قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45411
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45411 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي الحديث عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (رأس كلِّ خطيئة حُبُّ الدنيا)(1) .

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : (جُعل الخير كلُّه في بيت، وجعل مفتاحه الزُّهد في الدنيا)(2) .

وعنهعليه‌السلام : (حرام على قلوبكم أنْ تعرف حلاوة الإيمان حتَّى تزهد في الدنيا)(3) .

وعنهعليه‌السلام : (إذا تخلَّى المؤمن مِن الدنيا سَما ووجد حلاوة حُبِّ الله... فلم يشتغلوا بغيره)(4) .

فالتعلُّق بالله تعالى والحُبُّ الصادق له لا يجتمع مع التعلُّق بالدنيا وحُبِّها؛ فإنَّهما نقيضان لا يجتمعان؛ فإنَّ حقيقة التعلُّق بالله تعالى هو أنْ يعيش العبد حالة مِن الحُبِّ والعشق الإلهي، فيبني علاقته بالأشياء مِن حوله على أساس هذا الحُبِّ.

وإنَّ مِن لوازم هذا الحُبِّ هو الطاعة والاستقامة على صراط الله تعالى في الحياة، كما يُشير إلى ذلك قوله تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ... ) (5) .

ومِن مُعطيات هذا الحُبِّ وآثاره أنْ يُحبَّ العبد في الله ويُبغض في الله، كما في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (ودُّ المؤمن للمؤمن في الله مِن أعظم شُعب الإيمان، ألاْ ومَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو مِن أصفياء الله)(6) .

وعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام : (إذا جمع الله عَزَّ وجَلَّ الأوَّلين والآخرين، قام مُنادٍ فنادى يُسمِع الناس، فيقول: أين الـمُتحابُّون في الله؟ قال: فيقوم عُنق مِن الناس فيُقال لهم: اذهبوا إلى الجَنَّة بغير حساب)(7) .

____________________

(1) أُصول الكافي: ج2: ص315.

(2) أُصول الكافي: ج2: ص128 حديث 2.

(3) أُصول الكافي: ج2: ص128 حديث 2.

(4) الكافي: ج2: ص30 حديث 10.

(5) آل عمران: 31.

(6) أُصول الكافي: ج2: ص125: حديث 3 في باب الحُبِّ في الله.

(7) المصدر السابق: ج2: ص126: حديث 8.

١٨١

هذا الحُبُّ الذي بين المؤمنين إنَّما ترشَّح عن حُبِّهم لله تعالى، حيث يجمعهم هذا الحُبُّ ويربط بين قلوبهم.

أمَّا هذا الحُبُّ في قلوب الأولياء والدُّعاة الربَّانيِّين، فإنَّه يصل إلى درجة يترشَّح منها حتَّى على الأعداء والـمُبغضين، فيعيش الداعية الربَّاني التألُّم والحسرة على أعدائه، حيث يعيشون الشقاء والبُعد عن الله تعالى، فيبذل كلَّ جُهده مِن أجل إنقاذهم وإخراجهم مِن دائرة الشيطان إلى دائرة الرحمان.

فهذا سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام يُخاطب أعداءه - وهو في حالة حرب معهم، وقد تألَّبوا عليه وصمَّموا على قتله - مُحذراً لهم مِن مَغبَّة ما هم فيه مِن الركون إلى الدنيا، فقالعليه‌السلام :

(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، مُتصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرَّته والشقيُّ مَن فتنته، فلا تغرَّنكم هذه الدنيا، فإنَّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيِّب طمع مَن طمع فيها. أراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلَّ بكم نقمته وجنَّبكم رحمته. فنِعْمَ الرَّبُّ ربُّنا وبِئْسَ العبيدُ أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ إنَّكم زحفتم إلى ذُرِّيَّته وعِترته تُريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم؛ فتبَّاً لكم ولما تُريدون، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج45: ص5 - 6، والعوالم (الإمام الحسين): ص249، ومقتل الحسين للخوارزمي: ج1: ص252.

١٨٢

وقالعليه‌السلام في خطاب له آخر، مُحذِّراً مِن الاغترار بالدنيا الزائلة، وكيف جعلها أُولئك القوم بديلاً عن حُبِّ الله تعالى:

(عباد الله، اتقوا الله وكونوا مِن الدنيا على حَذر؛ فإنَّ الدنيا لو بقيت لأحد، وبقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقَّ بالبقاء، وأوْلى بالرضا، وأرضى بالقضاء، غير أنَّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفَناء، فجديدها بالٍ، ونعيمها مُضْمَحل، وسرورها مُكْفهر، والمنزل بُلغة، والدار قلعة، فتزوَّدوا فإنَّ خير الزاد التقوى، واتَّقوا الله لعلَّكم تُفلحون)(1) .

ولا شكَّ في أنَّ هذه التحذيرات مِن الإمام لأُولئك القوم، إنَّما يُريد بها إنقاذهم مِن هذا السقوط الذي وقعوا في بؤرته؛ رحمةً بهم وإشفاقاً عليهم.

وأمَّا هذا الحُبُّ الإلهي في حياة الشهداء والـمُجاهدين، فإنَّه يُمثِّل القاعدة التي ينطلق منها الـمُجاهد نحو ميادين التضحية والجهاد، مُندفعاً بدافع الشوق إلى لقاء المحبوب والانتقال إلى جواره، قال الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام :

(وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخْيِر لي مصرع أنا لاقيه)(2) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص282.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص54: هامش 2.

١٨٣

فشوْقُ أبي الأحرار إلى أسلافه ناشئ مِن شوقه إلى لقاء الله؛ لينظم إلى قافلة الأنبياء وهُداة البشريَّة في مقعد صدق عند مَليك مُقتدر، وقد ترشَّح هذا الشوق على أرواح تلك الصفوة مِمَّن حولهعليه‌السلام ، فلقد قام فيهم خطيباً ليلة العاشر مِن الـمُحرَّم فقال:

(اللَّهمَّ، إنِّي لا أعرف أهل بيتٍ أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر مِن أهل بيتي، ولا أصحاباً همْ خير مِن أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في حِلٍّ مِن بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة ولا لي عليكم ذِمَّة، وهذا الليل قد غَشيكم فاتَّخذوه جَملاً وتفرَّقوا في سواده، فإنَّ القوم إنَّما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري)(1) .

(فقالوا: لا والله لا يكون هذا أبد. قالعليه‌السلام :

(إنَّكم تقتلون غداً كذلك (كلُّكم خ ل) لا يُفلت منكم رجل).

قالوا: الحمد لله الذي شرَّفنا بالقتل معك، ثمَّ دعا وقال لهم: (ارفعوا رؤوسكم وانظروا)، فجعلوا ينظرون إلى مواضعه ومنازلهم مِن الجَنَّة وهو يقول لهم: (هذا منزلك يا فلان، وهذا قصرك يا فلان، وهذه درجتك يا فلان).

____________________

(1) الأمالي للشيخ الصدوق: ص220، وبحار الأنوار: ج44: ص316، والعوالم (الإمام الحسين): ص165.

١٨٤

وكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه، ليصل إلى منزله مِن الجَنَّة) (1) .

هكذا تفاعلت أرواحهم مع حُبِّ الله والشوق إليه، حتَّى لم يعد أحدهم يرى غير عالم الملكوت، ولا غاية يُريدها إلاَّ الانتقال إلى جوار الله تعالى.

____________________

(1) الخرائج والجرائح للقطب الراوندي: ج2: ص847 ص848 حديث 62، وعنه في البحار: ج44: ص298، والعوالم: ص350.

١٨٥

مظاهر الحُبِّ الإلهي في مُمارسات الثورة

إنَّ المواقف التي وقفها أبو الأحرار في مسيرته الثوريَّة، وكذلك التصريحات التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام ، لها دلالتها البعيدة التي تُشير إلى أبعاد ثورته ومُعطياتها، أمَّا المظاهر والـمُمارسات التي تُشير إلى البُعد الروحي مِن أبعاد هذه الثورة، فيُمكن الإشارة إلى ما يلي مِن تلك الـمُمارسات الحسينيَّة:

1 - الصلاة

مِن الأُمور الواضحة في الشريعة الإسلاميَّة، إعطاء الأهميَّة الكبيرة لفريضة الصلاة، ودورها في حياة الإنسان المسلم، وأنَّها تحتلُّ الصدارة مِن بين التكاليف الإلهيَّة في الإسلام، بلْ تُمثِّل الصلاة المكانة المحوريَّة لسائر الواجبات، كما أكَّدت على ذلك النصوص الكثيرة، كما عن عليٍّعليه‌السلام ، قال: (قال رسول الله: إنَّ عمود الدين الصلاة، وهي أوَّل مَن يُنظر فيه مِن عمل ابن آدم، فإنْ صحَّت نُظر في عمله، وإنْ لم تصحَّ لم يُنظر في بقيَّة عمله)(1) .

وتُمثِّل الصلاة الصلة القلبيَّة والروحيَّة بين العبد وبين ربِّه تعالى، وبما أنَّ الصلاة تحتلُّ هذه المرتبة في نظر الشريعة؛ فمِن الطبيعي بلْ مِن الضروري أنْ يؤكِّد عليها الإمام سيِّد الشهداءعليه‌السلام في مُمارسته يوم الطَّفِّ، وهذا هو الذي يلتقي مع أهداف الثورة؛ فإنَّ

____________________

(1) وسائل الشيعة: ج3: ص23.

١٨٦

الهدف الرئيسي مِن هذه الثورة الـمُقدَّسة الحفاظ على حقائق الشريعة، وإعطاء الفرائض الإسلاميَّة مدلولها الصحيح.

إنَّ إقامة هذه الفريضة - أيْ الصلاة - جزء مِن هدفه الثوريِّ، إلاَّ أنَّه يُريد الصلاة التي تدفع الإنسان إلى الجهاد، والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والـمُنكر، والصلاة التي تُعطي آثارها التربويَّة على شخصيَّة الإنسان المسلم، لا مُجرَّد الحركات الاستعراضيَّة التي يقوم بها الكثير مِن المسلمين.

فعندما زحف عسكر ابن سعد نحو مُعسكر الحسينعليه‌السلام ، عصر اليوم التاسع مِن الـمُحرَّم مُعلناً بداية الحرب، التفت الإمام إلى أخيه العباس، وقال له: (ارجع إليهم، فإنْ استطعت أنْ تؤخِّرهم إلى غُدوة لعلُّنا نُصلِّي لربِّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنِّي أُحبُّ الصلاة وتِلاوة كتابه وكَثرة الدعاء والاستغفار).

ورجع إليهم أبو الفضل العباس، فأخبرهم بكلام أخيه وعرض ابن سعد الأمر على الشمر، وبعد تداول ما بين قيادات جيش ابن سعد أجابوهم إلى ذلك.

(فلـمَّا أمسى الحسين وأصحابه قاموا الليل كلَّه، يُصلُّون ويستغفرون ويدعون ويتضرَّعون، وإنَّ حسيناً ليقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (1) )(2) .

وقد وصفهم المؤرِّخون بأنَّ لهم دويَّاً كدويِّ النحل، وهم ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، وقارئ للقرآن ولم يذق أحد منهم طَعم الرُّقاد.

ولقد أفاض أبو عبد اللهعليه‌السلام مِن روحه الملكوتيَّة نوراً على تلك الأرواح الـمُقدَّسة مِمَّن حوله، حتَّى أصبحوا في أعلى درجات التعلُّق بالله، حيث لم تشغلهم المعركة

____________________

(1) آل عمران: 178 - 179.

(2) الطبري: 3 / 217.

١٨٧

والحرب قائمة على ساق عن التفكير في الصلاة، وإقامتها خلف إمامهم جماعة أمام أنظار الجيش الـمُعادي، ففي أثناء اشتداد المعركة وبعد أنْ قُتِل قسم كبير مِن الأنصار، حضر وقت صلاة الظهر فرفع أحد الأصحاب - وهو أبو ثمامة الصائدي - رأسه ينظر إلى الشمس، ثمَّ التفت إلى الإمام وقال: يا أبا عبد الله، نفسي لك الفِداء، إنِّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله، لا تُقتل حتَّى أُقتل دونك إنْ شاء الله، وأُحبُّ أنْ ألقى رَبِّي وقد صلَّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها).

فرفع الحسين رأسه ثمَّ قال: (ذكرت الصلاة، جعلك الله مِن الـمُصلِّين الذاكرين. نعم، هذا أوَّل وقتها... سلوهم أنْ يكفُّوا عنَّا حتَّى نُصلِّي)(1) .

فصلَّى بمَن بقى مِن أصحابه صلاة الخوف، وكانت صلاته في تلك اللحظات الرهيبة مِن أصدق مظاهر الإخلاص والطاعة لله، وانبرى أمام الحسين سعيد بن عبد الله الحنفي، يقيه بنفسه السهام والرماح التي تواجهه مِن مُعسكر الأعداء الذين خانوا ما عاهدوا الإمام عليه، مِن إيقاف عمليَّات الحرب حتَّى يؤدِّي فريضة الله، فقد اغتنموا الفرصة فراحوا يرشقون الإمام وأصحابه بسهامهم، وكان سعيد الحنفي - فيما يقول المؤرِّخون - يُبادر نحو السهام فيستقبلها بصدره ونحره، ووقف ثابتاً كأنَّه الجبل لم تُزحزحه السهام التي اتَّخذته هدفاً له، ولم يكد يفرغ الإمام مِن صلاته حتَّى أُثخن بالجراح، فهوى إلى الأرض يتخبَّط بدمه، وهو يقول بنبرات خافتة: اللَّهمَّ، العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيَّك مِنَّي السلام، أبلغه ما لقيت مِن ألم الجراح، فإنِّي أردت بذلك ثوابك ونُصرة ذُرِّيَّة نبيِّك.

____________________

(1) الطبري: 3 / 326.

١٨٨

والتفت إلى الإمام ليرى هل أدَّى حَقَّه ووفَّى له بعهده قائلاً: أوَفيت، يا بن رسول الله.

فأجابه الإمام شاكراً له: (نعم، أنت أمامي في الجَنَّة)(1) .

نعم، إنَّه الحُبُّ الإلهي الذي يصنع العجائب في حياة الإنسان، هكذا عَشق هؤلاء الأبرار إمامهم وقائدهم، واتَّصلت أرواحهم بروحه كما يتَّصل الضوء بمصدره، وكانوا يشعرون بأنَّهم إنَّما خُلقوا مِن أجله، ومِن أجل أنْ يُضحُّوا بأرواحهم الطاهرة دفاعاً عن شخصه؛ لأنَّه يُمثِّل دين الله في الأرض، فعِشْقُه عِشْقٌ لله والدفاعُ عنه دفاعٌ عن قيم الله ودينه.

2 - الدعاء

إنَّ الدعاء يُمثِّل ظاهرة أُخرى مِن ظواهر التعلُّق، والانشداد مِن العبد نحو خالقه تعالى، وقد جاء التأكيد والحثُّ عليه في الكتاب والسُنَّة (وقد لا يكون الإنسان مُبالغاً إذا قال: لم تهتمَّ شريعة مِن الشرائع السماويَّة كشريعتنا الإسلاميَّة بالدعاء والتوجُّه إليه تعالى، وقد جاء ذلك واضحاً في الآيات القرآنيَّة والأخبار المرويَّة عن النبي وخُلفائهعليهم‌السلام ، حيث تناولت الدعاء مِن وجوه عديدة)(2) .

فمِن القرآن الكريم قوله تعالى:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ... ) (3) .

وقال تعالى:( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (4) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص123.

(2) أضواء على دعاء كُميل: ص48.

(3) البقرة: 186.

(4) الأعراف: 55.

١٨٩

وعن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض)(1) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الدعاء مُخُّ العبادة)(2) .

كما أنَّ مُخَّ الإنسان يقوم عليه الإنسان، فكذلك الدعاء تقوم عليه العبادة(3) ؛ لأنَّ الدعاء يضع الإنسان الداعي في مقام الاعتراف بالحاجة والفقر الـمُطلق أمام الغنيِّ الـمُطلق.

وقد روي عن النبي وأهل بيته المعصومين أدعية كثيرة، في مُختلف الأوقات مِن ساعات الليل والنهار ومُختلف الـمُناسبات مِن أيَّام الأُسبوع والأعياد وغيرها، وقد طرح المعصومون في تلك النصوص مِن الأدعية مُختلف المسائل الـمُتعلِّقة بالرسالة الإلهيَّة مِن فكريَّة وعقائديَّة وأخلاقيَّة وسلوكيَّة، بالإضافة إلى البُعد الروحي التي تتضمَّنه تلك الأدعية، حتَّى أصبحت مدرسة الدعاء في الإسلام مِن أشمل وأعمق المدارس.

وإنَّ مِن أشهر وأعظم الأدعية الواردة عن المعومينعليهم‌السلام الدعاء المعروف بدعاء عَرفة، الوارد عن الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام ، ويُعتبر هذا الدعاء مِن أجلِّ الأدعية وأعظمها، مِن حيث المضامين التي أشار إليها أبو الأحرار في دعائه، والتي تُعتبر مِن أرقى وأدقِّ ما طُرح في مقام التوحيد والعرفان، وسائر المعارف الأُخرى.

فتأمَّل في الجُمل الآتية مِن الدعاء، حينما يتحدَّث الدعاء عن مقام الإنسان أمام رَبِّه، فيضعه في مقامه الـمُناسب، فيُشعره بضآلة وجوده ليعيش الإنسان بعيداً عن كلِّ غُرورٍ

____________________

(1) أُصول الكافي باب الدعاء سلاح المؤمن: ج2: ص468.

(2) وسائل الشيعة: ج27 حديث 8615 طبع آل البيت.

(3) أضواء على دعاء كميل: ص51.

١٩٠

بسبب ما في يده مِن أسباب وإضافات، يُضيفها إلى نفسه في الحياة مِن مالٍ وعلمٍ أو جاهٍ أو غير ذلك.

قالعليه‌السلام : (إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري. إلهي، أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جاهلاً في جَهلي. إلهي، إنَّ اختلاف تدبيرك وسرعة طواء مقاديرك مَنَعَا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عَطاءٍ واليأس منك في بلاء. إلهي، منِّي ما يليق بلؤمي ومنك ما يليق بكَرمك)(1) .

وتأمَّل كذلك في إشارتهعليه‌السلام إلى طريق معرفة الله تعالى، كيف يتجاوز ما أطلق عليها عنوان الآثار، وهي الآثار الكونيَّة في دلالتها على خالقها تعالى، وسلك الإمام طريقاً أسمى وأرفع لمعرفة المولى تعالى.

قالعليه‌السلام : (إلهي، تردُّدي في الآثار يوجب بُعْدَ الـمَزار، فأجمعني عليك بخدمةٍ توصلني إليك، كيف يُستَدلُّ عليك بما هو في وجوده مُفتقر إليك؟! أيكون لغيرك مِن الظهور ما ليس لك حتَّى يكون هو الـمُظهِر لك؟! متى غِبتَ حتَّى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك؟! ومتى بُعدت حتَّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عَمْيت عين لا تراك عليها رقيباً! وخسرت صفقة عبد لم تجعل له مِن حُبِّك نصيباً. إلهي، أمرت بالرجوع إلى الآثار، فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار، حتَّى أرجع إليك منها كما دخلت إليك مِنها مصون السِّرِّ عن النظر إليها، ومرفوع الهِمَّة عن الاعتماد عليها، إنَّك على كلِّ شيء قدير)(2) .

ولعلَّ الإمامعليه‌السلام يُشير هنا إلى طريق المعرفة بالله، الذي يُطلِق عليه العلماء عنوان (العلم الحضوري) وهو شعور الإنسان بوجود الله، وحضوره شعوراً باطنيَّاً روحيَّاً مِن

____________________

(1) مفاتيح الجنان: ص354.

(2) مفاتيح الجنان: ص355، والإقبال للسيِّد ابن طاووس: ص660 طبع الأعلمي. وفيه بعض الاختلاف في اللفظ.

١٩١

غير الالتفات إلى ما حوله مِن آيات وآثار، ويُعتبَر هذا الطريق أشرف الطُّرق وأصدقها في معرفته سبحانه.

ويُقابله الطريق الآخر الـمُسمَّى بـ: (العلم الحصولي) وهو معرفته تعالى عن طريق الآيات والآثار والاستدلال بها على وجود صانعها تعالى.

وأمَّا الدعاء في المسيرة الثوريَّة لسيِّد الشهداءعليه‌السلام ، فإنَّه أبرز الظواهر والـمُمارسات الحسينيَّة يوم الطَّفِّ؛ فإنَّه لا زال يتضرَّع إلى الله تعالى في سائر أحواله ومواقفه، بحيث إنَّ القارئ لـمَلاحم الطَّفِّ لا يكاد يجد فاصلاً بين ملاحم الجهاد، وبين مواقف الصلاة والدعاء، فكلُّها معارج نحو الله وملكوته، فهي مُتداخلة الخطوط، بلْ هي خَطٌّ واحد في مسيرة سيِّد الشهداء ومُمارساتهعليه‌السلام ، فقبل بداية الحرب مِن يوم عاشوراء، وبعد استعداد الطرفين للقتال خرج الإمام مِن خيمته، فرأى البيداء قد مُلِئت خَيلاً ورجالاً، وقد شُهِرت السيوف والرماح، وهُمْ يتعطَّشون إلى إراقة دَمِه ودماء البررة مِن أهل بيته وأصحابه؛ لينالوا الأجر الزهيد مِن ابن مرجانة، فدعاعليه‌السلام بمَصحف فنشره على رأسه وأقبل على الله يتضرَّع قائلاً:

(اللَّهمَّ، أنت ثِقتي في كلِّ كَربٍ، ورجائي في كلِّ شِدَّة، وأنت لي في كلِّ أمر نَزَلَ بي ثِقة وعِدَّة، كمْ مِن همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتَقلُّ فيه الحيلة، ويُخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوُّ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً منِّي إليك عمَّن سواك، ففرَّجته وكشفته وكفيته، فأنت وليُّ كلِّ نعمة وصاحب كلِّ حسنة ومُنتهى كلِّ رغبة)(1) .

____________________

(1) الإرشاد للشيخ الـمُفيد: ج2: ص96 طبع آل البيت، والبحار: ج45: ص5، ورواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام: ج3: ص84 في غير الـمُناسبة.

١٩٢

بهذا الدعاء بدأ الإمامعليه‌السلام المواجهة مع أعدائه؛ ليؤكِّد هدفه الـمُقدَّس مِن هذه المعركة، فهو يقف ويُقاتل لا لأجل مطامع دنيويَّة: مِن حُكم، أو مالٍ، أو جاهٍ وما شاكل ذلك، إنَّما قتاله وجهاده مِن أجل الله ولله فقط، (ودعاؤه جدير بأنْ يُلتفت إليه ويُدرس دراسة واعية مُتبصّرة، وكلماته جديرة بأنْ تُردَّد في كلِّ موقف عصيب، يتسلَّط فيه الظالمون ويتغلَّبون ويُسيطرون على الأُمَّة الـمُستضعفة الـمُهانة الذليلة)(1) .

ومِن أدعية الإمام في يوم الملاحم الجهاديَّة - يوم عاشوراء - دعاؤه عندما قَدَّم ضحيَّة مِن ضحاياه على مذبح الشهادة، وهو طفله عبد الله الرضيع، حينما ذُبِح على يديه بعدما عرضه على الأعداء ليسقوه شيئاً مِن الماء، وقد أُغمي على الطفل مِن شِدَّة العَطش كما يقول المؤرِّخون.

وانبرى الباغي اللئيم حَرملة بن كاهل، فسدَّد له سَهماً وجعل يضحك ضحكة الدَّناءة، وهو يقول أمام اللئام مِن أصحابه: خُذْ هذا فاسْقِه. واخترق السهم - يالله - رَقَبَة الطفل، ولـمَّا أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه مِن القِماط وجعل يُرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى الطفل رافعاً رأسه إلى السماء، فمات على ذِراع أبيه... ورفع الإمام يديه وكانتا مملوءتين مِن ذلك الدم الطاهر، فرما به نحو السماء فلم تسقط منه قَطرة واحدة إلى الأرض - حَسْبَما يقول الإمام الباقرعليه‌السلام - وأخذ يُناجي ربَّه قائلاً:

(هوَّن ما نزل بي أنَّه بعين الله تعالى. اللَّهمَّ، لا يكون أهون عليك مِن فصيلٍ. إلهي، إنْ كنت حَبست عنَّا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا مِن الظالمين، واجعل ما حلَّ بنا في العاجل

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ص320.

١٩٣

ذخيرة لنا في الآجل. اللَّهمَّ، أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد { صلى الله عليه وآله }).

ونزل الإمام عن جواده وحفر لطفله بجَفْن سيفه حُفرة، ودفنه مُزمَّلاً بدمائه الزكيَّة، وقيل: إنَّه ألقاه مع القتلى مِن أهل بيته(1) .

ومِن هذه الـمُناجاة يشعر الإنسان بأنَّ هذا الشهيد العظيم، كلَّما قدَّم قُرباناً لله تعالى ازداد تعلُّقاً به وانشداداً إليه، فتهون عليه أشدُّ تلك الكوارث وقعاً وإيلاماً، فهو يقول: (هوَّن ما نزل بي أنَّه بعين الله).

وكانت آخر مُناجاته بعد ما انتهى مِن ترتيل الجهاد، وأدَّى سيفُه دوره وأخذ مأخذه مِن رقاب أُولئك المارقين، وبعد أنْ أُثخِن بالجراح أذ يُناجي ربَّه قائلاً:

(اللَّهمَّ، مُتعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد الـمَحال، غنيٌّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حَسَن البلاء، قريب إذا دُعيت، مُحيط بما خلقت، قابل التوبة لـمَن تاب إليك، قادر على ما أردت، ودَرْك ما طلبت، وشكور إذا شُكرت، وذكور إذا ذُكرت. أدعوك مُحتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، أفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكَّل عليك كافياً، أحكم بيننا وبين قومنا، فإنَّهم غرُّونا وخدعونا، وخذلونا وغدروا

____________________

(1) مقتل الحسين للـمُقرَّم: ص273 عن عِدَّة مصادر.

١٩٤

بنا وقتلونا، ونحن عِترة نبيِّك ووُلد حبيبك محمد بن عبد الله، الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، واجعل لنا مِن أمرنا فرجاً ومخرجاً برحمتك يا أرحم الراحمين)(1) .

هكذا يختم أبو الأحرار لحظات حياته ومواقف جهاده، ليُبرهن للأجيال أنَّ كلَّ ما أعطاه في هذه الثورة الـمُقدَّسة مِن تضحيات ودماء إنَّما هي مِن أجل الله والحفاظ على رسالته، فهو يتضرَّع إلى خالقه تعالى وقد كسته الدماء القانية التي رسم بها للأُمَّة طريق الحياة الحُرَّة الكريمة، وكتب بها صفحات الإباء لتقرأها الأجيال كلَّما ضعفت في نفوسها روح التضحية والجهاد لتبعث مِن جديد.

3 - الصبر

المؤشِّر الثالث مِن مؤشِّرات البُعْد الروحي للثورة الحسينيَّة الـمُقدَّسة، هي مَلَكة الصبر والثبات الـمُنقطعة النظير، التي كان يتحلَّى بها أبو الأحرار هو ومَن معه مِن أنصاره وأهل بيته وعائلته، في مواجهة المواقف الصعبة والكوارث الشديدة، التي لا تقوم لها الجبال الراسية.

ولعمري، فإنَّ الطريق الذي سلكه سيِّد الشهداء - وهو طريق الجهاد والإصلاح - يقتضي التسلُّح بالصبر والثبات والتسليم لقضاء الله تعالى؛ لأنَّه أشقُّ الطُّرق وأصعبها، وهو طريق الأنبياء والرسل عِبْر تاريخ البشريَّة، فكم لقي أنبياء الله ورُسله مِن الـمُعاناة والـمَصاعب في سبيل إصلاح أُمَمهم ومُجتمعاتهم، حتَّى قُتِل الكثير منهم في هذا السبيل.

____________________

(1) مصباح الـمُتهجِّد للشيخ الطوسي: ص572 طبع الأعلمي، والمزار لمحمد بن المشهدي: ص399، والبحار: ج98: ص347.

١٩٥

فلقد كان صبر الحسينعليه‌السلام صبراً إيجابيَّاً لا صبراً سلبيَّاً، كان صبره صبر العمل والجهاد والتضحية لا صبر الخنوع والاستسلام، وهذا هو صبر الأنبياء والرُّسل على ما يواجهونه مِن أُمَمهم ومجتمعاتهم عندما يدعونهم إلى الله ويُحاولون إصلاح تلك الأُمَم والـمُجتمعات، فقد وطَّنوا أنفسهم على كلِّ مشاقِّ الطريق ومتاعبه، وقد ورث أبو الأحرار منهم ذلك كلَّه، فهو وارث الأنبياء في خَطِّهم ومبادئهم وأهدافهم.

ومِن هذا الـمُنطلق كان الإمامعليه‌السلام يربط بين شهادته وشهادة بعض الأنبياء السابقين، ويربط بين موقف أعدائه وبين موقف أعداء الأنبياء السابقين، كما في جوابه لابن عباس قُبيل خروجه مِن مَكَّة حينما قال:

(هيهات هيهات! يا بن عباس، إنَّ القوم لن يتركوني وإنَّهم يطلبوني أينما كنت، حتَّى أُبايعهم كُرهاً أو يقتلوني. والله، لو كنت في ثقب هامَّة مِن هوام الأرض لاستخرجوني منها وقتلوني. والله، إنَّهم ليعتدون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وأنا ماضٍ في أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أمرني، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)(1) .

وهكذا نلمس هذا الربط واضحاً في خطاب الإمام لعبد الله بن عمر، لـمَّا أشار على الإمام بمصالحة النظام الأُموي وحذَّره مِن القتل والقتال، فأجابه الإمام قائلاً:

(يا أبا عبد الرحمان، أما علمت أنَّ مَن هوان الدنيا على الله تعالى أنَّ رأس يحيى بن زكريَّا أُهدي إلى بغيٍّ مِن بغايا بني إسرائيل،

____________________

(1) معالي السبطين للشيخ مهدي المازندراني: ج1: ص246 طبع النعمان.

١٩٦

أما تعلم أنَّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيَّاً، ثمَّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنْ لم يصنعوا شيئاً، فلم يُعجِّل الله عليهم، بلْ أمهلهم ثمَّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ ذي انتقام، اتَّقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدعْ نُصرتي)(1) .

وإنَّما يُريد أبو عبد اللهعليه‌السلام مِن هذا الحديث عن يحيى وغيره مِن الأنبياء؛ ليؤكَّد أنْ لا فرق بين هدفهم الذي مِن أجله قُتلوا أو حوربوا وبين هدفه الذي خرج مِن أجله، وهو إقامة دين الله وشرعه والدعوة إليه، فهو قد وطَّن نفسه على ما وطَّن الأنبياء عليه أنفسهم.

قالعليه‌السلام مؤكِّداً تصميمه على تحقيق هدفه:

(رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفَّينا أُجور الصابرين، لن تشذَّ عن رسول الله لُحمته، بلْ هي مجموعة له في حضيرة القُدُس، تقرُّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، ومَن كان باذلاً فينا مُهجته موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله)(2) .

ولعمري، لقد ضرب أبو الأحرار رقماً قياسيَّاً في صبره وتحمُّله ومواجهته، لتلك الكوارث التي لم يواجهها حتَّى الأنبياء، فكان كالطود الأشمِّ الذي لا تُحرِّكه الرياح

____________________

(1) اللهوف: ص22 طبع الأعلمي، والبحار: ج44: ص364.

(2) اللهوف: ص38، وتقدَّمت بقيَّة المصادر في ص54 هامش 2.

١٩٧

العاتية، وهو مع ذلك يُزوِّد مَن حوله بروح الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى.

فهذه أُخته زينب الحوراء تبكي لما تنتظره مِن فقد الإِخوة وباقي الرجال، فأقبل عليها الإمام مُخاطباً لها ليعدَّها لـمُهمَّتها القادمة، التي تُمثِّل حلقة مِن حلقات الثورة، فقالعليه‌السلام :

(يا أُخيَّه، اتَّقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون وأنَّ أهل السماء لا يبقون، وأنَّ كلَّ شيء هالك إلاَّ وجه الله، الذي خلق الأرض بقُدرته ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، أبي خيرٌ مِنِّي وأُمِّي خيرٌ منِّي وأخي خيرٌ منِّي ولي ولهم ولكلِّ مسلم برسول الله أُسوة)(1) .

وبهذا فقد أمدَّ أبو الأحرار شقيقته بطلة كربلاء بروح العزيمة والصمود، حتَّى ضربت الحوراء زينب أروع الأمثلة في تاريخ المرأة المسلمة في ميادين الصمود، والمواجهة للانحراف والطاغوت.

لقد فهمت زينب مَغزى رسالته - أيْ الإمام - ووعتها جيِّداً، وهكذا بسطت يديها تحت بدنه الـمُقدِّس بعد مقتله رافعة طرفها نحو السماء هاتفة:

(اللهم، تقبَّل مِنَّا هذا القُربان).

وصمدت بقوَّة غريبة أمام أكبر كارثة يُمكن أنْ تَحلَّ بامرأة، قُتِل أهل بيتها وحُماتها في لحظات قصيرة(2) .

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص414.

(2) وتنفَّس صُبح الحسين: ص316.

١٩٨

وهكذا كانت رجال الإمام مِن حوله يستمدَّون منه روح الصبر، فقد كان يحثُّهم على الصبر والثبات بوجه العدوِّ الذي كان يتفوَّق عليهم عدداً وعُدَّة، قالعليه‌السلام :

(صبراً بني الكرام، فما الموت إلاَّ قنطرة تَعبر بكم عن البؤس والضرَّاء، إلى الجنان الواسعة النعيم الدائمة، فأيُّكم يكره أنْ ينتقل مِن سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلاَّ كمَن ينتقل مِن قصر إلى سجن وعذاب، إنَّ أبي حدَّثني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّ الدنيا سجن المؤمن وجَنَّة الكافر والموت جِسر هؤلاء إلى جنَّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جهنَّمهم، ما كَذبت ولا كُذِّبت)(1) .

وقالعليه‌السلام مُخاطباً أهل بيته:

(صبراً على الموت يا بني عُمومتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم)(2) .

ولقد كان بحَقٍّ هو وتلك الصَّفوة مَن حوله أعظم مدرسة للأجيال، في الصبر والصمود واللامبالاة بالموت في سبيل الأهداف الـمُقدَّسة، فقد اندفع أُولئك الأبطال للقتال بكلِّ صبر وثَبْات، فكان كلُّ شخصٍ منهم أراد القتال أتى الحسين فيودِّع قائلاً: السلام عليك يا أبا عبد الله. فيُحييه الحسين: (وعليك السلام ونحن خلفك). ويقرأ:( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (3) .

____________________

(1) معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص289 تحقيق علي أكبر الغفاري.

(2) وتنفَّس صُبح الحسين: ص319.

(3) الأحزاب: 23.

١٩٩

إنَّ هذا الموقف الذي لم يُحدِّث التاريخ بمثله، لا يُمكن أنْ يفقهه إلاَّ الأشخاص الذين يحملون أرواحاً قد تجاوزت الحدود الدنيويَّة المحسوسة، فأصبحت تعيش في عالم الملكوت، أو على حَدِّ تعبير أمير المؤمنينعليه‌السلام : (أجسادهم في الدنيا وأرواحهم مُعلَّقة بالملأ الأعلى).

كان المشهد يبدو وكأنَّه مشهد احتفاليٌّ سعيد، وقد أوشكت قافلة الحسين الصغيرة على بلوغ الهدف... وكان مَن يسير في مُقدِّمة القافلة يشعر أنَّه أوَّل مَن سيرتاح، وسيكون في استقبال أصحابه بعد فراق قصير لن يدوم طويلاً(1) .

ويقف أبو الأحرار صامداً يواجه تلك الكوارث بثبات الصابرين قائلاً:

(صبراً على قضائك يا رَبّ، لا إله سِواك، يا غِياث الـمُستغيثين، ما لي ربٌّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حُكمك يا غِياث مَن لا غِياث له)(2) .

وختم أبو الأحرار فصول ملحمته حينما وقع على الأرض مُزمَّلاً بدمائه الزكيَّة، على أثر أصابته بسهم في صدره قائلاً:

(بسم الله وبالله، وعلى مِلَّة رسول الله).

ثمَّ رفع رأسه إلى السماء وقال:

(إلهي، إنّك تعلم أنَّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيٍّ غيره)(3) .

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ص327.

(2) مقتل الحسين للـمُقرَّم: ص283 طبع قم.

(3) اللهوف لابن طاوس: ص71 طبع الأعلمي.

٢٠٠