قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45419
تحميل: 4261

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45419 / تحميل: 4261
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بدر، ولم يجري على لسانه ما جرى، إلاَّ أنَّه لا ينفعه التمنِّي ولا يُجديه النَّدَم وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد.

وتواصل الصدِّيقة الصُّغرى بيانها العلويَّ وخطابها لرأس النظام قائلة:

(فو الله، ما فريت إلاَّ جِلدك ولا حَززت إلاَّ لحمك، ولتردنَّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحمَّلت مِن سَفك دماء ذُرِّيَّته وانتهكت مِن حُرمته في عِترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلـمُّ شَعثهم، ويأخذ بحَقِّهم: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) ،وحَسبُك بالله حاكماً وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خَصيماً وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومَكَّنك مِن رِقاب المسلمين بِئْسَ للظالمين بَدلاً، وأيُّكم شرُّ مكاناً وأضعف جُنداً).

وتؤكِّد حفيدة الرسول هنا أنَّ ما ارتكبه يزيد في حَقِّ أهل البيت، لا يؤثِّر على مقامهم الرفيع وجلالهم الربَّاني؛ لأنَّ كلَّ ما جرى عليهم إنَّما هو مِن أجل الله والإسلام؛ لأنَّ خَطَّ الشهادة والتضحية في سبيل الله هو الخَطُّ الذي ارتضاه الله لهم فرضوه لأنفسهم، فهُمْ سادة الشهداء والـمُضحِّين الذين أكَّد القرآن أنَّهم أحياءٌ لا أموات، وإنْ حَسِبَهم أهل الجَهل أمواتاً.

وحياة هؤلاء حياتان:

الأُولى: الحياة المجازيَّة، وهي بقاء وخلود الذِّكْر في أفكار وضمائر أجيال الأُمَّة،

____________________

(1) آل عمران: 169.

٢٤١

ترفعهم شعاراً للحياة الحُرَّة الكريمة، وتستمدُّ مِن مواقفهم روح القوَّة والصمود، كلَّما تعرَّضت الأُمَّة إلى الـمَخاطر التي تهدَّد وجودها بالتلاشي والنهاية.

الثانية: الحياة الحقيقيَّة الأُخرويَّة في جوار الله تعالى، حيث يجتمع شَمْل صاحب الرسالة بعِترته، وينتقم الله لهم مِمَّن ظلمهم وسفك دماءهم، وعند ذلك يتَّضح ليزيد أنَّه إنَّما قَتل نفسه بنفسه، حين يقف أمام مَحكمة العدل الإلهيَّة، فيكون خَصمه نبيُّ هذه الأُمَّة، وماذا يكون مصير مَن يُخاصمه نبيُّ الرَّحمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أشارت السيِّدة الحوراء إشارة بعيدة بقولها:(وسيعلم مَن سوَّل لك ومَكَّنك مِن رقاب المسلمين) ، حيث تعني: أنَّ شريك يزيد في هذه الجريمة الكُبرى مَنْ أوصله إلى كرسيِّ الحُكم، وحكَّمه في رقاب الأُمَّة؛ إذ لولا ذلك لما حلَّت بالأُمَّة تلك الكوارث والمآسي السوداء.

وتتابع ابنة الزهراء كلامها تُخاطب الطاغية بنبرة كبرياء الإيمان قائلة:

(ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مُخاطبتك، إنِّي لأستصغر قَدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك، لكنْ العيون عَبرى والصدور حرَّى، ألا فالعَجب كلُّ العَجب لقتل حزب الله النُّجباء بحزب الشيطان الطُّلقاء! فهذه الأيدي تنطف مِن دمائنا والأفواه تتحلَّب مِن لحومنا، وتلك الجُثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتُعفِّرها أُمَّهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مَغنماً لتجدنا وشيكاً مَغرماً حين لا تجد إلاَّ ما قدَّمت يداك، وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد، وإلى الله الـمُشتكى وعليه الـمُعوَّل).

إنَّها قوَّة الإيمان وعِزَّة الحَقِّ وكبرياء الرسالة، تطفح على لسان هذه المرأة العظيمة.

٢٤٢

نعم، إنَّها ابنة عليعليه‌السلام الذي قال في كتاب له إلى أخيه عقيل: (لا يزيدني كَثرة الناس حولي عِزَّة، ولا تَفرُّقهم عَنِّي وَحشة، ولا تحسبنَّ ابن أبيك ولو أسلمه الناس مَضرعاً مُنخشعاً ولا مُقِرَّاً للضيم)(1) .

وهي بنت الزهراء التي أخذت عنها روح الاندفاع لنُصرة الحَقِّ ومواجهة الباطل، وهي أُخت الحسين وشريكته في ثروته، وهو القائل: (هَيْهات مِنَّا الذِّلَّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأُنوف حميَّة، ونفوس أبيَّة، من أنْ نؤثِر طاعة اللئام على مَصارع الكِرام)(2) .

كيف لا؟! والقرآن الكريم يهتف بقوله تعالى:( ... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ... ) .

لقد وجَّهت الحوراء سِهامها إلى صميم غرور الطاغية، فعرَّفته على نفسه؛ فإنَّه أقلُّ وأحقر مِن أنْ تُخاطبه عقيلة البيت الهاشمي، غير أنَّ الظروف ألجأتها إلى ذلك.

ثمَّ أبدت عُجبها مِن مُفارقات هذه الحياة، مُشيرة إلى أنَّ الصراع بين أهل البيت وبين خُصومهم مِن الأُمويِّين، إنَّما هو صِراع بين حزبين هما على طَرفي نقيض، فيما يحمله كلٌّ منهما مِن القِيم والمبادئ والأهداف. فأهل البيت هُمْ المعنيُّون بالاصطلاح القرآني وهو(حِزب الله) :( ... أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3) .

فمِن الطبيعي أنْ يكون عدوَّهم حزباً للشيطان، لكنَّ الـمُفارقة هي أنَّ مَن كانوا هُمْ حزب الله يُبادون ويُقتَّلون على أيدي حِزب الشيطان.

ثمَّ عادت العقيلة مُذكِّرة ليزيد، بأنَّه إنْ كان قد اعتبر جريمته هذه مَكسباً ومَغنماً

____________________

(1) نهج البلاغة قطعة رقم 36: ص409 صُبحي الصالح.

(2) حياة الإمام الحسين: ج3: ص193.

(3) الـمُجادلة: 22.

٢٤٣

فسوف يأتي اليوم الذي يقف فيه موقف الخاسر النادم، ثمَّ خاطبته بلَهجة التحدِّي قائلة:

(فكِدْ كيدك، واسعَ سَعيك، وناصِب جَهدك. فو الله، لا تمحو ذِكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تُدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلاَّ فَنَد وأيَّامك إلاَّ عَدد، وجمعك إلاَّ بَدد، يوم يُنادي الـمُنادي ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله رَبِّ العالمين، الذي ختم لأوَّلنا بالسعادة والـمَغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أنْ يُكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويُحسن علنيا الخلافة، إنَّه رحيم وَدود، وحَسبُنا الله ونعم الوكيل) (1) .

بهذه القوَّة مِن لَهجة التحدِّي ختمت الحوراء بيانها.

نعم، بمنطق العالمة الواثقة، بأنَّ كافَّة الأساليب التي اتَّخذها أو يتَّخذها يزيد هو ومَن قبله ومَن بعده في سبيل القضاء على ذكر آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومبادئهم، فإنَّهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأنَّ ذكرهم ومبادئهم هي الوحي السماوي، الذي نزل على صاحب الرسالة، وهو النور الذي عناه القرآن في قوله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .

____________________

(1) نقلنا نَصَّ الخُطبة مِن اللهوف لابن طاوس: ص105 - 108، ومُثير الأحزان لابن نما: ص80 وص18، وبحار الأنوار: ج45: ص133، واللفظ للأوَّل.

(2) التوبة: 32.

٢٤٤

فما دام منزل هذا الوحي وهذا النور يأبى إلاَّ إتمامه؛ سوف يبقى مِن أجل البشريَّة وأجيالها التي مِن حَقِّها أنْ يصل إليها ذلك النور.

أمَّا الـمُحاولات التي قام ويقوم بها أعداء هذا النور لإطفائه، فإنَّها سوف تتلاشى أمام عظمة هذا النور مَهْما تعملقوا بما يملكون مِن أسباب وآليَّات، بلْ إنَّ أعداء هذا النور يخدمونه مِن حث لا يعلمون، وأوضح شاهد على ذلك ما أشارت إليه الحوراء، مِن مُحاولة يزيد ومِن قبله أبوه مُعاوية، للقضاء على هدي آل محمد وذكرهم، حتَّى ارتكبت في حَقِّهم فاجعة الطَّفِّ؛ ظَنَّاً منهم أنَّهم بذلك يستطيعون القضاء عليهم وعلى مبادئهم ووحيهم، وما دروا أنَّ تلك الدماء الزكيَّة سوف تسقي تلك الشجرة الطيِّبة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكلَها كلَّ حين بإذن ربِّها، وسوف تبقى هذه الشجرة تنموا وتتسامى كلَّما سُقيت بدماء الشهداء الأبرار.

أمَّا هُمْ - أعني: أعداء الحَقِّ وأهلِه - فسوف يزولون مِن الأرض وتنتهي جولتهم، ويبقى ذلك النور يزداد تألقاً ووضوحاً، حتَّى يتحقَّق وعد الله تعالى بإتمام نوره ولو كَرِه الـمُشركون.

وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد، فقد انهار غروره وحَطَّم كِبرياؤه وحار في الجواب، فلم يستطع أنْ يقول شيئاً إلاَّ أنَّه تمثّل بقول الشاعر:

يا صيحةً تُحمد مِن صوائح

ما أهون النوح على النوائح

ولم تكُن أيَّة مُناسبة بين ذلك الخطاب العظيم، الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد، وجرَّدته مِن جميع القِيَم الإنسانيَّة، وبين ما تمثَّل به مِن الشعر الذي أعلن فيه أنَّ الصيحة تُحمَد مِن الصوائح، وأنَّ النوح يهون على النائحات، فأيُّ ربط بين الأمرين؟!(1) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص383.

٢٤٥

مِمَّا يدلُّ على ما أحدثه هذا الخطاب في نفس الطاغية، حتَّى بدا مُضطرباً في كلامه؛ لأنَّ العقيلة كشفت واقعه وواقع أبيه وأُسرته لأهل الشام، ومَزَّقت تلك الهالة الخادعة، التي كان مُعاوية قد غَلَّف بها واقعه وواقع أُسرته وحُكمه.

وكما اتَّضح مِمَّا سبق أنَّ البيان الزينبي، كان أكثر انصبابه على هذه الجِهة، ولقد استوفت السيِّدة كلامها حول هذه النقطة ببيان ما عليه مِن مَزيد.

خطاب الإمام السجّاد عليه‌السلام :

إكمالاً للدور الإعلامي الـمَهدوف في الشام، اندفع الإمام زين العابدينعليه‌السلام للإدلاء ببيانه للتعريف بأهل البيت (عيهم السلام) في أوساط الـمُجتمع الشاميِّ المخدوع، وذلك حينما أراد يزيد مواجهة إعلام الثورة الحسينيَّة في الشام، فأمر الخطيب بأنْ يصعد المنبر ويُكثر الثناء والتمجيد للأُمويِّين وينال مِن كَرامة أمير المؤمنين ووَلده الحسينعليهما‌السلام ، جرياً على السُّنَّة التي سَنَّها أبوه مُعاوية مِن قَبله، فصعد الخطيب المِنبر وقال كما أراد يزيد.

(فانتفض الإمام زين العابدين وصاح به: (ويلك أيُّها الخطيب، اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مَقعدك مِن النار).

والفت إلى يزيد فقال له: (أتأذن لي أنْ أصعد هذه الأعواد، فأتكلَّم بكلمات فيهنَّ لله رضىً، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب).

وبُهت الحاضرون وبُهروا مِن هذا الفتى العليل، الذي ردَّ على الخطيب والأمير، وقد رفض يزيد إجابته فألحَّ عليه الجالسون بالسماح له.

ويُعتبر ذلك بداية وعي عند أهل الشام، فقال يزيد لهم: إنْ صعد المِنبر لم ينزل إلاَّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

٢٤٦

فقالوا له: وما قَدر ما يُحسن هذا العليل... فقال لهم: إنَّه مِن أهل بيت قد زقُّوا العلم زقَّاً.

فأخذوا يُلحُّون عليه، فانصاع لقولهم فسمح للإمام، فاعتلى أعواد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ويقول المؤرِّخون: إنَّه خطب خُطبةً عظيمةً أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب(1) .

ويظهر أنَّ التاريخ لم يحفظ لنا خُطبة الإمام بأجمعها، إلاّ أنَّ القِسم المذكور منها واضح بأنَّها كانت تدور حول مِحورٍ واحد، وهو الكشف عن واقع أهل البيت، والتعريف بهم للـمُجتمع الشامي كإعلامٍ مُضادٍّ للإعلام الأُموي، الذي عَمِل لـمُدَّة عشرين عاماً في تشويه الحقيقة في أذهان أهل الشام، وإعطائهم صورة مُشوَّهة عن عميد العِترة النبويَّة أمير المؤمنين وأهل بيتهعليهم‌السلام .

قالعليه‌السلام :

(أيُّها الناس، أُعطينا سِتَّاً وفُضِّلنا بسبعٍ، أُعطينا العِلم والحِلم والسَّماحة والفصاحة والشجاعة والـمَحبَّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلنا بأنَّ مِنَّا النبي الـمُختار محمد، ومِنَّا الصِّدِّيق، ومِنَّا الطيَّار، ومِنَّا أسد الله وأسد الرسول، ومِنَّا سيِّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومِنَّا سِبطا هذه الأُمَّة وسِيِّدا شباب أهل الجَنَّة)(2) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص385.

(2) مقتل الحسين للخوارزمي: ج2: ص69 - 71، كما حكاه عنه غير واحد، والبحار: ج45: ص138، ولم يذكر اسم

٢٤٧

في هذا الجزء مِن بيانهعليه‌السلام أشار الإمام إلى مجموعة مِن الخصائص النفسيَّة والذاتيَّة، التي أعطاهم الله إيَّاها فميَّزتهم عمَّن سِواهم مِن الناس، وأشار إلى الفضائل التي جمعها الله تعالى في الأُسرة الهاشميَّة؛ حيث جعل منهم نُخبَة هذه الأُمَّة وقادتها.

أمَّا الـمُميِّزات السِّتَّ التي أشار إليها الإمام، فهي:

1 - العِلم: وكون العِلم ميزة لأهل البيت، إنَّما يعني العَطاء العلمي الإلهي؛ لأنَّهم لم يأخذوا مِن غيرهم، فهُمْ أغنياء عَمَّن سواهم مِن الأُمَّة في علومهم ومعارفهم، بينما غيرهم مِن سائر الأُمَّة مُحتاج إليهم، فلهم قنواتهم الخاصَّة التي يستقون منها علومهم ومعارفهم.

القناة الأُولى: التعلُّم الـمُباشر مِن الرسول الأعظم، وهذا يتمُّ بالنسبة إلى أمير المؤمنين والحسنينعليهم‌السلام ، أو تلقِّي الإمام اللاحق عن الإمام السابق، وهذا بالنسبة إلى سائر الأئمَّةعليهم‌السلام .

القناة الثانية: المصادر الخاصَّة بهم، وهي الكتب التي دوِّنت بخَطِّ عليٍّ وإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تؤكِّد على ذلك الروايات ككتاب (جامعة أمير المؤمنين وأنَّها مِن جِلدٍ وطولها سبعون ذِراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه الناس مِن حلال وحرام وغير ذلك، حتَّى أنَّ فيها إرش الخَدش، وذلك كلُّه تفصيل ما جاء في القرآن الشريف مِن الأحكام وغيرها.

وقد سُمِّيت فيما ورد عن الصادقينعليهما‌السلام مِن الروايات: بالجامعة، والصحيفة، وكتاب عليٍّ والصحيفة العتيقة، وقد رآها عند الباقر والصادق بعض الرواة الثقات مِن

____________________

فاطمة مِن ضِمنهم، وأوعز هذا المقطع إلى المناقب لابن شهرآشوب ولم أجده فيه. وفي العوالم كما في البحار عيناً، أمَّا بقيَّة المصادر مِثل الفتوح لابن أعثم، والمناقب، ومثير الأحزان فلم يذكروا هذا المقطع ضِمن خُطبة. الإمام السجادعليه‌السلام ، وإنَّما تبدأ الخُطبة بقوله: (فمَن عَرفني فقد عَرفني...).

٢٤٨

أصحابها كأبي بصير وغيره، وأنَّ الأئمَّة يتَّبعون ما في هذه الصحيفة، ولا يحتاجون إلى أحد مِن الناس في علومهم)(1) .

ومنها: الجَفْر الأبيض والجَفْر الأحمر. وهما كتابان أو وعاءان مِن الجِلد، أحدهما أبيض والآخر أحمر، يحتويان على علوم مُدوَّنة مِمَّا خَصَّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بها بإملائه وخَطِّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

القناة الثالثة: هي الـمَدد الغيبيِّ والإلهام الرَّبَّاني، في المجالات التي تحتاج إلى هذا الفيض والـمَدد الإلهي الخاصِّ.

وهذه القنوات هي التي يُشار إليها في الروايات الواردة عنهمعليهم‌السلام ، ففي (أُصول الكافي) بسنده عن أبي الحسن الأوَّل موسىعليه‌السلام ، قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث - الغابر هنا بمعنى الآتي - فأمَّا الماضي فمُفسَّر، وأمَّا الغابر فمزبور، - أيْ مكتوب - وأمَّا الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو أفضل علومنا ولا نبيَّ بعد نبيِّنا)(2) .

2 - الحِلم: وهو (العقل والتؤدة وضبط النفس عن هيجان الغضب... وذوو الأحلام والنهى ذوو الأناة والعقول)(3) .

والحِلم مِن أرفع المكارم الأخلاقيَّة والمزايا الفاضلة التي لا يُمحى أثرها، ولا يُمكن أنْ يُنكِر فضلها أحد مِن ذوي الألباب، وكفى بهذا الخُلق كمالاً كونه مِن أسماء الله تعالى، كما في قوله تعالى:( ... وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (4) .

____________________

(1) إشراقات فكريَّة: ص97.

(2) أُصول الكافي: ج1: ص264، ط إيران.

(3) مجمع البحرين: ج6: ص49.

(4) التغابن: 17.

٢٤٩

وقد ورد في الحديث: (تخلَّقوا بأخلاق الله)(1) لذلك نجد فضيلة الحِلم في مُقدِّمة مظاهر الكمال الخُلقي، التي يتحلَّى بها الأنبياء والأئمَّة الطاهرونعليهم‌السلام ، وهذا عنصر مِن عناصر تكوينهم وضرورة مِن ضرورات رسالتهم في الحياة ودورهم في حياة الناس، وهو إرشادهم وتعليمهم لطُرق الكمال الإنساني، فلا يُمكنهم أداء هذه الرسالة إلاَّ بجذب الناس إليهم، والصبر على جهلهم ونقصهم بالحِلم وكَظم الغيظ على ما يصدر منهم مِن أخطاء وزلاَّت.

ونجد هذا الخُلق بأروع مظاهره في سيرة أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنَّ الله تعالى قد منحهم مِن مكارم الأخلاق أرفعها وأكملها.

روي عن علي بن الحسين بن عليعليهم‌السلام ، أنَّه سبَّه رجل فرمى إليه بخَميصة كان عليه، وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خَمس خصال محمودة: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مِمَّا يُبعد مِن الله عَزَّ وجَلَّ، وحَمله على الندم والتوبة، ورجوعه إلى الـمَدح بعد الذمِّ، اشترى جميع ذلك بشيء مِن الدنيا يسير(2) .

3 - السَّماحة: وهي الكَرم والسَّخاء، وهو مِن أبرز جوانب العطاء في حياة أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنَّ حياتهم كلَّها عطاء وإنفاق وسَماحة مِن أجل بناء الأُمَّة مِن الناحية المادِّيَّة والمعنويَّة، وسَدِّ ما فيها مِن ثغرات، نتيجة عدم تحكيم القوانين الإلهيَّة بالشكل الكامل مِن قِبَل الحُكَّام الذين كانت السُّلطة بأيديهم.

4 - الفصاحة: وتعني مَلكة الشجاعة الأدبيَّة في ميادين البيان وفنون الكلام، وأوضح دليل على ما منحه الله لأهل البيت مِن كمال في هذا المجال ما أُثر عنهم مِن كلام (فإنَّ مدرستهم لها أساليبها الخاصَّة، وطابعها الـمُتميِّز سواء في مجال الخُطب، أمْ في

____________________

(1) شرح الأسماء الحُسنى لملاَّ هادي السبزواري: ج2: ص41، والبحار: ج58: ص129.

(2) الأخلاق الإسلاميَّة: ص205.

٢٥٠

مجال الأدعية، أمْ في الحِكَمِ والكلمات القِصار، أو النصوص الحديثيَّة، فخُذْ أيَّ نَصٍّ مِن الكلام المنسوب إليهم، وقارن بينه وبين أيِّ كلامٍ آخر، فإنَّك سوف تجد الفَرق واضحاً جَليَّاً، فإنَّ كلامهم تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين.

مِن هنا نجد علماءنا الأعلام كثيراً ما يغضُّون النظر عن ضَعف السند اعتماداً على قوَّة النَّصِّ، فقد صحَّحوا كثيراً مِن الأدعية مع ضَعف سندها، نظراً إلى ما هي عليه مِن قوَّة البلاغة والبيان؛ حيث ينسجم مع مدرستهم وأساليبهم في البيان)(1) .

5 - الشجاعة: وهي قوَّة الإرادة والثبات في الميادين الصعبة والمواقف الخطيرة، ولا ينحصر ذلك في ميادين القتال، بلْ في كلِّ مجال مِن مجالات الحياة وتحدِّياتها التي يحتاج الإنسان فيها إلى الشجاعة وقوَّة الإرادة والثبات، ولقد كان أهل البيتعليهم‌السلام الـمَثل الأعلى في الشجاعة والصمود في كلِّ ميدان مِن ميادين التحدِّي، وسيرتهم أعظم شاهد على ذلك.

إلاَّ أنَّ مواقفهم في الحياة اختلفت، وتفاوتت أساليبهم في العمل، إلاَّ أنَّها لم تختلف مِن حيث الهدف، وإنَّما هذا الاختلاف اقتضته اختلافات الظروف التي مَرَّت بها أُمَّة الإسلام.

6 - الـمَحبَّة في قلوب المؤمنين: كيف لا تكون الـمَحبَّة لهم في قلوب المؤمنين ومَحبَّتهم جزء مِن الدين، بلْ هي روح الإيمان، وقد أوجبها الله على الأُمَّة في قوله تعالى:( ... قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) (2) ، فلا يكتمل إيمان عبدٍ إلاَّ بمحبَّتهم ومودَّتهم، وقد أوعد الله المؤمنين الصادقين بمودَّة القلوب في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاَ ) (3) .

____________________

(1) إشراقات فكريَّة مِن أنوار الخُطبة الفدكيَّة: ص54.

(2) الشورى: 23.

(3) مريم: 96.

٢٥١

وقد ورد في أسباب النزول - مِن طُرق الشيعة وأهل السُّنَّة - أنَّ الآية نزلت في عليٍّعليه‌السلام (1) .

وفي الـمَجمع في الآية: (قيل: فيه أقوال: أحدها أنَّها خاصَّة في عليٍّ، فما مِن مؤمن إلاَّ في قلبه مَحبَّة لعليٍّ، عن ابن عباس. وفي تفسير أبي حمزة الثُّمالي: حدَّثني أبو جعفر الباقر، قال: (قال رسول الله لعليٍّ: قُلْ: اللَّهمَّ، اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين وِدَّاً. فقالها فنزلت الآية)).

فلو أخذنا بإطلاق الآية الكريمة، وبكونها وعداً إليها لعموم المؤمنين الصادقين، فإنَّ عليَّاً ووُلده هُمْ أكمل وأوضح المصاديق لمفهوم الآية الكريمة.

ثمَّ انتقل الإمام إلى ما فضَّل الله هذه الأُسرة (الأُسرة الهاشميَّة) بأنْ جعل فيهم نُخبَة الأُمَّة وطليعتها، بِدءَاً مِن الرسول الـمُختارصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاء بهذا الدين، الذي أنقذ به البشريَّة وأخرجها مِن الظلمات إلى النور، وبنى كيان هذه الأُمَّة ورفعها فوق سائر الأُمَم، وقد لقي في سبيل ذلك المتاعب وواجه كافَّة التحدِّيات مِن أجل أُمَّته، حتَّى أصبحت خَيرَ أُمَّة أُخرِجت للناس.

ومنهم سادة الـمُجاهدين بين يدي الرسول الأعظم مِن أجل هذه الأُمَّة ورسالتها، وعلى رأسهم أمير المؤمنين وأوَّل المسلمين وخَير الصادقين والـمُصدِّقين للرسول الأعظم عليُّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فكان صِدِّيق هذه الأُمَّة.

ومنهم جعفر بن أبي طالب الطيَّار، الشهيد في واقعة مؤتة، وقد قطعت يداه في المعركة دفاعاً عن دين الله وأُمَّة الإسلام، فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن فضله، وبأنَّه قد عوَّضه الله تعالى بجَناحين يطير بهما في الجَنَّة مع الملائكة.

ومنهم أسد الله وأسد الرسول، وهو عَمُّ النبي الحمزة بن عبد الـمُطَّلب الذي استُشهد

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ج14: ص113.

٢٥٢

في سبيل الله تعالى في وقعة أُحد، فكان سيِّد شُهداء أُحد، أو سيِّد الشهداء الذين استُشهدوا بين يدي الرسول الأعظم وتحت قيادته.

ومنهم سيِّدة نساء العالمين وبِضعة الرسول فاطمة الزهراء، التي لم تَعرف الدنيا امرأة أفضل ولا أكمل منها، كما نطقت به النصوص النبويَّة، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فاطمة سيِّدة نساء أهل الجَنَّة)(1) .

ومنهم الحسن والحسين سِبطا هذه الأُمَّة، وسيِّدا شباب أهل الجَنَّة، كما قال في حَقِّهما جَدُّهما الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)(2) .

فهذه النماذج الرفيعة، التي أشار إليها الإمام السجاد في خطابه، تجعل هذه الأُسرة هي القاعدة التي انطلقت منها الدعوة، وهي التي احتضنت الرسالة، ودافعت عنها في الظروف الحرجة، وبذلت الأموال والدماء مِن أجل انتصارها.

فكان لها النصيب الأوفر في حَمل الإسلام والدفاع عنه، والتضحية مِن أجله، ولم يتأتَ ذلك وبهذا الـمُستوى لأيِّ أُسرة في الإسلام.

والجدير بالـمُلاحظة أنَّ الإمام السجَّادعليه‌السلام في ذِكره لهذه النُّخبَة البشريَّة مِن أُسرته وأسلافه، ذَكَرهم بالألقاب الـمُشعرة بالفضل والعظمة، فذكر النبيَّ الـمُختار، والصِّدِّيق، والطيَّار وأسد الله وأسد رسوله وسيِّدة نساء العالمين، وسِبطي هذه الأُمَّة وسيِّدي شباب أهل الجَنَّة.

توضيحاً لمكانة هذه الأُسرة، التي كانت مجهولة لدى أهل الشام، فلا يعرفون شيئاً مِن تاريخها ومواقفها الجهاديَّة، وما جمع الله لها مِن جوانب الفضل والفضيلة.

____________________

(1) صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة باب 12 قبل حديث رقم 3711، وباب 29 مناقب فاطمة قبل حديث رقم 3767.

(2) الجامع الصحيح للترمذي: ج5: ص614 حديث 3768، وقال: هذا حديث حَسن صحيح: وج5: ص619 حديث 3781.

٢٥٣

وبعد أنْ أشار الإمام بهذه الإشارات إلى ما فُضِّل به أهل البيت بصورة إجماليَّة أخذ يُفصِّل بشيءٍ مِن التفصيل فتحدَّث عن جَدِّه الرسول الأعظم أوَّلاً، حينما تحدَّث عن حَسبه ونَسبه؛ ليوضِّح عَلاقة هؤلاء السبايا برسول هذه الأُمَّة فقال:

(فمَن عَرفني فقد عَرفني، ومَن لم يَعرفني أنبأته بحَسبي ونَسبي، أنا ابن مَكَّة ومِنى، أنا ابن زَمزم والصفا، أنا ابن مَن حمل الزَّكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خَير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خَير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خير مَن طاف وسعى، أنا ابن خَير مَن حَجَّ ولبَّى، أنا ابن خَير مَن حُمِل على البِراق في الهوا، أنا ابن مَن أُسري به مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان مَن أسرى، أنا ابن مَن بَلَغ به جبرائيل إلى سِدرة الـمُنتهى، أنا ابن مَن دنا فتدلَّى فكان مِن رَبِّه قابَ قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صَلَّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى)(1) .

وغرض الإمامعليه‌السلام مِن حديثه عن جَدِّه الرسول الأعظم، وذكره بهذه الخصائص التي جمعها الله تعالى لحبيبه ورسوله الـمُصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله .. غرضه هو أنْ يقول للناس: إنَّنا نحن الذين نُمثِّل تلك الفضائل المحمديَّة، ونحن الامتداد الطبيعي لحياة تلك الشخصيَّة، التي هي الأكمل والأفضل مِن بين كافَّة البشريَّة، وليس كما يدَّعيه الأُمويُّون لأنفسهم

____________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي: ج2: ص69.

٢٥٤

بأنَّهم قادة المسلمين وحُكَّامهم، وبأنَّهم أقرب الناس إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمَّ انتقل إلى الحديث عن جَدِّه أمير المؤمنين، الذي شوَّه النظام الأُمويُّ سُمعته، وكان الـمُجتمع الشاميِّ يجهل مواقفه وجهاده، وما يتحلَّى به مِن خصائص ربَّانيَّة، وعَلاقة خاصَّة بالرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالعليه‌السلام :

(أنا ابن عليِّ الـمُرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخَلق حتَّى قالوا: لا إله إلاَّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برُمحين، وهاجر الهِجرتين، وبايع البيعتين، وصلى القبلتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر بالله طَرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيِّين، وقاطع الـمُلحدين، ويعسوب المسلمين، ونور الـمُجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكَّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسين ورسول رَبِّ العالمين، أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل المنصور بميكائيل.

أنا ابن الـمُحامي عن حَرَم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والـمُجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر مَن مَشى مِن قريش أجمعين، وأوَّل مَن أجاب واستجاب لله مِن المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم الـمُعتدين، ومُبير الـمُشركين، وسَهْم مِن مرامي الله على الـمُنافقين، ولسان حِكمة العابدين، وعَيبة علم الله. سَمحٌ سَخيٌّ بهلول، زكيُّ أبطحيٌّ رضيٌّ

٢٥٥

مرضيٌّ مُقدام هُمام صابرٌ صوَّام، مُهذبٌ قوَّام شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومُفرِّق الأحزاب، أربطهم جِناناً، وأطلقهم عِناناً، وأجرؤهم لسان، وأمضاهم عزيمة، وأشدُّهم شكيمة. أسدٌ باسل، وغيثق هاطل، يطحنهم في الحروب، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحِجاز، صاحب الإعجاز، وكَبش العراق، الإمام بالنَّصِّ والاستحقاق، مَكِّيٌّ مَدنيٌّ أبطحيٌّ تِهاميٌّ، خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أُحديٌّ، وشَجريٌّ مُهاجريٌّ. مِن العرب سيِّدها، ومِن الوغى ليثها وارث المِشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، مُظهر العجائب، ومُفرِّق الكتائب، والشِّهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كلِّ طالب، غالب كلِّ غالب. ذاك جَدِّي عليُّ بن أبي طالب)(1) .

إنَّ الـمُقتضي لهذا الإسهاب مِن الإمام زين العابدين، في حديثه عن جَدِّه أمير المؤمنينعليه‌السلام هو ما أشرنا إليه مِن تعرُّض شخصيَّة جَدِّه لـمُحاولة التشويه مِن قِبَل الإعلام الأُموي، ومُحاولة طَمْس مآثره وفضائله وفواضله، مِمَّا أدَّى إلى جَهل أهل الشام بكلِّ ما يتعلَّق بشخصيَّته حتَّى أصبح يُسَبُّ على منابرهم، فأراد الإمام السجَّادعليه‌السلام أنْ يكشف لذلك الـمُجتمع أنَّ هذا الذي شتمه ويشتمه خُطباء النظام الأُموي، هو مَن يحمل هذه الفضائل التي لم تجتمع لأيِّ فردٍ مِن أفراد الأُمَّة، سواء في الفضائل النفسيَّة والكمالات الذاتيَّة، أمْ المواقف الجهاديَّة. فلقد كان القوَّة الضاربة بين يدي

____________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي: ج2: ص70.

٢٥٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلِّ ميادين الجهاد، ولم ينتصر المسلمون في حربٍ مِن الحروب في عهد الرسالة، إلاَّ وكان محور ذلك الانتصار.

وأمَّا منزلته ومقامه مِن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي تلك المنزلة التي لم تكن لأيِّ فردٍ مِن الأفراد، مِمَّن كانوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن الأقربين والأبعدين، فهو أخوه وناصره وأبو ذُرَّيَّته وخليفته، بلْ هو نفسه كما قرَّر ذلك كتاب الله في آية الـمُباهلة.

فأينَ هذه الصورة التي عرضها الإمام السجاد لجَدِّه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مِن الصورة التي كوَّنها الأُمويُّون في الذهنيَّة العامَّة للـمُجتمع الشامي للإمام عليعليه‌السلام .

فبهذا البيان مَزَّق ذلك الغِشاء، الذي أراد الأُمويُّون به طَمس الحقيقة.

ثمَّ تابع الإمام السجَّاد حديثه عن أسلافه فقال:

(أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيِّدة النساء، أنا ابن الطُّهر البتول، أنا ابن بِضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء، أنا ابن الـمُزمَّل بالدماء، أنا ابن مَن بَكى عليه الجِنُّ في الظلماء، أنا ابن مَن ناحت عليه الطير في الهواء)(1) .

ولم يزل يقول: أنا. حتَّى ضَجَّ الناس بالبكاء والنحيب(2) .

هكذا أعطى الإمامعليه‌السلام لأُسرته وأسلافه هذه الصورة الـمُقدَّسة، التي توضِّح مكانتهم مِن الإسلام وتُبيِّن مدى الإجحاف والظلم، الذي تعرَّض له أهل البيت مِن هذه الأُمَّة مُقابل ما قدَّموه مِن خدمات وتضحيات لم تُقدِّمها أيُّ أُسرة أُخرى في الإسلام.

والجدير بالذِّكْر، أنَّه لولا هذه المسيرة التي قطعها سبايا أهل البيت إلى الشام، لَمَا

____________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي: ج2: ص71.

(2) نقلنا الخُطبة مِن مقتل الحسين للخوارزمي: ج2: ص69 - 71، بواسطة جهاد الإمام السجاد: ص51.

٢٥٧

أُتيحت الفرصة لأيِّ فردٍ مِن أهل البيت، أو مِن أتباعهم بأنْ يقوم بهذا الدور الخطير، الذي قام به الإمام مع ركب السبايا مِن زخمٍ إعلاميٍّ في خدمة أهداف الثورة ومُعطياتها، والتي مِن أهمِّها بيان مقام أهل البيت مِن الرسول والإسلام والقرآن.

حتَّى (خشي الطاغية مِن وقوع الفتنة وحدوث ما لا يُحمَد عُقباه، فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فِكريَّاً في مجلس الطاغية، وقد بادر بالإيعاز إلى المؤذِّن أنْ يؤذِّن؛ ليقطع على الإمام كلامه، فصاح المؤذِّن: (الله أكبر) فقال الإمام: (كبَّرت كبيراً، لا يُقاس ولا يُدرك بالحواس، لا شيء أكبر مِن الله)، فلـمَّا قال المؤذِّن: (أشهد أن لا إله إلاَّ الله)، قال عليُّ بن الحسين: (شَهد بها شَعري وبشري ولحمي ودمي ومُخِّي وعَظمي).

ولـمَّا قال المؤذِّن: (أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله) التفت عليُّ بن الحسين إلى يزيد فقال له: (يا يزيد، محمد هذا جَدِّي أمْ جَدُّك؟! فإنْ زعمت أنَّه جَدُّك فقد كذبت، وإنْ قلت: إنَّه جَدِّي، فلم قتلت عِترته؟!)(1) .

وبعد هذين الخطابين - اللذين أدلت بهما الحوراء زينب والإمام زين العابدين - أصبحت فاجعة كربلاء هي الحديث الذي يجري بين كلِّ اثنين في الـمُجتمع الشامي، وبهذا وجدت أصداء الثورة طريقها إلى الأفكار والقلوب، حتَّى تأكَّد يزيد أنَّ بقاء سبايا آل محمد في الشام يُشكِّل خَطراً عليه وعلى حُكمه؛ لذلك أمر بتعجيل إخراجهم وإرجاعهم إلى المدينة، وخرج ركب السبايا راجعاً نحو الحِجاز بعد أداء تلك الرسالة الإعلاميَّة الـمُقدَّسة.

____________________

(1) حية الإمام الحسين ج3 ص288.

٢٥٨

٢٥٩

د - البيان الإعلامي في المدينة الـمُنوَّرة

خطاب الإمام السجَّاد في المدينة:

آخر البيانات الإعلاميَّة للثورة هو الخطاب الذي ألقاه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في المدينة الـمُنوَّرة، بعد رجوعهم إليها بعد نهاية تلك الملحمة الكُبرى الخالدة، وبعد تلك المسيرة الـمُقدَّسة التي قطعها سبايا آل محمدعليهم‌السلام .

ويختلف المحور الذي يدور عليه هذا البيان عن محاور البيانات السابقة، فإنَّ هذا البيان قد تمحور حول البُعد العاطفي مِن الثورة، فقد أراد الإمام أنْ يؤكِّد على جانب البكاء والحُزن، لما جرى على شهيد كربلاء وأهل بيته وأصحابه، وهذا جانب مُهمٌّ وضروريٌّ لخلود الثورة، وبقاء آثارها في وجدان الأُمَّة على تعاقب الأجيال.

قال بشير بن حَذْلم: لـمَّا قربنا مِن المدينة، نزل علي بن الحسين، وحَطَّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: (يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تَقدِر على شيء منه؟).

قلت: بلى يا بن رسول الله، إنِّي لشاعر.

فقالعليه‌السلام : (ادخُل المدينة، وانعى أبا عبد الله)(1) .

وإنَّما أراد الإمام بهذا أنْ يُهيِّئ النفوس والعواطف، لاستقبال البيان الذي يُريد أنْ يُدلي به؛ مِن أجل أنْ يؤثِّر أثره في النفوس، ويجد طريقه إلى وجدان الجماهير، وكلُّنا

____________________

(1) مقتل الـمُقرَّم: ص248.

٢٦٠