جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله0%

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 64

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: سيد هادي خسروشاهي
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: الصفحات: 64
المشاهدات: 9087
تحميل: 5059

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 64 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9087 / تحميل: 5059
الحجم الحجم الحجم
جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سليمان، أو السلطان سليم - غيرُ عسيرٍ..).

وشَرَحَ السببَ الثاني الذي كان يراه لا يَقُل في تأثيره عَنِ الأوّل، بأنْ جُعِلَتْ القسطنطينية عاصمةً للدولة، وهي أرضٌ فُتِحَتْ حديثاً وليستْ في مركز الدولة و(لأنّ المُسْتَعْمَرَةَ مهما عَظُمَ موقِعُها وطاب هواؤُها، لا يصحُّ أنْ تُتَّخَذَ قاعدةً أو عاصمةً للمُلْك؛ لأسباب أهمّها: إنّ المُسْتَعْمَرة كالثوب العارية، قابل للاسترداد، والمَمَالك لا تسقط ولا تتبعثَر أجزاؤها إلاّ مِنْ ضعْف السلطان في عواصمها. ومنها: بُعْد المُستَعْمَرَة على الغالب عن مجموع القوّة، وإحاطتها بأعداء المَلِك وأعوانه..).

الرُؤْيَةُ السِيَاسِيَّةُ

ومع إدراكه لفوات الآوان في إصلاح ما سبق مِنْ أخطاءٍ، إلاّ أنّه كان يملك رؤيةً لتغيير واقع الحال، وكانتْ رؤيتُه تعتمِد على فَهْمِه التأريخيّ الواقعيّ والاجتماعي لبلاد المسلمين، وقد ذَكَرَ في تأمُّلاته التي أملاها على المخزوميّ: أنّه اقترح على السلطان عبد الحميد مباشرةً أنْ يعيد التشكيل الإداري للدولة العثمانيّة، مِنْ ولاياتٍ إلى خديويات؛ بحيث يصبح العراق وشمال الشام خديوية، والمثلّث الضامُّ لدمشق وبيروت حتّى القدس خديويّةً، والحجاز خديويّةً أُخرى.. الخ. بحيث تتمتّع هذه المناطق بما يشبه الإدارة الذاتيّة كما كانتْ الأُمور في مصر، قبل الاحتلال البريطاني. وكان الأفغانيّ يرى أنّ هذا الوضع سيُنْعِشُ الأوضاع في أجزاء الدولة ويَجعلُها أكثر قدرةً على التحرّك والنهوض، وإنّ ذلك في النهاية قد يدفع بإيران وأفغانستان إلى اللحاق بالاتحاديّة الإسلاميّة الناهِضَة.

ولكنّ عبد الحميد - كما يذكر الأفغانيّ - رَفَضَ الفكرة وأبدى عدمَ قناعتِهِ بها.

لا يمكننا - على الإطلاق - أنْ نقول، إنّ الأفغانيّ عاش حياةً، وترك رؤيةً،

٤١

صائِبَتَيْن بلا أخطاء، فقد كان مثله مثل كل عِظامِ التأريخ، أخذ قيمتَه مِنْ أنّ عموم مسيرتِه ورؤيته كانتْ صحيحةً إلى حدٍ كبيرٍ، وأنّه حاول حتّى الرمق الأخير أن يُحقِّق ما آمَنَ به.

لقد فَهِمَ الأفغانيّ جوهر الغرب الاستعماري، فقاتل ضدّه بصلابةٍ، في الهند ومصر واسطنبول وإيران، ومع الحركة المهديّة في السودان، وأدرك أهميّةَ وحدةِ الأُمّة مِنْ جديدٍ، فحمل رايةَ الوحدة في كلّ قُطرٍ حلّ به، وأمام كلّ حاكمٍ الْتَقَاهُ.

وأدرك سرّ التخلّف والتهاوي في العالم الإسلاميّ، ولذا فقد كان نقديّاً متقدِّماً وحضاريّاً مُبْدِعَاً. كان بلا شك مُدافِعاً صلباً عَنِ الحرّية، وعَنْ دور الشعوب في إدارة شؤونها.

أُسْتَاذُ الرُوَّاد

ويستطيع الباحِث اليوم أن ينظر إلى القرن الأخير من تأريخ أُمَّتِنا فيجد: أنّ جيلاً بأكمله مِنْ رُوّاد النهضة الإسلاميّة الحديثة، مِنْ محمّد عبده إلى عبد العزيز جاويش وعبد الله النديم ومصطفى كامل، كانوا جميعاً مِنْ تلاميذه، وأنّ الثورة العرابيّة في مصر، وثورة الدستور في إيران، كانت أثراً مِنْ آثاره، بل إنّنا نستطيع القول: إنّ النهضة الإسلاميّة المعاصِرة مِنْ إيران إلى أفغانستان إلى مصر، تنتمي جميعها إلى الأفغانيّ انتماءً شرعيّاً.

وفي أوراقه التي وُجِدَتْ بعد وفاته بسنين عديدةٍ، كَشَفَتْ بعض القصائد الشِعْريّة التي كَتَبَها جمال الدين ولمْ يهتم بنشرها في حياته وفي إحداها يقول:

(طغاةُ إيرانَ يَحْرِقونَ

مِنّي الجسدَ والروحَ

سأحْزِمُ أمتِعَتي وأرحلُ

صوبَ أرضِ تركيا

أرحلُ مُرْهَقَاً وحزيْناً وشَقِيّاً،

٤٢

طالِبَاً العدل

في مَحْكَمَةِ السلْطَانِ

فإنْ لمْ يُخفِّفْ السلطانُ

عنْ قلبي المُثْقَل

فَسَوْفَ أرحلُ

طالباً العدْل

فِي محْكمةِ اللهِ).

وقد مات السيّد جمال الدين وحيداً في اسطنبول مع نهاية القرن التاسع عشر، تَعِيساً بائِساً، وكأنّه ينظر إلى النهاية الآتية. كانتْ صَرَخَاتُه أكبر مِنْ أنْ يستجيب لها عصرُه ومُعاصِروه.. فذهبَ، وبعده بسنواتٍ قليلةٍ كانتْ الدولة العثمانيّة كلُّها تنْهار وتذْهبُ، وتَنْتهي بنهايتها مرحلة تأريخيّة بأكملها ولِيَحْتَدِم الصراع داخل الأُمّة بين عشرات المتناقِضَات وهي تتجهّز للمرحلة المقبِلة.

٤٣

الافْتِرَاءُ لِتَحْقِيْقِ الاحْتِوَاء

٤٤

٤٥

الافْتِرَاءُ لِتَحْقِيْقِ الاحْتِوَاء

هكذا كان السيّد الأفغانيّ: رجل الثورة الإسلاميّة، في كلِّ مكانٍ يزرعها، وفي كلِّ قلبٍ، له - مِنْ كلِّ حادثةٍ - عِبْرَةٌ، ومِنْ كلِّ وقتٍ مُنْطَلَقٌ، وفي كلّ ساحةٍ صراعٌ مريرٌ ضدّ عُتاة الأرض وطواغيت البشر، وكلّ مَنْ تجلَّى فيهم الكِبر والاعتداء.

لقد ركّز السيِّد الشهيد على مِحور المشكلة، التي كانتْ الأمّة تعانيها وتئِنُّ مِنْ آثارها، وما كان هذا المِحور إلاّ تشكيلاً مِنْ عُنْصُرَيْنِ، وربّما كان أحدهما عامِلاً في خَلْق الآخر:

هذان العنصران هما التحريفُ في التصوّر، والميوعةُ في الإحساس. وفي هاتَيْنِ النقْطَتَيْن كمَنْ سَرَّ الداءَ العِضال لهذه الأُمّة، مِمَّا أورثها ضعفاً هائلاً في الثقة بالنفس، وتَمْييعاً فظيعاً في المواقِف، وهزيمةً نفسيةً أمام الغزو المُعادِي.

ومِنْ هنا انطلق رَحِمَهُ اللهُ؛ لِيُعيد للأُمّة تصوّرها الصحيح عَنِ العقيدة، وعَنْ تلاحم العقيدة مع العمل، ويُحرِّك فيها الإحساس الثوري المتفاعِل مع العقيدة، والمُنْطَلَق على أساسها.

وتكفي نظرةٌ سريعةٌ على أقواله وأفعاله وكتاباته وخُططه؛ لِنَحكم بالتالي على الرجل بأنّه كان مُسَخِّرَاً حياته للقضاء على محور الداء في هذه الأمّة، واقفاً نفسه لتطويق آثار الداء، عاملاً على التوعية المطلوبة بهذه الآثار.

وفي هذا السبيل نسيَ السيِّد كلَّ انتسابٍ قَوْمِيٍّ أو عِرقيٍّ أو نَسَبِيٍّ أو أرضيٍّ؛ ليحقق امتداده العالمي، وثار على التقاليد البالية التي مَنَعَتْ رجلَ العِلم الديني مِنَ الخوض في غِمار السياسة ليَنْغَمِس كلِّيّاً في عالمها، باعتبارها أحد الميادين الرئيسيّة التي يجب أنْ يُجاهد فيها العلماء.

٤٦

وراح يُعْلِنُها بالتالي دعوةً كريمةً، وصرخةً مدوِّيةً تدعو إلى الإصلاح والوحدة، وهما مفهومان يتلاحمان في شخصيّته وسيرته ودعوته العالميّة..

فإذا انضمَّ لكلِّ هذا الوعي الإخلاصُ، فإنَّ مِنَ الطبيعيّ أنْ يتْبعَه التفاني والتضحية ونسيان الراحة، وكلُّ ما يَمُتُّ إليها، وحينئذ يأتي النصرُ الإلهي المؤزّر لعباده الصالحين.

وهكذا كان الأمر، وسرتْ النيران لِتعصفَ بالعروش في إيران وتركيا ومصر، وهكذا تساقطتْ العروش الكرتونية التي حملتْ في أَمْخاخِها العمالةَ والاستكبار، ومشتْ دعوةُ جمال الدين في الأفئدة الحُرَّة؛ لتصوغ مُصْلِحِين مِن أمثال محمّد عبده، هذا الرجل العظيم الذي خَلَّدَ أُستاذه في كتاباته وأعماله معاً.

ومضى الزعيم المسلم إلى ربّه بعد أنْ غرس الروح الثوريّة في مُجْمَل الحياة الإسلاميّة؛ لتفرّع بعد ذلك بما يحقق أهدافه السامِيَة.

وظنّ الاستعمار أنّه ماتَ وماتتْ معه أفكارُه، وربّما ظنَّ أنّه يستطيع أنْ يُسَخِّرَ شخصيتَه لتغطية بعض عملياته هو، وراح يزرع عملاءَه هنا وهناك آمناً.

إلاّ أنّه فوجِيءَ بَعد مُدَّةٍ بالعملاق الإسلاميّ يتحرّك فيَهُزّ الأرض تحت أقدام العملاء، بل وينْطلِق مِنْ أرضٍ كان يعتبرها جزيرة الأمان، مِنْ إيران الثورة، فإذا بأكبر قلعةٍ استعماريةٍ تهتزُّ، وأعْتَى مُتكبِّرٍ يسقط بكلّ حقارةٍ، في قمامة التأريخ.

وقد لاحظ أنّ هذه الثورة المباركة تَحْمِلُ ملامحَ واضحةً، تتشابه مع ملامح شخصيّة الأفغانيّ، ولكنْ بشكلٍ أروع وأجلى وأبعد تأثيراً.

إنّها ثورةٌ دينيةٌ يقودها رجل العِلم الديني، وتَشْعَلُها الجماهير المسلمة، معلنةً لزوم عودة التصوّر الصحيح إلى العالَم الإسلاميّ كلِّه، وضرورة بَعْث الحماس الإسلاميّ في كلّ قطّاعاته وذلك لاستعادة الأمجاد الإسلاميّة

٤٧

الكبرى.

وتستجيب الجماهير الإسلاميّة في كلّ مكانٍ لهذه الانْطلاقة، وتتفاعل معها مِمّا أفْقَدَهُ رشده وصوابه.

إلاّ أنّه بعد أنْ استعاد صوابه راح يخطّط لضرب الثورة في الصميم، ومُذْ فَشِلَتْ مخططاته لضرب الثورة راح يضرب تأثيرها، ويحاول الفصل بينها وبين جماهيرها بشتى الأساليب التشويهيّة.

وكان ضَرْبُ الأفغانيّ الثائر جزءاً مِنَ الخطّة؛ لتحقيق الأهداف الاستعماريّة، وذلك على يد العملاء الصليبيين والرجعيين والمغفّلين المتعصِّبين.

وعدنا نَسْمَعُ عَنِ الرجل كلَّ التُّهَمِ تُكال كيلاً، حتّى ولو كانتْ في إطار ما يسمّى بالتحقيقات العلميّة الموضوعيّة. فإذا بالأفغانيّ البطل المُتفاني يتحوّل إلى بابِيّ، رافضِيّ، بهائِيّ، ماسونِيّ، رَجعِيّ، قومِيّ، مُهادِن للعملاء، يُحِبُّ الشهرة، والمغامرة. بل راحتْ تَتَّهِم الشيخ محمّد عبده بأنّه كان يعلم الكثير عَنْ أُستاذه، إلاّ أنّه أخفاه تقيةً!!

وهكذا نُسِيَتْ كلُّ مواقفه الرائعة في إيقاظ الشعوب والأُمّة الإسلامية، وأعرض هؤلاء عَنِ الشهادات والأوسِمَةِ الحقيقيّةِ التي حملتْها هذه الشخصيةُ الرائعةُ، وعَنِ الآثار العلميّة والسياسيّة والحَماسيّة التي تَرَكَهَا نوراً يَضِيْءُ الدربَ للأجيال، وعَنِ الزهد الذي طبع مُجْمَل حياته.

كلُّ هذه الحقائق التي لا ريبَ فيها نُسِيَتْ في سبيل تحقيق تلك المآربَ الرخيصةِ.

قِصَّةُ الحَمْلَةِ المَسْعُوْرَةِ

أمَّا كيفَ بَدَأَتْ الحملةُ الإعلاميّة لتشويه صورة الأفغانيّ؟ وكيف جرى الإعداد لها؟ فهو ما كشفتْه مصادرُنا مِنْ خِلال وثيقةٍ مدوَّنةٍ، ونُورِدُ مُلَخَّصاً

٤٨

مِنْها كما جاءت في مجلّة (الشهيد) الإسلاميّة مع بعض التصرُّف:

إنّه قرار المخابرات الأميركيّة.. الذي تُنَفِّذَهُ الأنظِمةُ الرجعيّةُ بأموال شعوبهم المنهوبة التي يشترون بها الصحفيين والمزوِّرين. والهدف (إسقاط شخصيّة السيّد المجاهِد جمال الدين الحُسيْني)، المعروف بالأفغاني.. وبالتالي إسقاط اعتبار الحركة الإسلاميّة المتصاعِدة، الذي يُعْتَبَر السيّد المُجاهِد أحد رموزها ومُلْهِمِيْهَا..

ورغم اعتقادنا أنّ السيّد المجاهِد في قلوب الناس بجهاده وتأريخه الرائع.. إلاّ أنّنا نخوض في بعض تفاصيل هذه الحملة؛ لكي تَنْكشِف لنا - وبصورةٍ أوضح - حقيقةُ دور الأنظِمة الرجعيّة الحاقِدَة على الإسلام وقادته الرساليين.. وهذه إحدى جرائم هذه الأنظمة الرجعيّة التي لا تَقُلُّ بشاعةً عَنْ جرائمهم الأُخرى، ضدّ شعوبهم المظلومة.

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وتنامِي الوَعي الإسلاميّ واتساع الصحوة الإسلاميّة في العالَم، أخذتْ أقلامٌ خَبِيْثةٌ ورخيصةٌ تصبُّ كلَّ جهودها، في إطار كَيْل التهم والافتراءات على ماضي الشخصيّة الإسلاميّة الفذّة، الشهيد السيّد جمال الدين الأفغانيّ.

وطبعاً تأتي هذه الاتهامات على صَفَحَاتِ مَجلَّةٍ أو كتابٍ يُسَبِّح بحمد طاغوتٍ أو دكتاتورٍ مُلْحِدٍ!...

فمَجَلَّتَي (التضامن) و(المجلّة) الناطِقَتان بالعربيّة، تتولَّيان هذه الحملة المُزجاة ضدّ شخصيّةِ المفكِّر الإسلاميّ الشهيد جمال الدين الحسينيّ، فقد فوَّضَتْ أقلامُ عملاءِ الملوك والسلاطين؛ كَي يَبُتَّ في سيرةِ السيّد الحسينيّ..

وكاتب البحث أو المجلّة كان أكثر خُبْثَاً في اختيار عنوان البحث.. إذْ ابتدأ في عَنْوَنَةِ البحث بعبارة (إيرانيٌّ غامِضٌ في مِصر) أو (المجلّة تَفْتَتِح ملفَّ الأفغانيّ) وهذه العبارة يَشِيْع استخدامها في أزقَّة المحاكِم وعلى الملفَّات القضائيّة، فهو يحاول أنْ يَنْتَقِل بالقارئ المُسْلِمِ عموماً إلى صُلْبِ

٤٩

بحثه، ولكنّه يريد أنْ يوقِفَه على باب البحث المكتوب فوقها (المجلّة تَفْتَتِح ملفَّ الأفغانيّ) و(إيرانيٌّ غامِضٌ)؛ ليشعره - لا أقل - أنّه مَدْعُوٌّ للدخول إلى قاعة محكمةِ رَجُلٍ غامِضٍ! والمُتَّهَم فيها هو سيرة وأفكار السيِّد جمال الدين الحسينيّ..

إذن فالباحث - مُنْذُ البداية - لا نستطيع أنْ نَتَعَهَّدَ فيه الصدق والأمانة والنيّة الخالِصَة في نَقْل مشاهِدَ عَنْ حياة السيّد الحسينيّ، وحتّى في رَدِّه على بعض مقتطفاتٍ مِنَ الكُتُبِ والبحوث التي كان يستعرضها، لم يقصد القربة إلى الله والدفاع عن السيّد الجليل، بل لأنّ الوقائع الموجودةَ تخالِفُ ما جاء في تلك الكُتُبِ والبحوث، فهو لا يريد أنْ يقبل بها بِكُلِّ علاقتها؛ كي لا يضع نفسه موضع الاتِّهام، بأنّه يَنْسَاقُ مع ما ذَهَبَ إليه أعداء السيّد الحسينيّ في كتاباتهم..

والبحث الذي قَدَّمَتْهُ المَجَلَّتَانِ على حلقاتٍ، وَتَبِعَهُ بعد ذلك عددٌ مِنَ التعليقات والتعقيبات.. في الحقيقة لا نستطيع أبداً أنْ نعتبره بحثاً، فهو عبارةٌ عَنْ إعادة الحياة في وثائقَ وكُتُبٍ نُشِرَتْ في العام ١٩٦٣ وما تلاه..

فالمَجَلّتَانِ أرادَتَا أنْ تَعْبَثَا بسيرة السيّد الحسينيّ، إنّما عَبْر تسليط الأضواء على كتابٍ نَشَرَتْهُ جامعةُ طهران العام ١٩٦٣، وعَبْرَ استعراض مُجْمَل ما كُتِبَ عَنِ السيِّد الحسينيّ، وكلُّ هذه الكتابات - كما تقول المَجلَّتَان - كُتِبَتْ بعد ظهور الكِتَاب الآنِفِ الذِكْر المَوْسُوْمِ بـ (مجموعة إسناد ومدارك چاب نشده درباره سيد جمال الدين مشهور به أفغاني) وترجمته بالعربية (مجموعةُ وثائقٍ غيرُ مَنْشُوْرَةٍ تتعلَّقُ بالسيِّد جمال الدين المشهور بالأفغانيّ).

والكتاب - مِنْ عنوانه - يطرح نفسه على أنّه مجموعة وثائق تخصُّ السيِّد الحُسينيّ.. أمّا الحقيقة، فإنّ الوثائق ما هي إلاّ افتراءات.

فعمليّة الطعن بسيرة السيِّد الحُسَيْنِي حين صَدَرَ الكتاب كانَتْ عمليةً

٥٠

مقصودةً، يمكن تِبْيَانَهَا مِنْ خِلال النقاط التالية..

١ - تأريخ صدور الكتاب في العام ١٩٦٣، يكفي لأنْ يوضِحَ حقيقةَ كِذْبِ الوثائقَ، فعام ١٩٦٣ شَهَدَ غَلَيَاناً إسلاميّاً داخل إيران، أعقبه انتفاضةٌ إسلاميّةٌ عارِمَةٌ، قادَتْها الحوزةُ العلميةُ في قم بقيادة الإمام الخميني، وكانتْ نتائج الانتفاضة - التي سُمِّيَتْ بانتفاضة ١٥ خرداد (حزيران - يونيو) - تقديم خمسة عشر ألف شهيد وعشرات الآلاف مِنَ الجرحى والمُعْتَقَلِين، أمّا إفرازاتها: فإنّها ثبّتَتْ الخطَّ الإسلامي في قاموس نهضة الشعب الإيراني المُسْلِم، ضدّ حكم الشاه..

وكانتْ الانتفاضة الإسلاميّة هذه امتداداً لثورة الدستور وثورة التنباك، الذي كان السيِّد الحسينيّ واحداً مِنْ قياداتِها البارزين..

ولمّا كانتْ ثورة التنباك وثورة الدستور تُغَذِّي في الشعب الإيراني روحَ الثورة والنهوض خصوصاً بعد أحداث انتفاضة ١٥ خرداد (حزيران - يونيو)، ولمّا كان السيّد جمال الدين الحسينيّ في مقدِّمة تلك الثورات - وبالتالي فهو أحد مُلْهِمِي الانتفاضة الحاليّة وجذورها -.. عَمَدَتْ حكومةُ الشاه محمّد رضا إلى إصدار الكتاب المذكور؛ كي تَرمي بذلك عِدَّة أهداف بِحَجَرٍ.. فتشويه سُمْعَة السيّد الحُسينيّ يعني إلحاق التشويه بسُمْعَة ثورتَي التنباك والدستور، ويكون الهدف الآخر الأكثر مراداً هو تشويه قيادة الإمام الخميني، وانتفاضة ١٥ خرداد (حزيران - يونيو) التي هي قيادة السيّد الحسينيّ وثورتا التنباك والدستور.

٢ - إنّ كلّ الكِتَابات التي كَتَبَهَا كُتّابٌ إيرانيون ومستشرِقون، جاءتْ بعد إصدار حكومة الشاه لهذا الكِتَاب أو (الوثائق!)، بالإضافة أنّ كلّ هذه الكتابات اسْتَنَدَتْ إلى الكِتَاب المَعْني..

فهنا يأتي الشكُّ، أين كانتْ الوثائق أوّلاً قبل العام ١٩٦٣ ولماذا الآن؟ أين كانتْ كتابات المستشرِقين والكُتَّاب الإيرانيين الآخرين ولماذا بعد

٥١

١٩٦٣؟!. لماذا الاستناد إلى كِتَاب (مجموعة وثائق غير منشورة) فقط مِنْ دون الاستعانة بكُتُبٍ وبحوثٍ أُخرى لِكُتَّاب آخرين؟ أو حتّى كتابات ومقالات السيّد الحسينيّ ذاته؟!

إذنْ.. فالعمليّة كانتْ مُدبَّرة ومستهدَفة، وإلاّ ليس مِنْ محض الصُدفة أنْ تصدر كلُّ الكتب المستنِدَة إلى الكِتاب المعني بعد عام ١٩٦٣، وكلّ كاتب مِنْ هؤلاء يأخذ أيّ وثيقةٍ ليجعلها رأسمال للطعن بالسيّد الجليل، حتّى مِنْ دون تحكيم العقل أو لغةِ الكِتِابِ والبحث، في وقتٍ هناك بحوثٌ وكُتُبٌ صادرةٌ قبل ١٩٦٣ لا تأتي بما أتى به ذلك الكِتاب!

المجلّتان جاءَتَا لِتَنْضَمَّا في صفوف أمثال هؤلاء الكُتّاب، مستفيدة مِنَ الكِتَاب المذكور؛ لتسيء إلى سمعة السيّد الحسينيّ، ولتزيد في إثبات ما هو منفي!، وانتقتْ مِنَ الوثائق في حياة السيّد الحسينيّ الذاتيّة، فكيف بحياته السياسيّة؟! وحتّى مِنْ دون مراعاة لشعور المسلمين الذين يَمُجُّونَ مثل هذه الافتراءات البعيدة عَنِ الواقع.. ولكنّها الحملة المسعورة ضدّ السيِّد الجليل التي يغيب عندها الضمير الحيُّ!!

حينما تقرأ دراسة المجلّتان، أو قُلْ استنساخ ما جاء في كِتاب جامعة طهران وكِتاب (نيكي كدي) الأميركية، ترى أنّهما تُحاوِلان أنْ تقولا للمسلمين: إنّ السيّد جمال الدين الحسيني لمْ يكنْ إلاّ أُلْعُوبة بِيَد السلاطين والملوك.. ولم يكنْ يَمْلِك مِنْ أمره وإرادته شيئاً..

في الواقع إنّ السيّد الحسينيّ كانتْ له عِدّة علاقات مع هؤلاء السلاطين، ولكنّ علاقته كانتْ في نِطاق إسداء النُصح لهؤلاء السلاطين.. وحينما يَصدر مِنْهُم الانحراف يقف بوجههم لِيُقَوِّمَ ذلك الانحراف، وعندما لا يُذْعِنُ السلطان لذلك، يأخذ السيّد الحسينيّ بفضحه، وبعض هذه العلاقات كان السيّد الحسينيّ يرتجي مِنْ ورائه خدمةَ الإسلام، كَطَلَبِهِ مِنَ المسلمين مؤازرة سلطان الآستانة في تركيا ضدّ

٥٢

المؤامرات الانكليزيّة، إذْ ما دام الخطر قادماً مِنَ الخارج وعلى يد قوّاتٍ صليبيّةٍ، ترمي مِنْ احتلالها للدول الإسلاميّة ضربَ الإسلام. فإنّ الموقف يتطلّب كما كان يرى السيّد الحسينيّ: أنْ لا يَتْرُك المسلمون نصرةَ سلطان الآستانة لِئَلاّ تقع الأُمّةُ الإسلاميّة أسيرةَ الاستعمار والصليبيّة.

ولم يكنْ عَمَل السيّد هذا بِمَنْقَصَةٍ، إنّما كان الإسلام في خطرٍ، وهذا الموقف يذكِّرُنَا بمَوقِف المرجعيّة الإسلاميّة في العراق عندما طلبتْ مِنَ المسلمين أنْ يَنْضَمُّوا ضِمْنَ صفوف القوّات المُسلّحة العثمانيّة ضدّ قوّات الغزو الاستعماري البريطاني، فالخطر على الإسلام كان داهِمَاً..

أمّا عمله السياسيّ الجادّ ضدّ الاستعمار البريطاني في مصر، فإنّ المجلّتين تُحاوِلان أنْ تُسْدِلا سِتاراً كثيفاً عليه مِنْ خلال نقل مقتطفاتٍ مِنْ كِتابٍ، مِنْ تأليف كاتبةٍ إيرانيةٍ وكاتبةٍ أميركية، اسْتَنَدَتَا على كِتابِ ما سُمِّيَ بالوثائق، وبحث لكاتبٍ مصريٍّ حاقِدٍ على الإسلام والمسلمين فكيف بالسيّد الحسينيّ؟!

فالكاتبتان تقولان: (يُخْطِيءُ المرءُ إذا أراد أنْ يَنْسُبَ إلى جمال الدين مَذْهَبَاً، وإنّ فيه عقيدةً متجانِسَةً..) ورغم هذا التحامُل الشديد على السيّد الجليل والتقليل مِنْ شأْنه، بحيث اتَّهَمَتَاهُ بالعِلْمانيّة والتعامل مع الانجليز، وصِلَتِهِ بحركته البابيّة المُنَافِيَة لعقائد المسلمين، فإنّ كاتب البحث في (المجلّة) مثلاً يأتي ويُثَمِّنُ جهودَهما فيَكْتُبُ: (ومع أنّ المُؤَلِّفَةَ لم تطَّلِع على كتابات الأفغانيّ في الصحف المصريّة، واكتفتْ بما كُتِبَ عنه بالعربيّة، ومع أنّها أيضا أوجزتْ الفصلَ الخاصَّ بآرائه وفِكره، واعتمدتْ على كتاباته الفارسيّة والفرنسيّة أساساً، فكِتَابَهَا يُقَدِّمُ دراسةً موضوعيّةً حتّى لو اختلفْنا معها كثيراً)!!.. وأيَّةُ موضوعيّةٍ هذه إذا كانتْ مَرَاجِعُ كِتَابِها وثائقَ مبتورةً، حِيْكَتْ في أرْوِقَةِ وكالة المخابرات؟!

ولكي يزيد كاتب (المجلّة) في طعْن السيّد الحسينيّ ينقل عَنْ ذلك

٥٣

الكاتبُ الصليبيّ الأميركيّ الجنسيّة قولَه في الحسينيّ: (وأهمّ مِنْ كلِّ هذا أَنّه بنى لنفسه،وبُنِيَتْ له في مصر أُسطورة حتّى غدا الناس في مصر يقدِّسونه دون أنْ يقرأوا له،ويضعونه فوق مستوى النقد..) ولكنّ الشمس لا يضيرها أبداً سحابةٌ كثيفةٌ، فالعين لا يمكِن لها أنْ تُنْكِر وجودها.. والسيّدُ الحسينيُّ الشمسُ التي تحاوِل بعضُ الكتابات العائِمة أنْ تُغيِّبها.. إلاّ أنّ الشمس أقدر على إذابة هذه السحابات الداكِنة..

لقد أعار السيّد الحسينيّ لله وللشعب المصري المُسْلِم نفسَه ووقته وجُمْجُمَتَه، إذْ لم يرتَح له بالٌ، وهو يحس بأَقْدَام الاستعمار البريطاني توغِلُ في صدرِه، فانطلق يُحَرِّضُ الشعب المصريّ المُسْلِم على الثورة والانتفاضة ضدّ الاستعمار البريطاني، فراح يُنادي في أهل مصر.. (فيا أيُّها المصريّون: هذه دياركم وأموالكم وأعراضكم وعقائد دينكم وأخلاقكم وشريعتكم، قَبَضَ العدوُّ على زِمامِ التصرّف فيها غيلةً واختلاساً، زَحَفَ العدوُّ إليكم تحت راية المحبّة، ثم قلب لكم ظهرَ المُجَن، وتناول بيده الظالمة شؤونكم العامّة، مِنْ عسكريةٍ وماليّةٍ وإدارةٍ وقضاءٍ، ولم يبقَ لكم شيئاً إلاّ الحرمان مِنْ خدمة أوطانكم، وأنتم أحقُّ بها وطالما دافعْتُم عنها في الأيّام السابقة..).

وفي المقال الافتتاحي، لأوّلِ عددٍ مِنْ جريدة (العروة الوثقى)، يصوِّر جمالُ الدين حادثَ الاحتلال البريطاني لمصر على أنّه كارثةٌ على العالم الإسلاميّ، وقد أهاب المسلمين - بباعِثٍ مِنْ دينهم - أنْ يتكاتفوا؛ لدفع بلاء هذا الاحتلال..

يقول:

(.. إنّ الخطر الذي أَلَمَّ بمصر، نفرتْ له أحشاء المسلمين، وانْكَلَمَتْ به قلوبهم، ولا تزال الأُمّة تَسْتَفِزَّهُم مادام الجرح نقّاراً، وما هذا بغريب على المسلمين، فإنّ رابطتهم المِلِّيَّة أقوى مِنْ رابطة الجنس واللغة، ومادام القرآن يُتْلَى بينهم، وفي آياته ما لا يذهب على إفهام قارئه، فلنْ يستطيعَ الدهر أنْ يَذُلَّهُم..).

٥٤

وما يُضْحِكُ؛ أنْ تَتَّهِم المجلّةُ السيِّدَ الحسينيّ باستلام أموال مِنَ الحكومة الفرنسيّة، فإذا كان السيّد غايتُهُ المالُ، لَمَا احتاج لأنْ يُجْهِد نفسَه، ويَدخُل في طُرُق وَعِرَة وشائِكة مِنْ أجل خدمة المسلمين، ولَمَا احتاج إلى أنْ يُعَرِّضَ نفسَه للهجرة أو الإهانة مِنْ قِبَلِ أزلام الأنظِمة الحاكِمة،كما حدث له في إيران، عندما هاجَمَهُ خمسمائة مِنَ المسلمين وأخذوه جَرّاً على الرغم مِنْ مرضه الشديد، حتّى قال جمالُ الدين الحسينيّ في ذلك:

(كيف يُهَان هذا الهوان وهو الرفيعُ النَسَبِ، العزيزُ الحَسَبِ، العظيمُ الجاه، العالي المَنْزِلَة في دينِه وشرفِه وعقلِه، ورغبته في الخير؟ كيف يرجوه الشاه أنْ يأتي بَلَدَه وَيَعِدَهُ أنْ يُنَفِّذَ إصلاحه، ويُعْلِي كلمته، ثم يعاملُهُ معاملةً، العبد يُطْرَد، والذليل يُصْفَع، والحقير يُهَان؟).

ولكي تقول الهجمة الشرِسَة التي يقودها العملاء عبرَ مجلّة (المجلّة) و(التضامُن) وغيرهما، ضدّ السيِّد الحسينيّ: (بأنّه ماسونيّ). فإنّ كاتب البحث لكي لا يربط الحديث به، يذهب إلى أحد الكُتّاب الموجودين، الذي أخذ عَنْ كتاب (مجموعة وثائق..) فيقتبس منه العبارة التالية:

(وفي مصر أيضا جَرَّتْهُ - الحسينيّ - تطوّرات الأحداث وتَغَلْغُلُ الأجانب في آخر عصر إسماعيل إلى النزول في مَعْمَعَتِهَا، فَنَشَطَ في المَحافِل الماسونيّة..).

قبل كلّ شيء لا بُدّ أنْ نعرف ماذا تعني الماسونيّة؟

الماسونيّة: تَرْتَكِزُ على ثلاث ركائز كما يزعم أصحابها، والركائز هي: حُرِّيّةٌ. مساواةٌ. آخاءٌ، ولكنّ في الواقع هي بعيدة عَنْ ذلك و(الجمعيّات الماسونيّة، أو التنظيم الماسونيّ، هو مِنْ أدقِّ وأعْقَد الأساليب الخفيّة المُسْتَتِرَة في استقطاب حركة المجتمعات وتوجيهها).

وقد عُرِفَ عَنْ التنظيمات الماسونيّة أنّها ضِدّ الإسلام الحنيف، وضِدَّ كلّ شيءٍ يَتَّصِف بالخير، وما شعاراتهم إلاّ لَذَرّ الرماد في العيون، وهي

٥٥

يافطة يرفعونها؛ لإغواء مَنْ يروم الخير والسعادة البشريّة، وأيضا يافطة لتشويش الرؤية والبصيرة على الآخرين، والتنظيمات الماسونيّة عدوّةُ الإنسانيّة، وتُحرِّكها الدوائر الصهيونيّة الامبرياليّة؛ لتحكيم سيطرة الاستكبار العالمي على المستضعَفين والمحرومين.

نعم إنّ السيّد تعرّف على الماسونيّة حينما كانتْ دوائر النظام الملكي، والاستكبار العالمي والدوائر الصهيونيّة، تتلبّس لباس الخير والإصلاح، وعندما لَمِسَ مِنْ أوّل وَهْلَةٍ أنّها معاديةٌ لمصالح الشعب المصري المسلِم، أخذ يُعَرِّيْهَا ويوضِّح للشعب المصري المسلِم حقيقتَها الهدّامة المناصِرَة للنظام الحاكم، فيذكر السيّد الحسينيّ بهذا الخصوص ما يلي:

(أوّل ما شوّقني للعمل في (بناية الأُمراء) عنوانٌ كبيرٌ خطيرٌ: حريةٌ، مساواةٌ، إخاءٌ. وإنّ غَرَضَهَا (منفعة الإنسان/ سعي وراء دكّ صروح الظلم/ تشييد معالم العدل المطلق) ولكنْ كنتُ انتظر أنْ أسمع وأرى في مصر كلّ غريبةٍ وعجيبةٍ، ولكنْ ما كنتُ لأتخيّل أنّ الجبن يمكنه أنْ يَدخُل مِنْ بين اسطوانتي المحافِل الماسونيّة!، إذا لم تتدخّل الماسونيّة في سياسة الكون، وفيها كلّ بناءٍ حرٍّ، وإذا كانتْ آلات البِنَاء التي بيدها لا تُسْتَعْمَل لهدم القديم، وتشييد معالم حرِّيَّةٍ صحيحةٍ، وآخاء مساواةٍ، وإذا كانتْ لا تَدَكُّ صروح الظلم والعتوِّ والجَور، فلا حملتْ يد الأحرار مِطرقةً، ولا قامتْ لبنايتهم زاويةٌ قائمةٌ).

هذه العبارات الصادقة التي توضِّح حقيقة السيّد جمال الحسينيّ وموقفه الحازم مِن المحافل الماسونيّة، تتغافى عنها الأقلام المحمومة، وما همّها سوى قذف السيّد بأباطيلَ محبوكةً.

وأخيراً حينما نتساءل عمَّن روّج لهذه التُرّهات فإنّنَا سنجد في طليعتهم عميلاً صليبيّاً - هو لويس عوض - بطل الغارة على التراث الإسلاميّ الأصيل، وحامل كلّ ما يمثّل النفوذ الثقافي الغربيّ، إلى الجسم العربي.

٥٦

لمعرفة حقيقة الرجل راجع الصورة التالية عَنْ نَصِّ استقالته مِنْ حزب الوفد، حيث يُصرّح بأنّ (الله ليس مصدر السلطات)!.

نَصُّ الاسْتِقَالَة

السيِّد الأُستاذ فؤاد سراج الدين

رئيس حزب الوفد الجديد

تحيةً طيبةً وبعد، فأتشرّف بإبلاغكم أنّي انْضَمَمْتُ إلى (الوفد الجديد) عند تأسيسه في ١٩٧٨، اعتقاداً منّي بأنّ الوفد الجديد قائمٌ على أُسس الديمقراطيّة العِلْمَانيّة التي قام عليها الوفد القديم منذ ١٩١٩.

هذه الأُسس، في اختصارٍ شديدٍ ودونَ لفٍ أو دورانٍ، هي أنّ (الأُمّة مصدر السلطات)، لا أنّ الله مصدر السلطات، وبالتالي فإنّ شؤون البشر تُنَظِّمُها دساتيرُ وقوانينُ وضْعيّةٌ، مِنْ صُنْعِ البشر بالحقّ الطبيعيّ بحسب تطوّر المجتمعات، لا دساتير وقوانين إلهيةٌ واجبةُ النفاذ، في كل زمانٍ ومكانٍ بالحق الإلهي، ولا يجوز تعديلها بأغلبيّة ثُلْثَي الأعضاء، أو بأغلبيّة النصف زائدَ واحدٍ.

وقد فوْجِئْتُ في الفترة الأخيرة بتصريحاتٍ على مستوى القِمّة في قيادة حزب الوفد الجديد، تُعلِن رفض الحزب للعلمانيّة التي أُؤْمِنُ بها أساساً للعقد الاجتماعي، بما أقنعني بأنّ (الوفد الجديد) الذي تشرّفتُ بالانضمام إليه في ١٩٧٨ يختلف اختلافاً جوهريّاً عَنِ الوفد الذي أَسَّسَهُ سعد زغلول، وقاده مصطفى النحّاس في فترة ما بين الثورتَين.

وبناءً عليه، فقد قرَّرْتُ مع الأسف الشديد الاستقالة مِنْ عضويّة حزب (الوفد الجديد)، مُتمنِّيَا أنْ تُثْبِتَ الأيّامُ خطأَ مخاوفي وتقديراتي، وأنْ يتمكّنْ الحزب تحت قيادتكم الرشيدة مِنَ المشاركة في بناء الوطنيّة المصريّة والديمقراطيّة المصريّة في ظِلّ سياسته الجديدة.

وتفضّلوا بقبولِ وافرِ احترامي وتمنِّياتي

(د. لويس عوض)

٥٧

ولكي تكتمِل المسرحيّة، فقد أوعزتْ الرجعيّةُ العربيّة بِنَقْدِ كتابات عوض، - هذا طبعاً مع كيل المديح له، وردِّ كلِّ الاعتراضات الأُخرى عليه - ونَقْده أحياناً، وبالتالي إرجاع الجميع إلى ما أُسْمِيَ بالوثائقَ التي شجّع نظامُ الشاه على نشرها مِن قِبَل جامعة طهران، في السنة نفسِها التي ثارَ فيها الشعب ضِدَّ نظامه، أي العام ١٩٦٣م (ثورة ١٥ خرداد) ليجعلها المَرجِعَ الوحيد لدراسة حياة هذه الشخصيّة العظيمة.

إلاّ أنَّ كلّ المحاولات باءتْ بالفشل، ولم تَنْطَلِ الحيلةُ على المفكّرين الواعين، وبقي الأفغانيّ بطلاً عظيماً تفتخر به الأُمّة وتَعْتَزُّ، بعد أنْ قدّم لها أروع الأمثال في الإيمان والوعي والجهاد والتضحية والإخلاص.

لمعرفة حقيقية الرجل راجع صورة عنْ نَصِّ استقالته مِنْ حزب الوفد المنشور في الكتاب.

مُؤَامَرَةٌ خَطِيْرَةٌ.. تَتَطَلَّبُ يَقَظَةً كَبِيْرَةً

هل البَتُّ في تَتَبُّع حياة السيّد جمال الدين الحسينيّ وفي هذا الوقت بالذات عمليةٌ خالِصةٌ لا تحوم حولها الشبهات؟!

إنّنا لسنا فقط نشكُّ بذلك، بل لنا قناعتُنا وبالأرقام والوقائع، كما بيَّنَّا بأنّ هناك مؤامرةً خطِيرةً تستهدِف اغتيال سيرة السيّد الحسينيّ الجهاديّة، وإبدالها بسيرة مِلْؤُها التشنُّجَات والتناقُضات والانتهاكات الصارِمة للإسلام.. وإنّ المسألة ليستْ متعلِّقة بكاتبٍ أو مجلّةٍ أو صحيفةٍ، إنَّها مسألةُ نِظامٍ قائمٍ يحاول استخدام تلك الأقلام لمصلحته الشخصية، ألا وهو نظام آل سعود الحاكم في الجزيرة العربيّة، وليس هذا النظام وحده مشترِكاً في هذه الجريمة، بل هو على رأس أنظمة الإسلام الأميركي المُتَحَكِّمَة بمصائر المسلمين، في الخليج ومصر والمغرب وتونس والعراق وأفغانستان وتركيا.

٥٨

وهي مؤامرةٌ تَقِف خلفها الدوائر الغربيّة والشرقيّة والصهيونيّة تستهدف:

(١) إظهار السيّد جمال الدين الحسينيّ على أنَّه رجلٌ مغامِرٌ لم ينوِ الإسلام في عمله، وأنَّه للظهور وحبِّ الشهرة!!

(٢) تشويه قداسة الثورة الإسلاميّة في إيران، والتي تدين للسيّد جمال الدين الحسينيّ بأفكاره وأعماله الإسلاميّة الكبيرة.

(٣) إبعاد الحركات الإسلاميّة العامِلَة - في الساحة الإسلاميّة الشاسِعة - عَن السيّد الحسينيّ، وعَن الثورة الإسلاميّة في إيران،ومعظم العلاقات الروحيّة والسياسيّة التي تدينها الحركات؛ لقيادة الإمام الخميني.

(٤) إبعاد الشعوب الإسلاميّة عَنِ الاحتكاك بالحركات الإسلاميّة والانتظام في صفوفها..

(٥) الطعن بالحركة الإسلاميّة المصريّة، وبالخصوص تلك التي رفعتْ سلاح القوّة لمواجهة النظام، ويجيء الطعن؛ نتيجةً لِهَتْكِ حرمة السيّد جمال الدين الحسينيّ، التي تَتَّخِذَهُ الحركةُ الإسلاميّة العامِلَة في مصر قدوتَها على طريق الجهاد الإسلامي.. وهذه النقطة لها أهمِّيَّتها؛ ذلك أنّ التحرُّك الإسلاميَّ داخل مصر نحو إقامة نظامٍ إسلاميّ، هو ما يُقْلِقُ الدوائر الصهيونيّة التي تخشى أنْ تقع (إسرائيل) أمام مواجهةٍ مع نظامٍ إسلاميّ.

وقد لا يتصوّر أحدُنا أنّ ربطَ عمليّة تشويه سيرة السيّد الحسينيّ بالكيان الصهيوني يمكن أنْ يكون بهذه السهولة، ولكنْ عليك أنْ تُصدِّق إذا علِمْتَ أنّ (إسرائيل) تفكِّر بقصف المفاعِل النووي الباكستاني داخل باكستان، بعد تصاعد الصحوة الإسلاميّة في الباكستان..

فإماتة أفكار السيّد الحسينيّ داخل نفوس أبناء الحركة الإسلاميّة المصريّة - كما تعتقد الدائر الاستكباريّة - مِن المُمْكِن أنْ يقضي على روح التحرّك في الفرد المصريّ المُسلِم!

٥٩

(٦) ضرب الوحدة الإسلاميّة، وبالذات الوحدة الإسلاميّة بين الحركات الإسلاميّة العامِلَة، بين المجاهِد المصريّ والعراقيّ والإيرانيّ، التونسيّ والمغربيّ، الأفغانيّ والإيرانيّ، الإيرانيّ والمصريّ، الخليجيّ والتركيّ وهكذا..

الوحدة الإسلاميّة بين الشيعيّ والسنُّيّ، وبالخصوص على نِطاق الحركات الإسلاميّة، الوحدة الإسلاميّة التي مثّلَها السيّد الحسينيّ بعمله في صفوف علماء جامِع الأزهر والحوزات العلميّة الشيعيّة.. في الوحدة الإسلاميّة التي تمثّلَتْ في تعاضد السيّد جمال الدين الحسينيّ والشيخ محمّد عبده.

إنّ المؤامرة التي تُدَبِّرها الأنظِمَة الرجعيّة أكبرُ مِنْ أنْ نتصوّر، وهي بِكُبْر الثورة الإسلاميّة، التي أخذتْ تُزَلزِل الأرض مِنْ تحت أقدام الطواغيت في عالمنا الإسلاميّ.. وعلى الإعْلام الإسلاميّ أنْ يَنْتبه إلى هذه المؤامرة الخطيرة ويفضحها.. ويطرح حقيقةَ السيّد جمال الدين الحسينيّ.. حقيقته التي تبقى مَنَاراً للعامِلِيْنَ في سبيل الله والمُستضعَفِيْنَ.. قال تعالى:

( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، ويأبى اللّهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

***

وإنّنا كما أشرنا أوّلاً، وفاءً لذكرى الرجل الكبير، واحتفالاً بالذكرى المِئويّة لإصدار مجلّة (العروة الوثقى) مِنْ باريس، نقدّم المجموعة الكاملة لهذه المجلّة للقرّاء في العالَم الإسلاميّ والعربيّ، سائلين المولى العليّ القدير أنْ يبعث في جماهيرنا الإسلاميّة روحاً ثوريّةً وتحسُّسَاً بالأهداف الكبرى وشوقاً صَنَّاعَاً للغد الأمثل.

والله الموفّق.

سيد هادي خسروشاهي

روما - ايطاليا

٦٠