قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45424
تحميل: 4261

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45424 / تحميل: 4261
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رقيقاً... بلْ رأى أنَّهم سيكونون النواة القويَّة لأُمَّة الإسلام كلِّها، كذلك لم يرَ الحسينعليه‌السلام في أيِّ شخصٍ مِن أصحابه امرأً يُمكن الاستغناء عنه، بلْ رأى أنّهم مُكمِّلون لركب الرسالة الأوَّل، الذي بدأ ضعيفاً بنظر قريش وأعداء الإسلام، ورأى أنَّ أيَّ شخصٍ يلتحق عن قناعة وفهم بركبه، سيكون عُنصر قوَّة إضافيَّة لتلك الثورة التي بناها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومِن هنا كان حُرصه على نصيحة مَن يستشفُّ أنَّهم قد يكونون مؤهَّلين للمسير معه والـمُساهمة بثروته(1) .

أمَّا مَن لم يُحالفه التوفيق مِن الـمُخلصين للانضمام إلى ركب الشهداء، فسوف يُمثِّل النواة لانطلاقة جمهور الثورة فيما بعد الواقعة.

في ثورة أهل المدينة وثورة التوَّابين وثورة الـمُختار.

____________________

(1) وتنفَّس صُبْح الحسين: ص255.

١٦١

الـمُجتمع الكوفيِّ واستجابة الإمام لرسائلهم

يُعدُّ الـمُجتمع الكوفيِّ مِن أغرب وأعقد الـمُجتمعات، في تركيبته الاجتماعيَّة في عهد الثورة الحسينيَّة، حيث كانت الكوفة مِن أعظم الأمصار الإسلاميَّة وأكثرها كثافة سُكَّانيَّة، وبدأ تاريخها الإسلامي في السنة السابعة عشرة للهِجرة بعد فتح العراق مُباشرة ومَصَّرها المسلمون في تلك السنة(1) .

(وكان بناؤها الأوَّل بالقصب فأصابها حريق فبُنيت باللُّبن، وكانت شوارعها العامَّة بعرض عشرين ذراعاً بذراع اليد، وأزقَّتها الفرعيَّة بعرض سبعة أذرُع، وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذِراعاً والقطايع وهي بسعة وسِتِّين ذراعاً...

وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة، حين هاجر إليها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالبعليه‌السلام فاتَّخذها مقرَّاً له بعد وقعة الجَمل سنة 36 للهجرة، وكان دخوله إليها في الثاني عشر مِن شهر رَجب... وتقاطر على الكوفة - إذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين مِن مُختلف الآفاق وسكنتها القبائل العربيَّة مِن اليمن والحِجاز والجاليات الفارسيَّة مِن المدائن وإيران...

وغلب على الكوفة تحت ظِلِّ الحُكم الهاشمي التشيُّع لعليٍّ ووِلْدهعليه‌السلام ، ثمَّ لم يزل طابعها الثابت اللون، ووجد معه - بحُكم اختلاف العناصر التي يمَّمت المصر الجديد -

____________________

(1) صِلح الإمام الحسن: ص64.

١٦٢

أهواء مُناوئة أُخرى، كانت بعد قليل مِن الزمن أداة الفتن، في أكثر ما عصفت بالكوفة مِن الزعازع التاريخيَّة والرَّجَّات العنيفة لها وعليها)(1) .

فبمُقتضى تعدُّد القوميَّات والفئات والقبائل؛ فلا بُدَّ أنْ تتعدَّد النزعات والأهواء والمصالح، كلُّ قوميَّة لها خصائصها الفكريَّة والنزعات الخاصَّة في الحياة، وكلُّ قبيلة تعيش إطارها القِبَلي الضيِّق، وكلُّ فئة تحمل هَمَّها المصلحي الدنيوي الخاصّ؛ لأنَّ جميع هذه الأطراف لم تصل في الوعي الإسلامي مُستوى تذوب عنده الفوارق والنزعات والاتِّجاهات؛ فتكون النتيجة الطبيعيَّة لهذه التركيبة الاجتماعيَّة أنْ تبرز التناقضات في الموقف، ويكون الـمُجتمع مُهيَّأَ للفرقة والتشتُّت والتقلُّب.

ونلمس هذا مِن الـمُعاناة التي عاناها أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في تربيته لهذا الـمُجتمع، وقد وصفعليه‌السلام ذلك الـمُجتمع بقوله: (إنَّهم أناس مُجتمعة أبدانهم، مُختلفة أهواؤهم، وإنَّ مَن فاز بهم فاز بالسَّهْم الأخيب، وأنَّه أصبح لا يطمع في نُصرتهم ولا يُصدِّق قولهم)(2) .

وفي خُطبة لهعليه‌السلام شخَّص تلك التناقضات التي يعيشها ذلك الـمُجتمع، وأشار إلى الـمُعاناة التي عاشها معهم والمرارة التي تجرَّعها في سبيل تقويمهم، قالعليه‌السلام : (لقد أصبحت الأُمَم تخاف ظُلم رُعاتها، وأصبحتُ أخاف ظُلم رعيَّتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سِرَّاً وجَهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، أشهودٌ كغياب وعبيدٌ كأربابٍ؟ أيُّها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عقولهم الـمُختلفة أهواؤهم، الـمُبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يُطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يُطيعونه، لوددت - والله - أنَّ مُعاوية صارفني بكم

____________________

(1) صلح الإمام الحسن: ص65.

(2) الإمامة والسياسة: 1 / 138.

١٦٣

صَرْف الدينار بالدرهم، فأخذ مِنِّي عشرة منكم وأعطاني رجُلاً منهم.

يا أهل الكوفة، مُنيت بكم بثلاث واثنتين: صُمٌّ ذوو أسماع، وبُكمٌ ذوو كلام، وعُمي ذوو أبصار، لا أحرار صِدْق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلَّما جُمِعت مِن جانب تفرَّقت مِن جانب)(1) .

لقد أعطى أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام الصورة الواضحة للظواهر الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة للـمُجتمع الكوفي، ولقد كانت تجربة أمير المؤمنينعليه‌السلام مع هذا الـمُجتمع تجربة مُرَّة، وكذلك تجربة ولديه الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام .

أمَّا التشيَّع الذي ذُكِر أنَّه كان طابعاً واضحاً على مُجتمع الكوفة، فإنِّي لا أعتقد أنَّ ذلك التشيّع هو ذلك الإيمان الصحيح الواعي لقضيَّة أهل البيت وموقعهم مِن القرآن والرسالة، والذي يعني الفهم الصحيح للإمامة وموقعها مِن العقيدة الإسلاميَّة وأنَّها صِنو الرسالة.

نعم، توجد شريحة في ذلك الـمُجتمع تحمل هذا الإيمان وهذا الوعي، إلاَّ أنَّها قليلة بالقياس إلى كَثافة ذلك الـمُجتمع، وهذه الشريحة هي التي كان نصيبها الـمُطاردة والقتل، والسجن والتجويع مِن قِبَل الحُكَّام الأُمويِّين.

أمَّا التشيُّع الذي كان واضحاً على الـمُجتمع الكوفي في عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام فإنَّه التشيُّع العاطفي الـمُجرَّد مِن الوعي الرسالي، وهذا الـمُستوى مِن التشيُّع ليس له ذلك التأثير الثابت على مواقف الإنسان، فسُرعان ما يتغيَّر ويتأثَّر بالمؤثِّرات الخارجيَّة مِن ترغيبٍ أو ترهيبٍ، وهذه هي السِمة البارزة على مُجتمع الكوفة، وقد شخَّصها الفرزدق عند لقائه مع سيِّد الشهداء في أثناء الطريق في منطقة تُسمَّى بـ (الصفاح).

____________________

(1) نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: ص188 وص186.

١٦٤

(قال الفرزدق للإمامعليه‌السلام : بأبي أنت وأُمِّي! يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحَجِّ!.

فأجابه بأُسلوب الحكيم: (لو أُعجِّل لأُخِذت)، فلم يُطِل معه. ثمَّ سأله الإمام عن أوضاع الكوفة، فقال الفرزدق: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أُميَّة، وأضاف قائلاً: والقضاء ينزل مِن السماء، والله يفعل ما يشاء، وربُّنا كلُّ يوم هو في شأن.

فصادق الإمام على ما تُنزِله وتقتضيه إرادة السماء فقال:

(صدقت، لله الأمر مِن قبلُ ومِن بعد، يفعل الله ما يشاء وكلُّ يومٍ ربُّنا في شأن، إنْ نزل القضاء بما نُحبُّ فنحمد الله على نعمائه، وهو الـمُستعان على أداء الشكر، وإنَّه حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَن كان الحَقُّ نيَّته والتقوى سريرته).

وأردفعليه‌السلام قائلاً:

لئِنْ تكن الدنيا تُعدُّ نفيسةً

فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وإنْ كانت الأبدان للموت أُنشئت

فقتل امرئٍ بالسف في الله أفضل

وإنْ كانت الأرزاق شيئاً مُقدَّراً

فقلَّة سعي المرء في الرزق أجمل

وإنْ كانت الأموال للترك جمعها

فما بالُ متروكٍ به الـمَرْءُ يبخل

١٦٥

ففهم الفرزدق صَرامة الإمام وعزمه الـمُقدام على الـمُضيِّ حتَّى الفتح الأكبر)(1) .

فنُلاحظ - هنا - أنَّ الفرزدق قد شخَّص حالة مُجتمع الكوفة آنذاك، وبأنَّه يعيش حالة مِن الانشطار ما بين واقعه النفسي والعاطفي، وبين المواقف العمليَّة تِجاه الإمام، فهو يحمل عاطفة تِجاه الحسينعليه‌السلام ولكنْ لـمَّا كانت هذه العاطفة لم يكنْ منشؤها الوعي الإيماني، المبنيَّ على الفهم الصحيح لدور أهل البيت وموقعهم القيادي في حياة الأُمَّة... لـمَّا لم تكن هذه العاطفة كذلك لم يكن لها أيُّ أثر على موقف ذلك الـمُجتمع تجاه الإمامعليه‌السلام .

وقد كشف أبو الأحرار في خُطبته يوم عاشوراء الواقع السيِّء لذلك الـمُجتمع، حينما قالعليه‌السلام - وقد وجّه خطابه إليهم قائلاً - لهم:

(تبَّاً لكم أيَّتُها الجماعة وترحاً، أفحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجِفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم،

____________________

(1) التسيير الذاتي لأنصار الحسين: ص159 وص160، هذا وقريب منه أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام التقى مع الفرزدق في مكان يُقال له: (الشقوق) موضع بعد زُبالة للذاهب مِن الكوفة إلى مَكَّة وذكر الأبيات الأربعة مع بعض الاختلافات، كلُّ ذلك ذكره ابن أعثم الكوفي الـمُتوفَّى نحو 314 هـ في الفتوح: ج5: ص71، وكذلك نقل الـمُقرَّم عن الخوارزمي في مقتله ج1 ص233 وقال: (اشتباه)، بينما نقل ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب: ج4: ص103 طبع دار الأضواء: فلـمَّا نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق فأخبره بحاله فقال: (إنَّ الأمر لله يفعل ما يشاء وربُّنا تبارك كلُّ يومٍ هو في شأن، فإنْ نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو الـمُستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يبعُد مَن الحَقُّ نيَّتُه) ثمَّ أنشد:

فإنْ تكن الدنيا تُعدُّ نفيسةً

فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وإنْ تكن الأموال للترك جمعها

فما بالُ متروكٍ به الحُرُّ يبخل

وإنْ تكن الأرزاق قِسماً مُقدَّراً

فقلَّة حرصٍ المرء في الكسب أجمل

وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت

فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضل

عليكم سلام الله يا آل أحمدٍ

فإنِّي أراني عنكمُ سوف أرحل

فيبدو مِن ابن شهرآشوب: أنَّ الذي التقى مع الإمامعليه‌السلام رجل غير الفرزدق، وأنَّ الأبيات أنشدها الإمام وكانت لغيره، خصوصاً مع إضافة البيت الخامس، بينما الذي ذكره ابن أعثم والخوارزمي: إنَّ الذي التقى مع الإمامعليه‌السلام هو الفرزدق والأبيات للإمام أنشأها.

١٦٦

وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوِّنا وعدوِّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاَّ لكم الويلات، تركتمونا والسيف مَشيم والجأش طامن والرأي لـمَّا يَستحصِف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة الدبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمَّ نقضتموها، فسُحقاً لكم يا عبيد الأُمَّة، وشُذَّاذ الأحزاب، ونَبذة الكتاب، ومُحرِّفي الكَلِم، وعُصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومُطفئي السُّنن. ويحَكُم! أهؤلاء تعضدون وعنَّا تخاذلون. أجل والله، الغدر فيكم قديم، وشجت إليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة شجىً للناظر وأكلة للغاصب)(1) .

وأيُّ تصوير أدقُّ مِن هذا التصوير لما اتَّصف به ذلك الـمُجتمع مِن مظاهر اجتماعيَّة مُنحرفة، وما ساده مِن النزعات الشيطانيَّة والرذائل الخُلقيَّة مِن سرعة التلوُّن والغدر والانقلاب، على مَن جاء مُلبِّياً استغاثتهم؛ ليُخلِّصهم مِن رِبقة الذِّلِّ الذي كانوا يعيشونه، تحت وطأة الظلم مِن أعدائهم وأعداء الأُمَّة، فسُرعان ما وقفوا إلى جانب جلاَّديهم في وجه مُحرِّريهم، فأصبحوا القوَّة الضاربة، والأداة الـمُنفِّذة لمآرب الظالمين.

وقد أصبحوا بذلك مِن أحطِّ شعوب الأرض، فهُمْ عبيد الأُمَّة وشُذَّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، وعصبة الإثم ومُحرِّفي الكَلِم ومُطفئي السُّنن... إلى آخر القائمة مِن الصفات الدنيئة والنزعات الشريرة.

____________________

(1) اللهوف: ص58.

١٦٧

وهنا تأتي الإشكاليَّة ويطرح السؤال نفسه: أما كان الإمام الحسينعليه‌السلام مُطَّلعاً على سلبيَّات هذا الـمُجتمع وتقلُّباته؟ ألم يُعايش الإمام هذا الـمُجتمع إلى جانب أبيه أمير المؤمنين وأخيه الإمام الحسنعليهم‌السلام في مِحنتهما مع الـمُجتمع الكوفيِّ؟ فكيف يثق الإمام في هؤلاء، فيستجيب لرسائلهم ودعوتهم بالخروج إليهم حتى حَدَثَ ما حَدَثَ؟

هذا الأشكال أو هذا التساؤل طالما طُرِح مِن قِبَل الكثيرين في القديم والحديث، وقد أُجيب عليه بوجوه مُختلفة، تتناسب مع القراءات الـمُختلفة والتفسيرات الـمُتعدِّدة للثورة الحسينيَّة الـمُقدَّسة، وهنا يأتي الجواب مَبنيَّاً على ما سَبَق مِن القراءات لنصوص الثورة، فنُذكِّر القارئ الكريم بما أشرنا إليه سابقاً مِن أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن الانتصار العسكري على الدولة الأُمويَّة في حساباته، وأنَّ الهدف الـمُقدَّس الذي وضعه نُصب عينيه - ولا هدف سواه - هو التضحية والشهادة لإيقاظ الأُمَّة مِن رقْدتها الـمُميتة، وتجديد روح الجهاد ومُقاومة الفساد والانحراف؛ ولتبقى هذه الروح سارية المفعول في حياة الأُمَّة بكلِّ أجيالها.

وإنَّ هذا الهدف وذلك التصميم لدى سيِّد الشهداء لم تبعثه رسائل أهل الكوفة، وإنَّما الباعث له هو الشعور بالمسؤوليَّة أمام الله والإسلام والأُمَّة؛ لأنَّه تكليف ربَّاني اندفع الإمام للقيام به وامتثاله.

ولم يكن أبو الأحرار يجهل حال الـمُجتمع الكوفي وتناقضاته، إلاَّ أنَّ الإمام وجد المسير نحو العراق هو أفضل الخيارات - إنْ لم يكن الخيار الوحيد الـمُناسب لهدفه الـمُقدَّس - لا لأنَّهم كتبوا إليه فقط، بلْ لأنَّ العراق أنسب أرضيَّة اجتماعية تتنامى فيه جماهير الثورة فيما بعد الشهادة، بالرغم مِن أنَّ الـمُجتمع الكوفي قد نفَّذ إرادة السلطة الحاكمة في قتال وقتل الإمامعليه‌السلام ؛ نظراً إلى ما أشرنا إليه فيما سَبَق مِن وجود شريحة واعية لقضيَّة أهل البيت مع قِلَّتها، إلاَّ أنَّها تُمثِّل النواة لتنامي هذا الخَطِّ مع مرور الأيَّام.

١٦٨

بالإضافة إلى ذلك أنَّ الإمامعليه‌السلام إذا لم يخرج إلى العراق، فما هو البديل الـمُتصوَّر مِن بين سائر الأقطار الإسلاميَّة، لينطلق منه الإمام لأداء رسالته الجهاديَّة، والخيارات التي يُمكن تصوُّرها هي كما يلي:

الخيار الأوَّل: السكوت والتراجع عن الثورة، والاستسلام لذلك الواقع الـمُنحرف عن خَطِّ الإسلام، هذا ما لا يرتضيه الإمام لنفسه بأنْ يقعد عن أداء مسؤوليَّته الرساليَّة ويترك الإسلام والأُمَّة يسيران نحو الهاوية التي يُريدها لهما الحُكم الأُموي.

الخيار الثاني: أنْ يبقى في مَكَّة فيُعلن رفضه لبيعة يزيد وعدم اعترافه بحُكمه، وعندها يُقتَل في داخل الحرم فيُهتك حرم الله، وهذا ما يتحاشاه الإمام؛ لأنَّه هو أحرص الناس على حُرمة بيت الله تعالى، وهذا ما أجاب بهعليه‌السلام يقول: (ولئنْ أقلَّ وبيني وبين الحرم باعٌ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أُقتَل وبيني وبينه شبراً، ولئن أُقتل بالطَّفِّ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أُقتل بالحرم)(1) .

الخيار الثالث: أنْ يبقى في المدينة المنوَّرة مع رفضه لبيعة يزيد، ويواصل أداء تكليفه مِن هناك؛ وتكون النتيجة بأنْ يُستشهَد الإمام مِن دون أنْ يكون لشهادته أيُّ مَدٍّ ثوريٍّ في حياة الأُمَّة؛ لأنَّ النظام الأُموي سوف يعمل على خنق الثورة في مَهدها فلا يترتَّب عليها الأثر المنشود، على عكس ما كان لها مِن أثر عندما قام الإمام بتلك المسيرة التي قطعها نحو كربلاء، حيث كان على مدى أربعة أشهر قد قام بعمليَّة إعلاميَّة خطيرة لثورته الـمُقدَّسة، فاستطاع مِن خلالها أنْ يضع الأُمَّة أمام مسؤوليَّتها الشرعيَّة.

(إنَّه كان سيذهب إلى الكوفة، حتَّى إذا لم تكن دعوتهم له بتلك الحرارة وذلك الإلحاح؛ لأنَّ قضيَّته تُعرِّضه للخطر الـمُؤكَّد في المدينة أو مَكَّة دون عرض قضيَّته

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص326.

١٦٩

بشكل واضح، ورفعها أمام الأُمَّة كقضيَّة يُعتمَد عليها، مصيرها ووجودها أمر مُحتَّم؛ وحينذاك لن يجني هو أو الأُمَّة أيَّ شيءٍ جرَّاء ذلك الموت، وستُزوَّر القضيَّة برُمَّتها وتُعرَض بالشكل الذي يُريده الإعلام الأُموي ثمَّ يضيع كلُّ شيءٍ)(1) .

وكذلك الحال لو اختار جِهة أُخرى - كاليمن مثلاً - فإنَّه لا يتمكَّن أنْ يُعطي ثورته هذه القوَّة التي أوجدها في مسيرة الأُمَّة وأجيالها، فلو فعل ذلك (لم يكن ذلك سوى هزيمة أراد بها حِفظ حياته التي لم تمتدَّ على الأغلب إلاَّ لبِضع سنوات، فهو في مُنتصف العقد السادس مِن عمره الشريف، وسينتهي بموته كلُّ شيء بعد أنْ يقضي تلك السنوات القليلة معزولاً وبعيداً عن الأُمَّة، وستضيع قضيَّته وينتهي كلُّ شيء وكأنْ لم يَحدَث شيء.

إنَّ الأُمَّة ستُسجِّل في تاريخها أنَّ الحسينعليه‌السلام قد اكتفى برفض بيعة يزيد وحسب، وقد تهيَّأت له الظروف الموضوعيَّة للثورة، بعد أنْ دعاه أهل العراق ولم يذهب إليهم، ولو كان قد استجاب لدعوتهم لكانوا قد ساروا خلفه واستجابوا له بإخلاص وواجه معهم الدولة الأُمويَّة، وربَّما أطاح بها، وأنَّه قد أخطأ بقعوده في مَكَّة أو بهروبه إلى اليمن لو كان ذلك قد تمَّ فعله)(2) .

وسوف يترك هذا الموقف أثره السيِّء على مسيرة الأُمَّة؛ حيث سوف تبقى مُستسلمة للجور والظلم، وتستمرُّ في انحدارها الـمُميت إلى أنْ تُصبح في حالة يصعب إرجاعها - معها - إلى خَطِّها الصحيح إنْ لم يكن ذلك مُستحيلاً.

فكان المضيُّ إلى الكوفة هو الخيار الأمثل للإمامعليه‌السلام ، وكان تعامله مع رسائل أهل الكوفة تعامُلاً طبيعيَّاً جِدَّاً، بغَضِّ النظر عن النتائج، فأرسل لهم جوابه الأوَّل الذي

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ص446.

(2) وتنفَّس صُبح الحسين: ص449.

١٧٠

جاء فيه: (أمَّا بعد: فإنَّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم، وكان آخر مَن قَدِم عليَّ مِن رُسُلِكم، وقد فهمت كلَّ الذي قصصتم وذكرتم، ومَقالة جُلِّكم: إنَّه ليس علينا إمام فأقبل لعلَّ الله يجمعنا بك على الهُدى والحَقِّ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عَمِّي وثقتي مِن أهل بيتي، وأمرته أنْ يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإنْ كتب إليَّ أنَّه قد أجمع رأي مَلَئكم وذوي الفضل والحُجْى منكم مِثل ما قَدِمتْ عليَّ به رُسلكم، وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله. فلعمري ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحَقِّ، والحابس نفسه على ذات الله والسلام)(1) .

وعندما وصل السفير الحسيني (مسلم بن عقيل) إلى الكوفة، قام بمُهمَّته التي أرسله الإمام مِن أجلها، وهي استطلاع أحوال أهل الكوفة، والكتابة إلى الإمام بما يظهر له مِن مواقفهم وآرائهم، وقد كان اندفاعهم نحو البيعة اندفاعاً سريعاً، إلاَّ أنَّ ذلك الاندفاع لم يكن نابعاً عن شعور بالمسؤوليَّة الشرعيَّة تجاه هذه الثورة وتجاه الرسالة الإسلاميَّة، وإنَّما هو اندفاع عاطفيٌّ يتناسب مع الظروف في بداية الأحداث في الكوفة، حيث كانت الظروف أشبه بالظروف الطبيعيَّة، فلا إرهاب ولا إرغاب. ولعلَّ الأغلبيَّة الساحقة مِن الـمُندفعين للبيعة إنَّما كان اندفاعهم رجاء نجاح الثورة الحسينيَّة في القضاء على النظام الأُموي، واستيلاء الإمام على أزمَّة الحُكم، فيُصيبوا شيئاً مِن عطايا وجوائز الحُكم الجديد، ولكنْ عندما انقلبت الأوضاع بعد دخول ابن زياد إلى الكوفة، تلاشى ذلك الحماس وتراجع ذلك الاندفاع، بلْ انقلب الموقف بعدما كانوا أنصاراً للثورة أصبحوا أنصاراً للنظام الحاكم.

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص312 وص313، واللهوف: ص58.

١٧١

ولعلَّ أبا الأحرار إنَّما يعني هذا المعنى حيث يقولعليه‌السلام :

(فهلاَّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مَشيم والجأش طامن والرأي لـمَّا يَستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة الدبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمَّ نقضتموها فسُحقاً لكم)(1) .

وشاءت الأقدار للسفير الحسيني العظيم (مسلم) أنْ يكون افتتاحيَّة ديوان الشهادة في هذه الثورة الـمُقدَّسة، حيث قام بمُهمَّته على أكمل وجه، وأبدى هذا البطل العملاق - مِن البطولة والجهاد - ما يُعتبر مِن أروع ما سجَّله التاريخ لأبطاله وصانعيه، فإنَّه قد واجه النظام الأُموي بكلِّ ما يمِلك في الكوفة مِن قوَّة عسكريَّة، مِن دون أنْ يُعطي مسلم أيَّ تنازلٍ عن شيء مِن مبادئه وأهدافه التي أُرسل مِن أجلها، حتَّى كتب بدمائه أوَّل مَلحمة مِن ملاحم الثورة، وعندما وصل خبر استشهاد مسلم إلى الحسين، وهو في طريقه إلى الكوفة، حزن عليه حزناً شديداً وأبَّنه بقوله:

(رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحيَّته ورضوانه)، ثمَّ أضاف قوله: (إنَّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا)(2) .

والجدير بالذكر أنَّ الإمامعليه‌السلام إلى الآن - أيْ في هذا الموقف - لم يصطدم بالنظام ولا زال لديه الفرصة للتراجع عن المضيِّ إلى الكوفة لو أراد ذلك، ولكنْ لـمَّا كان تصميمه

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص193.

(2) التسيير الذاتي لأنصار الحسين: ص169.

١٧٢

السابق مواصلة السير نحو الكوفة، حتَّى يصطدم بالنظام في حرب جهاديَّة وتضحية دمويَّة، تهزُّ أركان الحُكم الأُموي، وتوجد خَطَّاً جهاديَّاً مُستمرَّاً، لـمَّا كان هذا هدفه استمرَّ في السير، ولم ينثنِ عن عزمه، وبهذا أجاب الإمام الحُرَّ الرياحي عندما التقى به في الطريق، والحر على رأس ألف فارس، وقد كُلِّف أنْ يجوب الصحراء مِن أجل مُحاصرة الحسين؛ ليدخله الكوفة بالقوَّة.

وبعد الجدال الذي حصل بينهما، وأصرَّ الإمام - وبقوَّة - على عدم إذعانه لإرادة الحُرِّ، قال الحُرُّ للإمام: إنِّي أُذكِّرك الله في نفسك، إنِّي لأشهد لئن قاتلت لتُقتلَنَّ. أيْ: إنْ قاتلت فيما بعد - لا يقصد مُقاتلة جيشه؛ إذ لم يكن الحُرُّ مُستعدَّاً لقتال الإمام أبد... - وسَخَر الإمام مِن التهديد بالقتل، فالقتل في سبيل الله ليس بعارٍ يَحذره الإمام، بلْ وسام الشرف الذي لا يُدانيه وسام، قال الإمام:

(أفبالموت تُخوِّفني؟! وهل يعدو بكم الخَطب أنْ تقتلوني؟! وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عَمِّه، وهو يُريد نُصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوَّفه ابن عَمِّه وقال: أين تذهب فإنَّك مقتول، فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حَقَّاً وجاهد مُسلماً

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وباعد مُجرماً

فإنْ عشت لم أندم وإنْ مِتُّ لم أُلَمْ

كفى بك ذلَّاً أنْ تعيش وتُرغم(1)

ولـمَّا سمع الحُرُّ ذلك تنحَّى عنه، وعرف أنَّه مُصمِّم على الموت، وعازم على التضحية في سبيل غايته الهادفة إلى الإصلاح الشامل(2) .

____________________

(1) الإرشاد للشيخ الـمُفيد: ج2: ص81 وتقدَّمت بعض مصادره.

(2) حياة الإمام الحسين: ج3: ص81 وص82.

١٧٣

وواصل أبو الأحرار مسيرته حتَّى حَطَّ رحاله بين النواويس وكربلاء، وهو مَقرُّ الـمَصرع الذي اختير له كما قالعليه‌السلام :

(وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مِنِّي أكراشاً جَوفاً وأجربة سُغباً، لا محيص مِن يوم خُطَّ بالقلم)(1) .

وقد شبَّه الإمام الفئة التي قامت بجريمة قتله بـ (عُسلان الفلوات)، وهي ذئاب الفلوات، فهم كالوحوش الـمُفترسة التي لا ترحم فريستها. وبهذا قد أخرجها الإمام مِن حَيِّز الإنسانيَّة.

____________________

(1) موسوعة الإمام الحسين: ص328.

١٧٤

١٧٥

القراءة الرابعة

في البُعد الروحي

أ - تمهيد (البُعد الآخر في وجود الإنسان)

ب - الإنسان بين حُبِّ الله وحُبِّ الدنيا

ج - مظاهر الحُبِّ الإلهي في مُمارسات الثورة:

1 - الصلاة.

2 - الدعاء.

3 - الصبر.

١٧٦

١٧٧

تمهيد

(البُعد الآخر في وجود الإنسان)

إنَّ الله تبارك وتعالى قد خلق الإنسان مُركَّباً مِن بُعدين:

الأوّل: البُعد المادِّي، ويتمثَّل في هذا الجسم الذي قد توصَّل العلم إلى اكتشاف الكثير مِن أسراره وأبعاده.

وأمَّا البُعد الثاني: فيتمثَّل في البُعد المعنوي (الروحي) الذي لا يزال غامضاً برغم الدراسات، التي وضعت في هذا المجال.

(ويُظهر تاريخ العلم والمعرفة الإنسانيَّة، أنَّ قضيَّة الروح وأسرارها الخاصَّة كانت محط توجُّه العلماء، حيث حاول كلُّ عالم الوصول إلى محيط الروح السرِّي؛ ولهذا السبب ذكر العلماء آراءً مُختلفة وكثيرة حول الروح.

ومِن الـمُمكن أنْ تكون علومنا ومعارفنا اليوم - وكذلك في الـمُستقبل - قاصرة عن التعرُّف على جميع أسرار الروح والإحاطة بتفصيلاتها، بالرغم مِن أنَّ روحنا هي أقرب شيء لنا مِن جميع ما حولنا؛ وبسبب الفوارق التي تفصل بين جوهرة الروح وبين ما نأنس به مِن عوالم، فإنَّنا لن نُحيط بأسرار وكُنه الروح أُعجوبة الخلق والمخلوق الذي تتسامى على المادَّة، ولكنْ كلُّ هذا لا يمنعنا مِن رؤية أبعاد الروح بعين العقل، وأنْ نتعرَّف على النظم والأُصول العامَّة الحاكمة عليها)(1) .

____________________

(1) التفسير الأمثل: ج9: ص104.

١٧٨

أمَّا خالق الروح، فإنَّه تعالى يقول:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) .

والأمر الذي منه إيجاد الروح: هو كلمة الإيجاد السماويَّة وفعله تعالى الـمُختصُّ به، الذي لا تتوسَّط فيه الأسباب ولا يتقدَّر بزمان أو مكان وغير ذلك(2) .

وأمَّا قوله:( ... وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) أيْ: ما عندكم مِن العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل مِن كثير، فإنَّ له - الروح - موقعاً مِن الوجود وخواصَّاً وآثاراً في الكون عجيبة بديعة، أنتم عنها في حِجاب(3) .

والبُعد الروحي مِن وجود الإنسان هو الذي يُمثِّل حقيقة الإنسان، وأمَّا الجسم فإنَّه لا يعدو كونه قالباً مُسخَّراً لذلك البُعد المعنوي، فإنَّ (العلماء الإلهيين والفلاسفة الروحيِّين يعتقدون بأنَّ الإنسان، وبالإضافة إلى المواد التي تدخل في تشكيل جسمه، ينطوي وجوده على حقيقة جوهريَّة أُخرى لا تتجلَّى فيها صفات المادَّة - وقد أقاموا الأدلَّة على ذلك في محلِّها - إنَّ جسم الإنسان يخضع لتأثيرها بشكل مُباشر وفاعل.

وبعبارة أُخرى: فإنَّ الروح هي حقيقة مِن حقائق ما رواء الطبيعة - أيْ الميتافيزيقيا - حيث إنَّ تركيبها وفعاليَّتها هي غير تركيب وفعاليَّة عالم المادَّة، صحيح أنَّها ذات ارتباط مع عالم المادَّة، إلاَّ أنَّها ليست مادَّة فلا تمتلك خواصَّ المادَّة)(4) .

____________________

(1) الإسراء: 85.

(2) الميزان في تفسير القرآن: ج13: ص197.

(3) الميزان: ج13: ص199.

(4) التفسير الأمثل: ج9: ص104.

١٧٩

الإنسان بين حُبِّ الله وحُبِّ الدنيا

وبما أنَّ الروح هي التي تُمثِّل حقيقة الإنسان، فإنَّ استقامته وانحرافه، وارتفاعه وانحطاطه، وكماله ونقصه يدور كلُّ ذلك مدار ما يحمل مِن مَلكات ومقوِّمات روحيَّة ومعنويَّة، والجدير بالذكر أنَّه لا بُدَّ للإنسان مِن جهة يتعلَّق بها روحيَّاً، فيكون ذلك التعلُّق هو المحور الأساسي، الذي تدور عليه نشاطات الإنسان ومُمارساته في الحياة، وهذه الجهة مردَّدة بين محورين: بين الله الخالق تعالى، وبين عالم المادَّة المحدود والحياة الدنيويَّة الزائلة، وحقيقة هذا التعلُّق هو الحُبُّ والعشق للـمُتعلِّق به، أيْ: أنَّ الإنسان يعيش بين هذين المحورين، فمتى جذبه أحدهما تلاشت علاقته بالآخر.

فإذا كان الإنسان مُرتبطاً بالله تعالى ارتباطاً روحيَّاً صحيحاً - وهذا هو الإيمان - فقد أصبح يملك محور كماله واستقامته، وتعاليه وسعادته، وبقدر ما يكون هذا الارتباط قويَّاً وثابتاً في أعماق وجود الإنسان، فإنَّه يملك القوَّة في مواقفه وتسطبغ حياته بالصبغة الإلهيَّة الربَّانيَّة، ومتى ما ضعف هذا الارتباط بين الإنسان وخالقه فإنَّ حياته تتَّسم بالضعف والتذبذب.

وأمَّا إذا تلاشى أو انقطع هذا الارتباط، فإنَّ حياة الإنسان سوف تتَّخذ منحىً آخر، بعيداً عن فطرته وإنسانيَّته وكماله؛ لأنَّه قد جذبه القطب الآخر وهو حُبُّ الدنيا، وبذلك سوف تختلف مظاهر حياته وأساليب تعامله مع الحياة والأشياء مِن حوله.

١٨٠