قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45415
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45415 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإنسان الاجتماعيَّة، ويُمكن أنْ نُسمِّي هذا الهدف بالهدف الـمُتوسِّط، وأمَّا الهدف النهائي لذلك فهو أبعد مِن هذا الهدف.

والواقع أنَّ الغاية القُصوى للحياة الاجتماعيَّة، هي الاستزادة مِن التكامُل الروحي والمعنوي لكلِّ واحد مِن أفراد البشر، وهو ما يحصل عن طريق معرفة الله وعبادته ونيل رضاه والقُرب منه تعالى.

وبعبارة أُخرى: فإنَّ الحياة الاجتماعيَّة وتأمين الحاجات المادِّيَّة والدنيويَّة - كلَّها - مُقدَّمة مِن أجل أنْ يُصبح أكبر عدد مِن الناس عابدين لله، وأنْ يتقدَّم عباد الله مَهْما أمكن في مسيرة العبادة والخضوع للباري، يقول عَزَّ وجلَّ:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شيئاً ) (1) .

حيث تدلُّ على أنَّ الحكومة واستقرار الدين والنظام والأمن والهدوء - كلُّها - مُقدِّمة لتوسيع وتعميق عبادة الله والإيمان به وتوحيده كمَّاً وكيفاً(2) .

ومِن جِهة أُخرى يختلف الإسلام أيضاً عمَّا يراه أغلب الـمُفكِّرين الاجتماعيِّين في نظرتهم للدين؛ فإنَّهم اعتبروا الدين إحدى الركائز التي تقوم عليها الحياة الاجتماعيَّة، إلى جانب سائر الركائز الأُخرى الـمُتمثِّلة في:

1 - الأُسرة.

2 - الاقتصاد.

3 - التربية والتعليم.

____________________

(1) النور: 55.

(2) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص37.

١٤١

4 - الحُقوق.

5 - الحُكومة.

فهُمْ يرون الدين ركيزةً كسائر الركائز الأُخرى المذكورة، التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي لحياة الإنسان، بينما يرى الإسلام غير ذلك؛ إذ لا بُدَّ مِن القول: بأنَّ الدين لو كان بمعنى ارتباط الإنسان بالله في إطار العبادات - بالمعنى الخاص - لأمكن عَدُّه مِن جُملة الركائز الاجتماعيَّة.

إلاَّ أنَّ هذا المعنى الضيِّق - الـمُنسجم مع رؤية الثقافة الغربيَّة للدين - ليس مورد قبولنا، فمِن وجهة نظرنا يكون الدين هو المنهج الصحيح والمطلوب للحياة الإنسانيَّة، بحيث يشمل جميع أبعاد ووجوه الحياة للفرد والـمُجتمع. وبالإضافة إلى العقائد والأخلاق والعبادات بالمعنى الخاص، فإنَّه يشتمل على أنواع الحقوق وأقسامها، ومِن جُملته الحقوق السياسيَّة والحقوق الفضائيَّة والحقوق المدنيَّة (مِثل حُقوق الأُسرة)، وبناءً على هذا فهو - إذاً - يضمُّ تحت مَظلَّته جميع الركائز الاجتماعيَّة ويُهيمن ويُشرف عليها ويُسيِّرها(1) .

ومتى ما انحرفت إحدى تلك الركائز عن توجيهات الدين وقيمومته؛ لم تعد ركيزة اجتماعيَّة إسلامية بالمعنى الصحيح، وهناك أمر ثالث أيضاً تختلف فيه وجهة نظر الإسلام عن بقيَّة المدارس الاجتماعيَّة، وهو تحديد أهمِّ الركائز الاجتماعيَّة وأعظمها تأثيراً على مسيرة الحياة الاجتماعيَّة، حيث يرى الإسلام أنَّ أهمَّ الركائز تأثيراً هي ركيزة التربية والتعليم، وليس ركيزة الاقتصاد - مَثلاً - كما ترى المدرسة الماركسيَّة.

قال بعض الـمُفكِّرين والباحثين الإسلاميِّين: إنَّه بفضل ركيزة التربية والتعليم يمكننا ترسيخ أو تقوية أو إصلاح سائر الركائز بحيث تقرّب المجتمع إلى أهدافه

____________________

(1) المصدر السابق: ص368.

١٤٢

المتوسطة، ومِن ثمَّ إلى هدفه النهائي؛ ولهذا فإنَّ ركيزة التربية والتعليم إذا لم تَسِر سيرة صحيحة، فإنَّ سائر الركائز سوف تُمنى - عاجلاً أمْ آجلاً - بالاختلال وعدم النظام، وتتعرَّض جميع شؤون الحياة الاجتماعيَّة لخطر الفَساد والتدمير.

إنَّ ركيزة التربية والتعليم تُيسِّر أمر توعية الناس بالأحكام والقوانين الاجتماعيَّة والحقوقية، وترغيبهم في تطبيق القوانين والـمُقرَّرات، وفي التعاون مع المؤسَّسات الاجتماعيَّة والحكوميَّة.

وبهذه الصورة يَسهل علينا تبنِّي وتبرير هذا الأمر، وهو أنَّ الله تعالى جعل مُهمَّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مقصورة على تِلاوة آيات الله للناس وتربيتهم، وتعليمهم الكتاب والحِكمة، بمعنى أنَّها تتلخَّص في التربية والتعليم.

فالتربية والتعليم هي التي تُعرِّف الناس الهدف الأعلى للحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة، وتُربِّيهم وتجعلهم يَخطون نحو ذلك الهدف بسهولة ويُسر وسرعة، وأمَّا سائر الركائز: كالعائلة، والاقتصاد، والحقوق، والحُكومة فهي ليست سِوى مُقدِّمة ووسيلة لتهيئة الأرضيَّة لسير الناس وسلوكهم المعنوي.

والفائدة العمليَّة التي يُمكن استنتاجها مِن هذا الحديث، هي أنَّ الخُطوة الأُولى لتحسين الأوضاع والأحوال الـمُختلفة للـمُجتمع الفاسد الـمُضطرب وغير الـمُتوازن، هي إصلاح نظام التربية والتعليم فيه، كما أنَّ الخُطوة الأُولى التي تجرُّ الـمُجتمع نحو الفَساد هي إفساد نظام تربيته وتعليمه(1) .

إذاً، فركيزة التربية والتعليم مُهمَّة وخطيرة جِدَّاً في الـمُجتمع الإسلامي، وهي أخطر وأهمُّ مِن ركيزة التربية والتعليم في سائر الـمُجتمعات، التي هي: إمَّا أنْ تكون غير مُهتمَّة

____________________

(1) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص370 وص371.

١٤٣

بالدين، وإمَّا أنْ تكون مُعتبرة إيَّاه ركيزة إلى جانب الركائز الأُخرى، بحيث تَعدُّ حدوده مُنفصلة عن حدود الأُسرة والاقتصاد والحقوق والحكومة.

ومِن الواضح أنَّ المقصود مِن ركيزة التربية والتعليم ما هو أعمُّ مِن النشاطات، التي تنهض بها مُنظَّمات مِن قِبَل المدارس الابتدائيَّة والـمُتوسِّطة والثانويَّة والجامعات، بحيث يشمُل أيَّ جُهدٍ يُبذَل في مضمار تثقيف الـمُجتمع وتعليمه وتربيته، وبناءً على هذا تُصبح النشاطات التي تقوم بها الإذاعة والتلفزيون والصُّحف والـمَجلاَّت، والكتب والرسائل، والسينما والـمَسْرح، وخُطب صلاة الجمعة، والمراسيم القوميَّة والشعائر، والـمَناسك الدينيَّة والـمُحاضرات والـمُظاهرات السياسيَّة والنشاطات الفنيَّة و... كلُّها داخلة ضمن إطار التربية والتعليم(1) .

____________________

(1) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص373.

١٤٤

١٤٥

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

لا شكَّ أنَّ الإسلام له مُخطَّط ومنهج خاصٌّ لبناء الـمُجتمع المثالي، الذي يتناسب مع رسالة السماء، وذلك مِن خلال إخضاع الركائز الخَمس الاجتماعيَّة السالفة الذِكر لقيمومة وتوجيهات الوحي الإلهي(الدين) ؛ لتسير الحياة الاجتماعيَّة بخُطى ثابتة على طريق تكامل الإنسان في سيره نحو الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (1) ، ولا يُمكن للـمُجتمع الإسلامي أنْ يتكامل ليُصبح مُجتمعاً مِثاليَّاً فاضلاً، إلاَّ بإخضاع جميع ركائزه لتوجيهات الرسالة الإلهيَّة.

ولكنْ عندما استولى الأُمويُّون على مقاليد السُّلطة، سعوا بكلِّ جُهدهم إلى خَلخلة كلِّ الركائز للـمُجتمع الإسلامي؛ لأنَّ مُخطَّط الإسلام ومنهجه لبناء مُجتمعه، لا يسمح للحُكَّام الأُمويِّين بأنْ يتلاعبوا في مُقدَّرات الأُمَّة والـمُجتمع، فهم على طرفي نقيض مُخطَّط الإسلام الصحيح؛ فعمدوا إلى نقض القواعد الأساسيَّة لبناء الـمُجتمع الإسلامي، وبما أنَّ أهمَّ الركائز الاجتماعيَّة وأعظمها تأثيراً في حياة الـمُجتمع سَلباً وإيجاباً هي ركيزة التربية والتعليم - كما سبق - فقد اجتهد الأُمويُّون في تغيير مسار هذه الركيزة.

أوَّلاً: عن طريق إيجاد ثقافة مُصطنعة مكذوبة كبديل عن الثقافة الإسلاميَّة الأصيلة، وسخَّروا وسائل التربية والتعليم الـمُتاحة آنذاك لتربية أجيال الأُمَّة على هذه الثقافة.

____________________

(1) الانشقاق: 16.

١٤٦

قال العلاَّمة الشيخ القرشي: ووضعت الحكومة لِجان الوضع، ورصدت لها الأموال الهائلة لتضع الأحاديث على لسان الـمُنقذ العظيم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتكون مِن بنود التشريع وتلحق بقافلة السُّنَّة التي هي مِن مدارك الأحكام، وقد راح الوضَّاعون يُلفِّقون الأكاذيب وينسبونها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثير مِمَّا وضعوه يتنافى مع منطق العقل ويتجافى مع سُنَّة الحياة، ومِن المؤسِف أنَّها دُوِّنت في كُتب السُّنَّة وأُدرجت في كُتب الأخبار، مِمَّا اضطرَّ بعض الغيارى مِن علماء المسلمين أنْ يُألِّفوا بعض الكتب التي تدلُّ على بعض تلك الموضوعات.

وفيما أحسب أنَّ هذا الـمُخطَّط الرهيب مِن أفجع ما رُزي به المسلمون، فإنَّه لم يكن الابتلاء به آناً مِن الزمن، وإنَّما ظَلَّ مُستمرَّاً مع امتداد التاريخ، فقد تفاعلت تلك الموضوعات مع حياة الكثير مِن المسلمين، وظلُّوا مُتمسِّكين بها على أنَّها جزء مِن دينهم، وقد وضِعت الحواجز في نموِّ المواهب وانطلاق الفكر، كما بقيت حَجر عثرة في طريق التطوُّر والإبداع الذي يُريده الإسلام لأبنائه(1) .

ومِن الطبيعي أنَّه إذا تمَّت خَلخلة هذه الركيزة الأهمِّ مِن بين الركائز الاجتماعيَّة - أعني: ركيزة التربية والتعليم - تسهل السيطرة على أفكاره وثقافته، ولم يعد يتوجَّه إلاَّ إلى حيث تُوجِّهه تلك الأفكار وتلك الثقافات؛ لذا كانت جهود الأُمويِّين مُنصبَّة على بعث القِيم الجاهليَّة مِن جديد، وضرب القِيم والثقافة التي جاءت لتُربِّي الإنسان المسلم تربية تكامليَّة على ضوء تعاليم السماء، ولقد رفض الإسلام العصبيَّة بكلِّ أشكالها: مِن عنصريَّة، وقبليَّة، وطبقيَّة ووضع القرآن الكريم المقياس الإلهي لكرامة الإنسان وقيمته عند الله تعالى، فقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص12.

١٤٧

وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (1) ، وعَمِل الإسلام على كَسر الحواجز والسدود مِن بين فئات الـمُجتمع، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤكِّد على المسلمين في ترك العصبيَّة الجاهليَّة، إلاَّ أنَّ الأُمويِّين قد حاربوا هذه القِيم وبكلِّ ما لديهم مِن إمكانيَّات.

قال العلاَّمة الشيخ القَرشي: وبنى مُعاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت شملهم وبثِّ روح التفرقة والبغضاء بينهم؛ إيماناً منه بأنَّ الحُكم لا يُمكن أنْ يستقرَّ له إلاَّ في تفكُّك وحدة الأُمَّة، وإشاعة العداء بين أبنائها، يقول العقَّاد: (وكانت له - أيْ مُعاوية - حيلته التي كرَّرها وأتقنها، وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة مِن المسلمين وغير المسلمين، وكأنَّ قوام تلك الحيلة العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه لإلقاء الشُّبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم، ومنهم مَن كان مِن أهل بيته وذوي قُرباه كان لا يُطيق أنْ يرى رجُلين ذوي خطر على وفاق. وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار مِمّا يُعينه على الإيقاع بهم).

لقد شتَّت كلمة المسلمين وفصم عُرى الأُخوَّة الإسلاميَّة، التي عقد أواصرها الرسول الكريم وبنى عليها مُجتمعه(2) .

وإذا أضفنا إلى ذلك المظاهر الأُخرى لسياسة الأُمويِّين، الـمُتعلِّقة بسائر الركائز الاجتماعيَّة كسياستهم الماليَّة والاقتصادية، فإنَّهم قد اتَّبعوا مع الأُمَّة سياسة التجويع والحِرمان مِن جِهة، وسياسة شِراء الضمائر والأديان مِن جِهة أُخرى، فإنَّ مِن الضروري أنْ تكون نتيجة كلِّ ذلك أنْ تنحرف الأفكار، وتفسد الضمائر والأخلاق

____________________

(1) سورة الحُجرات: 13.

(2) حياة الإمام الحسين: ج2: ص134 - 135.

١٤٨

وتضعف روح التديُّن في القلوب، وتُباع الأديان والقيم بالأموال، وبهذا يفسد الـمُجتمع بفساد جميع فئاته وطبقاته، وبذلك تسهل السيطرة عليه واستعباده.

ذكر المؤرِّخون أنَّ جماعة مِن أشراف العرب وفدوا على مُعاوية، فأعطى كلَّ واحد منهم مائة ألف وأعطى الحتات عَمَّ الفرزدق سبعين ألفاً، فلـمَّا علم الحتات بذلك رجع مُغضباً إلى مُعاوية فقال:

قضمتني في بني تميم، أمَّا حَسَبي فصحيح، أوَ لستُ ذا سنٍ؟ ألستُ مُطاعاً في عشيرتي؟

قال: بلى.

قال: فما بالك خسست بي دون القوم؛ أعطيت مَن كان عليك أكثر مِمَّن كان لك؟!

فقال مُعاوية بلا حياء أو خجل: إنِّي اشتريت مِن القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.

فقال: انا اشترِ منِّي ديني، فأمر له بإتمام الجائزة(1) .

وقد عايش سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام هذه المظاهر وهذه النتائج، وشاهدها عن كَثْب وقلبه يعتصَّر ألماً، وهو يرى ذلك الـمُجتمع يبتعد عن منابع الإسلام وروافد الرسالة، ويسير نحو مُنحدر خطير.

وقد شخَّص الإمام جوانب الأوضاع الاجتماعيَّة الـمُتدهورة آنذاك في المؤتمر الشعبي الذي عقده في مِنى، وقد ذكرنا شَطراً منه في القِسم الثاني مِن هذه القراءات، قالعليه‌السلام مُخاطباً تلك النُّخبة الـمُجتمعة في ذلك المؤتمر مُشيراً إلى بعض الأمراض الاجتماعيَّة الـمُتفشِّية في وسط هذه الطبقة، التي تُعتبر نُخبة الـمُجتمع، قالعليه‌السلام :

(قد خشيتُ عليكم - أيُّها الـمُتمنُّون على الله - أنْ تحلَّ بكم نقمة مِن نقماته؛ لأنَّكم بلغتم مِن كرامة الله منزلة فُضِّلتم بها ومَن يُعرَف بالله لا تُكرِمون، وأنتم بالله في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذِمم آبائكم تفزعون وذِمَّة

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص128.

١٤٩

رسول الله مَحقورة، والعُمي والبُكَّم والزُّمَّن في المدائن مُهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا مَن عَمِل فيها تعنون، وبالادِّهان والـمُصانعة عند الظلمة تأمنون، وأنتم أعظم الناس مُصيبة لِمَا غلبتم عليه مِن منازل العلماء لو كنتم تسمعون)(1) .

هذا على مُستوى النُّخبة مِن فئات الـمُجتمع، فكيف يكون الحال على الـمُستوى العامِّ للساحة الاجتماعيَّة، وقد أشار الإمام في أحد بياناته إلى الوضع العامِّ الذي يعيشه الـمُجتمع الإسلامي، فقالعليه‌السلام :

(وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاَّ صَبابة كصَبابة الإناء، وخسيس عيش كالـمَرعى الوَبيل، ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء رَبِّه مُحقَّاً)(2) .

ومِن الواضح أنَّ الإمامعليه‌السلام لا يُريد بالدنيا الحياة بما هي حياة بليلها ونهارها، وإنَّما يُريد بذلك الدنيا الاجتماعيَّة، حيث تغيَّرت أوضاع الـمُجتمع، وتنكر للإسلام في سلوكه ومظاهر حياته، ولم يبقَ مِن ظواهر الحَقِّ في الوسط الإسلامي، إلاَّ بقايا كالبقايا مِن الماء الـمُتخلفة في الإناء بعد شرب ما فيه، وهذه هي الصبابة، أو بقايا المرعى حينما تُداهمه الأنعام بالرعي فتقضي على نظارته وحياته، فلا تترك إلاَّ البقايا الـمُتناثرة هنا وهناك

____________________

(1) تحف العقول: ص172، والبحار: ج97: ص80.

(2) اللهوف: ص48، والبحار: ج44: ص381، واللفظ للأوّل.

١٥٠

وهذا هو المرعى الوبيل، وحينما يقولعليه‌السلام : (ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه)، لا يُريد بذلك فقط على مُستوى الحُكَّام، بلْ يُشير إلى أوضاع الـمُجتمع بكلِّ فئاته وطبقاته، حيث أصبح بعيداً عن الحَقِّ والعمل به؛ لأنَّ جميع ركائزه الاجتماعيَّة قد أُفسِدت فانحرفت المجُتمع عن مساره الذي يُريده له الإسلام الحَقُّ.

١٥١

جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

قد يوجد مَن يعتقد أو يظنُّ بأنَّ الثورة الـمُقدَّسة، التي قام بها أبو عبد الله الإمام الحسينعليه‌السلام إنَّما هي استجابة لتكليف شَخصي به لا يتعدَّاه إلى غيره مِن سائر الأُمَّة.

ولا شكَّ أنَّ هذا الاعتقاد أو الظنَّ واضح البطلان، فإنَّ التكليف بالوقوف في وجه الانحراف والفساد واجب يشمل كافَّة الأُمَّة، فهي مُكلَّفة بأنْ تنهض في وجه الظالم، الذي يسحقُّ كرامتها ويفسد حياتها، وإنَّما تحرَّك أبو الأحرار انطلاقاً مِن موقعه القيادي كإمام للأُمَّة، فهو المسؤول الأوَّل في عصره، أو كما قالعليه‌السلام : (... وأنا أحقُّ مَن غيَّر...).

(لذا فقد كانت خطابات الحسين كلُّها تستحثُّ الهِمم للالتحاق به وبمسيرته، لم يقل لأحد: إنَّها مُهمَّة خاصَّة بي أنا وحدي، وعليك أنْ تلتحق بي؛ لأنِّي بحاجة شخصيَّة إليك، إنَّما قال: إنَّ الإسلام بحاجة لنا جميعاً، وعلنيا ألاَّ نتردَّد ببذل الغالي مِن التضحيات حتَّى وإنْ كانت أنفسنا ودماءنا.

وهكذا التحق به أصحابه، بعد أنْ أدركوا أنَّهم مُكلَّفون مثله بهذه الـمُهمَّة، وأنَّ أمرها غير مُقتصر عليه وحده، ولم يقل أحد منهم: ما شأني أنا؟ وهذه الـمُهمَّة صعبة لا يقدر عليها إلاَّ الحسين ومَن هُمْ مِن أمثاله... فهل رأينا في مسار الثورة كلِّها، وفي حركة الحسينعليه‌السلام خلال حوالي أربعة أشهر ما يُشير إلى أنًّه قال: إنَّ كلَّ ما كان يقوم به إنَّما

١٥٢

هو تكليف خاصٌّ به هو لا غيره، وإنَّه سيذهب دون اهتمام بالنتائج بعمليَّة انتحاريَّة ليس ورائها هدف؟

لقد كانت ثورة الحسين استجابة لأوامر مِن عالم الغيب، أعلمه بها جَدُّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا صحيح ولكنَّ الأوامر الإلهيَّة كانت موجَّهة لكلِّ الأُمَّة وليس للحسين وحده، وكانت استجابته وأصحابه لها استجابة واعية؛ فإنَّ قضية الحسين هنا لن تكون مفهومة أمام الجماهير، ولن يتسارع أحد للـمُشاركة فيها، وإنَّما عنه لو كان التكليف الإلهي تكليفاً خاصَّاً به هو شَخصيَّاً، وإلاَّ ما هي الآثار التي يُمكن أنْ تتركها حركته لو كانت شخصيَّة على الأجيال فيما بعد)(1) .

ولذلك حرص أبو عبد الله على أنْ تكون ثورته جماهيريَّة التأثير والاستمرار، برغم أنَّه كان عارفاً بالظروف الموضوعيَّة، التي يعيشها الـمُجتمع الإسلامي آنذاك، ويعلم أنَّ الأُمَّة لن تستجيب لصوته استجابة سريعة، إلاّ أنَّه أصرَّ إلاَّ أنْ يوصِل أنباء نهضته إلى سائر البلاد الإسلاميَّة لإيجاد جمهور لثورته، سواء ذلك على مُستوى الاستجابة العاجلة الـمُتمثِّلة في النُّخبة التي ضحَّت معه، أمْ على مُستوى مِن يَنضمُّ إلى جمهور الثورة فيما بعد الواقعة، وهذا الحُرص مِن الإمام يُمكن مُلاحظته فيما يلي:

أ - إعلانه عن عزمه على الثورة في البيت الحرام وفي موسم الحَجِّ، حيث التجمُّع السنوي للمسلمين مِن مُختلف البُّلدان الإسلاميَّة، وتصريحه بالدعوة إلى الشهادة والتضحية، فقالعليه‌السلام :

(ألا ومَن كان باذلاً فينا مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا؛ فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله)(2) .

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ص51 وص53.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص 54: هامش 2.

١٥٣

ب - دعوته لبعض مَن يلقاه في طريقه إلى الشهادة، فمنهم مَن يستجيب لدعوته كزهير بن القين، لـمَّا جمعته ظروف الطريق مع الحسين في منزل مِن المنازل، وكان زهير عثمانيَّ الهوى - كما يقول المؤرِّخون - ولكنْ لـمَّا دعاه الحسينعليه‌السلام إلى نُصرته استجاب إلى ذلك، فكان مِن الشهداء مع الإمام الحسينعليه‌السلام .

ومنهم مَن لم يُجب الدعوة، كعبيد الله بن الحُرِّ، حيث اجتمع معه الإمام في قصر بني مُقاتل، فدعاه إلى النُّصرة قائلاً:

(يا ابن الحُرِّ، فاعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ مؤاخذك بما كسبت وأسلفت مِن الذنوب في الأيَّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك مِن الذنوب، وأدعوك إلى نُصرتنا أهل البيت)(1) .

ألقى ابن الحُرِّ معاذيره الواهية، فحرم نفسه السعادة والفوز بنُصرة سِبط الرسول قائلاً: والله، إنِّي لأعلم أنَّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكنْ ما سعى أنْ أُغني عنك ولم أُخلِّف لك بالكوفة ناصراً. فأُنشدك الله أنْ تحملني على هذه الخُطة فإنَّ نفسي لا تسمع بالموت، ولكنْ فرسي هذه (الـمُلحِقة) والله ما طلبتُ عليها شيئاً إلاّ لحقته، ولا طلبني أحد عليها إلاَّ سبقته فهي لك.

- وما قيمة فرسه عند الإمام؟ -

فردَّ عليه قائلاً:

(يا ابن الحُرِّ، ما جئناك لفرسك وسيفك، إنَّما أتيناك لنسألك النُّصرة، فإنْ كنت قد بخلت علنيا بنفسك فلا حاجة لنا في شيءٍ

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم: ج5: ص47.

١٥٤

مِن مالك، ولم أكن بالذي اتَّخذ الـمُضلِّين عَضُداً، وإنِّي أنصحك كما نصحتني إنْ استطعت ألاَّ تسمع صُراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل؛ لأنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول: مَن سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حَقِّهم إلاَّ أكبَّه الله على وجهه في النار)(1) .

فاطرق ابن الحُرِّ برأسه إلى الأرض وقال بصوت خافت حياءً مِن الإمام: أمَّا هذا فلا يكون أبداً إنْ شاء الله تعالى(2) .

إلاَّ أنَّ عبد الله بن الحُرِّ كان بعد مقتل الحسينعليه‌السلام مِن أشدِّ النادمين على تفويته الفُرصة، وقد نَظَمَ حُزنه وأساه في هذه الأبيات:

فيا لك حسرة ما دُمْت حيَّاً

تُردَّد بين صدري والتراقي

غُداة يقول لي بالقصر قولاً

أتتركنا وتزمع بالفِراق

حسين حين يطلب بذل نصري

على أهل العداوة والشِّقاق

فلو فلق التلهُّف قلبَ حُرٍّ

لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق

ولو واسيته يوماً بنفسي

لنلت كرامةً يوم التلاق

مع ابن محمد تفديه نفسي

فودَّع ثمَّ أسرع بانطلاق

لقد فاز الأُوْلى نصروا حسيناً

وخاب الآخرون ذوو النِّفاق(3)

فهذا الشعر ينمُّ عن حَسرةٍ وندمٍ عميقين صادقين، كان يعيشهما ابن الحُرِّ على

____________________

(1) الفتوح (ابن أعثم) 5: 47.

(2) حياة الإمام الحسين: ج3: ص87 وص88.

(3) حياة الإمام الحسين 3: 313.

١٥٥

تفويته الفرصة، وقد رثى ابن الحُرِّ شُهداء الثورة في أبيات له، لـمَّا أرسل عليه ابن زياد وأبلغه الشرطة بطلبه أجابهم قائلاً: أبلغوه عنِّي أنِّي لا آتيه طائعاً أبداً.

ثمَّ اجتمع حوله رجاله فخرج بهم نحو كربلاء، فألقى نظرة على بطحاء الطَّفِّ، حيث رثى ريحانة الحبيب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفوة أهل البيت وأعظم الرجال الأنصار، فقال الأبيات التالية، حيث ما برح النَّدم يُلازمه أبداً:

يقول أميرٌ غادرٌ وابنُ غادر

ألا كنتً قاتلت الحسين بن فاطمة

فيا ندمي ألاَّ أكون نصرته

ألاْ كلُّ نفسٍ لا تُسدَّد نادمة

وإنِّي لأنِّي لم أكُنْ مِن حُماته

لذو حَسرة ما إنْ تُفارق لازمة

سقى الله أرواح الذين تآزروا

على نُصرة سقياً مِن الغيث دائمة

وقفت على أجداثهم ومحالهم

فكاد الحشى ينقضُّ والعين ساجمة

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سُراعاً إلى الهيجاء حُماةً ضراغمة

فإن يقتلوهم كلُّ نفسٍ تقية

على الأرض قد أضحت لذلك واجمة

وما إنْ رأى الراؤون أفضل منهم

لدى الموت سادات وزهر قَماقمة

أتقتلهم ظُلماً وترجو وِدادنا

فدع خُطَّةً ليستْ لنا بمُلائمة

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم

فكم ناقمٍ مِنَّا عليكم وناقمة

أهِمُّ مِراراً أن أسير بجَحفل

إلى فئة زاغت عن الحَقِّ ظالمة

فكفُّوا وإلاَّ زدتكم في كتائب

أشدُّ عليكم مِن زحوف الديالمة(1)

وقد كشفت هذه الأبيات عن رَدَّة الفعل التي تركتها الواقعة في نفس هذا الرجل، حيث أصبح يعيش حالة مِن النِّقمة الـمُتأجِّجة على النظام الحاكم، فهو يَهمُّ بالنهوض في وجه مِن ارتكبوا هذا الـمَجزرة الدامية، ومِن المؤكَّد أنَّ هذه الحالة لا يعيشها ابن الحُرِّ

____________________

(1) التسيير الذاتي لأنصار الحسين: ص189.

١٥٦

فقط، بلْ إنَّ هناك العديد مِن النادمين مِن أهل الكوفة على فوات الفُرصة عليهم، ومَن كانوا في حالة الغليان على النظام الأُموي، وكلُّ هؤلاء جزء مِن جمهور الثورة فيما بعد الواقعة.

ج - مِن الأُمور التي تُشير إلى حرص أبي الأحرار على جعل ثورته ثورة جماهيريَّة، بمعنى أنْ يكون لها بُعدٌ اجتماعيٌّ مُستمرٌّ، ومِن المؤشِّرات إلى ذلك إرساله لعدد مِن الرسائل، إلى بعض الأعيان والشخصيَّات مِن أهل الكوفة والبصرة، ومِن جُملة مَن كتب إليهم الإمام مِن أهل البصرة: مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والزعيم المجاهد يزيد بن مسعود النهشلي، الذي قام بجمع بني تميم وبني حَنظلة وبني سعد، وقام فيهم خطيباً وعرض عليهم ما هو عازم عليه، وقد جاء في خطابه قوله: إنَّ مُعاوية مات فأهون به - والله - هالكاً ومفقوداً، ألا وإنَّه قد أنكر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد أحدث بيعة، عقد بها أمراً ظنَّ أنْ قد أحكمه، وهيهات الذي أراد، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، ويزيد شارب الخمور ورأس الفجور، يدَّعي الخلافة على المسلمين ويتأمَّر عليهم مع قُصْر حِلمٍ وقِلَّة علمٍ، لا يعرف مِن الحَقِّ موطئ قدمه.

فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لَجِهاده على الدين أفضل مِن جهاد الـمُشركين.

وهذا الحسين بن علي بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أوْلى بهذا الأمر لسابقته وسِنِّه وقِدَمه وقَرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيَّة، وإمام قوم وجبت لله به الحُجَّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحَقِّ ولا تسكعوا في وَهدة الباطل... وها أنا قد لبست للحرب لامتها وادَّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتل يَمْت، ومَن يهرب لم يفت(1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج44: ص338.

١٥٧

ونلمس النتيجة التي خرج بها هذا الزعيم مِن موقفه، نلمس ذلك مِن رسالته إلى الإمام الحسين، حيث كتب للإمامعليه‌السلام رسالته التالية: (بسم الله الرحمن الرحيم: أمَّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبْتني إليه ودعوتني له مِن الأخذ بحظِّي مِن طاعتك، والفوز بنصيبي مِن نُصرتك، إنَّ الله لم يُخلِ الأرض قطُّ مِن عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حُجَّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرَّعتم مِن زيتونة أحمديَّة هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِم سعدتَ بأسعد طائر، وقد ذلَّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدَّ تثابتاً في طاعتك مِن الإبل الظِّماء لورود الماء يوم خمسها، وقد ذللَّت لك رقاب بني سعد وغسلت دَرن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استحلَّ برقها فلمع)(1) .

إلاَّ أنَّ رسالة النهشلي لم تصل إلى الإمام إلاَّ في وقت مُتأخِّر، حيث وصلت إليه العاشر مِن الـمُحرَّم، وقد نشبت الحرب بين الطرفين، فلـمَّا قرأها الإمام قالعليه‌السلام :

(مالك، آمنك الله مِن الخوف وأعزَّك وأرواك يوم العطش)(2) .

والذي يبدو واضحاً أنَّ سعي النهشلي ما كان يتناسب وسرعة سعي الثورة، وإذا كان سعيه بطيئاً فهو نتيجة طبيعيَّة لضغط الظروف عليه، ولربَّما كان بطيئاً قياساً لسرعة الثورة الحسينيَّة المجيدة.

فقد تحرَّك وهو يقود رجاله فساروا مسافة، ثمَّ ما لبثوا أنْ وافاهم نبأ انتهاء الصراع بمقتل الإمام السبط ومَن معه، فصُدِم النهشلي صدمةً عظيمة أودت بحياته - كما روي أو كما عبَّر التاريخ بالقول: - فجزع مِن انقطاعه عنه(3) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج44: ص339.

(2) البحار: ج44: ص339.

(3) البحار: ج44: 339.

١٥٨

إنَّ هذا الزعيم النشهلي ومَن معه لم يُكتب لهم الاشتراك في المعركة، إلاَّ أنَّه مِمَّا لا شكَّ في أنَّ هؤلاء سوف يُصبحون جُزءاً مِن جمهور الثورة، الذي بدأ يتَّسع نِطاقه بعد حادثة الطَّفِّ مُباشرة.

بينما هناك مجموعة مِن جماهير الثورة مِن أهل البصرة، استطاعوا أنْ ينضمُّوا إلى قافلة الشهداء مِن رجال الثورة، مع أنَّ هؤلاء لم تصل إليهم رسائل مِن الإمام الحسينعليه‌السلام بصورة خاصَّة، بلْ اندفعوا للخروج لينضمُّوا إلى المسيرة الثوريَّة، بوحي تلك الرسائل التي بعثها الإمام إلى عددٍ مِن الشخصيَّات في البصرة، فعند سَماعهم بوصول الرسائل مِن الإمام اكتفوا بذلك، فقرَّروا الخروج مِن البصرة نحو مَكَّة الـمُكرَّمة للانضمام إلى ركب الإمام، رغم صعوبة الظرف الذي تعيشه البصرة آنذاك وقد أُغلقت حدودها.

وعلى رأس هؤلاء يزيد بن نبيط العبدي، وانظم إليه عامر بن مسلم العبدي، ومولى عامر، وسيف بن مالك العبدي، والأدهم بن أُميَّة العبدي، فكانت عِدَّتهم سبعة مع ابن نبيط نفسه وولديه، فاستطاع هؤلاء أنْ يتجاوزوا تلك المخاطر التي تعيشها البصرة، فأدركوا الركب الحسيني في الأبطح مِن مَكَّة(1) .

واستمرَّ الإمام في دعوته إلى الوقوف معه في جهاده الـمُقدَّس إلى آخر أيَّام المسيرة الجهاديَّة، فقبل الواقعة بقليل اقترح حبيب بن مُظاهر الأسدي على الإمام قائلاً: إنَّ هاهنا حيَّاً مِن بني أسد أعراباً ينزلون بالنهرين، وليس بيننا وبينهم إلاَّ دواحة، أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم لعلَّ الله أنْ يجد بهم إليك نفعاً ويدفع عنك مكروهاً؟.

فأذن له الإمام فانطلق مُسرعاً إليهم، ولـمَّا مَثُل عندهم قال: إنِّي أدعوكم إلى شرف الآخرة وفضائلها وجسيم ثوابها، أنا أدعوكم إلى نُصرة ابن بنت رسول الله نبيِّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص147.

١٥٩

فقد أصبح مظلوماً، دعاه أهل الكوفة لينصروه فلـمَّا أتاهم خذلوه وعدوا عليه ليقتلوه.

فاستجاب سبعون شخصاً... وخفُّوا إلى نُصرة الإمام، إلاَّ أنَّه كان في المجلس عين لابن سعد فأسرع إليه وأخبره بذلك؛ فجهَّز مفرزةً مِن جيشه بقيادة جبلة بن عمرو، فحالوا بينهم وبين الالتحاق بالحسين، فرجع حبيب حزيناً فأخبر الإمام بذلك فقال: (الحمد لله كثيراً)(1) .

فهؤلاء الجماعة الذين حيل بينهم وبين الوصول إلى الإمامعليه‌السلام لا شكَّ أنَّهم سوف ينضمُّون إلى جماهير الثورة فيما بعد الواقعة، هذا جزء مِن التخطيط الحسيني في توسيع القاعدة الجماهيريَّة للثورة الـمُقدَّسة، وإلاَّ فماذا تُفسَّر هذه الدعوات مِن هذا القائد، الذي يعلم علماً يقينيَّاً بأنَّه سوف يُقتل هو ومَن معه، وأنَّ أيَّ شخصٍ ينضمُّ إليه، فإنَّه ينضمُّ إلى قافلة الشهداء؟ فإنَّ انضمام أيَّ شخصٍ أو عدَّة أشخاص إلى الـمُعسكر الحسيني، سوف لا يُغيِّر ذلك مِن مُعادلات المعركة إلى مُستوى احتمال الانتصار العسكري لسيِّد الشهداء على أعدائه، ولم يكن الانتصار العسكري وارداً في حسابات هذا الثائر. فلم يبقَ إلاَّ مُحاولة تكوين جمهور يرتبط بالثورة الـمُقدَّسة إنْ عاجلاً أو آجلاً.

ولا شكَّ أنَّ تلك الصفوة التي وقفت معه واستشهدت بين يديه، تُمثِّل القِمَّة مِن بين جماهير الثورة.

(لم يكن أصحاب الحسين قليلين بنظره، فكلٌّ منهم يُشكِّل داعية كبيرة للإسلام، ويَشْخَص أمام الأُمَّة رسولاً مِن رُسُله الذين ساروا خلف الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، منذ أنْ بدأ دعوته وقريش كلُّها تُناجزه وتناصبه العداء، وإذ لم يرَ الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليٍّ طفلاً، وفي خديجة مُجرَّد امرأة ضعيفة، وفي ياسر وسميَّة شيخين عاجزين، وفي بلال عبداً

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص143.

١٦٠