قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45420
تحميل: 4261

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45420 / تحميل: 4261
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خالق ولا رازق بالذَّات، ولا رَبَّ ولا مُدبِّر ومُطاع بالذات، ولا مُشرِّع إلاَّ الله تبارك وتعالى.

هذه القاعدة، التي إذا انطلقت منها الأُمَّة، وجعلتها الأساس لحضارتها؛ فإنَّها تمنحها القوَّة وتوفِّر لها عوامل الحُرِّيَّة والكرامة.

والأُمَّة مُكلَّفة بتحقيق وإقامة المسألة التوحيديَّة، بكلِّ أبعادها وحيثيَّاتها على مُستوى الإيمان والاعتقاد، وعلى مُستوى العمل بكلِّ مُتطلَّبات هذه المسألة في حياتها. ومتى ما عُطِّل بُعْدٌ مِن أبعاد التوحيد؛ فإنَّ حياة الأُمَّة سوف تبقى ناقصة مِن الناحية الإسلاميَّة، وتعود الصورة غير مُكتملة الجوانب؛ وبالتالي فإنَّ الأُمَّة سوف تتعرَّض لعمليَّة الـمَسخ والتمزيق مِن قِبَل أعدائها، كما نُشاهده - بالوجدان - في وضع الأُمَّة في العصر الراهن، لـمَّا عُطِّلت جوانب مِن المسألة التوحيديَّة: كتوحيد الحاكميَّة، والتشريع الإلهي، واستبدلت بالقوانين الوضعيَّة والتشريعات الأرضيَّة؛ فأنتج ذلك أنْ صار المسلمون يعيشون وضعاً هزيلاً أمام أعدائهم، إلى حَدِّ امتهان الكرامة، وفُقدان العِزَّة التي يُريدها الله ورسوله لهذه الأُمَّة.

وأمَّا في ماضي تاريخ هذه الأُمَّة، فإنَّها تعرَّضت في صدر تاريخها إلى مُحاولات لـمَسخ شخصيَّتها وحَرف مسيرتها، وذلك لـمَّا توصل الأُمويُّون إلى كرسيِّ الحُكم، وأصبحوا يشكلِّون أعظم خطر على الإسلام، كما حذر منهم أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : (إنَّ أخوف الفِتن عليكم عندي فِتنة بني أُميَّة).

ولـمَّا أصبحت الأُمَّة في قبضتهم، عملوا بكلِّ جُهدهم على تغيير شخصيَّتها وحَرْف مسيرتها، ولـمَّا كانوا لا يجرؤون على مُقاومة شعار:(لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله) ؛ لأنَّهم إنَّما يحكمون المسلمين باسم هذا الشعار، عملوا على خَلخلة فكر الأُمَّة مِن

٢١

خلال إيجاد خطوط فكريَّة دخيلة على الفكر القرآني، والتي تخدمهم وتدعم سلطانهم، أمثال:

أ - العقيدة الجبريَّة

العقيدة الجبريَّة تعني: الاعتقاد بأنَّ الإنسان مَجبور على أفعاله مِن قِبَل الله تعالى جَبراً تكوينيَّاً، فليس له أيُّ اختيار أو حُرِّيَّة في حياته العمليَّة، وكلُّ نشاطاته وأعماله مفروضة عليه مِن جهة القَدر والقضاء الإلهيَّين.

ولا شكَّ أنَّ هذا الفكر يخدم مُعاوية والأُمويِّين خدمة كُبرى؛ لأنَّه يشلُّ روح الأُمَّة ويُخدِّرها ولا تعود - إذا ما تأصَّل فيها هذا الفِكر - تُفكِّر بمُعارضة مُعاوية أو تقف في وجهه؛ لأنَّ الإنكار لأفعال مُعاوية سوف يُفسَّر بأنَّه وقوف في وجه القَدَر والقضاء الإلهي المحتم، الذي لا مردَّ له ولا مهرب منه، بهذا (تشلُّ روح الإنسان وإرادته عن أيِّ تأثير، وهي الفِكرة التي شدَّت عَضُد الأقوياء الظالمين، في نفس الوقت الذي قبرت فيه أيدي الضُّعفاء والمظلومين، فذلك الإنسان الذي سيطر على منصب أو ثروة عامَّة بطُرق غير مشروعة، يتحدَّث عن المواهب الإلهيَّة، التي اختصَّه بها وغمره بنِعَمه، بعد أنْ حرم الضعفاء منها، وغمرهم في بحر مِن الآلام والعذاب، فالظالم يرفع عنه مسؤوليَّته جرَّاء أعماله بحُجَّة القضاء والقَدر، وباعتبار أنَّ أيَّ ظالم هو يد الله، ويد الله لا تَقبل أيَّ طعنٍ فيما تعمل.

إنَّ التاريخ يُثْبت لنا أنَّ بني أُميَّة حوَّلوا قضيَّة القضاء والقدر إلى مُستمسَك متين، بعد أنْ أيّدوه بكلِّ قوَّة وقارعوا ونكَّلوا بمؤيِّدي الحُرِّيَّة الإنسانيَّة، على أساس أنَّها عقيدة تُخالف عقائد الإسلام؛ حتَّى عرف بين الناس أنَّ: (الجبر والتشبيه أُمويَّان والعدل والتوحيد عَلويَّان).

٢٢

... إنَّ بدءهما كان سياسيَّاً وعلى أساس مِن مُقتضيات المصلحة الداخليَّة للدولة؛ إذ لـمَّا كان الدولة الأُمويَّة دولة الحديد والنار، فإنَّ مِن الطبيعي أنْ تسري روح الثورة في النفوس، ولكنْ ما أنْ ينطلق لسانه بالشكوى، حتَّى تحوِّل الحكومة الأمر إلى التقدير، ويُسكتوه بأنَّ ما يحدث مُقَرٌّ مَرضيٌّ مِن الله(1) .

فهذا مُعاوية يقول: (الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ مِن مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي)(2) .

وقال: (والله، إنَّه للـمُلك آتانا الله إيَّاه)(3) .

وقال لأهل العراق: (ما قاتلتكم لتصوموا، ولا لتصلُّوا، ولا لتحجُّوا، ولا لتُزكُّوا، وقد عرفت أنَّكم تفعلون ذلك، ولكنْ إنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارون)(4) .

وقال مُعاوية - لـمَّا أراد أنْ يفرض ابنه يزيد على رقاب أُمَّة محمد، قال لأحد رجاله وهو كاره للبيعة -: (بايع أيُّها الرجل، فإنَّ الله يقول:( ... فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) (5) (6) .

وكذلك يزيد، فإنَّه الامتداد الطبيعي لأبيه مُعاوية، فها هو يقول في أوَّل خُطبة له بعد موت أبيه: (الحمد لله، ما شاء صنع، مَن شاء أعطى ومَن شاء منع، ومَن شاء خفض ومَن شاء رفع)(7) .

____________________

(1) الإنسان والقَدر - الشهيد الـمُطهَّري: ص43 - 45.

(2) مُروج الذهب: ج3: ص52.

(3) الطبري: ج6: ص186.

(4) ابن كثير: ج8: ص142.

(5) النساء: 19.

(6) العِقد الفريد 5: 112.

(7) العِقد الفريد 5: 146.

٢٣

وقال: (فإنَّ معاوية كان عبداً مِن عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوَّله ومكَّن له)(1) .

فنرى المنطق الجبري بارزاً في تصريحات مُعاوية ويزيد؛ دعماً لهذا الاتِّجاه الفِكري الـمُنحرف؛ لما يترتَّب عليه مِن تأييد لسلطانهم، فإذا أصبحت الأُمَّة تُفكِّر بهذا الأُسلوب؛ فإنَّ النتيجة هي أنْ تشلَّ حركتها ويسودها الخمول والاستسلام للواقع السيِّء المفروض عليها.

ولا شكَّ أنَّ هذا الفِكر صريح الـمُناقض للفكر القرآني، الذي يجعل للإنسان دوره المحوري والاختياري في سير حركته في الحياة، ويُحمَّله كامل المسؤوليَّة لعمله ونشاطه، وأنَّ للأُمم والشعوب دورها الأساس في مظاهر حياتها وتقرير مصيرها، وأنَّ القضاء والقدر الإلهي، إنَّما يمرُّ مِن خلال إرادة الإنسان واختياره، قال تعالى:( ... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) (2) ، فالآية تُشير إلى سُنَّة مِن سُنن الله تعالى في خَلقه، التي تتحكَّم في سَير التاريخ.

فنُلاحظ أنَّ: (التغيير هنا أُسنِد إليهم - إلى القوم - فهو فعلهم إبداعهم وإرادتهم. إذنْ؛ السُنَّة التاريخيَّة حينما تُصاغ بلُغة القضيَّة الشرطيَّة، وحينما يحتلُّ إبداع الإنسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضيَّة الشرطية، في مِثل هذه الحالة تُصبح هذه السُنَّة مُتلائمة تماماً مع اختيار الإنسان، بلْ إنَّ السُنَّة حينئذٍ تُطغي اختيار الإنسان وتزيده اختياراً وقُدرة وتمكُّناً مِن التصرُّف في موقفه)(3) .

إلاَّ أنَّ الأُمويِّين أرادوا أنْ يوحوا إلى الأُمَّة بروح الاستسلام، وقتل روح التغيير الذي يجعل القرآن مسؤوليَّته على عاتِق الأُمَّة.

____________________

(1) الطبري 6: 188.

(2) الرعد: 11.

(3) المدرسة القرآنيَّة: ص110.

٢٤

ب - عقيدة الإرجاء

مِن الأفكار والعقائد الدخيلة على الإسلام، والتي عَمِل مُعاوية وسائر الأُمويِّين على ترويجها، وتأصيلها في حياة المسلمين عقيدة الإرجاء.

والـمُرجِّئة: هم الذين يعتقدون بأنَّ الإيمان تصديق بالقول دون العمل، ويقولون في مُرتكب الكبيرة: بالتوقُّف في الحُكم عليه، وإرجاء الأمر له سبحانه، ويعني ذلك: أنَّ الناس ليس مِن حَقِّهم أنْ يُحاسبوا صاحب الكبيرة، بلْ أمره راجع إلى الله تعالى في الآخرة.

وهذا النوع مِن التفكير يخدم مُعاوية وسائر بني أُميَّة، بلْ وكلُّ ظالم في التاريخ؛ لأنَّ هذه العقيدة توحي إلى الأُمَّة أنَّها ليس مِن حَقِّها مُحاسبة مُعاوية على ما يفعل مِن ظلم وجور، بسفك الدماء وهتك الحُرمات، بلْ يكفيهم منه أنْ يُعلن بلسانه كلمة الإسلام أو الإيمان، وليتركوا حسابه على الله تعالى في الآخرة.

ومِن أهداف هذه العقيدة تعطيل عمليَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي متى ما عُطِّلت فقدت الأُمَّة شخصيَّتها؛ وتحوَّلت إلى أُمَّة مَيِّتة؛ وأصبحت أُلعوبة في أيدي الظالمين.

وقد حارب أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأفكار الدخيلة على الإسلام؛ مِن أجل ألاَّ تفقد الأُمَّة روح الوقوف في وجه الانحراف والـمُنكر؛ ولتبقى تشعر بمسؤوليَّتها تِجاه حركة التغيير التي ينشدها الإسلام.

ويبدو هذا البُعد واضحاً مِن بيانات الثورة الحسينيَّة، فقد حاول أبو الأحرار - في مسيرته الاستشهاديَّة - أنْ يُحرِّك الأُمَّة، ويبعث فيها روح القيام معه؛ مِن أجل تغيير واقعها السيِّء. قالعليه‌السلام :

(أيُّها الناس، إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَن رأى سُلطاناً جائراً

٢٥

مُستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالفاً لسُنَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا بقول؛ كان حَقَّاً على الله أنْ يُدخله مُدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَن غيِّر)(1) .

ففي هذا البيان وضع أبو الأحرار الأُمَّة - بكلِّ أجيالها - أمام المسؤوليَّة الشرعيَّة والتاريخيَّة، تِجاه ما تعيشه مِن أوضاع تحتاج فيها إلى مواقف التغيير. وكما نراه واضحاً أنَّ هذا المنطق الحسيني، ينسجم تمام الانسجام مع الفِكر القرآني.

____________________

(1) تاريخ الطبري: ج4: ص304، طبع العلمي بيروت. تُحف العقول: ص505. وبحار الأنوار: ج44: ص382. والعوالم (الإمام الحسين): ص232. واللفظ للأوّل.

٢٦

٢٧

2 - النبوَّة

(وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عنده)(1) .

النبوَّة والرسالة تُمثِّل عمليَّة الاتِّصال ما بين الله والإنسان، في عمليَّة التوجيه والهداية التشريعيَّة في حياة الإنسان، فالنبي هو واسطة السماء لهداية الأرض، وقد واكبت النبوَّة حياة الإنسانيَّة في مسيرتها الطويلة، ولم يُغلق هذا الباب إلاَّ عندما وصلت البشريَّة - في ظِلِّ قيادة الأنبياء - درجة مِن القابليَّة تؤهِّلها لتقبُّل الرسالة الخاتمة، التي أُنزلت على خاتم الأنبياء والرسل، نبينا الأكرم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فختم الله رسالات السماء بهذه الرسالة الكاملة.

ولسنا في صدد البحث عن إثبات نبوَّته ورسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما يتعلّق بذلك، وإنَّما جهة البحث هنا تتعلَّق بقَداسة الشخصيَّة النبويَّة، وما تعرَّضت له مِن مُحاولة؛ لخلخلة تلك القداسة وإضعافها في نوفس المسلمين.

لقد تعرَّضت شخصيَّة الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مُحاولة المساس بقداستها، والحَطِّ مِن ذلك المقام الشامخ، وإبراز شخصيَّته بصورة الإنسان العادي، الذي يجوز عليه ما يجوز على غيره مِن سائر الناس.

فـ (لو راجعنا الروايات التي يُدَّعى أنَّها تُسجِّل لنا تاريخ نبي الإسلام، لوجدنا هذا النبي الذي اصطفاه الله واختاره مِن بين جميع خلقه ووصفه جَلَّ وعلا في القرآن

____________________

(1) تقدَّمت مصادره: في ص18: هامش 1.

٢٨

الكريم بأنَّه على خُلقٍ عظيم، والذي هو أشرف الأنبياء والـمُرسلين، وأعظم وأكمل رجل وجِد على وجه الأرض، وهو عقل الكلِّ ومُدبِّر الكلِّ وإمام الكلِّ، لوجدناه - في هذه السيرة المزعومة - عاجزاً ومُتناقضاً يتصرَّف كطفل ويتكلَّم كجاهل، ويرضى فيكون رضاه ميوعة وسُخفاً، ويغضب فيكون غضبه عجزاً واضطراباً، يحتاج دائماً إلى مَن يُعلِّمه ويُدبِّر أُموره، ويأخذ بيده ويُشرف على شؤونه ويَحلُّ له مشاكله، الكلُّ أعرف وأعقل منه كما أثبتته الوقائع الـمُختلفة المزعومة تاريخاً، وسيرة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فماذا وكيف نُفسِّر حمل هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زوجته على عاتقه؛ لتنظر لعب السودان وخَدُّها على خَدِّه، أو أنَّها وضعت ذِقنها على يده، وصارت تُنظر إلى لعب السودان يوم عاشور؟!

ثمَّ هو يترك جيشه لينفرد بزوجته عائشة؛ ليُسابقها في قلب الصحراء أكثر مِن مَرَّة، وفي أكثر مِن مُناسبة فتسبقه مَرَّة، وسبقها أُخرى ليقول لها: هذه بتلك...

نعم، هكذا تشاء الروايات - وكثير منها مُدوَّن في الكتب التي يَدَّعي البعض أنَّها أصحُّ شيءٍ بعد القرآن - أنْ تُصوِّر لنا أعظم رجل وأكرم وأفضل نبيٍّ على وجه الأرض.

... إنَّ إعطاء هذه الصورة عن بنيِّ الإسلام الأعظم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو القُدوة والأُسوة، لهو الخيانة العُظمى للتاريخ وللأُمَّة وللإنسانيَّة جمعاء، ولا زلنا نتجرَّع غَصص هذه الخيانة ونهيم في ظلماتها.

وأمَّا لماذا كلُّ هذا الافتراء على الرسول الأكرم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فنعتقد أنَّ الأمر لم يكن عفويَّاً، بلْ كان ثَمَّة خُطَّة مرسومة تهدف إلى طمس معالم الشخصيَّة النبويَّة، والتعتيم

٢٩

على خصائصها الرساليَّة الفذَّة؛ ليكون ذلك مُقدِّمة لهدم الإسلام، خصوصاً مِن قبل الحُكم الأُموي البغيض وأعوانه(1) .

ومتى ضعفت أو تلاشت تلك القداسة مِن نفوس المسلمين تجاه نبي الإسلام، لم يعد لشخصيَّته ذلك الأثر المطلوب في نفوسهم كقدوة لهم وأُسوة، بلْ يكون ذلك الأثر سَلبيَّاً، وهذا هو الذي يُريدون تحقيقه.

كذلك لتكون هذه السيرة المزعومة مُبرِّراً لأعمال الانحراف التي يقوم بها لأُمويُّون وأشباههم. فما دام نبي الأُمَّة تصدر منه هذه الأفعال، فما ظَنُّك بغيره مِن الحُكام الأُمويِّين، وغيره مِن الناس الذين يجوز عليهم كلُّ شيء.

هكذا أرادوا أنْ يزرعوا في ذهنيَّة الأُمَّة؛ لتكون هذه العمليَّة جزءاً مِن تلك الجهود التي بذلوها لتخدير الأُمَّة وإماتة الروح الإسلاميَّة فيها.

وأمَّا مَن الذي تصدَّى لهذه الحملات الشرسة لصدِّها وإبطالها، ومَن الذي تبنَّى موقف الدفاع عن قداسة الرسول الأعظم وسيرته وسُنَّته الشريفةصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس هناك إلاَّ أهل بيته المعصومونعليهم‌السلام ومَن سار على خُطاهم وتأثَّر بهم.

ودور أهل البيتعليهم‌السلام ومَن سار على خُطاهم وتأثَّر بهم.

ودور أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال يأتي على مستويين:

الـمُستوى الأوَّل: بذل الوسع في الحفاظ على شخصيَّة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وما تحتلُّه مِن مكانة شامخة في نفوس المسلمين؛ ليبقى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو ذلك القُدوة والأُسوة لكلِّ مسلم، بلْ لكلِّ إنسان، وليبقى ذلك الإنسان المعصوم والفرد الأكمل مِن بين عباد الله تعالى.

الـمُستوى الثاني: هو التمسُّك بحرفيَّة سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسُنَّته العمليَّة وإحيائها في حياة المسلمين، وعدم التنازُل عن شيءٍ منها مَهْما أمكن.

____________________

(1) للتوسُّع يُراجع الصحيح مِن سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن ص17 - 178.

٣٠

ومِن الواضح أنَّ الـمُستوى الأوَّل هو الطريق إلى الـمُستوى الثاني؛ فـ (إنَّ طريق إحياء سُنَّة الرسول، والالتزام بما جاءت به مِن أحكام وتوصيات يَمرُّ مِن خِلال شخصيَّة الرسول القائد، فما لم ينجذب الناس إلى شخصيَّته الـمُقدَّسة وما لم يعشقوها ويعتقدوا بعظمتها وسموِّها على سائر الشخصيَّات في الدنيا؛ لا يُمكن أنْ يأخذوا عنه ويتلقُّوا منه سُنَّته الـمُطهَّرة ويعملوا بها، فعَمِل أهل البيت في البدء بكلِّ وسعهم على ارتباط المسلمين بالرسول الأكرم، واتِّخاذه قدوة قبل كلِّ شيء(1) .

فعلى الـمُستوى الأوَّل: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخُطبة القاصعة، مُشيراً إلى العناية الربَّانيَّة بهذا الرسول الكريم مُنذ مجيئه إلى هذه الحياة وتربية الله له؛ ليكون هو الشخص الأكمل مِن بين أفراد البشر: ((ولقد قَرَن الله به -أيْ النبي - مِن لدُن أنْ كان فَطيماً أعظم مَلَك مِن ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، وكنت اتَّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمِّه، يرفع لي في كلِّ يوم مِن أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به)(2) .

هكذا شخصيَّة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في فكر أهل البيتعليهم‌السلام ، فهو معصوم مُنذ طفولته؛ لأنَّ الله تعالى قَرَن به أعظم مَلَك، وهو الـمَلك التي تُعبِّر عنه الروايات بروح القُدُس، ومُهِمَّته تسديد الرسول في كلِّ أفعاله وأقواله.

وقالعليه‌السلام مُتحدِّثاً عن مشاعل الكمال ومظاهر العَظمة في شخصيَّة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعن دوره في حياة البشريَّة؛ حيث كان تلك الشمس الساطعة، التي تُنير للبشريَّة طريقها: (حتَّى أفضَتْ كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد، فأخرجه مِن أفضل الـمَعادن مَنبتاً وأعزَّ الأُرومات مَغرساً، مِن الشجرة التي صدع منها أنبياءه،

____________________

(1) مَجلَّة المنهاج العدد 11: ص76.

(2) نهج البلاغة خُطبة رقم 192.

٣١

وانتجب منها أُمناءه... فهو إمام مَن اتَّقى، وبصيرة مَن اهتدى، سراج لَمَعَ ضوؤه، وشِهاب سطع نوره، وزنَد برق لـمَعه، سيرته القصد، وسُنَّته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل. أرسله حين فترة من الرسل وهفوة عن العمل)(1) .

وعندما نقرأ الموسوعات الحديثيَّة، الواردة عن أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام نجد فيها وصفاً دقيقاً لشخصيَّة الرسول مِن حيث خصائص أخلاقه الكريمة، التي امتدحها تعالى في كتابة العزيز:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) .

فقد تحدَّثت هذه الموسوعات عن صدقه وأمانته، وعدله وشجاعته، ورحمته وحِلمه، وحيائه وتواضعه، وكرمه وصبره، وزُهده وإيثاره، إضافة إلى تفانيه وذوبانه في عبادة رَبِّه تعالى، ورسمت له أجمل صورة أرادها الله أنْ تكون مَثلاً أعلى للبشر جميعهم إلى يوم الدين(3) .

هذه الصورة تختلف اختلافاً كليَّاً عن الصورة التي تُصوِّرها تلك الروايات الـمُزوَّرة، لشخصيَّة هذا النبي الكريم.

ومِن هذا الـمُنطلَق؛ نجد مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام تؤكِّد على عصمة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة الـمُطلَقة، التي تشمل عصمته في تلقِّي الوحي، واستيعابه وتبليغه إلى الناس وعصمته في كلِّ فعلٍ مِن أفعاله وقولٍ مِن أقواله، في أيِّ مجالٍ مِن مجالات الحياة، فهو معصوم في كلِّ ذلك مِن الخطأ والاشتباه والسهو والنسيان قبل البعثة وبعدها. وقد مَرَّت كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام في حَقِّ الرسول وتسديد الله له مُنذ الطفولة وعصمته قبل البعثة، ضرورة مِن ضروريَّات البعثة ونجاحها؛ وذلك لما يلي:

____________________

(1) نهج البلاغة، خُطبة رقم 94.

(2) القلم: 4.

(3) مَجلَّة المنهاج العدد 11 ص79.

٣٢

أوَّلاً: لأنَّ العصمة تُمثِّل الإعداد لذات الرسول؛ لتكون وعاءً للرسالة والنبوَّة، فيكون طرفاً للوحي الإلهي بما يحمل مِن طهارة نفسيَّة وفكريَّة؛ لعدم تلوِّثه بأيِّ مستوىً مِن مُستويات المعصية.

ثانياً: أنَّ العصمة للرسول بآثارها الخارجيَّة، تكسب الثقة والمقبوليَّة لقوله لدى الناس، بعكس ما إذا كان ملوَّثاً بالمعصية مِن قَبْل أنْ يُبعث، فإنَّ النفوس لا تثق به ولا تطمئنُّ له القلوب، حتَّى لو عُصِم بعد البعثة؛ لأنَّ مِن طبع الناس أنْ يقيسوا الحاضر بالماضي، واللاحق بالسابق فلا تتحقَّق أهدافهم البعثة.

بينما ترى مدرسة الخُلفاء عصمة النبي على نطاق ضيِّقٍ، فهو معصوم لديهم في دائرة تلقِّي الوحي وتبليغه للناس فقط، أمَّا في سائر المجالات الأُخرى، كتطبيق الوحي عمليَّاً على نفسه، أوفي سائر أفعاله وأقواله التي لا علاقة لها بتبليغ الوحي، فليس بمعصومٍ لديهم، بينما القول بجواز السهو أو الخطأ أو النسيان على الرسول الأعظم، يفتح باب الاحتمالات في حقِّه وتُزلزل الثقة في شخصيَّته.

وأنَّى لعامَّة الأُمَّة أنْ يُميِّزوا ما يتعلَّق بالتشريع مِن فعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سائر أفعاله الأُخرى، ألاَ ينسحب عدم الاطمئنان على أفعاله التشريعيَّة، وبالتالي لا يتحقَّق الهدف مِن بعثته؟!

فـ (إنَّ الغاية الـمُتوخَّاة مِن بعث الأنبياء هي هداية الناس إلى السعادة، ولا تحصل هذه الغاية إلاَّ بكسب اعتمادهم وثقتهم الـمُطلقة بصحَّة ما يقوله الأنبياء ويحكونه عن الله تعالى، ولكنْ ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيَّهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها، أو يَغلط في أُموره الفرديَّة والاجتماعيَّة؟ هل مِن ريبٍ في أنَّ الشكَّ سيجد طريقاً رحبة للتسرُّب إلى أذهان الناس فيما يدخل في مجال الوحي والرسالة؟! بلْ لن يبقى شيءٌ مِمَّا جاء به هذا النبي إلاَّ وتطرَّقه علامات الاستفهام، ولسان حال الناس

٣٣

يقول: هل ما يحكيه عن الله تعالى مِن الوظائف هي وظائف إلهيَّة حقَّاً؟ أمْ أنَّها مزيج مِن الأخطاء والاشتباهات؟ وبأيِّ دليلٍ هو لا يُخطأ في مجال الوحي إنْ كان يُخطأ في المجالين الآخرين؟

وهذا الحديث النفسي والشعور الداخلي إذا تعمَّق في أذهان الناس، سوف يسلب اعتمادهم على النبي، وتنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة مِن البعثة.

نعم، إنَّ التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي، وصيانته في سائر المجالات، وإنْ كان أمراً مُمكناً عقلاً، لكنَّه بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلاميَّة، وأمَّا عامَّة الناس ورُعاعهم الذين يُشكِّلون أغلبيَّة الـمُجتمع، فإنَّهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بلْ يجعلون السهو في إحداها دليلاً على إمكان تسرُّب السهو إلى المرحلة الأُخرى، فلا بُدَّ لسدِّ هذا الباب الذي يُنافي الغاية المطلوبة مِن إرسال الرُّسل مِن أن يكون النبي مصوناً عن الخطأ في عامَّة المراحل، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأُمور الفرديَّة والاجتماعيَّة)(1) .

ومِن الجائز أنْ يكون القول بعدم عصمة النبي الـمُطلقة، هو مِن تأثير تلك الروايات الموضوعة والمدسوسة في سيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولتكون جزءاً مِن عقيدة المسلمين في حَقِّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنَّ أهل البيتعليهم‌السلام وقفوا موقف الدفاع عن قداسة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا كلُّه على الـمُستوى الأوَّل، أمَّا على الـمُستوى الثاني، فإنَّ أهل البيتعليهم‌السلام كانوا يُصرُّون وبقوَّة على التمسُّك بسيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسُنَّته عمليَّاً مِن دون أيِّ تنازل عن شيء منها، مَهْما كلَّفهم ذلك مِن ثمنٍ.

____________________

(1) الإلهيَّات: ج2: ص179 - 180.

٣٤

هذا ما نراه بكلِّ وضوح في سيرتهم ومواقفهم، تجاه ذلك الانحراف عن تلك السيرة الـمُطهَّرة.

فهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام في اجتماع الشورى - شورى السِّتَّة - لـمَّا أرادوا أنْ يفرضوا عليه سيرة إضافيَّة إلى جنب سيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي سيرة الشيخين، رفض ذلك العرض الذي عرضه عليه عبد الرحمان بن عوف، عرض عليه الخلافة واشترط عليه بقوله: (عليك عهد الله وميثاقه، لتعملَنَّ بكتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة الشيخين) فأجابه عليٌّعليه‌السلام بأنْ يعمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله، ورفض أنْ يُعاهده على العمل بسيرة الشيخين قائلاً: (بلْ أجتهد برأيي)، وفي رواية: (أرجو أنْ أعمل بعلمي وطاقتي).

لئلا يُسجَّل عليه اعتراف بمصدر آخر إلى جنب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسُنَّته؛ لتبقى السيرة والسُنَّة الـمُطهَّرة بعد الكتاب هي المصدر للمسلمين في شؤون دينهم وحياتهم؛ ومِن هذا الـمُنطلَق أكَّد سيِّد الشهداء على التمسُّك بسيرة جَدِّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمَّا قرَّر القيام بثورته الـمُقدَّسة، فقال في أحد بياناته:

(إنِّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله (صلى لله عليه وآله)، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن الـمُنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي عليِّ بن أبي طالب {عليه‌السلام })(1) .

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص18 هامش 1. وفي الفتوح لابن أعثم: ج5: ص21 بعد هذا: (وسيرة الخُلفاء الراشدين

٣٥

وإنَّما أكَّد أبو الأحرار على السير بسيرة جَدِّه وأبيه؛ لأنَّ في الساحة سيرة أُخرى، فهذه إشارة منهعليه‌السلام إلى أنَّ سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تكاد أنْ تنحسر كليَّاً عن الحياة وحَرَف المسلمين العامَّة بفعل السياسة الأُمويَّة، والتخطيط الأُموي البعيد المدى لمحوها كليَّاً مِن الوجود، وحَرَف الأُمَّة عن مسيرتها الإسلاميَّة، وإبعادها عن سيرة وسُنَّة نبيِّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن الناحية الفِكريَّة والعمليَّة.

____________________

المهديِّين رضي الله عنهم)، وكلمة الخُلفاء الراشدين: اصطلاح مُتأخِّر عن ذلك العصر، فيبدو أنَّها أُدخلت في كلام الإمام الحسينعليه‌السلام وهي أجنبيَّة عنه.

٣٦

٣٧

3 - الـمَعاد

قال أبو الأحرار:

(وأشهد... وأنَّ الجنّة حَقٌّ، والنار حَقٌّ، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيه، وأنَّ الله يبعث مَنْ في القبور)(1) .

الاعتقاد بالـمَعاد مِن الركائز الأساسيَّة للعقيدة الصحيحة، وهو (عنصر في كلِّ شريعة لها صِلة بالسماء، ويحتلُّ في الأصالة والتأثير مَحلِّ العمود الفقري في جسم الإنسان، وبدونه تُصبح الشرائع مسالك بشريَّة مادِّيَّة لا تمتُّ إلى الله سبحانه بصِلة، فقوام الشريعة هو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد؛ ولأجل ذلك لا ترى شريعة تتَّسم بأنَّها شريعة إلهيَّة - ولو بعد تحريفها - خالية مِن الدعوة إلى الحياة الآخرة، وحشر الإنسان بعد الموت، وإقامة الحساب والجزاء والثواب والعقاب)(2) .

وهذا الأصل هو الذي يُعطي القِيمة والهدف المعقول، لوجود الإنسان في النشأة الدنيويَّة؛ إذ لولا ذلك لأصبحت حياته عبثاً وهباءً؛ لأنَّها سوف تنحصر في الفترة القصيرة المحدودة، وبانتهائها ينتهي أمر الإنسان، وهذا ما يرفضه عقل الإنسان ووجدانه؛ لأنَّ ذلك لا يتناسب مع موقع الإنسان مِن هذا الكون.

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص18 هامش 1.

(2) الإلهيَّات: ج2: ص156.

٣٨

فإنَّ مِن الواضح أنَّ الطبيعة - كلَّ الطبيعة - مِن حول الإنسان، مُسخَّرة لخدمته وبناء حياته، فهو سيِّد هذا الكون في هذه الحياة، فكيف يكون وجوده خالياً مِن الهدف سِوى أنْ يعيش هذه الفترة القصيرة، ثمَّ ينتهي إلى العدم الـمُطلق؟! فإنَّ ذلك ما لا يتقبَّله عقل الإنسان السليم ولا يرتضيه هدفاً لوجوده.

وهذا ما هتف به الذكر الحكيم بقوله تعالى:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ) (1) .

ولسنا في مجال ذكر الأدلَّة على صحَّة الاعتقاد بالمعاد ووجوبه، وإنَّما نحاول الإشارة إلى مُعطيات هذا الأصل في حياة الإنسان، ومدى تأثير ذلك على سلوكه وتعامله مع الحياة وما فيها.

ومِن الـمُمكن أنْ نقسِّم الناس إلى ثلاثة أصناف في موقفهم مِن مسألة المعاد:

الصنف الأوَّل: الـمُنكرون للمعاد أساساً.

الصنف الثاني: الذين يدَّعون الإيمان، بالمعاد بينما سلوكهم في الحياة يُكذِّب ذلك.

الصنف الثالث: المؤمنون بالمعاد إيماناً صادقاً وفاعلاً.

1 - الـمُنكِرون:

هناك صِنف مِن الناس يصعب عليه الإذعان والإيمان بأنَّ للإنسان حياة أُخرى غير هذه الحياة يرجع إليها ليأخذ نتيجة عمله في هذه الحياة، ويستبعد ذلك؛ لأنَّه لم يرَ بعينه إنساناً يَحيى مِن جديد بعد موته وتلاشيه.

وإذا ما رجعنا إلى حديث القرآن عن هذا الصنف، نجده يُسند هذا الإنكار والاستبعاد عند هؤلاء لا إلى قناعة فكريَّة لديهم، بلْ يُسنِد ذلك إلى دوافع نفسيَّة

____________________

(1) المؤمنون: 115.

٣٩

مادِّيَّة دنيويَّة، دعتهم إلى هذا الإنكار والجحود بيوم القيامة، فهم يُريدون أنْ يتحرَّروا مِن كلِّ القيود والضوابط، ويُريدون أنْ يُعطوا لأنفسهم كلَّ الرغبات؛ فيعيشون حياة حيوانيَّة صِرفة، وأنْ ينساقوا وراء الدوافع الشهوانيَّة، فدعاهم ذلك إلى الإنكار لمسألة المعاد والحساب؛ لأنَّ الإيمان بذلك يتعارض مع هذا الهدف الذي بنوا عليه حياتهم.

أ - قال تعالى:( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (1) .

فالآية الأُولى تذكر مُعتقدهم وإنكارهم، والآية الثانية تَذْكر باعث إنكارهم، وأنَّه ليس هو ما يتظاهرون مِن عدم إمكان جمع العظام، وإنَّما هو إرضاء الغرائز البهيميَّة، وقوله تعالى:( ... لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) بمعنى: يشقُّ أمامه، ولا يرتدع بشيءٍ مِن القوانين والتشريعات(2) .

ب - وقال تعالى:( وَقَالَ الـمَلأَ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (3) .

فهنا باعثان مِن بواعث الإنكار للمعاد والقيامة:

الأوَّل: باعث نفسيٌّ هو الإتراف والأخذ بأسباب الشهوات، والغَرق في بحر الأهواء والغرائز.

____________________

(1) القيامة: 5 - 6.

(2) الإلهيَّات: ج2: ص679.

(3) المؤمنون: 33 - 37.

٤٠