قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45462
تحميل: 4263

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45462 / تحميل: 4263
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ب - عن أُمِّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت: كان عندي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي الحسين، فدنا مِن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذتُه فبكى فتركته، فدنا منه فأخذتُه فبكى، فقال له جبريل: (أتُحبُّه يا محمد؟)، قال: (نعم)، قال: (أما إنَّ أُمَّتك ستقتله، وإنْ شِئت أريتك مِن تُربة الأرض التي يُقتل بها)، فبسط جَناحه فأراه منها، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

ج - عن أُمِّ سلمة: قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ جبرئيل أخبرني أنَّ ابني هذا يُقتل، وأنَّه يَشتدُّ غضب الله على مَن يقتله)(2) .

د - عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ جبرئيل أخبرني أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قَتَل بدم يحيى بن زكريَّا سبعين ألفاً، وهو قاتل بدَم وَلَدك الحسين سبعين ألفاً)(3) .

ثانياً: التصريحات التي صدرت مِن الإمام الحسينعليه‌السلام في أثناء مسيرته الثوريَّة بأنَّه في طريقه إلى الشهادة والتضحية، كالنصوص التالية:

أ - خُطبته في مَكَّة حينما قال:

(كأنِّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلان الفَلوات بين النواويس وكربلاء، فيمْلأن مِنِّي أكرُشاً جَوفاً وأجرِبة سُغباً، لا مَحيص مِن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفِّينا أجور الصابرين... ألا ومَن كان باذلاً فينا مُهجته موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله)(4) .

____________________

(1) العِقد الفريد 5: 124.

(2) تاريخ بغداد 3: 328.

(3) ذخائر العُقبى وكنز العمَّال: ص127.

(4) تقدَّمت مصادره في: ص54: هامش 1.

١٠١

ب - رَدُّه على استفسار أخيه محمد بن الحنفيَّة عن سبب تصميمه على الخروج، قال محمد: يا أخي، ألم تَعدِني النظر فيما سألتك؟ قال: (بلى)، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: (أتاني رسول الله بعدما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فإنَّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً). فقال ابن الحنفيَّة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فما معنى حَملك هؤلاء وأنت تَخرج على مِثل هذا الحال؟! فقال: (قد قال لي - النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -: إنَّ الله شاء أنْ يراهنَّ سبايا)(1) .

ج - رسالته إلى بني هاشم، والتي رواها ابن قولويه وغيره بسند صحيح، وهي:

(بسم الله الرحمن الرحيم: مِن الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قِبَلَهُ مِن بني هاشم، أمَّا بعد: فإنَّ مَن لَحِقَ بي استُشهِد، ومَن لم يلْحَق بي لم يُدرك الفتح، والسلام)(2) .

د - رَدُّه على ابن عباس عند خروجه إلى العراق، فأشار عليه ابن عباس بألاَّ يخرج إلى العراق، فقال: (يا بن عباس، أما علمت أنْ منعتني مِن هناك فإنَّ مصارع أصحابي هناك). قال له: فأنَّى لك ذلك، فقال: قال: (بسِرٍّ سُرَّ إليَّ وعلمٍ أُعطيتُه)(3) .

ه - قولهعليه‌السلام في إحدى خُطبه في الطريق:

(ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه حَقَّاً حَقَّاً، فإنِّي لا أرى الموت إلاَّ

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص329.

(2) كامل الزيارات: ص157: حديث 195، وبصائر الدرجات للصفَّار: ص501، والبحار: ج42:: ص81 وج45: ص84.

(3) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص321.

١٠٢

سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ بَرَماً)(1) .

هذه بعضٌ مِن التصريحات لأبي الأحرار، التي تدلُّ دلالة واضحة على أنَّ الإمامعليه‌السلام يعلم بأنَّه في طريقه إلى الشهادة، وأنَّ هذا الهدف هدف واضح عندهعليه‌السلام ، فهلْ مِن الصحيح إغفال تلك النصوص الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه التصريحات مِن الإمامعليه‌السلام ؛ لأنَّها لا تجتمع مع التفسير السابق للثورة، أعني: القول: إنَّ الإمامعليه‌السلام لم ينهض إلاَّ مِن أجل أنْ يتسلَّم السُّلطة؛ ولأنَّها لا تجتمع مع بعض التصريحات والبيانات، التي يُفهم منها هذا التفسير كما سبق؟ أم أنَّ الإمام كان مُتناقضاً في بياناته وتصريحاته - وهو غير وارد في حَقِّ سيِّد الشهداءعليه‌السلام ، أم لكلِّ نوع مِن هذه التصريحات والبيانات وجهه وهدفه الذي لا يتناقض مع النوع الآخر، وأنَّ كلَّ واحد منها يُمثِّل بُعْداً مِن أبعاد الثورة الـمُقدَّسة.. حيث يمكن الجمع بينهما؟

وهذا ما نُحاول مُعالجته هنا مِن خِلال ما يلي:

أمَّا الإخبارات النبويَّة، الواردة عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل وشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام والتصريحات الصادرة مِن الإمامعليه‌السلام في هذا المقام، فلا بُدَّ مِن تفسيرها بالتفسير الذي يتناسب مع حقيقة الثورة: بأنًَّها ثورة تغييريَّة جرت طِبق السُّنن التاريخيَّة وحركة الإنسان الطبيعيَّة في الحياة، بعيداً عن التفسير الغيبي الصِّرْف، الذي يجعل دافع الثورة أمراً غَيبيَّاً غامضاً غير قابل للـمُناقشة أو للفَهْم، وكما فسَّرتها بعض القراءات، فـ (إنَّ تفسير قضيَّة الحسين بهذا الشكل - أيْ: التفسير الغيبي الصِّرْف - يتنافى مع الطبيعة البشريَّة لعمل الأنبياء والأوصياء، نحن وإنْ كنَّا نعتقد بأنَّ الأنبياء والأئمَّة هُمْ ثِقْل الله في الأرض، وهُمْ ثِقل عالم الغَيب وهُمْ الحبل الممدود إلى عالم

____________________

(1) بحار الأنوار: ج44: ص381، واللهوف: ص48.

١٠٣

الشهادة، وهُمْ أحد الثقلين في الأرض، وهُمْ الواسطة بين العباد وبين الله، كلُّ هذه المعاني صحيحة إلاَّ أنَّنا في نفس الوقت نعتقد بأنَّ الأنبياء والأئمَّة كانوا بشراً في أعمالهم في الحياة وبالأخصِّ الأعمال التي ترتبط بالجانب الاجتماعي مِن حياة الناس)(1) .

نحن لا ينبغي أنْ ننظر إلى النبي والإمام بنظرة غيبيَّة صِرْفة معزولة عن حياته الطبيعيَّة؛ فإنَّ الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام يتعاملون مع الحياة تعامُلاً طبيعيَّاً كغيرهم مِن الناس، لا سِيَّما في الجوانب التي تتعلَّق بقضايا الناس في هدايتهم وتعليمهم وتوعيتهم وتغيير واقعهم، وإذا ما وجدنا في حياة النبي أو الإمام موقفاً غيبيَّاً، فإنَّ ذلك يُمثِّل حالة استثنائيَّة، وقليل ما كان يحدث ذلك في حياة الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام .

فلا بُدَّ مِن توجيه هذه النصوص النبويَّة والتصريحات الحسينيَّة بالتوجيه الذي يتناسب مع القاعدة، التي يسير عليها الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام في حركاتهم التغييريَّة الاجتماعيَّة.

والتفسير الذي يُمكن أنْ توجَّه به تلك النصوص والتصريحات الغيبيَّة هو كما يلي: إنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بهذه النبوءات أنْ يُبيِّن - بياناً سابقاً - أنَّ هذه الثورة وهذه التضحية، التي سوف يقوم بها سِبطه الحسينعليه‌السلام هي حركة ربَّانيَّة مِن أجل الله والإسلام؛ والدليل أنَّ الوحي اهتمَّ بها اهتماماً لافتاً للنظر؛ لأنَّه أخبر عنها قبل حدوثها؛ إذ لا تفسير لذلك الاهتمام إلاَّ هذا. وإنَّ الخصم الذي يرتكب هذه الجريمة بعيد عن الله والإسلام.

ومِن ثَمَّ يُقيم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحُجَّة على الأُمَّة، ويضعها أمام المسؤوليَّة الشرعيَّة تجاه هذه الثورة وهذا الثائر العظيم؛ فيكون حال هذه الإخبارات كحال سائر النبوءات التي صدرت مِن قِبَل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كإخباراته عن فتنة بني أُميَّة وتحذير

____________________

(1) الثورة الحسينيَّة وأسبابها، السيِّد محمود الهاشمي.

١٠٤

الأُمَّة منها، فإنَّ الرسول لم يُخبر بذلك لـمُجرَّد الإخبار، وإنَّما كان ذلك تنبيهاً للأُمَّة على مسؤوليَّتها الشرعيَّة.

لقد عَلِم الرسول - كما ورد إلينا بالروايات الموثَّقة الـمُسندة - أنَّ الانحراف سيبلغ مداه بعد نِصف قَرن على يد أبعد الناس عن الإسلام، وعلم أنَّ أحد أولاده - وهو الحسينعليه‌السلام - سيواجه أكبر زخم لهذا الانحراف، وأنَّ مُهمَّته لن تكون سَهلة؛ إذ لن يتخلَّى الحاكم الـمُنحرف حينذاك عن سُلطته ومَملكته لـمُجرَّد صيحة أو دعوة يسمعها منه، ولا بُدَّ أنْ يُبدي شراسته أمام مِثل تلك الدعوة(1) .

فأدلى رسول الله بذلك العدد مِن الإخبارات، عن الدور الـمُقدَّس الذي سوف يقوم سِبطه الحسينعليه‌السلام مِن التضحية والشهادة، وكذلك حال التصريحات الحسينيَّة في المقام، فقد أراد أبو الأحرار التأكيد على أنَّ نهضته هذه إنَّما جاءت ضمن مُخطَّطٍ إلهيٍّ سابق، تلقَّاه مِن جَدِّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو سائر في تنفيذ هذا الـمُخطَّط.

لقد كان الحسينعليه‌السلام يعلم بأنَّه مقتول علماً تفصيليَّاً، وبكلِّ ما سيجري عليه وعلى آل بيته وحريمه، عهداً عهده إليه جَدُّه رسول الله وأبوه عليٌّ أمير المؤمنينعليه‌السلام (2) ، فأعلن ذلك ليضع الأُمَّة أمام مسؤوليَّتها تِجاه ثورته الإصلاحيَّة.

فاتَّضح أنَّ هذه الإخبارات النبويَّة، والتصريحات الحسينيَّة لا تنسجم مع التفسير القائل: إنَّ الحسين كان هدفه الأوَّل والأساس هو تسلُّم السُّلطة، فلا بُدَّ أنْ يكون هدفه هدفاً آخر.

وأمَّا الهدف الذي يتناسب مع هذه النصوص، ويتَّفق مع الظروف الموضوعيَّة التي تعيشها الأُمَّة آنذاك، فهو أنَّ الإمام أراد أنْ يقوم بهذه التضحية مِن أجل إرجاع الروح

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ج2: ص31.

(2) وتنفَّس صُبح الحسين: ج2: ص31.

١٠٥

الجهاديَّة، التي فقدتها الأُمَّة تدريجيَّاً مِن أجل تأصيل خَطِّ الشهادة في حياة المسلمين، هذه الروح التي كانت في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى الـمُستويات، وكانت عاملاً أساسيَّاً في تحقيق الانتصارات في عهد الرسالة؛ لأنَّ الأُمَّة كانت تعشق الموت في سبيل دينها ورضا ربِّها.

ولكنْ لـمَّا حدثت النَّكْسة الحضاريَّة في حياة الأُمَّة، وبدأت الأُمَّة تنحدر مِن سيِّئٍ إلى أسوأ، حتَّى بلغت في التدهور مُستوىً يُهدِّد وجودها كأُمَّة مسلمة ويُهدِّد رسالتها السماويَّة؛ فاحتاجت إلى هزَّة عنيفة تُعيد لها تلك الجذوة مِن روح الجهاد والتضحية، ولا طريق إلى ذلك إلاَّ الثورة التي تتضمَّن التضحية بكلِّ ما يملك الإنسان: مِن المال والجاه، والأهل والوِلْد، والأُخوة والنفس، في مواجهة الطُّغيان والفَساد، وبالكيفيَّة التي تَهزُّ الضمائر وتُثير العواطف الإنسانيَّة بقوَّة لا نظير لها.

وهذا هو الهدف الأساس لأبي الأحرار؛ لذلك أصبحت ثورته الـمُقدَّسة مُستمرَّة العطاء ودائمة التأثير في أجيال الأُمَّة اللاَّحقة، فلا نجد موقفاً مِن مواقف التضحية والجهاد في تاريخ المسلمين، مِن أجل الدفاع عن الرسالة وكرامة الأُمَّة، إلاَّ ولتضحية الإمام الحسينعليه‌السلام وثورته أثر عليها، سواء وعت أجيال الأُمَّة ذلك أم لا، فهي صدى لثورة أبي الأحرار وعطاء مِن عَطاءاته.

وإذا رأينا الأُمَّة الإسلاميَّة، برغم الضربات والهجمات الموجَّهة إليها الـمُختلفة الأساليب، نجدها رغم ذلك مُستعصية أمام عدوِّها على الذوبان والانهزام التامِّ، فإنَّ لثورة الحسين أكبر الأثر في وجود هذه الروح في مسيرة الأُمَّة.

هذا ما يتعلَّق بالقسم الأوَّل مِن البيانات، وهي التي يُصرِّح فيها أبو الأحرار بألاَّ هدف إلاَّ التضحية والشهادة.

وأمَّا القِسم الآخر مِن تلك البيانات والتصريحات، وهي التي يتحدَّث فيها الإمام الحسينعليه‌السلام عن شؤون الحُكم والسُّلطة، ومَن الذي يجب أنْ يحكم المسلمين، فإنَّها - أيْ:

١٠٦

البيانات - لا تدلُّ بالضرورة على أنَّ الإمامعليه‌السلام كان يُخطِّط للوصول إلى الحُكم، حيث بالإمكان أنْ يكون لها تفسير وهدف آخر لا يتنافى مع الهدف الأساسي - أعني: هدف التضحية والشهادة - وهو كما يلي:

أوَّلاً: لا تعدو هذه التصريحات كونها بيانات للرؤية السياسيَّة، التي يعتمدها الإمام ويدعو إليها هو وسائر الأئمَّة الطاهرينعليهم‌السلام ؛ إذ لا بُدَّ للإمام أنْ يؤكِّد على هذه الرؤية ويوضِّحها؛ لأنَّها هي القاعدة لانطلاقته الثوريَّة مُقابل الرؤية السياسيَّة، الـمُسيطرة على الذهنيَّة عند المسلمين آنذاك مِن جرَّاء الإعلام التضليلي للنظام الأُموي.

قالعليه‌السلام في كتابه إلى أهل الكوفة:

(فلَعمري، ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحَقِّ، والحابس نفسه على ذات الله)(1) .

في هذه الجُمْل القصيرة جمع الإمامعليه‌السلام مواصفات إمام الحَقِّ الذي يجب أنْ تكون قيادة الأُمَّة بيده:

أ - العامل بكتاب الله العزيز، والساعي لتطبيق أحكامه؛ لذا لا بُدَّ أنْ يكون مُستوعباً لكلِّ مفاهيم القرآن وأحكامه كما نزلت مِن قِبَل الله تعالى ليُمكِّنه العمل بها.

ب - السائر بالعدل في حُكمه البعيد عن الظلم والجور؛ لأنَّه يُمثِّل عدل الله التشريعي في الأرض.

ج - الدائن بالحَقِّ الجاعل الحَقَّ هدفه وغايته مِن كلِّ مُمارساته، فدينه هو الحَقُّ ولا تأخذه في الحَقِّ لومة لائم.

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص313.

١٠٧

د - الحابس نفسه على ذات الله؛ حيث لا يغفل عن الله في حالة مِن حالاته، ولعلَّ هذه إشارة إلى اشتراط العصمة في الإمام.

فهذه الصِّفات هي التي تؤكِّد عليها مدرسة أهل البيت في نظريَّة الإمامة وشروطها.

وقالعليه‌السلام :

(أمَّا بعد، أيُّها الناس، فإنَّكم إنْ تتَّقوا الله وتعرفوا الحَقَّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد وأوْلى بولاية هذا الأمر عليكم مِن هؤلاء الـمُدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان)(1) .

فهنا يؤكِّد أبو الأحرار على حَقِّهم في قيادة الأُمَّة، وأنَّ الحاكمين للأُمَّة مِن بَني أُميَّة إنَّما هم غاصبون للحَقِّ الإلهيِّ المجعول لأهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: أراد أبو عبد اللهعليه‌السلام بهذه التصريحات أنْ يُشخِّص للأُمَّة أساس الـمُشكلة والـمُعاناة التي تُعانيها في حياتها، سواء في جانبها الفكري أم الاقتصادي أم الأخلاقي أم الاجتماعي؛ فإنَّ عِلَّة ذلك وأساسه هو الانحراف والفساد السياسي؛ حيث كانت شؤون الأُمَّة بأيدي عناصر لا يحملون هموم الأُمَّة والإسلام، بلْ هُمْ يُخطِّطون للقضاء على روح الإسلام وإبعاده عن ساحة الحياة.

قالعليه‌السلام :

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بَطِراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص356.

١٠٨

وأنهى عن الـمُنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبِلَني بقَبول الحَقِّ فالله أوْلى بالحَقِّ، ومَن رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين)(1) .

في هذا البيان أوضح أبو الأحرار خَطَّه الرئيسي في حركته الثوريَّة، وهو إصلاح أُمَّة جَدِّه، لا يُريد بذلك الاستكبار أو الفساد أو الظلم، ولعلَّه أراد بهذا التنبيه: أنَّ الأُمَّة أصبحت في حال تحتاج إلى إصلاح شامل؛ والسبب الرئيسي في ذلك هو تعطيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر، وانحسار مظاهر السيرة التي تكون امتداداً لسيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشارعليه‌السلام أنَّهم - أهل البيت - هُمْ الذين تُمثِّل سيرتهم سيرة جَدِّهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجَدير بالـمُلاحظة - في هذا البيان - قولهعليه‌السلام : (فمَن قَبِلَني بقبول الحَقِّ فالله أوْلى بالحَقِّ، ومَن رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحَقِّ وهو خير الحاكمين)، حيث يُمكن أنْ تكون هذه إشارة منهعليه‌السلام إلى أنَّه لن يستطيع أنْ يُغيِّر التغيير الفعلي العاجل، وأنَّه سوف يُرَدُّ ويُصَدُّ عن الوصول إلى ذلك، وتبقى المسؤوليَّة مسؤوليَّة الأُمَّة في مواصلة الطريق مِن أجل الإصلاح الشامل، فعلى هذا يكون هذا البيان جُزءاً مِن تشخيص أساس الـمُشكلة التي تُعانيها الأُمَّة.

وإذا ما أرادت الأُمَّة حَلَّ الـمُشكلة مِن جذورها ورفع مُعاناتها، فإنَّ الطريق إلى ذلك هو حَلُّ الـمُشكلة السياسيَّة، بأنْ يكون حكم المسلمين بيد قادتهم الحقيقيِّين، الذين لا هَمَّ لهم إلاَّ الحِفاظ على الرسالة، والحِفاظ على وجود الأُمَّة وعِزَّتها؛ لأنَّهم هُمْ الذين يُمثِّلون الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة، وهُمْ أهل بيتهعليهم‌السلام .

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص18 هامش 1، وفي: ص36 هامش 1.

١٠٩

فهوعليه‌السلام إنَّما أراد تشخيص الـمُشكلة وطرح حَلِّها، مِن خِلال هذه التصريحات التي يتحدَّث فيها عن شؤون الحُكم والقيادة، مِن خلال ما تقدَّم نُخلِّص إلى أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد حقَّق كلَّ ما يُريد الوصول إليه وأنجز الهدف الذي مِن أجله قام بهذه الثورة الـمُقدَّسة، وهو بَعْثُ روح الجهاد والتضحية في أُمَّة جَدِّه؛ مِن أجل الحِفاظ على الرسالة وبقائها وعِزَّة الأُمَّة وكرامتها، ومِن أجل تأصيل الخَطِّ الذي يُمثِّل منهج أهل البيتعليهم‌السلام في تجسيدهم لرسالة الإسلام.

* * *

يومان قد شَهِد الزمان عجائباً

لك فيهما آياتُ مجدِك تشرِق

يوم وِلدت به ويوم سجَّلت

فيه الملاحم إذ دماؤك تُهرَق

قد أنقذتْ تلك الدماء رسالة

كادت صحائف شرعها تتمزَّق

وتجدَّدت روح الجهاد لأُمَّة

لولاك عاد الروح فيها يُخنق

علَّمتها أنَّ الـمَمات سعادة

في ظِلِّ دائرة الجهاد وأشوق

ساموك أنْ تَرِد الهوان فقلتها

هيهات والعضب الـمُصمَّم يَبرق

وإلى القيام صَليل سيفك لم تزل

أصداؤه ولواء حَمْدك يَخفق

ورفعت صوتاً كلَّما رام العِدى

إسكاته في جنب مَجدك أخفقوا

أخرستَ ألسنة الضَّلال بمَنطق

الأحرار مَهْما في الضلالة أغرقوا(1)

____________________

(1) مِن قصيدة للمؤلِّف، بمُناسبة مولد الحسينعليه‌السلام .

١١٠

١١١

ب - بين الحسين عليه‌السلام ويزيد

البحث في هذا المجال يدور حول عدة نقاط وهي كالتالي:

1 - الخلفيَّة التاريخيَّة للأُسرتين: بني هاشم، وبني أُميَّة

مِن لوازم هذه الـمُقارنة بين شخصيَّة الحسينعليه‌السلام وشخصيَّة يزيد بن معاوية أنْ نأخذ فِكرة - ولو موجزة - عن الخلفيَّة التاريخيَّة لكلٍّ مِن الأُسرتين، وما بينهما مِن الـمُنافسة التاريخيَّة فيما قبل الإسلام، وإذا ما رجعنا إلى تلك الفترة مِن التاريخ، نَجِد الأُسرة الهاشميَّة قد تميَّزت بخصائصها التي اشتهرت بها في الـمُجتمع الـمَكِّي، بلْ الـمُجتمع العربي، وذلك ما جعلها تحتلُّ مَكانة مرموقة مِن بين سائر القبائل الأُخرى، مِمَّا يدعو إلى احترامها، وأنْ تحتل موقع السيادة والقيادة الدينيَّة والاجتماعيَّة.

هذه الـمُميِّزات الذاتيَّة التي دَعَت بعض القبائل إلى مُنافسة الأُسرة الهاشميَّة، وأنْ تقف منها موقف الضِّديَّة والـمُنافسة الغير الشريفة، واضح مِمَّا يذكره المؤرِّخون مِن عَلاقة بني هاشم مع أُسرة بني أُميَّة.

وإنَّ مِن دواعي هذه الـمُنافسة الشديدة دافع الحَسَد، فإنَّ (مِن لوازم النعمة الكاملة، وبالأخصِّ الشرف العظيم والـمُلك الجسيم، حصول الحَسد والبغي مِن العاجزين مِن نيل تلك المرتبة السامية، والساقطين عن درجة الاعتبار بالنسبة إلى ذلك المحسود، وإن كانوا بالإضافة إلى مَن عَدْاه أنبل عند أنفسهم، وفيما يختلج في أذهانهم.

١١٢

وأكثر ما يقع حَسد النعمة وتمنِّي زوالها مِمَّن يدَّعي أنَّه شريك في النسب وقريب في الـمُنتمى، فلا تصدر الـمُنافسة غالباً إلاَّ مِن ذوي الرَحم والوشيجة القريبة؛ وسبب ذلك عجزهم عن مُكافاة المحسود وإعياؤهم عن اللحوق به، وكلُّ مَن عَجز عن تحصيل مَكرمة كانت في غيره وضعف عن مُقاومته والتشفِّي منه، داخله الغيظ والحسد عليه وسعى حَثيثاً جاهداً فيما يسوؤه)(1) .

وأقوى ما كان مِن هذه الحسَّاسيَّة ما حصل بين بني هاشم وبني أُميَّة، وتاريخ الأُسرتين مليءٌ بالشواهد على ذلك بِدْءَاً مِن هاشم وأُميَّة.

واستمرَّت تلك الـمُنافسة بين الأُسرتين، حتَّى تُوجَّهت الأُسرة الهاشميَّة بالشرف الذي لا يُجارى، والمجد الذي لا يُدانى، وذلك ببعثة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة، حيث اختاره الله مِن الأُسرة الهاشميَّة، وبدأ الصراع بين الإسلام والوثنيَّة؛ فكان في مُقدِّمة مَن تزعَّم مُحاربة الإسلام عميد الأُسرة الأُمويَّة أبو سفيان بن حرب.

وتتابعت الانتصارات للدعوة الإسلاميَّة، بقيادة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حتَّى وَجَد أبو سفيان نفسه مُضطَّراً إلى التظاهر بكلمة التوحيد، عندما وجد الإسلام يخطو الخُطوات السريعة نحو القوَّة والانتشار.

وكان أبو سفيان يُفسِّر دعوة الرسول بأنَّها: حركة مِن أجل الـمُلك والسُّلطان، وهذا ما طفح على لسانه يوم فتح مَكَّة عندما رأى جيش المسلمين بقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يدخل مَكَّة الـمُكرَّمة فاتحاً، وهالته تلك القوَّة التي وصل إليها الإسلام، وكان واقفاً إلى جانب العبَّاس بن عبد الـمُطَّلب، الذي قد أجاره ذلك اليوم يستعرضان كتائب الجيش الإسلامي في دخوله مَكَّة الـمُكرَّمة، هذا بعد ما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تعلم أنْ لا إله إلاَّ الله؟).

قال: بلى، أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم

____________________

(1) بطل العَلْقمي: ج1: ص59.

١١٣

عفوك، قد كان يقع في نفسي أنْ لو كان مع الله إله آخر لأغنى.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تعلم أنِّي رسول الله).

قال: بأبي أنت وأُمِّي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أمَّا هذه، فو الله، إنَّ في النفس منها لشيئاً بَعدُ.

قال العباس: فقلت: ويحَك! تشهَّد وقل: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله قبل أنْ تقتل، فتشهَّد(1) .

وأمر الرسول عمَّه العباس، أنْ يقف بأبي سفيان بمضيق الوادي؛ ليمرَّ أمام عينيه قطاعات الجيش الإسلامي؛ فهزَّ ذلك المشهد نفس أبي سفيان، والتفت إلى العباس قائلاً: لقد أصبح مُلك ابن أخيك - يا عباس - عظيماً، قال: فقلت: ويحَك! إنَّه ليس بمُلك، وإنَّها النبوّة.

قال: نعم.

فأبو سفيان لم يُسلِم نتيجة قناعة بصحَّة الرسالة، وإنَّما القوَّة ألجأته إلى ذلك.

وبدأ هو وأُسرته يُفكِّرون ويُخطِّطون لإيجاد الفُرصة؛ مِن أجل الوصول إلى مواقع قياديَّة؛ ومِن ثمَّ يتوصَّلون إلى كرسيِّ الحُكم، وقد ساعدتهم أحداث ما بعد وفاة الرسول للوصول إلى أهدافهم، وذلك بوصول مُعاوية إلى موقعٍ قياديٍّ؛ حيث أصبح والياً على الشام مِن قِبَل الخليفة الثاني والثالث، وفُتِح الطريق أمام مُعاوية بقتل عثمان، فوقف في وجه أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب؛ ليعود الصراع بين الأُسرتين مُتمثِّلتين في عليٍّ ومُعاوية بأُسلوب آخر، وتحت شعار لا يختلف في جوهره عن الشعار الذي كان في ظِلِّ الصِّراع الأوَّل في عهد الرسالة، فإنَّ الأُسرتين لا زالتا تختلفان في الـمُقوِّمات الذاتيَّة، والأهداف التي تدفع كلَّاً منهما لـمُقاومة الأُخرى في الصراع على قيادة الأُمَّة.

ومِن خلال الـمُراسلات التي كانت بين عليِّعليه‌السلام ومُعاوية، يُحاول مُعاوية أنْ يرجع إلى الخلفيَّة التاريخيَّة إلى ما قبل الإسلام مُدَّعياً: أنَّ الأُسرتين كانتا على قدم الـمُساواة

____________________

(1) شرح نهج البلاغة للحديدي، الـمُجلَّد الرابع: ص208، ط مصر.

١١٤

ليقول: إنَّ بني هاشم ليسوا بأَوْلى مِن بني أُميَّة بقيادة الأُمَّة، مُلْغياً كلَّ ما طرحه الإسلام مِن قِيَم جديدة، مِن خلالها يعرف المقياس لتشخيص القيادة في نظر الإسلام، فيردُّ عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام بما يبطل دعواه، ويوضِّح الفوارق الذاتيَّة والأساسيَّة بين الأُسرتين، وبأنَّ كلَّاً منهما يحمل نوعاً خاصَّاً مِن القِيم والأهداف يتناقض مع نوع القِيم التي تحملها الأُخرى.

قالعليه‌السلام في جواب على كتابة لـمُعاوية: (وأمَّا قولك: إنَّا بنو عبد مُناف، فكذلك نحن، ولكنْ ليس أُميَّة كهاشم، ولا حرب كعبد الـمُطَّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الـمُهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا الـمُحقّ كالـمُبطل والمؤمن كالـمُدغل، وبِئْسَ الخلفُ خَلفٌ يَتْبَع سَلَفاً هو في نار جهنَّم)(1) .

فنجد أمير المؤمنينعليه‌السلام يُقارن بين أعيان الأُسرتين، ويوضِّح أهمَّ الصفات التي يختلف فيها الهاشميُّون عن الأُمويِّين، ويُعرِّض بالأُمويِّين بأنَّهم لم يكونوا يحملون قناعة بصحَّة الرسالة وبعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كانوا مُضطرِّين لإعلان الإسلام.

ولـمَّا تهيَّأت الظروف لـمُعاوية للوصول إلى السُّلطة الـمُطلقة على المسلمين، بدأ يُفكِّر في مصير تلك السلطة مِن بعده؛ فاشتغل مِن أجل أنْ يجعلها لابنه يزيد؛ وأنْ يحصرها في البيت الأُمويّ.

وهكذا تنتقل تلك الموروثات التاريخيَّة مِن الصراع بين الأُسرتين، لتنحصر بين الحسينعليه‌السلام ويزيد بن مُعاوية، فإنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد وَرِث تلك العناصر الذاتيَّة العريقة للأُسرة الهاشميَّة، بالإضافة إلى كونه مِن العِترة التي اصطفاها الله، فجمع فيه عناصر الكمال التي تُميِّزها على مَن سواها مِن الناس.

____________________

(1) نهج البلاغة كتاب رقم 17: ص537.

١١٥

وقد أشار سيِّد الشهداء إلى هذه الخصائص، التي اجتمعت لأهل هذا البيتعليهم‌السلام ، فقال:

(ألاْ وإنَّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين: بين السِّلَّة، والذِّلَّة وهيهات مِن الذِّلَّة، يأبى لنا الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وطهُرت، وأُنوف حَميَّة ونفوس أبيَّة مِن أنْ نؤثر طاعة اللئام على مَصارع الكرام)(1) .

ولا يعني هذا الكلام أنَّ الحسينعليه‌السلام إنَّما ثار وقاتل بدافع العصبيَّة والروح القبليَّة، كما يحلو لبعض التفسيرات الـمُغرضة أنْ تُفسِّر الثورة الحسينيَّة؛ لأنَّ بواعثها واضحة كلَّ الوضوح مِن خلال تصريحات الثائر العظيم ومواقفه، وليس فيها ما يُشير إلى عصبيَّة، بلْ كلُّ شعاراته رساليَّة إنسانيَّة.

قال في بيانه الأوَّل:

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بَطِراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن الـمُنكر)(2) .

في هذا البيان وضَّح أبو الأحرار هدفه الـمُقدَّس، وهو هدف رساليٌّ لا هدف عشائريٌّ، كيف لا وأبو الأحرار هو حامل مبادئ الإسلام السماويَّة، التي جاءت تُحارب أيَّ نوعٍ مِن أنواع العصبيَّة، مِن قوميَّة أو قبليَّة أو غير ذلك.

____________________

(1) اللهوف: ص58، والبحار: ج45: ص9، والعوالم (الإمام الحسين) ص252.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص18: هامش 1، وفي ص36 هامش 1.

١١٦

ولو كانت بواعث الثورة عشائريَّة لكان مِن المفترض أنْ ينهض الإمام بعشيرته - الهاشميِّين - وفي موطن عشيرته؛ فإنَّ مِن المعلوم أنَّ موطن بني هاشم في الحِجاز لا في العراق، ولا معنى لدعوته للأبعدين ليضحُّوا بأرواحهم في سبيل أمجاد قبيلته، ولو عرفتْ تلك الثُّلَّة التي كانت مع الحسينعليه‌السلام بأنَّ أهدافه أهداف عشائريَّة لَمَا وقفوا معه ولَمَا عرَّضوا أنفسهم للهَلاك، ولكنَّهم فهموا الثورة وأهدافها بفَهمٍ آخر؛ لذلك نرى هذه الثورة قد جمعت بين مُختلف العناصر والطبقات والقبائل، وكان الأجانب يُمثِّلون الأغلبيَّة مِمَّن كانوا حول أبي الأحرار، وما أروع تعبير الإمام عن تلك الجماعة حينما قالعليه‌السلام :

(ألاْ وإنِّي زاحف بهذه الأُسرة على قِلَّة العَدَد وخِذلان الناصر)(1) .

نعم، في أُسرة لم تجمعها آصرة النسب، بلْ جمعتها رابطة الإيمان ووحدة الموقف والهدف الـمُقدَّس، هذه الأُسرة التي جمعت بين أبي الفضل العباس وعليِّ الأكبر مِن بني هاشم، وبين حبيب بن مُظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة، وبين غلام حبيب وجون مولى أبي ذَرْ والحُرّ الرياحي، فما أعظمها مِن أُسرة لم ترَ عين الدهر مَثيلاً لها!

وإذا ما أشار أبو الأحرار في بياناته إلى أسلافه، لا يعني هذا أنَّ مَنطقه مَنطق قِبَلي، وشعاره شعار عشائريِّ، وإنَّما هذه الإشارات يُريد منها التأكيد على أنَّه هو وأهل بيته، هُمْ الذين يُمثِّلون الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة.

2 - عامل النشأة والتربية في شخصيَّة الإمام الحسين عليه‌السلام .

مِن أوضح الأُمور لدى خُبراء التربية، أنَّ الجوَّ التربوي الذي يعيشه الإنسان في

____________________

(1) تقدَّمت المصادر في: ص117 هامش 1.

١١٧

طفولته له بالغ الأثر في بناء شخصيَّته مِن الناحية الفكريَّة والسلوكيَّة، وأنَّ ما يسمعه ويتلقَّاه مِن الأبوين أو الـمُربِّي في تلك الفترة سيترك آثاره عليه في مُستقبَل عمره.

وإذا درسنا حياة الإمام الحسينعليه‌السلام وحياة يزيد بن مُعاوية، فإنَّا نجد الفَرْق شاسعاً بين الأجواء التي عاش الإمام في رحابها، وبين التربية التي تربَّاها يزيد بن مُعاوية.

لقد عاش الإمام الحسينعليه‌السلام هو وأخوه الإمام الحسنعليه‌السلام طفولة فريدة مِن نوعها؛ حيث توفَّر فيها مِن المقوُّمات الخاصَّة، والعوامل التربويَّة التي تُميِّز هذه الطفولة عن أيِّ طفولة عاشها مُعاصروهم، ويتَّضح ذلك مِن خلال دور الرسول الأعظم في حياة الحسنين وعلاقته بهما.

لقد تربَّى الحسنان في ظِلِّ تلك الأجواء الـمُقدَّسة التي كان الوحي يَظلُّلها، ويحوطها الرسول الأعظم بالحُبِّ العميق والعاطفة الـمُتأجِّجة.

ومِمَّا يُلفِت نظر القارئ لعلاقة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسنينعليهما‌السلام بلْ بأولاد فاطمةعليهم‌السلام أنْ يرى جميع أُمورهم وشؤون حياتهم راجعة إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فمنذ ولادة أحدهم تبرز اهتمامات الرسول بهم، لا سِيَّما الحسنينعليهما‌السلام إلى الحَدِّ الذي يُثير التساؤلات، لماذا هذا الاهتمام الكبير مِن صاحب الرسالة؟

إنَّ تلك السُنَّيات السبع التي عاشها الإمام الحسينعليه‌السلام في رحاب جَدِّه الرسول، والجَدُّ يُغذِّيه بفيض روحه الـمُقدَّسة مِن الحُبِّ الذي لا نظير له، تلك السُنَّيات كانت هي القاعدة التربويَّة، التي بُنيت عليها شخصيَّة هذا الإمام العظيم.

وهناك التصريحات والـمُمارسات الكثيرة مِن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي حفلت بها المصادر، والتي كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يجمع فيما بين الحسين مَرَّة، ومَرَّة أُخرى يُفرد الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتي تُصوِّر تلك الأجواء التربويَّة التي عاشها الحسنانعليهما‌السلام في رِحاب جَدِّهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تُعرِب عن تلك العَلاقة بين الجَدِّ العظيم وسبطيه الكريمين، تلك

١١٨

التصريحات والـمُمارَسات، التي ليس مِن اللائق بصاحب الرسالة أنْ تُفسَّر تفسيراً عاديَّاً، كأيِّ علاقة بين الجَدِّ وأحفاده(1) .

وإليك مثالاً واحداً مِمَّا يتعلَّق بالحسينعليه‌السلام : فقد روى ابن قولويه وغيره بسندهم، عن يعلى العامري: أنّه خرج مِن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسينعليه‌السلام يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام القوم، ثمَّ بسط يديه فطفر الصبي هاهنا مَرَّة وهاهنا مَرَّة، وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله، ثمَّ قال: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً، حسين سِبط مِن الأسباط)(2) .

هذا حديث اتَّفقت الأُمَّة الإسلاميَّة على روايته، فقد روى هذه الحادثة البخاري في(الأدب الـمُفرد) و(التاريخ الكبير) والحاكم في(مُستدركه) ، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد). وأخرجه أيضاً ابن ماجة في(سُننه) .

ولا أحسب أنَّ هناك كلمة أروع مِن هذه الكلمة - أعني: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين) - تُعبِّر عن عَلاقة الإمام بجَدِّه وعَلاقة جَدِّه به؛ لذا فهي تستدعي الوقوف عندها لاستجلاء ما يُريده الرسول مِن هذه الكلمة.

(فأمَّا أنَّ الحسين مِن الرسول فأمر واضح واقع، فهو سِبطه ابن بنته، ولدته الزهراء وحيدة الرسول مِن زوجها عليِّ ابن عمِّ الرسول، ومع وضوح هذه المعلوم، فلماذا يُعلنها الرسول؟ وماذا يُريد أنْ يُعلن بها؟ هل هذا تأكيد منهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أنَّ عليَّاً والد

____________________

(1) راجع في المقام: فضائل الخمسة في الصحاح السِّتَّة: ج3 ص168 - 229، وص257 - 323.

(2) كامل الزيارات لابن قولويه: ص117: حديث 127، ومُستدرك الصحيحين للحاكم: ج3: ص194 حديث 4819 باب أوَّل فضائل أبي عبد الله الحسين بن علي الشهيد، وفي طبع آخر: ج3: ص177، وسُنن ابن ماجة: ج1: ص51: حديث 144، وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1227). وأمَّا حديث: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين) فقد رواه أعلام الحديث مِن الطرفين، كالترمذي في سُننه: ج5: ص617: حديث 3775.

١١٩

الحسينعليهما‌السلام هو نفس الرسول؟ تلك الحقيقة التي أعلنتها آية الـمُباهلة... أو أنَّ الرسول يُريد أنْ يُمهِّد بهذه الجُملة (حسين مِنّي) لما يَليها مِن قوله: (وأنا مِن حسين)؟ تلك الجملة الـمُثيرة للتساؤل، كيف يكون الرسول مِن الحسينعليه‌السلام ؟

والجواب: أنَّ الرسول لم يعد بعد الرسالة شخصاً، بلْ أصبح مِثالاً ورمزاً وأُنموذجاً تتمثَّل فيه الرسالة بكلِّ أبعادها وأمجادها، فحياته هي رسالته ورسالته هي حياته، ومِن الواضح أنَّ أيَّ والد إنَّما يسعى في الحياة ليكون له ولد، كي يَخلفه ويُحافظ على وجوده ليكون استمراراً له، فهو يُدافع عنه حتَّى الموت ويحرص على سلامته وراحته؛ لأنَّه يعتبره وجوداً آخر لنفسه.

إذا كانت هذه رابطة الوالد والولد في الحياة المادِّيَّة، فإنَّ الحسينعليه‌السلام قد سعى مِن أجل حياة الرسالة المحمديَّة بأكبر مِن ذلك، وأعطاها أكثر مِمَّا يُعطي والد لولده، بلْ قدَّم الحسينعليه‌السلام في سبيل الحِفاظ على الرسالة كلَّ ما يملِك مِن غالٍ حتَّى فلذات أكباده، أولاده الصغار والكبار، وروى جُذورها بدمه ودمائهم، فقد قدَّم الحسينعليه‌السلام للرسالة أكثر مِمَّا يقدِّم الوالد لولده. فهي - إذنْ - أعزُّ مِن وِلْده، فلاغروا أنْ تكون منه...

فالرسالة المحمديَّة التي مثَّلت وجود الرسول، كانت في العصر الذي كادت الأيدي الأُمويَّة الأثيمة أنْ تقضي على وجودها، فقد عادت مِن الحسين؛ ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (... وأنا مِن حسين)(1) .

ومِن الطبيعي أنْ يُحبَّ الوالد ولده، أمَّا أنْ يربط حَبَّ ذلك الولد بحُبِّ الله تعالى، فهذا يعني أمراً خطيراً، ويُشير إلى أنَّ هذا الولد له شأن خاصٌّ عند الله تعالى، ونحن نعلم أنَّ حُبَّ الله تعالى يُمثِّل روح الرسالة، ونتيجة طبيعيَّة لتطبيق المسلم لقوانين الرسالة الإلهيَّة، وهذا نفهمه مِن قوله تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ

____________________

(1) الحسين سِماته وسيرته: ص41 - 42.

١٢٠