها، سُنَّةً ثابتةً لا تَخْتَلِفُ باختلافِ الأُممِ ولا تتبدّل بتبدُّلِ الأجيال والفضائل، مِثْلُ الاستقامةِ في الرأي، والصدق في القول، والعدل والحميّة على الحقِّ، والقيام بِنَصْرِهِ والتعاون على حِمَايَتِهِ..).

وَتَوَقَّفَتْ أَخِيْرَاً

ظهرتْ جريدةُ العروةُ الوثقى في فترةٍ حسّاسةٍ كان الاستعمار فيها في ذروة كبريائه وَمَدِّهِ، ونَظَرَاً إلى تأثيرها العميق الواسع على عقول المسلمين، ومواقفها الإسلاميّة الصارِمة ضدَّ الاستعمار البريطاني، فقد حاول الانكليز - منْذُ البداية - دفع هذا الخطر الكبير. وحتّى قبل إصدارها، بعد أنْ تَبَلْوَرَتْ فكرةُ نَشْرِ الجريدة، أَدْرَكَ الاستعمارُ عظمةَ الخطرِ. يحكِي محرِّرُ العروة الوثقى: (عزمنْا على إنْشاء جريدتنا هذه فعَلِمَ بذلك بعضُ مُحَرِّرِي الجرائد الفرنسيّة، فكتبوا عنها قبل صدورها غيرَ مُتَبَيِّنِيْنَ لمَشْرَبِها، ولا كاشفينَ عَنْ حقيقةِ مَسِيْرِهَا. فلمّا وَقَفَ عَلَى

٢٨

الخبر مُحرِّرُوا الجرائد الانكليزيّة المُهِمّة، أَخَذَتْهُم الحِدَّةُ وَاحْتَدَمَتْ فيهم نارُ الحميّة، وأنْذَرُوا حكومتَهم بما تُؤثِّر هذه الجريدة في سياسة الانكليز ونفوذها في البلاد الشرقية، وَلَجُوا في إغرائها، وأَلَحُّوا عليها أنْ تُعَدَّ كلّ وسيلةٍ؛ لمنع الجريدة مِنَ الدخول إلى البلاد الهنديّة والبلاد المصريّة، بل تطرَّفوا! فنصحوا أنْ تلزم الدولةُ العثمانيّة بالحَجْر عليها. كل هذا كان مِنْهُم قبل صدور أوَّل عددٍ مِنْ جريدتنا).

عُقُوْبَةُ شِرَاءِ مَجَلَّةٍ!

وبعد أنْ انتشرتْ الجريدةُ واكتشف الاستعمارُ مدى تأثيرها، بدأ بخلق مشاكل عِدّةٍ. إلاّ أنّه لم يستطعْ مَنْع طبعها في باريس، وحاول أنْ يجدَ طُرُقَاً أُخرى، وذلك بتعقُّب قُرَّائِها واضْطِهَادِهِم، وكذلك مَنْع دخولها البلاد. فأصدرتْ الحكومةُ الهنديّة البريطانيّة قانوناً يُعَاقِبُ بِمُوْجَبْهِ مَنْ يَحوز عدداً مِنَ العروة الوثقى، بالحَبْسِ لمدّة سنتين، وبغرامةٍ مقدارها ١٠٠ جنيه. وكذلك ألزَمَ الانكليزُ مجلسَ الوزراء المصري بإصدار قرارٍ يمنع العروةَ الوثقى مِنْ دخولها في البلاد المصريّة، كما أنّ حيازة الجريدة حُسِبَتْ جريمةٌ (وكلُّ مَنْ توجَد عنده العروةُ الوثقى يَغْرَمُ مَبْلَغَاً مِن ٥ جنيهات إلى ٢٥ جُنيهاً). وهذه العقوبات التي فرضها الانكليزُ على قُرَّاءِ العروة الوثقى أوجدتْ خوفاً في قلوب المصريِّين، حيث امتنع كثيرٌ منْهم مِن استلام أَعْدَاد الجريدة كما يُشير إليه محرِّرُها: (إنَّنا نَأْسَفُ غايةَ الأسف مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ بعضِ المصريين مِنْ أنّهم يمتنِعون عن استلام ما يُرسَل بأسمائهم مِنْ أَعْدَاد هذه الجريدة خوفاً ورهبةً، مع أنّهم أَحَقُّ الناس بالإقدام على أُمورٍ عِظام في هذه الأوقات. فإنّ الآمال في خَلاصِهِم قويةٌ، والوسائل إليه قريبةٌ، فكيف يَصِل ببعضِهم الخوفُ إلى الامتناع عَنِ استلام جريدةٍ هم أولى بها مِنْ غيرهم؛ إذْ أَهَمُّ ما فيها الدفاعُ عنْهم).

ونَجَحَ الانكليزُ في معركتهم ضدَّ العروة الوثقى، وبعد أنْ مُنِعَتْ مِنَ الدخول إلى الهند ومصر، لم تستطعْ الجريدةُ أنْ تصِلَ إلى قُرَّائِها المُشْتَاقِيْنَ، وتُبَلِّغَ رسالتَها.

٢٩

وفرضتْ هذه الظروف عليها التوقّف، فتوقَّفتْ نِهائِياً بعد صدور العدد الثامن عشر في ١٦/١٠/١٨٨٤م، ٢٦ ذي الحجة ١٣٠١هـ.

ولكنَّ المناضِلَين الأفغانيّ وعبده قالا: (لا يُعجِزُنا بَثُّ أفكارِنا في البلاد الشرقيّة، سواءً كان بهذه الجريدة أو بأيَّةِ وسيلةٍ أُخرى، إذا دعا الحال، فإنَّ أنصارَ الحق كثيرون).

يقول الأديبُ والعالِمُ اللبنانيُّ الشيخُ حسين الجسر (١٨٤٥ - ١٩٠٩) عَنْ تأثير العروة الوثقى: (إنّه ما كان أحدٌ لِيَشُكَّ في أنّ جريدةَ العروة الوثقى ستُحْدِثُ انقلاباً عظيماً في العالَمِ الإسلاميِّ، لو طَالَ عليها الزمانُ..) وكان الزعيمُ العراقيُّ سليمان الكيلاني يقول كُلَّمَا شَاهَدَ عدداً مِنْ أَعْدَادِهَا: (يُوْشَكُ أنْ تقعَ ثورةٌ مِنْ تأثير هذه الجريدة، قبل أنْ يجيء العدد الذي بعد هذا!).

٣٠

٣١

أَفْكَارُ الأفْغَانِيِّ تَعُمُّ الأُمّةَ

٣٢

٣٣

أَفْكَارُ الأفْغَانِيِّ تَعُمُّ الأُمَّةَ

في ١٨٨٦ غادر جمالُ الدين باريس إلى إيران، ومنها إلى روسيا، ثم إيران، ثم لندن، لحوالي العام.

وفي سنة ١٣٦٠هـ/ ١٨٩٢م عَادَ ثانيةً إلى اسطنبول، فَوَجَدَ حَظْوَةً كُبْرَى لدى السلطان عبدالحميد، الذي كان قد تولّى الحكم في سنة ١٨٧٦م، وكان قلِقَاً مهموماً، وهو يُدرِك خطر أُوروبّا على السلطنة التي صمدتْ وحمَتْ حدودَ الوطنِ لأكثر مِنْ ثلاثةِ قرونٍ، وقد جاء الزمنُ الذي طغتْ فيه سلبيّاتُ تكوينها على إيجابياته، فيما أُوروبا في أَوْجِ قوَّتها وصعودها، وأَنْظَارِهَا تكادُ تَلْتَهِمُ الدولةَ العثمانيّة بما فيها. كان عبد الحميد يُدرِك أنّ إنقاذه وإنقاذ البلاد لن يأتي إلاّ إذا استطاع أنْ يُعِيْدَ توحيدَ الأُمّةِ والبلاد حوله، توحيداً حقيقيّاً نهضويّاً، أكثر منه توحيداً سياسيّاً. وكان عبد الحميد يَعْرِفُ تأريخَ الأفغانيّ ونضالاته واتصالاته الوثيقة بِكُلِّ أجزاء الوطن الإسلاميّ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهكذا بدأتْ العلاقةُ القصيرة المُضْطَرِِبَة بينهما.

الأفغانيُّ مِنْ جِهَتِهِ كانَ مُنَاضِلاً واقعيّاً، يُدرِك ما في الدولة العثمانيّة مِنْ سلبياتٍ وعوامل تدهورٍ، وكان يَعْرِفُ أثرَ الإرث التأريخيّ لالتفاف الأُمّة حول سُلْطَانِهَا، وحتّى قبل أنْ تبدأ علاقتُه المباشِرة بـ(عبد الحميد) كان واضِحَاً في (العروة الوثقى) وهو يُبْدِي تأييدَه للسلطان ويدعو للالتفات حولَهُ، في الوقت الذي كان يُوَجِّهُ فيه الانتقاد لسلبيّاتِ الحُكْمِ وانحرافاتِهِ.

بِمُواجَهَةِ حاشِيَةِ السُلْطَانِ

وفي الآستانة بعد قليلٍ مِنْ وصوله، بدأتْ الأمورُ تتكشّفُ أمامه، كان عبد الله النديم الصحفيُّ والأديبُ والثائِرُ المصريّ قد سبقه، منفيّاً مِنْ مصر إلى

٣٤

الآستانة، وكان واحداً مِنْ تلاميذه في القاهرة، أَوْضَحَ لَهُ مِنَ البداية: أنَّ الأُمور لَنْ تكون بالسهولة التي يتصوّرها، وأَنَّ حاشية السلطان لا تَحمِلُ مِنَ الإخلاص لا اسماً ولا جوهراً، وإنّ مشاريعه لإعادة تشكيل النظام السياسيِّ للدولة، وآراءه في عَقْلَنَة الفكر، وطموحه حول توحيد الأُمّة، لنْ تَجِدَ أُذُنَاً صاغيةً، وإنْ وَجَدَتْ فلنْ تَجِدَ إرادةً فاعلةً.

كان عبد الحميد (طَيِّبَ القلب كثيرُ الأخطاء) وكان يَحْمِلُ على ظهره كلَّ الخوف، وسلبيّاتِ تُرَاثِ التآمُرِ في عاصمةِ دَوْلَتِهِ، في الوقت الذي كان فيه مؤمِنَاً واعِيَاً للأخطار، التي تهدِّدُ الدولة. كان يسْتمِع لجمال الدين مِنْ جانبٍ، ومِنْ الجانبِ الآخَرِ يَجِدُ العشراتِ مِنَ الداسِّين عليه، وعلى رأسهم أبو الهدى الصيّادي، الشيخ الصوفيّ السياسيّ، الذي كان شيخُ طريقةٍ، وقريباً مِنَ السلطان، ومِنْ أكبر أقطاب التآمُرِ في عاصمة الدولة العثمانيّة.

وشيئاً فشيئاً ورغم الجُهد الهائل الذي بَذَلَهُ الأفغاني في الآستانة، وعَبْر اتصالاته في الهند وإيران ومصر لتوحيد بلاد المسلمين، إلاّ أنّ آمالَه في إنجاز شيءٍ حقيقيٍّ بدأتْ في التلاشي، لم يكنْ حماسُهُ ولا إيمانُهُ ولا طاقتُهُ هي التي نفدتْ، ولكنّ تهاوي المرحلة كان أكبر مِنْ عزمِهِ وإيمانِهِ.

وفي العام ١٣١٥هـ/ ١٨٩٧م ماتَ الأفغانيُّ عن ٥٩ عاماً، بعد أنْ كانَ النِّسْرُ المُحَلِّقُ داخله قد ذَوَى مُنْهَكَاً تَعِبَاً. وقد أُثير الكثيرُ مِن الجَدَلِ حول وفاته، وقال البعضُ إنّه مَاتَ مَسْمُوْمَاً، ولكنّ ذلك لمْ يَعُد ذا أهميّةٍ كبيرةٍ الآنَ، فكيفيّة موته كانتْ مسألةً صغيرةً.. صغيرةً أمام قانون موته، الذي أوضح إلى أيّ درجةٍ، والى أيّ حدٍ كان مِن الصعب أنْ يُوْقِفَ الانهيار.

تُرَاثُهُ الفِكْرِيّ

لَمْ يتركْ الأفغانيُّ الكثيرَ مِنَ التراثِ المكتوبِ، وتكاد مصادره المعروفة اليوم تقتصِر على كتابه الأوّل: (تتمّة البيان في تأريخ الأفغان) وكتابه الثاني: (الرد

٣٥

على الدهريين)، مُذَاكَرَتُهُ التي أملاها على تلميذه محمّد المخزومي، والتي طُبِعَتْ بعنوان (تأمُّلات الأفغانيّ)، ثُمّ مقالاته في العروة الوثقى. ولكن ما سَجَّلَهُ الآخرون مِمَّنْ كانوا قريبين منه كان كافياً؛ لنتعرّف على طبيعة تفكيره، وكان مِنْ أهمّ هؤلاء ما كَتَبَهُ رشيد رضا، مُؤَرِّخَاً لمحمّد عبده، وناقلاً عنْه معرفته للأفغانيّ في كتابه (تأريخ الأُستاذ الإمام)، ولكنّ الدراسات والأبحاث حول الأفغانيّ لَمْ تتوقّفْ حتّى يومِنا هذا، وتكاد لا توجد وثيقةٌ حول حياته باقيةً ولم يتمّْ كشفها.

وفي الرد على الدهرِيين صوَّب الأفغانيّ نقداً قاسياً ضِدَّ أتْبَاع الفلسفة الطبيعيّة الانتقائية التي أخذ بها أحمد خان في الهند وكان قد التقاه فيها سنة ١٨٨٩، ولكنّ انتقاده كان أوسعَ مِنْ أحمد خان، فقد هاجم أيضا ديمقريطس وداروين، وأنكر عليهم إنكارهم لوجود الله تصريحاً أو تلميحاً.

وقد عَمَدَ إلى التدليل على الدَّوْر العظيم الذي لَعِبَهُ الدِّينُ في المَدنيّة والرُّقِيِّ الإنسانيّ. وقال الأفغانيّ: إنّ الدين عَلَمُ الإنسان، وأعطاه طبيعته الروحيّة التي جعلتْه أشرف المخلوقات، مِمّا أوصله إلى الترفُّعِ عَنِ الانقياد لميوله البَهِيْمِيَّةِ، والى العيش بسلامٍ مع أَقْرَانِهِ. وقال: إنّ الأُمّة الإسلاميّة قامتْ أصلاً على أُسُسٍ دينيةٍ وخُلُقِيَّةٍ راسخةٍ، إلاّ أنّ قيام الدهريّة (الفلسفة الطبيعية) في مصر وبلاد الفرس في القرن العاشر تحت سِتِارِ الإسماعيليّة، لَمْ تَلْبَثْ أَنْ قوَّضتْ أُسُسَ العقيدةِ، وزرعتْ بذورَ الشكِّ في نفوسِ المسلمين. وأكَّد على: (أنَّ فقدان الشكيْمة الخُلُقِيَّة لدى المسلمين كان أَهَمَّ الأسباب وراءَ الضعف الذي دَبَّ في نُفُوْسِهِم، فاستطاعتْ جماعةٌ مِنْ قَزَمِ الإفرنْج أنْ تَكْتَسِحَ بلادَهم وأنْ يُقيموا فيها).

وقد وجّه الأفغانيُّ كذلك مآخذَ حاسِمَةً إلى اتجاهات الفلسفة الأُوروبيّة في عصره، ابتداءً مِنْ العدميّة إلى الاجتماعيّة والاشتراكيّة. وقال إنّ هؤلاء (بِحُجَّةِ مساعدة الفقراء والضعفاء أرادوا إلغاءَ الامتيازاتِ الإنسانيَّةِ كافةً، وإباحة كلّ المُمْتَلَكَات).

٣٦

حِوَارٌ مَعَ المُسْتَشْرِقِيْنَ

وفي الردِّ على المُسْتَشْرِقِ الفرنسي أرنست رينان، عالج الأفغانيُّ النقطتين الرئيسيتين في محاضرة رينان العنصرية: الأُولى: إنّ الديانةَ الإسلاميّة كانتْ - بما لها مِنْ نشأةٍ خاصّةٍ - تُناهِضُ العِلْم. والثانية: إنّ العربَ أُمّةٌ غير صالحةٍ بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة، ولا للفلسفة.

قال الأفغانيُّ في مَقَالَتِهِ التي نشرتْها صحيفةُ (ديبا) الفرنسيّة في ١٩ آيار (مايو) سنة ١٨٨٣م: (فأمّا عَنِ النقطة الأُولى، فإنّ المرءَ لَيَتَساءل بعد أنْ يقرأَ المحاضرةَ عَنْ آخِرِهَا، أَصَدَرَ هذا الشر عَنِ الديانةِ الإسلاميّة نفسِهَا؟ أَمْ كان مَنْشَؤُهُ الصورةَ التي انتشرت بها الديانة الإسلاميّة في العالم؟ أَمْ أَنّ أخلاقَ الشعوبِ التي اعتنقتْ الإسلامَ وعاداتها ومَلَكَاتِهَا الطبيعيّة هي جميعاً مصدرُ ذلك؟ لا رَيْبَ إنّ قُصْرَ الوقتِ المُخَصَّصِ للـ(مسيو رينان) قد حال دون جلائه هذه النقطة.. فرؤساء الكنيسة الكاثوليكيّة المبجّلون لم يُلْقُوا أسلحتَهم بعد، كما أَعْلَمُ، وهم عاكِفُوْنَ على محاربة ما يسمّونه بالتدليس والضلال، (يعني العلم والفلسفة).

وقال عَنِ النقطة الثانية: (صحيحٌ، إنّ العرب أخذوا عن اليونان فلسفتَهم، كما أخذوا عَنِ الفرس ما اشتهروا به، بَيْدَ أنّ هذه العلوم التي أخذوها بحقِّ الفتح قد رَقَّوْهَا، ووسّعوا نطاقَها، ووضّحوها، ونسّقوها تنْسيقاً مَنْطِقِيّاً، وبَلَغُوا بها مَرْتَبَةً مِنَ الكمال، تدلُّ على سلامةِ الذوقِ، وتَنْطَوِي على التثبيت والدقّةِ النادِرَيْنِ، وقد كان الفرنسيون والانكليز والألمان لا يَبْعُدُوْنَ عن رُومَا وبيزنْطة بُعْدَ العرب عنها، وكان مِنَ السهل عليهم أنْ يستغلُّوا كنوزَ علومِ تلك المَدَنِيَّتَيْنِ، ولكنَّهم لم يفعلُوا، حتّى جاء اليومُ الذي ظهر فيه منارُ المدنيةِ العربيةِ على قمّةِ جبال البَرَانِس، يُرْسِلُ ضوءَه وبهاءَه على الغرب. فَأَحْسَنَ الأُوروبِّيُّون إذْ ذاك استقبال أرسطو، بعد أنْ تقمَّص الصورةَ العربيّةَ، وَلَمْ يكونوا يفكِّرون فيه وهو في ثوبه اليوناني، على مَقْرُبَةٍ مِنْهم).

٣٧

العِرَاكُ بَيْنَ الشَرْقِ وَالغَرْبِ

وفي حياةِ الأفغانيِّ تَصَاعَدَتْ الأطماعُ الاستعماريّةُ الأُوروبيّةُ في الشرق الإسلاميِّ، حيثُ: أُطلِقَ على الدولةِ العثمانيّةِ لقبُ (الرجل المريض) وأصبح مُصْطَلَحُ (المسألة الشرقيّة) إشارةً إلى التداول الدائر في العواصم الاستعماريّة، حول خططها واتفاقاتها ومشاريعها؛ للهيمنة على المنطقة. ولكنّ الأفغانيَّ كان يَفْهَمُ المسألةَ الشرقيّةَ فهماً آخر، كَتَبَ يقول: (مختصرُ المسألةِ الشرقيّةِ، هي العِراكُ بين الغربيِّ والشرقيِّ، وقد لَبَسَ كلٌّ مِنْهما لصاحبه دِرْعَاً مِنَ الدين..

إنّ فَتْحَ القسطنطينية، تلك العاصمة العَصْماء، مِنْ قِبَلِ السلطان محمّد الفاتِح، هي التي ولَّدَتْ الحِقْدَ في الملوك المسيحيين ضدّ المسلمين، وأخذتْ مِنْ ذلك الوقتَ، تُجَمِّع كيدَها وتَحْصُرُ هَمَّهَا؛ لمناصبة الدولة العثمانيّة، وتَعْمَلُ على إذْلالِها وضَعْضَعَتِهَا، وإخراجها مِن فتوحاتها الأوروبيّة بكلِّ وسيلةٍ، وفي كلِّ سانحةٍ وفرصةٍ.

والأكثر في الحروب والتغلُّب، والانتصار فيهما، إنّما يكون بالقوّة والعلم، ولو أنّ الدولةَ العثمانيّةَ رَاعَتْ مِنْ يوم تأسّسَتْ، أو مِنْ يوم ما استقلّتْ به سنة ٦٩٩، وراقبتْ حركاتِ العالَمِ الغربيِّ، وَجَرَتْ معه حيثما جرى في مِضْمَارِ المدنيّةِ والحضارةِ، وَقَرَنَتْ إلى فتوحاتِها المادِّيّة، القوّةَ العِلْمِيَّةَ، على نحو ما فعلتْ اليابان أقلَّهُ، لَمَا كان ثَمَّة مسألةٌ شرقيّةٌ، أو لَمَا ظَهَرَ ذلك التباينُ الذي لا يَثْبُتْ معه الحكمُ طويلاً، وهو تَحَكّمُ الجهلِ بالعِلم، أو حكوماتُ جهلٍ تحْكمُ حكوماتِ علمٍ، ولا يتسنّى اليوم للسيف المجرّد أنْ يحكمَ بأُمّةٍ، يدافِعُ عنْها مُدافِعُ العِلم).

الإسْلامُ وَالاسْتِعْمَارُ

وقال: (الْتَزَمَ الأتراكُ، والسلاطينُ العِظامُ مِنْهُم جانبَ الدين، وكان على مَنَصَّةِ المَشْيَخَةِ الإسلاميّة علماءٌ أَعْلامٌ، وفقهاءٌ، وأَجِلاّءٌ عالِمون عامِلون

٣٨

بحقيقةِ الإسلامِ وأَحْكَامِهِ، فعَدَلُوا في الرعيّة، وآمنوا مَنْ دَخَلَ في ذِمَّتِهم، وَسَهَّلُوا لَهُمْ الصِّعابَ، وحافظوا على جامِعَتِهم مِنْ دينٍ ولسانٍ وعادةٍ، فَرَضَخَ المُسْتَعْمَرُونَ (بالفتح) مِنْ الطوائف النصرانيّة؛ لقوّةِ العثمانيين وعدْلهم وعلْمهم بالنسبة لجهلِ غيرِهم في تلك الأَعْصُر.

فظلّ النصارى في طاعة العثمانيين، وظلُّوا في كلّ المعاني رعيةً لهم مادامتْ تلك المُؤَهِّلات والصفات في الفريقين، القوّة والعِلْم في الحاكِم، والضعف والجهل في المحكوم. حتى إذا انعكس الأمر وبَانَ الجهل مصدر الضعف في الأُمّة الحاكِمَة، وظهر العِلْم مصدرَ القوّة في الأُمم المحكومة، نهضتْ للتخلّص مِنْ رِبْقَة الاستعْباد لِمَنْ دونهم في العِلم، واسْتَبْسَلَتْ في الرجوع لِحُكْم ذاتها بذاتها. وقد سهّل عليهم كلّ صعبٍ في هذا السبيل، إقرار الدولة لهم على جامِعاتهم الكبرى، منْ دينٍ ولسانٍ وتأريخٍ، تلك النعمة التي كانتْ وتكون على الدولة أكبرَ نِقْمَةٍ، ولا مناصَ لها مِنْ تحمّل أعباء ذلك، وهي سُنَّةُ الوجود).

وكان جمال الدين كبير الاهتمام بالتدهْور والضعْف العام، الذي أصاب الدولة العثمانيّة وبلاد المسلمين، وقد أشار إلى سَبَبَيْن رَئِيْسِيِّيْن أَدَّيَا إلى ذلك الضعف: أوَّلهما: (لو أنّ الدولة قبلتْ مِنْ يوم استقلالها، وعمِلتْ بالفكرة مِنْ عهد السلطان محمّد الفاتِح، أو السلطان سليم، بأنْ يُتَّخَذ اللسان العربي وهو لسان الدين، لساناً رسميّاً، وتسعى بكل قوّتها وجُهدها لتعريب الأتْراك، لكانتْ في أمْنع قوةٍ وآمن حصنٍ مِنَ الانتقاص والخروج عَنْ سلطانهم، ولكنّها فعلتْ العكس، إذْ فكّرتْ بتتريك العرب، وما أَسْفَهَهَا سياسةً، وأسْقَمَهُ مِنْ رأي، لأَنْ تُدَيِّن الأتراك بالدين الإسلاميّ، على جهلٍ باللسان العربيّ، جعل لهم في القلوب منزلةً.. فما قولُك لو تعرَّبَتْ.. وزال داعي النفور والانقسام (بالتركي والعربي)..

٣٩

الحُرِّيَّات / الشُوْرَى

على أنّ دفاعه عَنِ الحرّيّات والشورى، ومشاركة جماهير الناس في الحُكم، وإدارة البلاد، كانتْ السِمَة التي طَغَتْ على كلِّ أفكارِ ودعوةِ الأفغانيّ، في كلّ البلاد التي طافها أو أقام بها. يَروي الأفغانيّ في خاطراته حواراً دارَ بينه وبين خديوي مصر إذْ قال الخديوي: (إنّني أُحب كلَّ خيرٍ للمصريين، ويسرّني أنْ أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجاتِ الرقيِّ والفلاح، ولكنّ أكثر الشعب خاملٌ جاهلٌ.. إنّ دروسكم وأقوالكم المهيجة ستؤدِّي بالشعب والبلاد في تَهْلُكَةٍ).

فردَّ الأفغانيّ بِأدبٍ: (لِيَسْمَحَ لي سموّ أمير البلاد أنْ أقول بِحُرِّيّةٍ وإخلاصٍ: إنّ الشعب المصري كسائر شعوب العالم لا يخلو مِنْ وجود الخامل والجاهل بين أفراده. ولكنّ هذا لا يمنع مِنْ وجود العالِم والعاقِل أيضا، فبالمِنْظار الذي تنظُرون به إلى الشعب المصريّ.. يُنْظَرُ به لِسُمُوّكُم!.. وإذا قبِلتُم نُصْحي وأسرعْتم؛ لإشراك الأُمّة في حُكم البلاد، فتأمرون بإجراء انتخاب نوّاب عَنِ الأُمّة تَسُنُّ القوانين.. فإنّ ذلك أثْبَت لعرشكم وأدْوَم لِسلطانكم).

وقد سأله شاه إيران غاضِبَاً: (أَيَصُحُّ أنْ أكون يا حضرة السيّد وأنا مَلِكُ ملوكِ الفرس كَأَحد أفراد الفلاّحين؟).

فردّ الأفغانيّ: (إعْلم يا حضرة الشاه، إنّ تاجك وعظمة سُلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأثْبَت مِمّا هي الآن. لا شكّ يا عظمةَ الشاه إنّك رأيتَ وقرأتَ عن أُمّةٍ استطاعت أنْ تعيش بدون أنْ يكون على رأسها مَلِكٌ، ولكنْ هل رأيْتَ مَلِكَاً عاش بدون أُمّةٍ ورعيّةٍ؟ ).

وفي كلّ لقاءاته بالسلطان عبد الحميد، كان جمال الدين يحثّه على فتح الأبواب مِن حوله، وتوثيق علاقته المباشرة بالناس، ويوضِّح له الصِلَة الوثيقة بين الشورى والقرآن، وحِكْمَة تنظيم أُمور البلاد على أساسٍ دستوريٍّ ثابتٍ.

(لا ريبَ لو تيسَّر ذلك لَكانَ إعادة عصر الرشيد للمسلمين ميسوراً. وجَمْعُ شِتات المَمَالِك الإسلاميّة - تحت لواء سلطانٍ عادلٍ هُمَامٍ، مثل الفاتِح أو السلطان

٤٠