قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45406
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45406 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولا غرابة أنْ يصدر ذلك مِن هذه المرأة العظيمة، وما عسى أنْ يقول إنسان في شأنها، بعد شهادة الإمام زين العابدين - وهو الإمام المعصوم الذي يعني ما يقول ولا يُرسل الألقاب جُزافاً - حينما يُخاطب عمَّته زينب قائلاً: (اسكُتي يا عمَّة، فأنت بحمد الله عالمة غير مُعلَّمة، وفَهمة غير مُفهَّمة).

وتابعت الحوراء خطابها فقالت:

(أبتكون وتنتحبون؟! إيْ والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشَنارها، ولن ترحضوها بغَسلٍ بعدها أبداً، وأنَّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوَّة، ومَعدِن الرسالة ومدرَّة حُجَّتكم ومنار مَحجَّتكم، وملاذ خِيرتكم ومفزع نازلتكم، وسيِّد شباب أهل الجَنَّة، ألا ساء ما تزرون.

فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسُحقاً! فلقد خاب السعي وتبَّت الأيدي، وخَسُرت الصفقة، وبؤتم بغضبٍ مِن الله ورسوله، وضُربت عليكم الذِّلَّة والـمَسكنة. ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيَّ كَبد لرسول الله فريتم؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم؟! وأيَّ دَمٍ له سفكتم؟! وأيَّ حُرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم شيئاً إدَّاً تكاد السماوات يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدَّاً.

ولقد أتيتم بها خَرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملأ السماء، أفعجبتم أنْ مطرت السماء دَماً، ولَعذاب الآخرة أخزى وهُمْ لا يُنصرون، فلا يستخفَّنكم الـمُهل؛ فإنَّه لا يُحفِّزه البِّدار ولا يخاف

٢٢١

فوت الثار، وإنَّ ربَّكم لبالـمُرصاد) .

فقال الإمام السجاد: (اسكُتي يا عمَّة، فأنت - بحمد الله - عالمة غير مُعلَّمة، وفَهمة غير مُفهَّمة)(1) .

وهنا وضعت الحوراءعليها‌السلام نُصب أعينهم نتائج أعمالهم، فأشارت إلى أنَّ هذا البُكاء الخادع سيكون مِن لوازم حياتهم ووجودهم، فقد باؤوا بالعار الذي لا يُغسل والخزي الدائم؛ لأنَّهم عمدوا إلى قتل فرع النبوَّة وسَليل صاحب الرسالة، ومَن كان لهم المفزع عند الـمُلـمَّات والملاذ الذي يُلتجأ إليه في النوازل، والحُجَّة التي نُصبت مِن قِبَل الله على العباد، وهو سيِّد شباب أهل الجَنَّة، فقد خاب سعيهم وخَسرت صفقتهم، ونتيجة ذلك أنْ سيَحلُّ بهم غضب الله تعالى وسيشملهم الذِّلُّ والمسكنة.

ثمَّ تساءلت الحوراء: ألم يكونوا يعلمون في حَقِّ مَن ارتبكوا هذه الفاجعة؟! بلى لقد كانوا على علم مِن ذلك، ولا يجهلون هذا الأمر بأنَّهم قد ارتكبوا أعظم فاجعة عرفها التاريخ؛ لأنَّهم قد مزَّقوا كَبِد رسول الأُمَّة بأسيافهم ورِماحهم وانتهكوا حُرمته وحُرمة الإسلام؛ بإبرازهم لحرائر النبوَّة ومُخدَّرات الإمامة، فلا عجب - لأجل ذلك - لو أُصيب النظام الكونيّ بالاضطراب، وتفطَّرت السماوات وانشقَّت الأرض وخرَّت الجبال هدَّاً، ولا غَرابة لو أنَّ السماء بكت لهذه الفاجعة فأمطرت دماً.

ثمَّ حذَّرتهم بألاَّ يغترُّوا بحلم الله تعالى عليهم وأناته، حيث لم يُعجِّل عليهم النقمة والعذاب؛ فإنَّه تعالى لا يفوته شيء وإنَّما يَعجل مَن يخاف الفوت، وإنَّه للظالمين لبالـمُرصاد، ولعذاب الآخرة أشدُّ وأخزى.

____________________

(1) مقتل الـمُقرَّم: ص203 - 204.

٢٢٢

وقد خَطبت السيِّدة أمُّ كلثوم موجِّهة كلامها - أيضاً - إلى ذلك الحشد، الذي استقبلهم بالبكاء الخادع الكاذب فقالت:

(مَه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحَكَم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب، يا أهل الكوفة، سوأة لكم! خذلتم حُسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتبَّاً لكم وسُحقاً. ويلكم! أتردون أيَّ دواهٍ دهتكم؟! وأيَّ وِزرٍ على ظهوركم حملتم؟! وأيَّ دماء سفكتم؟! وأيَّ كريمةٍ أصبتموها؟! وأيَّ صبيةٍ أسلمتموها، وأيَّ أموالٍ انتهبتموها؟! قتلتم خير الرجالات بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونُزعت الرحمة مِن قلوبكم، ألا إنَّ حزب الله هُمْ الـمُفلحون وحزب الشيطان هُمْ الخاسرون) .

واضطرب الـمُجتمع مِن خطابها، فنشرت النساء شعورهنَّ ولطمنَ الخدود، ولم يُرَ أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم(1) .

هذا هو المحور الأوَّل الذي تدور عليه هذه البيانات، حيث كان الكلام ينصبُّ على توضيح عُظم الفاجعة وآثارها على مُرتكبيها وعلى الأُمَّة كافَّة، وتوجيه التأنيب والتقريع إلى الـمُجتمع الكوفي لما ارتكبه مِن فجائع مؤلمة وجرائم مُخزية.

أمَّا المحور الثاني لبيانات الكوفة، فهو الحديث عن قضيَّة أهل البيت ومُعاناتهم مِن هذه الأُمَّة، بدءاً مِن مُعاناة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنَّ فاجعة الطَّفِّ إنَّما هي الحلقة الأبرز والأفضع، مِن بين حلقات الـمُعاناة التي واجهها أهل البيتعليهم‌السلام ، فليست هي أوَّل جريمة تُرتكب في حَقِّهم مِن قِبَل الأُمَّة، لا سِيَّما مِن الـمُجتمع الكوفي.

____________________

(1) مقتل الـمُقرَّم: ص208.

٢٢٣

وقد انبرت إلى الخطابة فاطمة بنت الإمام الحسينعليهما‌السلام ، فخطبت أبلغ خطاب وأروعه، وكانت طفلة، فبُهر الناس ببلاغتها وفصاحتها، وقد أخذت بمجامع القلوب وتركت الناس حيارى، قد بلغ بهم الحُزن إلى قرارٍ سحيق، فقالت:

(الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزِنة العرش إلى الثرى، أحمده وأُومن به، وأتوكَّل عليه، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنَّ أولاده ذُبِحوا بشطِّ الفرات بغير ذَحل ولا تِرات.

اللَّهمَّ، إنِّي أعوذ بك أنْ أفتري عليك الكذب، وأنْ أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه، مِن أخذ العهود لوصيَّه عليِّ بن أبي طالب، المسلوب حَقُّه المقتول مِن غير ذنب - كما قُتِل ولده بالأمس - في بيت مِن بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تَعْساً لرؤوسهم، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مَماته، حتَّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيِّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك - اللَّهمَّ - لومة لائم، ولا عَذل عاذل وهديته - اللَّهمَّ - للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مُجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم) .

٢٢٤

إنَّ حديث السيِّدة فاطمة بنت الإمام الحسينعليها‌السلام عن جَدِّها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورجوعها إلى الماضي، والإشادة بخصائص الإمام علي، إنَّما هي عمليَّة ربط بين الأحداث التاريخيَّة في حلقاتها الـمُترابطة.

إنَّ كلَّ ما وقع على أهل البيت مِن مآسي، وما واجهوه مِن القتل وإبادة، كلُّ ذلك نتائج عن الحدث الأوَّل، وهو إبعاد الإمام عليٍّ عن مركز القيادة بعد وفاة الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتجاهل الأُمَّة لما يتمتَّع به عليٌّعليه‌السلام مِن خصائص تجعله فوق مَن سواه مِن أفراد الأُمَّة، وتُحدِّد موقعه القيادي، فترتَّبت على هذا الموقف مِن الأُمَّة تِجاه أمير المؤمنينعليه‌السلام النتائج اللاحقة تِجاه العِترة الطاهرة، حيث لا يُمكن الفصل بين فاجعة الطَّفِّ، وبين ما سبقها مِن الأحداث، وأُسس ذلك كلُّه الغَلطة الأُوْلى التي وقع فيها المسلمون.

وأشارت السيِّدة فاطمة إلى ما واجهه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مِن مُعاناة ومرارة مِن مُجتمع الكوفة، مِن حالات التمرُّد والعصيان حتَّى امتلأ قلبه جروحاً، وختم هذه الـمُعاناة بأنْ قُتِل بينهم في بيت مِن بيوت الله.

وواصلت السيِّدة بنت الحسينعليهما‌السلام خطابها، مُشيرة إلى مواقف هذا الـمُجتمع تِجاه أهل البيت بشكلٍ عامٍّ، فقالت:

(أمَّا بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل الـمَكر والغَدر والخُيلاء، فإنَّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عَيبة علمه ووعاء فَهمه

٢٢٥

وحكمته، وحُجَّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته وفضَّلنا بنبيِّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير مِمَّن خلق الله تفضيلاً، فكذَّبتمونا وكفَّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهبا، كأنَّنا أولاد تُرك أو كابُلٍ، كما قتلتم جَدَّنا بالأمس وسيوفكم تقطُر مِن دمائنا أهل البيت لحِقدٍ مُتقدِّم، قَرَّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين، فلا تَدْعونَّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم مِن دمائنا، ونالت أيدكم مِن أموالنا، فإنَّما أصابنا مِن المصائب الجليلة والرزايا العظيمة: ( فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (1) .

لَعمري! إنَّ البيان الذي أدلت به هذه السيِّدة الجليلة، لَيَدلُّ على أُفق واسع وفكرٍ وقَّادٍ، وقابليَّة رفيعة في فَهم الأُمور، وهضم الأحداث وترتيب نتائجها على مُقدِّماتها، مع العلم أنَّ هذه السيِّدة لم تكن في السِّنِّ الذي يسمح لها في فَهم الأُمور، مِن خلال التجارب الحياتيَّة وتلقِّيها على مرور السنين، كما هي العادة في حياة الناس ما عدا النوابغ والموهوبين، الذين منحوا الفِكر الـمُميَّز والعبقريَّة النادرة، وهؤلاء يوجدَون بنسبة قليلة في كلِّ الـمُجتمعات، وإنَّ السيِّدة بنت الحسينعليهما‌السلام هي مِن أُسرة، اجتمعت لها جوانب الفضل والفضيلة وتوفَّرت لها عناصر النبوغ والعبقريَّة الـمُبكِّرة، وهذا ما أشار

____________________

(1) الحديد: 22 - 23.

٢٢٦

إليه جَدُّها أمير المؤمنينعليه‌السلام مُشيراً إلى مَلكة الشجاعة الأدبيَّة عند أهل البيتعليهم‌السلام ، قالعليه‌السلام : (وإنَّا لأُمراء الكلام، وفينا نشبت عروقه، وعلينا تهدَّلت غُصونه)(1) .

فلا غَرابة مِن أنْ تكون هذه الطفلة في سِنِّها، الجليلة في فضلها ووعيها، على هذا الـمُستوى مِن قوَّة البيان ورصانة المنطق، فقد أشارت إلى ما منحهم الله تعالى مِن علمٍ وفضلٍ، حيث جعلهم مَعدن علمه ومنابع فضله.

ثمَّ أشارت إلى ما حَلَّ بهم على أيدي أهل الكوفة، مِن الرزايا العظيمة والكوارث الجسيمة مِن القتل والنهب والأُسر والسبي، وأكَّدت أنَّ في ذلك ابتلاءً لأهل البيت مِن جِهة، وابتلاء لأهل الكوفة وللأُمَّة مِن جِهةٍ أُخرى.

فهو ابتلاء لأهل البيت كابتلاء الأنبياء والرُّسل والأولياء، يرفع الله بذلك درجاتهم ومقاماتهم عنده تعالى.

وهو ابتلاء لأهل الكوفة وللأُمَّة:( ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... ) ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... ) كما كان ذلك لأُمَم الأنبياء والرُّسل.

إلاَّ أنَّ أهل الكوفة، بلْ الأُمَّة كلُّها، نتيجة هذا الابتلاء لم يحيَ منها إلاَّ القليل، وكان الهَلاك نصيب الأكثريَّة كما هي نتائج الابتلاءات الإلهيَّة في الأُمَم السابقة.

وتابعت ابنة الحسين خطابها لأهل الكوفة، مُحذِّرة لهم غَبَّ ما فعلوه، وبأنَّهم سوف يجنون ثمار ما كسبت أيديهم، وما ارتكبوه في حَقِّ عِترة خاتم النبيِّين، فلينتظروا ذلك وما عذاب الله مِن الظالمين ببعيد.

قالتعليها‌السلام :

(تبَّاً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنْ قد حَلَّ بكم وتواترت مِن السماء نقمات، فيسحتكم بعذابٍ ويُذيق بعضكم بأس

____________________

(1) نهج البلاغة قطعة رقم 233 صُبحي الصالح.

٢٢٧

بعضٍ، تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلَكم! أتدرون أيَّة يد طاعنتنا منكم؟! وأيَّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أمْ بأيَّة رجلٍ مَشيتم إلينا تبغون مُحاربتنا؟! والله، قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتِم على سمعكم وبصركم، وسَوَّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غِشاوة فأنتم لا تهتدون.

فتبَّاً يا أهل الكوفة! أيَّ تِرات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قِبَلكم، وذُحول له لديكم بما غدرتم بأخيه عليِّ بن أبي طالب جَدِّي وببنيه وعِترته الطيِّبين الأخيار؟! فافتخر بذلك مفتخر:

قد قتلنا عليَّكم وبنيه

بسيوف هنديَّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي تُرْك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيُّه القائل الكُثْكُثْ والأثْلب، افتخرت بقتل قوم زكَّاهم الله وطهَّرهم وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقعِ كما أقعى أبوك، فإنَّما لكلِّ امرئ ما كسب وما قدمت يداه. أحسدتمونا ويلكم على ما فضَّلنا الله.

٢٢٨

فما ذنبُنا إنْ جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساجٍ ما يواري الدَّعامِصا

( ... ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (1) .

( ... وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (2) (3) .

ولك أنْ تتصوَّر مدى تأثير هذه البيانات في نفوس تلك الجماهير، وما تركته مِن رُدود فعل مُتفاوتة، وبالإمكان أنْ نُقسِّم ذلك الجمهور إلى قِسمين رئيسين:

القِسم الأوَّل: هو القسم الذي شارك في معركة الطَّفِّ وباشر الحرب، وعلى أيدي هؤلاء تمَّت الجريمة وحدثت الفاجعة، وإنَّ تأثير خُطب سبايا أهل البيت على هذا القسم هو تعميق الشعور بالخيبة والحسرة الدائمة؛ حيث إنَّهم قد أغلقوا على أنفسهم باب الرحمة، ولا يُمكنهم تلافي الموقف فلقد خسروا الدنيا والآخرة، ألاْ إنَّ ذلك هو الخُسران الـمُبين.

القِسم الثاني: هُمْ الذين لم يشتركوا في المعركة، ولم يخرجوا لحرب الإمامعليه‌السلام ، إلاَّ أنَّهم وقفوا منه موقف الخاذل، ولم يفوا بما أعطوه مِن وعود وعهود، ولا شكَّ أنَّ هذا الموقف يُمثِّل جانباً آخر مِن الكارثة، إلاَّ أنَّ هؤلاء وإنْ لم يُحاربوا إلى جانب مُعسكر ابن زياد، إلاَّ أنَّهم خذلوا الحَقَّ وأضعفوه وأسلموه في أيدي الباطل.

ومِن الطبيعي أنْ تتفاوت رَدَّة الفعل عند هؤلاء، عن رَدَّة الفعل عند القِسم الأوَّل، فإنَّ رَدَّة الفعل عند هذا القِسم هو الشعور بالندم على التفريط وسوء الموقف، إلاَّ أنَّ لديهم مجالاً للتكفير عن ذلك، وليس أمامهم طريق إلاًَّ الانضمام إلى جماهير الثورة

____________________

(1) الحديد: 21.

(2) النور: 40.

(3) اللهوف لابن طاوس: ص89 وص90، ومثير الأحزان لابن نما: ص67 وص68، واللفظ للأوَّل.

٢٢٩

فيما بعد الواقعة، وأنْ يُقرِّروا القيام للانتقام مِن الـمُجرمين القتلة، أو يُقتلوا كما قُتِل الشهداء على ثرى الطَّفِّ.

فكأنَّ هذا الشعور مِن أهمِّ العوامل في بلورة الثورة في النفوس، وإثارة الحماس الشديد في مواجهة النظام الأُموي، وتوسيع الـمَدِّ الثوري، الذي رفع شعار الأخذ بثأر الحسينعليه‌السلام .

فقد ندم أهل الكوفة أشدَّ الندم على خُذلانهم للإمام، وجعلوا يتلاومون على ما اقترفوه مِن عظيم الإثم، وقد أجمعوا على إقرارهم بالذنب في خُذلانه، ولزوم التكفير عنه بالـمُطالبة بثأره.

وقد عقدوا مؤتمراً في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، وهو شيخ الشيعة وصاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذو السابقة والقِدَم في الإسلام، فقد تداولوا الحديث فيما بينهم، ورأوا أنَّه لا يُغسل عنهم العار والإثم إلاَّ بقتل مَن قَتَلَ الحسينعليه‌السلام ، وقد أُلقيت في قاعة الحفل عِدَّة خُطب حماسيَّة، وهي تدعو إلى التلاحم ووحدة الصَّف للأخذ بثأر الإمام العظيم.

وكان انعقاد المؤتمر فيما يقول المؤرِّخون في سنة (61 ه) وهي التي قتل فيها الحسين(1) .

ومِن هذا المؤتمر انطلقت ثورة التوَّابين للأخذ بثأر الإمام الشهيد، وتسمية هؤلاء الثائرين أنفسهم بالتوَّابين، يُعبِّر عن حالة الشعور بالذنب العظيم تِجاه الإمام وثورته، وإعلان التوبة مِن ذلك الذنب.

فأعلنوا ثورتهم سنة (65 هـ) واصطدموا مع النظام الأُموي في منطقة تسمَّى (عين الوردة)، فكانت نتيجة المعركة أنْ قُتل الكثير منهم واستطاع جيش العدوِّ أنْ يُسيطر على الموقف.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص450.

٢٣٠

فالتوَّابون يُمثِّلون هذا التيَّار في الـمُجتمع الكوفي.

وعاد هذا الـمَدُّ الثوري إلى الظهور في الكوفة مَرَّة أُخرى، مُتمثِّلاً في ثورة الـمُختار الثقفي، الذي استطاع أنْ يستأصل أُولئك القتلة الـمُجرمين، الذين ارتكبوا فاجعة كربلاء.

فقد جهد على الانتقام منهم وتطهير الأرض مِن أُولئك الأرجاس، وقد قَتَل منهم - فيما يقول الطبري: - في يوم واحد مائتين وثمانين رجلاً، ولم يفلت أحد مِن قادتهم وزُعمائهم، فقَتل الـمُجرم عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد مع ولده حفص، وقَتل الأبرص شِمر بن ذي الجوشن ورمى بجيفته للكلاب، وقَتل قيس بن الأشعث، والحُصين بن نُمير، وشبث بن ربعي وغيرهم(1) .

وهكذا أصبحت الكوفة قاعدة لانطلاقة العديد مِن الثورات في وجه الأُمويِّين، كثورة زيد بن علي بن الحسين ويحيى بن زيد، وكلُّ ذلك أصداء لتلك الثورة الـمُقدَّسة ودماء أُولئك الأحرار.

ولا شكَّ إنَّ مَن أهمِّ الأسباب في تبلور الفِكر الثوري والروح الجهاديَّة، هو ما أدلى به عقائل النبوَّة وسبايا آل محمد مِن البيانات الخطابيَّة لتعميق الثورة في وجدان الجماهير.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص405.

٢٣١

ج - البيانات الإعلاميَّة في الشام

تتمثَّل بيانات الشام فيما يلي:

1 - خُطبة الحوراء زينب في مجلس يزيد بن مُعاوية.

2 - خُطبة الإمام زين العابدين في المجلس.

وقد أشرنا في النقطة السابقة، إلى أنَّ هناك تفاوتاً بين بيانات الكوفة وبين بيانات الشام، فقد كانت بيانات الكوفة موجَّهة إلى الـمُجتمع الكوفي مُباشرة؛ نظراً إلى كونه هو الـمُرتكب للجريمة، والـمُباشر لحدث الفاجعة الكُبرى، وكان هو اليد الأثيمة للنظام الأُموي؛ لذلك جاءت الخطابات موجَّهة إليه.

وأمَّا الـمُجتمع الشامي، فإنَّ أوضاعه تختلف عن أوضاع الـمُجتمع الكوفي، فإنَّ الطابع العامَّ الذي يسود الـمُجتمع الشامي، هو الانخداع بالنظام الأُموي والولاء الأعمى للأُمويِّين، ويرى أنَّ بني أُميَّة هُمْ الذين يُمثِّلون الإسلام ونبي الإسلام، وأنَّهم أقرب البيوتات إلى صاحب الرسالة؛ لأنَّ هذا الـمُجتمع قد رُبِّيَ تربية خاصَّة مِن قِبَل الإعلام الأُموي الـمُكثَّف مِن عهد مُعاوية.

وكانت الصورة التي يحملها الـمُجتمع الشامي عن أهل البيتعليهم‌السلام صورة مشوَّهة، لا سِيَّما شخصيَّة عميد العِترة النبويَّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد اجتهد مُعاوية في تشويه شخصيَّته الـمُقدّسة، حتَّى أعلن سبَّه على المنابر، وبذل الأموال الطائلة في هذا السبيل.

فهذا الوضع الذي يعيشه أهل الشام يحتاج إلى التركيز على جهتين:

٢٣٢

الجِهة الأُوْلى: كشف الزيف الذي يعيشه الأُمويُّون، وتعريتهم للـمُجتمع الشامي لا سِيَّما رأس النظام (يزيد بن مُعاوية)، وتوضيح الحقيقة للرأي العامِّ، وهي أنَّ هذا الحاكم بعيد كلَّ البُعْد عن رسالة الإسلام، ولا يُمكن أنْ يكون حاكماً إسلاميَّاً يُمثِّل صاحب الرسالة.

الجِهة الثانية: الحديث عن مقام أهل البيت ومنزلتهم في الإسلام والقرآن، وأنَّهم هُمْ حَمَلة الإسلام وبُناته وحَفظة القرآن، وكشف ذلك الغشاء الذي وضعه الإعلام الأُموي على أعيُن وأفكار الـمُجتمع الشامي، تِجاه أهل البيتعليهم‌السلام ، حتَّى أصبحوا مجهولين لدى ذلك الـمُجتمع، بلْ كان يحمل العِداء والكراهيَّة لعِترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . فاحتاج الظرف إلى حَمْلة إعلاميَّة قويَّة؛ ليتجلَّى الحَقُّ لذي عينين.

أمَّا الحديث عن الجٍهة الأُولى، فهو مِحور خطاب الحوراء زينبعليها‌السلام ، والحديث عن الجِهة الثانية هو المِحور الذي دار حوله خطاب الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فقد تشاطر الإمام وعمَّته الحديث عن كلا المِحورين.

البيان الزينبي:

إنَّ الخطاب الذي أدلت به الحوراء زينب في مجلس يزيد بن مُعاوية، مِن أقوى الخطابات التي أُثرت عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وتتبيَّن قوَّته أكثر عند مُلاحظة الظرف الذي أُلقي فيه ذلك الخطاب، حيث كان سبايا آل محمد في عاصمة الحُكم الأُموي، وفي قبضة رأس النظام (يزيد بن مُعاوية) وهو يعيش حالة مِن النشوة والشعور بالنصر والظَفر، ويرى نفسه هو الفائز والـمُنتصر في هذه المعركة؛ لأنَّه قد قتل خصومه وجاء بالعائلة الكريمة إلى عاصمته سبايا وأُسارى، ولا زالت وسائل القوَّة بيده مِن جيش وسلاح ومال، فهو يرى أنَّ مِن حَقِّه أنْ ينتشي ويفرح بهذه الـمُناسبة، وهنا تُذكِّر يزيد

٢٣٣

الصراع الماضي بين جَدِّ هذه الأُسرة، التي أصبحت في قبضته وبين أجداده وأسلافه، ذلك الصراع الذي كان بين الإسلام والشِّرك، وقد كانت نتيجته استئصال شأفة الشرك، وكسر شوكته، والقضاء على رؤوسه بما فيهم أجداد يزيد وأسلافه، وها هو الآن قد انتقم لأُولئك الأسلاف بإبادة عِترة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فتَمثَّل بأبيات عبد الله بن الزَّبعرى، وهي:

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جَزع الخَزرج مِن وقع الأسل

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً

ثمَّ قالوا يا يزيد لا تَشل

قد قتلنا القُرم مِن ساداتهم

وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعِبَتْ هاشم بالـمُلك فلا

خبر جاء ولا وحيٌ نزل

لستُ مِن خِنْدِف إنْ لم أنتقم

مِن بني أحمد ما كان فعل(1) .

إنَّ مِن أسوأ مُفارقات هذا التاريخ، أنَّ يزيد يحكم المسلمين باسم الإسلام ونبيِّ الإسلام، فيُعلن كلمة الكُفر على منبر المسلمين مُتحدِّياً مشاعر الأُمَّة، وليس في ذلك الجمهور مَن لديه الإرادة ليَرُدَّ عليه قوله هذا.

في هذا الجوِّ المحفوف بالطغيان والكفر، لم تكترث بطلة كربلاء زينبعليها‌السلام بكلِّ مَن حولها وما حولها، فثارت هاتفة رافعة لصوت الحَقِّ العلوي في وجه الباطل الأُموي، مُبرهنة ليزيد وللأجيال أنَّ هذه الفاجعة الكُبرى لا تعني القضاء على الإسلام، الذي أراد يزيد أنْ ينتقم منه، بلْ إنَّ ما فعله يزيد إنَّما يعني بداية النهاية ليزيد نفسه ونهاية حُكمه.

____________________

(1) تمثَّل يزيد بأبيات عبد الله بن الزَّبعرى، مِمَّا أجمع عليه المؤرِّخون سواء بعد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام أو بعد واقعة الحَرَّة في المدينة عام 63، وذكر تمثُّل يزيد بهذه الأبيات - مع الاختلاف في عددها والتقديم والتأخير - كلٌّ مِن ابن أعثم في الفتوح: ج5: ص129، واللهوف في قتلى الطفوف: ص105، واللفظ له.

٢٣٤

فوقفت ابنة عليٍّ في ذلك المجلس فقالت:

(الحمد لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (1) .

أظننتَ - يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنَّ بنا على الله هَوناً وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعُظم خِطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عَطفك جَذلان مسرور، حين رأيت الدنيا لك مُستوثقة، والأُمور مُتَّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسُلطاننا، فمَهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (2) ) .

في هذا المقطع مِن بيانهاعليها‌السلام نُلاحظ ما يلي:

أوَّلاً: أنَّها سلبت يزيد بن مُعاوية صِفَة الإسلام، وطبَّقت عليه عنوان الكُفر بعد تَمثُّله بأبيات ابن الزَّبعرى، وطبَّقت عليه الآيتين السابقتين في بداية المقطع ونهايته، حيث يعني تطبيق الآية الأُولى أنَّ إعلان يزيد لكلمة الكُفر صريحة، إنَّما هي ثمرة أعماله ومُمارساته السيِّئة التي لا تلتقي مع روح الإسلام الحنيف.

____________________

(1) الروم: 10.

(2) آل عمران: 178.

٢٣٥

ثانياً: عرَّفت يزيد على جهله حين يظنُّ أنَّ هذا الحال الذي هو عليه مِن السلطان، واتِّساق الأُمور وتوفُّر الأسباب دليل على كرامته على الله، وكون سبايا آل محمد في قبضته وقد ضيَّق عليهم الدنيا، دليلاً على هوانهم، فبلغ به الغرور والطغيان مبلغه، فعرَّفته الحوراء بأنَّ ذلك ليس مُقياساً للكرامة والفضل عند الله تعالى.

وإلاَّ فما أكثر الطواغيت في التاريخ، الذين توفَّرت لهم أسباب القوَّة والسلطان فمَلأوا الأرض ظُلماً وفساداً / كفرعون والنمرود وأشباههم، بينما يقف في الطرف الآخر أنبياء الله وأولياؤه، الذين هم قادة البشريَّة بحَقٍّ وولاة أمره.

ويزيد هو واحد مِن أُولئك الذي واجهوا الله بالطغيان والاستكبار في الأرض، بينما الحُكم الذي في يده والملك الذي هو فيه، إنَّما هو حَقٌّ لآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّهم هم ورثة النبيِّ في علمه وحُكمه وسُلطانه، فهُمْ قادة الأُمَّة وحُكَّامها بحَقٍّ.

ثمَّ استشهدت الحوراء بالأية الكريمة الثانية وطبَّقتها على يزيد، والآية تُشير إلى الجهل الذي يقع فيه الطواغيت دائماً، حينما تجتمع لهم أسباب القوَّة والسلطان؛ فيظنُّون أنَّ ذلك دليل تميُّزهم على مَن سِواهم مِن البشريَّة، وأنَّ مظاهر القوَّة والسلطان الـمُتوفِّرة لديهم تُمثِّل الخير والسعادة والرضا مِن الله تعالى، بينما الحَقُّ غير ذلك، إنَّما هي مظاهر سُنَّة الإملاء والاستدراج مِن الله تعالى لهم؛ ليبلغوا حَدَّاً في طُغيانهم واستكبارهم في الأرض، ثمَّ يأخذهم أخذ عزيزٍ مُقتدر، قال تعالى:( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (1) .

ويزيد ليس خارجاً مِن هذه القاعدة أو السُنَّة الإلهيَّة.

ثمَّ قالتعليها‌السلام :

(أمِنَ العَدل - يا بن الطُّلقاء - تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك

____________________

(1) الأعراف: 182 - 183.

٢٣٦

بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا، قد هتكت ستورهُن، وأبديت وجوههُن، تحدو بهنَّ الأعداء مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفَّح وجوههَنَّ القريب والبعيد، ليس معهنَّ مِن حُماتهن حَميٌّ ولا مِن رِجالهنَّ وليٌّ؟! وكيف يرتجى مُراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه مِن دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشَّنف والشنآن والإحن والأضغان؟!).

هذا الاستفهام مِن الحوراء استفهامٌ استنكاريٌّ، فهي تُريد أنْ تقول: إنَّك - يا يزيد - تدَّعي بأنَّك حاكم إسلاميٌّ، تحكم المسلمين باسم الإسلام وباسم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحُكم في الإسلام قائم على العدل، فأينَ حُكمك مِن الإسلام؟! وهل تَعتبر ما فعلته في عِترة الرسول جزءاً مِن عدلك؟! أليس هذا ظُلماً لمحمد وللإسلام؟! فكيف يحقُّ لك أنْ تنطق باسم الإسلام؟!

ثمَّ رجعت الحوراء بالأذهان إلى السوابق التاريخيَّة ليزيد؛ لتُذكِّره وغيره بماضيه الـمُتمثِّل في مواقف أسلافه مِن الإسلام ومواقف الإسلام منهم، وربطت ما بين ما فَعَلَه يزيد بأهل البيت وبين ذلك الماضي.

فذكَّرته - أوَّلاً - موقف جَدِّها الرسول الأعظم مِن آبائه يوم الفتح، يوم دخل مَكَّة الـمُكرَّمة مُنتصراً ظافراً، وأصبحت قريش وأهل مَكَّة في قبضته، إلاَّ أنَّه قد قابل أُولئك الذين كذَّبوه وأهانوه، وعذَّبوا أتباعه وطردوه، وجمعوا له العرب حتَّى غزوه في دار هِجرته، ومثَّلوا بعَمِّه أقبح تمثيل، ومنعوه قبل عامين مِن دخول مَكَّة لأداء مناسك الحَجِّ، وفعلوا معه ما لا تُبيحه أعراف العرب وعاداتهم، وكان أبو سفيان وزوجته هند مِن

٢٣٧

أشدَّ الناس عداوة لله ورسوله، ومع ذلك حين أمكنه الله منهم مَنَّ عليهم، وأمر مَن يُنادي في الناس: (مَن دخل دار أبي سُفيان فهو آمِن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمِن، ومَن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمِن)(1) .

ثمَّ (وجَّه حديثه إلى الـمَكِّيِّين ثانية وسألهم: (ماذا ترون أنِّي فاعل بكم وما تظنُّون؟).

قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك.

فقال: (إنِّي أقول لكم ما قاله أخي يوسُف لإخوته:( ... لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (2) ، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)(3) .

والإشارة مِن الحوراء إلى هذا الموقف لها دلالتها مِن جِهتين:

الجِهة الأُولى: هي الـمُقارنة ما بين هذا الموقف مِن الرسول تِجاه أسلاف يزيد، وبين موقف يزيد مِن عِترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ليتَّضح الفَرق البعيد بين أهداف الإسلام ونبيِّ الإسلام، وبين يزيد وسيرته وأهدافه، فهما اتِّجاهان لا يلتقيان.

الجِهة الثانية: الإشارة إلى مَغزى هذا الوسام الذي وضعه الرسول على هؤلاء - أعني (الطُّلقاء) -، بما فيهم أبو سفيان وابنه مُعاوية، وعَلاقة ذلك بخلافة يزيد على المسلمين؛ فإنَّ استخلافه على الأُمَّة لا يستند على مُستندٍ شرعيٍّ على كلِّ النظريَّات الموجودة في شأن الحُكم في الإسلام، وذلك لِمَا يلي:

أ - أمَّا على رأي مدرسة أهل البيت فالأمر واضح؛ لأنَّ مدرستهمعليهم‌السلام تتبنَّى مبدأ النَّصِّ والتعيين في الخلافة مِن قِبَل الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ب - وأمَّا على رأي مدرسة الصحابة، التي تتبنَّى مبدأ الشورى، فإنَّ الكيفيَّة التي تمَّ

____________________

(1) سيرة الـمُصطفى: ص595.

(2) يوسف: 92.

(3) سيرة الـمُصطفى: ص604.

٢٣٨

بها استخلاف يزيد مِن قِبَل أبيه مُعاوية لا تَمتُّ إلى الشورى بصِلة، وقد مَرَّ الكلام حولها في القراءة الثانية مِن هذه القراءات.

ج - بما أنَّ يزيد مِن أبناء الطُّلقاء فليس له حَقٌّ في الخلافة على المسلمين، وهذا رأي الخليفة الثاني في حَقِّ الطُّلقاء وأبنائهم كما جاء في (الإصابة) و(طبقات ابن سعد).

ففي الإصابة: إنَّ عمر قال لأهل الشورى لا تختلفوا؛ فإنَّكم إنْ اختلفتم جاءكم مُعاوية مِن الشام وعبد الله بن ربيعة مِن اليمن، فلا يَريان لكم فضلاً لسابقتكم، وأنَّ هذا الأمر لا يصلح للطُّلقاء ولا أبناء الطُّلقاء(1) .

وفي الطبقات أنَّ عمر قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقى منهم أحد، ثمَّ في أهل أُحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء(2) .

فيكون يزيد قد تسلَّط على رقاب الأُمَّة بلا أيِّ وجهٍ شرعيٍّ، وإنَّما بالقوَّة والغَلبة.

ثمَّ أشارتعليها‌السلام إلى أنَّ ما فعله يزيد في حَقِّ العِترة النبويَّة، يلتقي وينسجم مع طبيعة يزيد ونشأته؛ لأنَّه قد نبت لحمه على بُغض آل محمد، وقد ورث ذلك مِن أسلافه، أليست جَدَّتُه هند بنت عُتبة هي التي قطَّعت كَبد سيِّد الشهداء، حمزة بن عبد الـمُطَّلب ووضعتها في فمها تشفِّياً وانتقاماً؟! فمِن الطبيعي أنْ يَصدر مِن يزيد كلُّ ما صدر، ما دامت هذه مُنطلقاته الأُسريَّة وهذه موروثاته الأخلاقيَّة.

واستمرَّت العقيلةعليها‌السلام ببيانها مُخاطبة ليزيد قائلة:

(ثمَّ تقول غير مُتأثِّم ولا مُستعظم:

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرَحاً

ثمَّ قالوا يا يزيدُ لا تشل

____________________

(1) الإصابة: ج2: ص297.

(2) طبقات ابن سعد: ج3: ص260.

٢٣٩

مُنتحياً على ثنايا أبي عبد اللهعليه‌السلام سيِّد شباب أهل الجَنَّة تنكتها بمُخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القَرحة واستأصلت الشأفة؟! بإراقتك دماء ذُرِّيَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ونجوم الأرض مِن آل عبد الـمُطَّلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنَّك تُناديهم فلتردنَّ - وشيكاً - موردهم ولتودَنَّ أنَّك شُللت وبُكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت. اللَّهمَّ، خُذْ لنا بحَقِّنا، وانتقِم مِمَّن ظلمنا واحللْ غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حُماتنا).

وهنا أشارت الحوراءعليها‌السلام إلى ما تَمثَّل به يزيد مِن أبيات ابن الزَّبعرى، غير شاعر بأيِّ إثمٍ أو تحرُّج بما يقوله، أو بما ارتكبه مِن سَفك تلك الدماء الطاهرة مِن ذُرِّيَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ما يُمارسه في مجلسه مِن أساليب الانتقام، الذي ينمُّ عن مدى الحِقد الذي قد تَمكَّن مِن قلبه، وخالط لحمه ودمه تِجاه محمد وذُرِّيَّته؛ فإنَّه قد وضع رأس الإمام الشهيد أمامه، وأخذ يضرب على شَفتيه بعصاً كان في يده مُتمنِّياً حضور أسلافه؛ ليروا كيف أخذ يزيد بثأرهم، وثأر لدمائهم التي أراقها الرسول الأعظم دفاعاً عن رسالة الإسلام.

ولـمَّا كان يزيد يحمل في واقعه مبادئ أسلافه - وإنْ غَلَّفها بغِلاف كاذب مِن إسلامه لذلك - فإنَّ مصيره هو مصيرهم، وسوف يرى ذلك عندما ينكشف له واقع عمله، فيجني ثمار ما قدَّمت يداه، عند ذلك يرجع فيتمنَّى لو أنَّه لم يفعل ولم يقل ما قاله وصرَّح به مِن الكُفر، بلْ سيتمنَّى لو أنَّه أُصيب بالصَّم والبَّكم والشَّلَل ولم يبدر منه ما

٢٤٠