قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45407
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45407 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) ، فقد علَّقت الآية حُبَّ الله لعبده على اتِّباعه للرسول في رسالته، فإذا قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً)، فإنَّ ذلك يعني أنَّ حُبَّ الحسين جزء مِن الرسالة الإلهيَّة، بلْ حُبُّه مع سائر أهل البيت هو روح الرسالة، وإلاَّ فماذا يعني قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات على حُبِّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات تائباً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مؤمناً مُستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد بشَّره مَلك الموت بالجَنَّة ثمَّ مَنكر ونكير، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد يُزفُّ إلى الجَنَّة كما تُزفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد فُتح في قبره بابان إلى الجَنَّة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد جُعل قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات على السُّنَّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس مِن رحمة الله)(2) .

يا تُرى، كيف تكون لهذا الحُبِّ هذه الآثار، ما لم يكن هو روح الإسلام وجوهر الإيمان، ليكون قائداً للإنسان المسلم إلى طاعة الله والالتزام برسالته، وحُبُّ الحسينعليه‌السلام شَطر مِن هذا الحُبِّ؟ فلاغَرْوَ أنْ يكون حُبُّه سبباً لحُبِّ الله تعالى.

وأمَّا وصف الرسول للحسينعليه‌السلام بقوله: (حسين سِبط مِن الأسباط) فقد أراد به أنَّه أُمَّة مِن الأُمم، قائم بذاته ومُستقلٌّ بنفسه، فهو أُمَّة مِن الأُمم في الخير، وأُمَّة مِن الشرف في جميع الأجيال والآباد(3) .

____________________

(1) آل عمران: 31.

(2) الـمُراجعات ص49 - 51، تحقيق فضيلة الشيخ حسين الراضي.

(3) حياة الإمام الحسين: ج1: ص95.

١٢١

هذه هي النتيجة الطبيعيَّة والمعقولة لتلك التربية الرَّبَّانيَّة، التي عاشها سيِّد الشهداء في ظِلِّ تلك الأجواء الملائكيَّة، وهذا هو التفسير الـمُناسب لذلك الاهتمام الـمُنقطع النظير مِن ذلك الجَدِّ الأقدس بسبطه وقُرَّة عينه.

وقد أثار أبو عبد الله هذه المسألة في بعض بيانات ثورته الـمُقدَّسة، فأشار إلى علاقته بجَدِّه الرسول وبعض أقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّه وحَقِّ أخيه وأهل بيتهعليهم‌السلام حينما قال:

(أيُّها الناس، انسبوني مَن أنا ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هلْ يَحلُّ لكم قَتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيِّكم وابن وصيِّه وابن عَمِّه، وأوَّل المؤمنين بالله والـمُصدِّق لرسوله بما جاء مِن عند رَبِّه؟ أوَليس جعفر الطيَّار عَمِّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله فيَّ ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)؟ فإنْ صدَّقتموني بما أقول وهو الحَقُّ، والله ما تعمَّدت الكَذب منذ علمت أنَّ الله يمقت عليه أهله ويُضرُّ به مَن اختلقه، وإنْ كذَّبتموني فإنَّ فيكم مَن إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دَمْي)(1) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص185.

١٢٢

فجر الإمامة مِن جبينك يشرق

نوراً ومَهدك بالقَداسة ينطق

في يوم مولدك الأغرِّ ترادفت

زمر الملائك حول مهدك تحدِق

وبنفحةٍ مِن قُدس مَهدك فُرِّجتْ

كُرَبٌ ليونس كاد فيها يغرق

ما كان مَهدك غير قلب محمد

في كلِّ آنٍ بالحنان تطوق

بوركت مولوداً على قسماته

إشراقة بعبير أحمد تَعبق

ورضعت مِن ثدي القداسة والتُّقى

يسقيك مِن روح الجلال فيُغدق

ونشأت في حِجر الطهارة والهُدى

والحَقُّ دوماً في ضميرك مُشرق

ودرجت في بيت تُظلِّله السما

بالوحي حيث فناؤه يتألَّق(1)

* * *

3 - الحسين في رِحاب القرآن

في النقطة السابقة استوحينا بعض تصريحات الرسول الأعظم في حَقِّ سِبطه الحسين، وما هي دلالات ذلك، وأمَّا في هذه النقطة فنستوحي القرآن الكريم في حديثه عن الحسينعليه‌السلام ، فإنَّه ربيب الوحي وقَرين القرآن، نستوحي ذلك مِن خلال وقفات قصيرة أمام نموذجين قرآنيَّين، مِن الآيات التي تتحدَّث عن أهل البيتعليهم‌السلام .

الآية الأُولى: قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) .

تُمثِّل هذه الآية الكريمة الوسام الإلهي، الذي منحه الباري تعالى لأهل هذا البيت بإذهابه الرجس عنهم، وقد جاءت لفظة:( الرِّجْسَ ) هنا مُحلاَّة بالألف واللام؛ لتنفي

____________________

(1) مِن قصيدة للمؤلِّف في مولد الإمام الحسينعليه‌السلام .

(2) الأحزاب: 32.

١٢٣

مُطلق الرجس وهو كلُّ قذرٍ نَجَس، فإنَّ الله تعالى قد أذهب عن أهل البيت القذارة الفكريَّة، والقذارة القلبيَّة والقذارة الأخلاقيَّة والروحيَّة.

وما ورد في بعض الأحيان مِن تفسير (الرِّجْسَ) بالذَّبِّ، أو الإشراك، أو البُخل، أو الحسد، أو الاعتقاد الباطل وأمثال ذلك، فإنَّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنَّ مفهوم هذه الكلمة عامٌّ وشامل لكلِّ أنواع الحماقات بحُكم الألف واللام التي وردت هنا، والتي تُسمَّى بألف ولام الجنس(1) .

إنَّ (الرجس داء يُصيب الروح وينال مِن سلامتها، فالخمر والـمَيِسر كانا رِجساً لأنَّهما يسلُبان العقل ويملآن فراغه في الصدر بُغضاً وعداوة، فهما يُضيِّقان الخِناق على البعد الملكوتي في النفس الإنسانيَّة ويصدَّانها عن السموِّ والتكامل.

فالصدور الكَدِرَة الـمُتمثِّلة بالرذائل مُبتلاة بالرجس، ومثل هذه الصدور تفتقد الأرضيَّة لتلقِّي الفضائل واستقبال المحاسن، وتتقاعس عن السعي في طريق الكمال والأخذ بأسباب النجاة، وتجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات مُتردِّية في مُستنقعات الحِقد والحَسد، وهذا التلوُّث بالرجس هو الذي يقود البشريَّة إلى الدمار، ويسوقها نحو مصيرٍ مؤسف ومُستقبَل مُظلمٍ.

وعلى أيَّة حال فإنَّ جميع الأمراض الروحيَّة والآفات الأخلاقية، التي تخفت أُوار الحَقِّ وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان، وتُكدِّر صفاء الروح وتنال مِن عظمة النفس، وتقضي على الخير المودع فيها، والذي يتجلَّى في صور التسليم للحَقِّ والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم المعنويَّة العالية(2) .

كلُّ ذلك رجس وكلُّ ذلك قد أذهبه الله تعالى عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا شكَّ أنَّ هذا الوسام الذي لا يُدانيه وسام لم يُعطَ لأهل البيت اعتباطاً وجُزافاً مِن دون أنْ يكون

____________________

(1) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص116.

(2) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص116.

١٢٤

لديهم الاستعداد الذاتي لتقبُّل هذا الفيض الإلهي؛ لأنَّ الفيوضات الرَّبَّانيَّة إنَّما تصل إلى كلِّ مخلوقٍ بقدر قابليَّته واستعداده، كما ضرب القرآن الكريم مثالاً لذلك بقوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (1) .

حيث علم الله تعالى منهم - سابقاً - أنَّهم سوف يعملون بأمره، ويجتهدون في طاعته، ويسعون لتحقيق رضاه ويُسلِّمون له بالتسليم الـمُطلَق، وذلك بمحض إرادتهم واختيارهم، فمنحهم هذا الوسام الرفيع؛ فأذهب عنهم كلَّ ما يحول بينهم وبينه؛ لعلمه بأنَّهم يُريدون ذلك فأراده لهم، وهذه العصمة المانعة مِن كلِّ ذنبٍ.

والسؤال هنا: ماذا يُراد مِن هذا التأكيد القرآني على تطهير هؤلاء؟ فهل يعني ذلك مُجرَّد البيان فقط أنَّ هؤلاء يتمتَّعون بهذا المقام، مِن غير أنْ يكون وراء ذلك البيان أيُّ غرضٍ آخر وهدفٍ عمليٍّ؟

وهذا ما لا يجوز أنْ ننسبه إلى كتاب الله العزيز، الذي جاء ليفتح باب الهداية الرَّبَّانيَّة للإنسان، ويدلَّه على الطريق السويِّ والصراط الـمُستقيم، لكي لا يبقى يتخبَّط في متاهات الطريق.

فالـمُراد هنا الكشف عن الأشخاص الذين يملكون كلَّ مُقوُّمات الهداية؛ ليستطيع كلُّ مَن أراد السير نحو الله أنْ يأخذ بحُجْزتهم ويهتدي بهُداهم، وقد (أجمع الـمُفسِّرون وثقات الرُّواة أنَّ أهل البيت هُمْ الخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ سيِّد الكائنات الرسول وصِنوه الجاري مجرى النفس أمير المؤمنين، وبِضعته الطاهرة عَديلة مريم بنت عمران سيِّدة النساء فاطمة الزهراء، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وريحانتاه مِن الدنيا سِبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة، ولم يشاركهم أحد مِن الصحابة وغيرهم في هذه الآية)(2) .

____________________

(1) الرعد: 17.

(2) حياة الإمام الحسين: ج1: ص58.

١٢٥

وأمَّا دعوى شمول الآية لنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ناقشها العلماء في العديد مِن البحوث في كُتب التفسير أو كتب خاصَّة أُلفت في هذا المجال.

ويبقى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام آخر مَن بقي مِن الخمسة، فهو وارث لمقاماتهم وأدوارهم في حياة الأمَّة وهي القيادة الفكريَّة والسياسيَّة.

الآية الثانية: قوله تعالى:( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

هذه الآية تُعرَف بآية الـمُباهلة، جاءت تحمل منطق التحدِّي الصارم للطرف الـمُقابل، وهو وفد نصارى نجران، وجاء هذا التحدِّي بعد فَشل أُسلوب الحوار العلمي فيما يتعلَّق بشأن النبي عيسىعليه‌السلام .

في (تفسير القُمِّي) عن الصادق: (إنَّ نصارى نجران لـمَّا وفدوا على رسول الله، وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلُّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله، هذا في مسجدك، فقال: دعوهم، فلـمَّا فرغوا دنوا مِن رسول الله فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، وأنَّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويُحدِث، قالوا: فمَن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم أكان مَخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدِث وينكح؟ فسألهم النبي، قالوا: نعم، قال فمَن أبوه؟ فبُهِتوا، فأنزل الله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ... ) (2) الآية، وقوله:( فَمَنْ

____________________

(1) آل عمران: 61.

(2) آل عمران: 59.

١٢٦

حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

فقال رسول الله: فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أُنزِلت اللعنة عليكم، وإنْ كنت كاذباً أُنزِلت عليَّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للـمُباهلة، فلـمَّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم - السيِّد والعاقب والأهتم -: إنْ باهَلَنا بقومه باهَلَناه فإنَّه ليس نبيَّاً، وإنْ باهَلَنا بأهل بيته خاصَّة لم نُباهله؛ فإنَّه لا يقدم إلى أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلـمَّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال النصارى: مَن هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمِّه ووصيُّه وخَتنه عليُّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففَرَقُوا - أيْ خافوا - فقالوا لرسول الله: نُعطيك الرضا فأعفنا مِن الـمُباهلة، فصالحهم رسول الله على الجِزية وانصرفوا)(2) .

هذه هي قِصَّة الـمُباهلة، والسبب في نزول الآية بعدما رفض النصارى نتيجة الحوار في كون عيسى بن مريمعليه‌السلام مِن البشر، وأصرُّوا على مقالتهم فيه وأنَّه هو ابن الله، تعالى عن ذلك، حوَّل القَرن الموقف إلى تحدِّي بإرجاع الأمر إلى الغيب، وأنَّ الله تعالى هو الذي يُحدِّد الـمُحقَّ مِن الـمُبطل عن طريق إهلاك الطرف الـمُبطل ومحوه مِن ساحة الحياة، بعد ابتهال الطرفين بالدعاء بأنْ يُهلك الله الـمُبطل منهم.

إلاَّ أنَّ وفد النصارى بعد خروج النبي بأهل بيته أعرضوا عن الـمُباهلة؛ وذلك لقناعتهم بصدق الرسول الأعظم، وقبلوا بالخيار الآخر وهو أداء الجزية إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أجمع الـمُفسِّرون والمؤرِّخون على أنَّ النبي لم يخرج إلاَّ بعليٍّ وفاطمة والحسنينعليهم‌السلام .

____________________

(1) آل عمران: 61.

(2) تفسير القُمِّي: ج1 ص112.

١٢٧

وهنا لا بُدَّ لنا مِن أنْ نتساءل: ما هو السِّرُّ في أمر الله تعالى لنبيِّه بإخراج هؤلاء معه للـمُباهلة؟ ألا يكفي خروج النبي بمُفرده للدعاء فاحتاج الموقف إلى خروج أهل بيته؛ لأنَّ الأمر لا يخلو؛ إمّا أنَّ دعاء النبي (صلى لله عليه وآله) يكفي في تحقُّق نتيجة الـمُباهلة، فيكون خروج هؤلاء معه نوعاً مِن العَبث الذي لا غرض مِن ورائه، أو أنَّ خروج هؤلاء أمر لا بُدَّ منه في هذا المقام؟

والجواب: أنَّ الوجه الأخير هو الحَقُّ، فإنَّ خروج النبي بأهل بيته أمر حتميٌّ لا لنقصٍ في ذات الرسول في تحقُّق الدعاء، فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اعتقادنا لا يَحجُب دعاه حاجب عن الله تعالى.

ولكنْ لـمَّا كان هذا الموقف يتعلَّق بشؤون الرسالة وتحدِّياتها لسائر الأفكار والأديان والأقوام، فلا بُدَّ مِن وقوف حَمَلَة الرسالة الذين يتمثَّل فيهم الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة مِن بعده، فهُمْ شركاؤه في تجسيد وتمثيل رسالة الله، فلا بُدَّ مِن وجودهم في هذا المقام، فأمر الله نبيَّه بإخراجهم ليتَّضح ارتباطهم بالرسالة ومواقفها.

حيث يُمكن أنْ نتصوَّر أنَّ الله تعالى قد جعل - هنا - دعاء الرسول هو الـمُقتضي لتحقُّق الهلاك وتأمين أهل بيته بمنزلة الشرط لتحقُّق ذلك، فإنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال لهم: (إذا دعوت فأمِّنوا) كما في بعض روايات المقام، إذ مِن المعلوم أنَّ الشيء لا يتحقَّق إلاَّ بوجود الـمُقتضي وتوفُّر الشرط وارتفاع المانع، ولا مانع في البين.

فتبيَّن أنَّ الغاية مِن إخراجهم ليكونوا جزءاً مِن موقف التحدِّي هذا مِن الإسلام للمسيحيَّة؛ لأنَّهم لُحمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجدير بالـمُلاحظة - هنا - أنَّ الحسنينعليهما‌السلام كانا آنذاك في مرحلة الطفولة، حيث لم يمنع كونهم طفلين مِن أنْ يأمر الله الرسول بإخراجهم، وذلك لتميُّزهما على مَن سواهما مِن الأطفال.

١٢٨

مِن خلال ما تقدَّم أخذنا صورة واضحة - وإنْ كانت مُختصرة - عن الأجواء التي نشأ فيها سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعن المقوُّمات الذاتيَّة التي توفَّرت في هذا الإمام، والتي تجعله نسخة أُخرى مِن شخصيَّة جَدِّه الرسول الأعظم، ليتحمَّل في عصره أعباء الإمامة وتتجسَّد فيه الرسالة؛ فيكون هو الأَوْلى بقيادة الأُمَّة.

4 - نشأة يزيد ومقوَّمات شخصيَّته

أجمع المؤرِّخون أنَّ يزيد بن مُعاوية قد نشأ وتربَّى في البادية عند خؤولته بني كِلاب، وهذه القبيلة كانت نصرانيَّة الاتِّجاه، فترى تربية مزيجة مِن أفكار وعادات مسيحيَّة ومِن عادات وأهواء البادية. تلك الأجواء البعيدة عن منابع الفكر الإسلامي وثقافة القرآن والسُنَّة، (وكان مُرسَل العِنان مع شبانهم الماجنين، فتأثَّر بسلوكهم إلى حَدٍّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب)(1) .

يقول عبد الله العلايلي: إذا كان يقيناً أو يُشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميَّة خالصة، أو بعبارة أُخرى: كانت مسيحيَّة خالصة؛ فلم يبقَ ما يُستغرب معه أنْ يكون مُتجاوزاً مُستهتراً مُستخفَّاً بما عليه الجماعة الإسلاميَّة، لا يحسب لتقاليدها واعتقادها أيَّ حساب ولا يقيم لها وزناً، بلْ الذي يُستغرب أنْ يكون غير ذلك(2) .

فإنَّ ذلك أمر طبيعي ونتيجة طبيعيَّة لتلك النشأة وتلك الأجواء الأعرابيَّة، التي تكوَّنت فيها المقوُّمات لشخصيَّة يزيد، فلم يستطع تجاوزها والتستُّر بها، وكان مُتجاهراً وولعاً باللعب بالقرود والكلاب ومُدْمناً على شرب الخمر.

يقول السيِّد مير علي الهندي: كان يزيد غدَّاراً كأبيه، ولكنَّه ليس داهية مثله، كانت

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص180.

(2) سموُّ المعنى في سموِّ الذات: ص59.

١٢٩

تنقصه القُدرة على تغليف تصرُّفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسيَّة الناعمة، وكانت طبيعته الـمُنحلَّة وخُلقه الـمُنحطُّ لا تتسرَّب إليهما شَفقة ولا عدل(1) .

وقد حاول مُعاوية بأنْ يُغيِّر ابنُه مظاهرَ سلوكه العلني؛ ليستطيع إقناع الناس بأنَّ ابنه مؤهَّل لأنْ يحُكم المسلمين مِن بعده، فقال له: (يا بُني، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِن غير تهتُّك يذهب بمروءتك وقدرك، ثمَّ أنشده:

انصب نهاراً في طُلاَّب العُلى

واصبر على هَجر الحبيب القريب

حتَّى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغَمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي

فإنَّما الليل نهار الأريب

كمْ فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيب(2)

هكذا أراد مُعاوية لولده بأنْ يلبس نهاراً لباس الفضل والنُّسك والتقوى، وإذا ما جَنَّ عليه الليل أطلق عنان شهواته وغرائزه في كُلِّ ميدان مِن ميادين الملذَّات، التي تحيى بها الليالي الحمراء في حياة أهل الفُسوق والـمُجون.

هذا هو السلوك الأمثل - في نظر مُعاوية - لوليِّ أمر المسلمين، إلاَّ أنَّ معاوية لم يُفلح في تغيير سلوك ابنه وتغليفه باللباس الخادع، بلْ استمرَّ يزيد في طريقة حياته المفضوحة واستهتاره المكشوف.

يا تُرى، إذا كان هكذا قادة الأُمَّة وولاة أُمورها فماذا ينتظر أنْ يكون وضع الأُمَّة ومُستقبل حياتها؟

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام مُشيراً إلى تأثير سلوك القيادة على حياة الأُمَّة ومسيرتها: (وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدماء

____________________

(1) نقلاً عن حياة الإمام الحسين: ج2: ص180.

(2) البداية والنهاية 8: 228.

١٣٠

والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل؛ فتكون في أموالهم نَهمته، ولا الجاهل فيُضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف عند المقاطع، ولا المعطّل للسُنَّة فيهلك الأُمَّة)(1) .

فلا يُنتظر بأُمَّة يكون أمرها بيد شخص مِثل يزيد بن مُعاوية إلاَّ الانحدار الـمُميت.

والعجب أنَّك ترى برغم هذه الحقائق التاريخيَّة، التي تُعرِّف شخصيَّة يزيد ترى مَن يُدافع عن هذا التاريخ الأسود تاريخ يزيد وسائر الأُمويِّين، ويُحاول أنْ يُصوِّر يزيد بن مُعاوية وكأنَّه ذلك الإنسان المثالي والحاكم الأمثل في تاريخ المسلمين.

فكأنَّما عقُمت الأُمَّة ليس فيها عُظماء وقادة تُقدِّمهم لسائر الأُمَم والشعوب، كنماذج إسلامية يُمثِّلون الواجهة الحضاريَّة للإسلام، وعَقم تاريخ المسلمين فلم يُنتج إلاَّ أمثال يزيد بن مُعاوية والحَجَّاج بن يوسف الثقفي، حتَّى تُدافع عنه مِن خلال الدفاع عن هؤلاء.

5 - بيعة يزيد بن مُعاوية

البيعة مأخوذة مِن البيع، وكما أنَّ البيع لا يتحقَّق إلاَّ بطرفين، البائع والـمُشتري، كذلك البيعة لها طرفان، وهما المبايِع - بالكسر - وهُمْ أفراد الأُمَّة أو الشعب، والـمُبايَع - بالفتح - وهو القيادة أو الحاكم الذي يتولَّى شؤون الأُمَّة والشعب. فهي على هذا عقد وميثاق بين الطرفين، فالـمُبايع يتعهَّد بالطاعة التامَّة للقيادة، والقيادة بدورها تتعهَّد بالقيام بشؤون الأُمَّة وإدارة حياتها طِبق القوانين السماويَّة.

وتُعتبر هذه البيعة ميثاقاً مُقدَّساً في نظر القرآن الكريم، فإنَّ القرآن اعتبر مُبايعة

____________________

(1) نهج البلاغة قطعة رقم 131 صُبحي الصالح.

١٣١

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن قِبَل المسلمين بيعة لله تعالى، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) .

فعلى هذا لا بُدَّ أنْ تعرف الأُمَّة بعد الرسول القائد لـمَن تُعطي بيعتها، فلا بُدَّ أنْ تكون يده يداً تُمثِّل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لتكون بيعته بيعة لله تعالى، إلاَّ أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة مُنيت بتلك النكسة، وذلك الانحراف الخطير حتَّى بلغ بها الحال أنْ تُبايع لشخصٍ مِثل يزيد بن مُعاوية.

لقد فُرِضت عليها تلك البيعة بقوَّة السلاح والمال، ولكنْ ذلك لا يُخلِّي الأُمَّة مِن المسؤوليَّة، ولا يُبرِّر لها ذلك الاستسلام والخنوع والسكوت عن ذلك الانحراف.

وطِبق ما يذكره المؤرِّخون أنَّ أوَّل مَن تحرَّك لتحقيق بيعة يزيد هو الـمُغيرة بن شُعبة، وكان والياً على الكوفة مِن قبل مُعاوية، فأحسَّ بأنَّ مُعاوية يُريد عَزله عن ولايته ويولِّي سعيد بن العاص مكانه، فتحرَّك لهذه الـمُهمَّة - بيعة يزيد - وليُقدِّم استقالته مِن هذا المنصب؛ لكي لا تكون عليه حَزازة في عَزله، وسافر إلى الشام واجتمع بيزيد، فأبدى له الإكبار وأظهر له الحُبَّ، وقال له: قد ذهب أعيان صحابة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكُبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنَّما بقي أبناؤهم وأنت مِن أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسُّنَّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة.

وغزت هذه الكلمات قلب يزيد؛ فشكره وأثنى على عواطفه وقال له: (أترى ذلك يتمُّ)، فكأنَّ يزيد نفسه لم يَكد يُصدِّق أنْ يتمَّ ذلك وأنْ يرضى المسلمون به خليفة؛ لما يعرفه مِن نفسه مِن الصفات التي تُبعده كلَّ البُعد عن مظاهر الحاكم الإسلامي فَضلاً مِن أنْ يكون يحمل روح الإسلام وجوهره.

____________________

(1) الفتح: 10.

١٣٢

ولكنْ عندما وجد هذا الدجَّال خاطبه بخطاب التمجيد والتقديس، انطلق إلى أبيه ودخل عليه وأخبر بمقالة الـمُغيرة.

ولا شكَّ أنَّ مُعاوية كان يُفكِّر في الموضوع، ولكنْ كان يضرب أخماساً في أسداس، بأيِّ طريقة يطرح هذه البيعة على الناس، فوجد مَن يدفعه إلى التحرُّك نحو انجاز ما كان يُفكِّر فيه.

فأحضر الـمُغيرة فبادره الـمُغيرة بقوله: (يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كان مِن سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خَلف، فأعقد له، فإنْ حدث بك حَدَث كان كهفاً للناس وخَلفاً منك، ولا تُسفك دماء ولا تكون فتنة، فقال مُعاوية: مَن لي بهذا؟

فقال الـمُغيرة: أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفي زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالفك؛ فأقرَّه مُعاوية على منصبه وأمره بالـمُبادر إلى الكوفة لتحقيق غايته، ولـمَّا خرج مِن عند مُعاوية قال لحاشيته: لقد وضعت رجل مُعاوية في غرز بعيد على أُمَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتقت عليه فَتْقاً لا يُرتق.

لَعمري، لقد شخَّص الـمُغيرة هذه البيعة قبل حدوثها بدِقَّة؛ لأنَّه يُدرك مدى آثار هذه المسألة على حياة أُمَّة محمد ومُستقبلها.

وسار الـمُغيرة إلى الكوفة يحمل الشَّرَّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين، وفورَ وصوله عقد اجتماعاً ضَمَّ عُملاء الأُمويِّين فعرض عليهم بيعة يزيد، فأجابوه إلى ذلك وأوفد جماعة منهم إلى دمشق، وجعل عليهم ولده موسى، فلـمَّا انتهوا إلى مُعاوية حفَّزوه على عقد البيعة ليزيد، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكِتمان، والتفت إلى ابن الـمُغيرة فقال له:

- بكم اشترى أبوك مِن هؤلاء دينهم؟

- بثلاثين ألف درهم.

١٣٣

- لقد هان عليهم دينهم، ثمَّ وصلهم بثلاثين ألف درهم(1) .

وبدأ مُعاوية يُمهِّد لهذه البيعة بمُختلف الأساليب والطُّرق، فسخَّر المال في ذلك ببذله بكلِّ سَخاء للوجوه والأعيان مِن الـمُتاجرين بالضمائر والأديان.

يقول المؤرِّخون: إنَّ مُعاوية دفع إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقَبِلها منه، وكان ابن عمر مِن أصلب الـمُدافعين عن بيعة يزيد(2) .

كما سخَّر مُعاوية الشعر في الدعاية لبيعة يزيد، فهذا مسكين الدارمي يقول بعدما أوعَز إليه مُعاوية أنْ يحثَّه على بيعة يزيد أمام مَن كان حضر مجلسه مِن أعيان الأُمويِّين وأهل الشام:

ألا ليتَ شِعري ما يقول ابن

عامر ومروان أمْ ماذا يقول سعيد

بني خُلفاء الله مَهلاً فإنَّما

يبوؤها الرحمان حيث يريد

إذا المِنبر الغربي خلاه ربُّه

فإنَّ أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون والجِدِّ ساعد

لكلِّ أُناس طائر وجَدود

فلا زلتُ أعلى الناس كعباً ولم يزل

وفود تُساميها إليك وفود

ولا زال بيت الـمُلك فوقك عالياً

تشدُّك أطناب له وعمود(3)

إضافة إلى ذلك أُسلوب التهديد بالقوَّة، حينما يحتمل وجود مُعارضة مِن أحد لهذه البيعة، فهذا أحد رجاله في جلسة مِن جلساته، التي دعا فيها إلى البيعة لابنه يزيد فعارضه بعض الحضور، فقام يزيد بن الـمُقفع فهدَّد الـمُعارضين باستعمال القوَّة قائلاً: (أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى مُعاوية - فإنْ هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - ومَن أبى

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص192.

(2) حياة الإمام الحسين: ج2: ص192.

(3) حياة الإمام الحسين: ج2: ص199 عن تاريخ ابن الأثير.

١٣٤

فهذا، وأشار إلى السيف؛ فاستحسن مُعاوية قوله وراح يقول له: (اجلس فأنت سيِّد الخِباء وأكرمهم)(1) .

وكان مقياس الكَفاءة للخلافة عند مُعاوية، الذي يؤهِّل ابنه لذلك هو حُبُّه لابنه ولا مقياس لديه غير ذلك، وهذا ما يتَّضح مِن كلمته التي ألقاها في مجلس في المدينة المنوَّرة، وقد جمع المجلس عدداً مِن الشخصيَّات: كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وقد عرض عليهم بيعة يزيد فرفضوا له ولم يستجيبوا لذلك، فقال في نهاية الاجتماع: وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحبُّ إليَّ مِن أبنائهم. وكان يُعرِّض بأمير المؤمنينعليه‌السلام ووَلديه الحسنين.

ومَن يدري لعلَّ مُعاوية قال ذلك مُقابل ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّ الحسينينعليهما‌السلام في تعبيره عن حُبِّه لهما! وإنَّ مُعاوية ليُفسِّر كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سِبطيه الحسنينعليهما‌السلام بأنَّها بدافع العاطفة الـمُجرَّدة! فما الذي يمنعه هو أيضاً مِن حُبِّ وَلده ويجعل له الخلافة ميراثاً يُخلِّفه لولده المحبوب؟!

وعلى كلِّ حال، فلقد تمَّت بيعة يزيد تحت أجواء مِن الإرهاب مِن جِهة والإغراء بالأموال، والإعلام الـمُضلِّل مِن جهة أُخرى.

ولمْ يتمرَّد على هذه البيعة - فرفضَ الاعتراف بها وثار في وجه يزيد مُدلِّلاً على الخطر الذي يُمثِّله حُكم يزيد وآل أُميَّة على الإسلام - لم يَقُمْ بذلك إلاَّ أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أعلن ذلك عند أوَّل مُحاولة مِن السلطات الأُمويَّة، بعد هَلاك مُعاوية لإخضاع الإمام للبيعة، فقال في مجلس الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان:

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص203.

١٣٥

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة، ومَعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة، ومَحلُّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر، قاتل النفس الـمُحترمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبِح وتُصبِحون، وننظر وتنظرون أيَّنا أحقَّ بالخلافة والبيعة)(1) .

وعندما حاصروه وضيَّقوا عليه الخِناق؛ ليُذعن لهم ويعترف بسلطانهم، رفع أبو الأحرار صوته قائلاً:

(لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرَّ فِرار العبيد)(2) .

____________________

(1) اللهوف: ص71، والفتوح لابن أعثم: ج5: ص14، واللفظ للأوَّل.

(2) مناقب آل أبي طالب: ج3: ص224، ط الحيدريَّة، وج4: ص75، ط آخر.

١٣٦

١٣٧

القراءة الثالثة

في البُعد الاجتماعي

أ - تمهيد

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

ج - جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

د - الـمُجتمع الكوفي واستجابة الإمام لرسائلهم

١٣٨

١٣٩

أ - تمهيد

يختلف الإسلام - كرسالة سماويَّة - عن سائر المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى، في تحديد الهدف النهائي مِن حياة الإنسان الاجتماعيَّة، فإنَّ المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى ترى أنَّ ضرورة الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، نابعة مِن ضرورة سَدِّ جميع احتياجاته الحياتيَّة؛ حيث إنَّ الإنسان لن يستطيع في حياة مُنفردة أنْ يَسدَّ احتياجاته بنفسه، بما في ذلك الحاجات المادِّيَّة والنفسيَّة، فلا بُدَّ له مِن حياة اجتماعيَّة؛ ليتمكن مِن سَدِّ تلك الاحتياجات مِن خلال روابطه الاجتماعيَّة.

فهذا هو الهدف النهائي للحياة الاجتماعيَّة في نظر هذه المدارس - ولا سِيَّما المدارس المادِّيَّة منها - والإسلام أيضاً لا يُنكر هذه الضرورة - أعني: ضرورة سَدِّ احتياجات الإنسان - ولعلَّ القرآن الكريم يُشير إلى ذلك في قوله تعالى:( ... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) (1) .

فقوله تعالى:( ... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) إشارة إلى أنَّ أفراد الـمُجتمع كلٌّ مِن موقعه ودوره يقوم بخدمة الـمُجتمع، ويُشارك في سَدِّ احتياجات الـمُجتمع، فهو مُسخَّر لخدمة الكلِّ بطريقة وأُخرى، إلاَّ أنَّ الإسلام لا يعتبر هذه الضرورة هدفاً نهائيَّاً لحياة

____________________

(1) الزخرف: 32.

١٤٠