قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45430
تحميل: 4261

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45430 / تحميل: 4261
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والآخر: باعث سياسي، وهو ما كان لفرعون والملأ مِن قومه مِن تسلُّط واستعلاء على أقوامهم، فأنكروا المعاد؛ لئلا تتزعزع عروش سُلطتهم بانتشار العقيدة بين أتباعهم ومرؤوسيهم، فكانوا يدعون الناس إلى إنكار المعاد بقولهم:( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) ، ولفظة( ... هَيْهَاتَ... ) تعني: بَعُدَاً، وجاء الاستبعاد هنا مؤكَّداً مِن هؤلاء، بمعنى أنَّه بعيد كلَّ البُعْد أنْ تُبعثوا بعد موتكم، وليس هناك حياة إلاَّ هذه الحياة الدنيا التي تعيشونها.

فهذه بعض الدوافع التي دفعت الـمُنكرين إلى إنكارهم للآخرة والمعاد؛ اتِّباعاً للشهوات وعبادةً للهوى.

أمَّا إذا تحرَّر الإنسان مِن هذه الأُمور، ورجع إلى عقله وفطرته؛ فإنَّه سيُدرك أنَّ الصانع الـمُبدع لذي ابتدعه في النشأة الأُولى، غير عاجز عن إعادته مَرَّة أُخرى في النشأة الثانية، كما جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) .

بلْ لو رجع الإنسان إلى مقاييسه العقليَّة؛ فإنَّه سيُدرك - أيضاً - بأنَّ الإعادة للمخلوق مَرَّة أُخرى أسهل على الصانع مِن الإبداع في الـمَرَّة الأُولى.

وقد طرح القرآن الكريم - أيضاً - المسألة بهذا المقياس في قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (2) .

____________________

(1) يس: 78 - 79.

(2) الروم: 27.

٤١

فهنا تقول الآية: إنَّكم تعتقدون أنَّ بداية الخَلْق مِن قبل الله، فعود الخَلْق مَرَّة أُخرى أيسر وأهون مِن بداية الخلق.

والدليل على أنَّ عودة الخَلْق أهون مِن البداية، هو أنَّه في البداية لم يكن شيئاً ولكنَّ الله هو الذي أبدعه، أمّا في الإعادة، فعلى الأقلِّ توجد الموادُّ الأصليَّة، فبعضها في طيَّات التراب، وبعضها مُتناثر في الفضاء، وإنَّما تحتاج إلى نَظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب، فهي أهون.

ولكنْ مِن الضروري أنْ نلتفت إلى هذه اللطيفة، وهي أنَّ التعبير بالهيِّن والصعب هو مِن خلال نافذتنا الفكريَّة، وأمَّا بالنسبة لـمَن ليس لوجوده بداية ولا نهاية، فلا فرق عنده بين الصعب والسهل(1) .

ولعلَّ في قوله تعالى:( ... وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى... ) إشارة إلى هذه اللطيفة، فإنَّه يتساوى أمام قدرته تعالى البدء والختام الخطير والحقير والقليل والكثير، قال تعالى:( مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (2) .

والمعنى ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم ولا بعثكم إلاَّ كخلق نفس واحدة وبعثه، فأنتم على كثرتكم والنفس الواحدة سواء(3) .

ولكنَّ الـمُنكرين للمعاد؛ لسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسهم، وانشدادهم إلى الحياة المادِّيَّة؛ قد تنكَّروا لعقولهم وفطرتهم، ولا شكَّ أنَّ رؤيتهم هذه سوف يكون لها التأثير الواضح على سلوكهم وتعاملهم مع الحياة، فلا يُنتظر مِن هؤلاء إلاَّ سلوك الانحراف، وحياة الظلم والفسوق والفساد في الأرض، وعدم الرحمة وما إلى ذلك مِن

____________________

(1) التفسير الأمثل: ج12: ص467.

(2) لقمان: 28.

(3) الميزان: ج16: ص233.

٤٢

السلوك اللا إنساني؛ لأنَّهم لا يشعرون بأيَّة مسؤوليَّة تِجاه ما يعملون، فيتساوى عندهم العدل والظلم والإحسان والإساءة والقسوة والرحمة.

فإذا ما تظاهروا ببعض الأخلاق الإنسانيَّة، فإنًّ دافعهم إلى ذلك دافع مصلحي صِرف، فمتى ما تعارضت تلك الأخلاق والقيم مع أهدافهم ومصالحهم، فإنَّك لا تجد لتلك القيم وجوداً في قاموس حياتهم. ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة دليل على ذلك؛ لأنَّ المسألة وجدانيَّة وشواهدها واضحة كلُّ الوضوح في حياة البشريَّة في كلِّ عصرٍ مِن عصوره.

قال تعالى:( لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .

فعدم الإيمان بالآخرة واستخفاف أمر الحساب والجزاء هو مصدر عمل كلِّ سوءٍ ومورده، وبالـمُقابل الإيمان بالآخرة هو منشأ كلِّ حسنة، ومنبع كلِّ خيرٍ وبركة. فكلُّ مَثل سوءٍ وصفةِ قُبحٍ يلزم الإنسان ويلحقه، فإنَّما يأتيه مِن قبل نسيان الآخرة، كما أنَّ كلَّ مَثل حُسْنٍ وصِفةِ حمدٍ بالعكس مِن ذلك... فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كلِّ مَثل سوءٍ وصفةِ قبحٍ، فإنَّ ملاكه وهو إنكار الآخرة نعتهم اللازم(2) .

2 - الـمُدَّعون للإيمان بالـمَعاد

ونعني بهم الفئة التي تدَّعي أنَّها مؤمنة بالمعاد والآخرة، إلاَّ أنَّ سيرتهم في حياتهم العمليَّة تتناقض مع هذا الاعتقاد، فهم يعيشون الانفصال بين هذه الدعوة وبين أعمالهم وما يقومون به مِن إجرام ويعيشونه مِن انحراف وفساد. فهم وإنْ حملوا اسم الإسلام

____________________

(1) النحل: 60.

(2) الميزان: ج12 ص278.

٤٣

ولكنَّ الذي تمكَّن مِن قلوبهم ويعيش في نفوسهم، هو حُبُّ الدنيا والمصالح الشخصيَّة والشهوات النفسيَّة، مِن حُبِّ السلطان والمال والجاه والجنس، والتمتُّع بالملذَّات بأيِّ وسيلة ومِن أيِّ طريق، غير آبهين ولا مُبالين بالعواقب والنتائج.

ولو رجعنا إلى التاريخ لرأيناه مملوءاً مِن هذه النماذج الكثيرة لهذا الصنف مِن الناس، وكذا في كلِّ عصر سواء كان ذلك على مُستوى الحُكَّام أم على مُستوى المحكومين.

أمَّا على مُستوى الحُكَّام، فإنَّ مَن يصل إلى كرسيِّ الحُكم مِن هذا الصنف لم يعد يُفكِّر إلاَّ في الحفاظ على كرسيِّه وبقاء حُكمه، فهو مُستعدٌّ لأنْ يُضحِّي بكلِّ شيء في سبيل ذلك. ولسنا في صدد السرد التاريخي لسيرة هذه النوعيَّة مِن الحُكام، وإنَّما نُشير بإشارات خاطفة إلى بعض النماذج مِن تاريخ المسلمين.

أ - لـمَّا وقعت الأُمَّة فريسة لأنياب مُعاوية بن أبي سفيان، بعد الهُدنة التي كانت بينه وبين الإمام الحسنعليه‌السلام خطب في النُّخيلة خطاباً جاء فيه: (والله، إنِّي ما قاتلتكم لتصلُّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، إنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)(1) .

فالهدف الـمُقدَّس عند مُعاوية هو الحُكم والحُكم فقط، بينما الإسلام يعتبر الحُكم وسيلة وطريقاً لإقامة العدل في بلاد الله وبين عباده، وليس الحُكم هدفاً بذاته. ولكنْ لـمَّا كان الحُكم هو الغاية في نظر هؤلاء؛ فإنَّهم لا يتورَّعون عن اتٍِّخاذ أيِّ وسيلة في سبيل الوصول إليه وبقائه في أيديهم، وأيِّ شخصٍ أو جماعة تقف في طريقهم أو تُنكر عليهم أعمالهم؛ فسوف تكون حياته أرخص الأشياء، وسفك دمائهم أسهل مِن السهل.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2 ص254.

٤٤

فلا قيمة لحياة الإنسان ولا قُدسيَّة لدمه ولا وزن لكرامته، فكمْ مِن عظيم قُتِل بسيوفهم، وكمْ دمٍ مُقدَّس أُهرق على أيديهم، ومِن العلماء الذين أبادهم سيف مُعاوية حِجر بن عَديِّ الكندي ومجموعة مِن أصحابه في مرج عذراء وغيرهم مِن الأبرياء، مِن الذين لا ذنب لهم إلاَّ أنَّهم يُعارضون مُعاوية في ظُلمه وجوره.

هذا إلى جانب حرب العصابات التي استخدمها مُعاوية، فقد أرسل بسر بن أرطاة على رأس جيش؛ ليشنَّ الهجمات الـمُباغتة على الـمُدن والقُرى، التي تخضع لحُكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وذلك ليقوم بالقتل والسلب والنهب، ونشر الرُّعب والإرهاب بين المسلمين في تلك البلدان.

فإنَّ حُكم مُعاوية لم يقم إلاَّ على قاعدة الغاية تبرُّر الوسيلة.

ب - قال المؤرِّخون: إنَّ عبد الملك بن مروان كان قبل أنْ يتقلَّد الخلافة يُظهر النُسك والعبادة، فلـمَّا بُشِّر بالـمُلك بعد هلاك أبيه مروان كان بيده المِصحف الكريم، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فِراق بيني وبينك. وقد صدق فيما قال، فقد فارق كتاب الله وسُنَّة نبيِّه مُنذ اللحظة الأُولى التي تقلَّد فيها الحُكم، فقد أثرت عنه مِن الأعمال ما باعدت بينه وبين الإسلام والقرآن(1) .

وقد قال في خُطبته بعد قتله لابن الزبير: (لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاَّ ضربت عنقه)(2) .

ج - ذكر المؤرِّخون أنَّ الحَجَّاج بن يوسف الثقفي - وهو إحدى سيِّئات هذا التاريخ - مات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، منهنَّ سِتَّة عشر ألفاً مُجرَّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(3) .

____________________

(1) حياة الإمام الباقر: ج2 ص17.

(2) تاريخ الخُلفاء: ص218.

(3) حياة الإمام الحسين: ج2: ص148، نقلاً عن أنساب الأشراف.

٤٥

فهل يَشمُّ الإنسان مِن هذه السيرة رائحة الإيمان بالمعاد والحساب، وقد عرف التاريخ الكثير مِن هذه النماذج، بلْ هي موجودة في كلِّ عصر.

أمَّا في عصر الإمام الحسينعليه‌السلام ، فنأخذ منه سيرة حُكَّام عصره وواقعهم، قالعليه‌السلام :

(ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَن غيِّر)(1) .

هذا على مُستوى الحُكَّام، أمَّا على مُستوى المحكومين، فإنَّ الحُكَّام الجائرين لم يستطيعوا أنْ يفعلوا ما فعلوا إلاَّ عندما وجدوا مَن يُنفِّذ لهم أوامرهم ويقوِّي شوكتهم، فإنَّ الجماعات مِن هذا الصنف مِن الناس هم الأداة الطبيعيَّة والقوَّة الضاربة في أيدي الظالمين، وإنَّما صارت تلك الجماعات على هذا الـمُستوى؛ لأنَّهم قد استعبدتهم الدنيا ولم يكونوا يعيشون الإسلام، بلْ هم يعيشون حالة الانفصال بين دعواهم للإسلام والإيمان بالمبدأ والمعاد، وبين واقعهم العملي والحياتي، كما وصفهم أبو الأحرار الإمام الحسينعليه‌السلام :

(الناس عبيد الدنيا، والدين لَعْقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون)(2) .

فنجد هذا الخبير العظيم بأُمور الناس وأحوالهم كيف يُشخِّص واقعهم، ولا شكَّ أنَّه إنَّما يعني بالناس هنا مَن يحمل دعوى التديُّن بالإسلام، فإنَّ هؤلاء الناس يُحيطون

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص27: هامش 1.

(2) بحار الأنوار: ج44: ص383 وج75: ص117. وتحف العقول: ص245. والعوالم: ص234. ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ج1: ص237.

٤٦

الدين ما دام في ذلك مكاسب دنيويَّة ومصالح شخصيَّة، وإنَّما تتكشَّف حقائقهم عند الاصطدام بواجب شرعي أو موقف يجعلهم بين خيارين ومُفترق طريقين، وهو الموقف الذي يتعارض مع دنياهم ومصالحهم المادِّيَّة، عند ذلك لا ترى للدين أيَّ وجود في حياتهم.

وقال سيِّد الشهداءعليه‌السلام في خطابه لتلك الجماعة، التي باعت نفسها على الأُمويِّين في سبيل دنياً تافهة زائلة مُحاولاً إنقاذهم مِمَّا هم فيه مِن السقوط في بؤرة الشيطان، قالعليه‌السلام :

(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، مُتصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرَّته والشقيُّ مَن فتنته، فلا تغرَّنكم هذه الدنيا؛ فإنَّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيِّب طمع مَن طمع فيها. وأراكم قد أجمعتم على أمرٍ أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلَّ بكم نقمته، وجنَّبكم رحمته، فنعم الربُّ ربُّنا وبئس العبيدُ أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمَّ إنَّكم زحفتم إلى ذُرِّيته وعِترته تُريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبَّاً لكم ولما تُريدون، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(1) .

فقد أعطى أبو الأحرار في هذا البيان صورة واضحة للتناقض الذي يعيشه أُولئك

____________________

(1) بحار الأنوار: ج45: ص5 - 6، والعوالم: ص249، ومقتل الحسين للخوارزمي: ج1: ص252.

٤٧

في دعواهم بالإيمان بالمبدأ والـمَعاد والرسالة، وبين موقفهم منه في إقدامهم وتصميمهم على ارتكاب تلك الجريمة الكُبرى التي هي مِن أبشع ما عرفه التاريخ مِن الجرائم.

وفي بيان آخر خاطبهمعليه‌السلام بقوله:

(فقُبحاً لكم، فإنَّما أنتم مِن طواغيت الاُمَّة وشُذَّاذ الأحزاب، ونَبذة الكتاب، ونفثة الشيطان وعُصبة الآثام، ومُحرِّف الكتاب، ومُطفئ السُّنَن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومُبيري عِترة الأوصياء)(1) .

فهذه الأوصاف التي وصفهم الإمام الحسينعليه‌السلام بها صفاتٌ، تجعلهم أُناساً لا عهد لهم بالله ولا صِلة لها بالإيمان بالمبدأ والمعاد، مع أنَّهم يدَّعون أنَّهم مسلمون ومؤمنون بما نزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما أبعد الشِّقَّة بين الدعوى والموقف.

فهذا عمر بن سعد - وهو قائد ذلك الجيش - يجتمع به الحسينعليه‌السلام قبل الواقعة ليلاً اجتماعاً مُغلَقاً لم يحضره إلاَّ العباس وعليُّ الأكبر مِن جانب الحسين، ومع ابن سعد ابنه حفص وغلام لابن سعد، فقال الإمام: (يا بن سعد، أتُقاتلني أما تتَّقي الله الذي إليه معادك، فإنِّي ابن مَن قد علمت، ألا تكون معي وتدع هؤلاء القوم فإنَّه أقرب إلى الله تعالى).

وألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلاً: أخاف أنْ تُهدم داري.

- (أنا ابنيها).

- أخاف أنْ تؤخَذ ضيعتي.

- (أنا أُخلِف عليك خيراً منها في الحِجاز).

____________________

(1) بحار الأنوار: ج45: ص8. والعوالم (الإمام الحسين) ص252. واللهوف لابن طاوس: ص58.

٤٨

- إنَّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم مِن ابن زياد القتل.

ولم يجد منه الإمامعليه‌السلام أيَّ تجاوبٍ، وإنَّما رأى منه إصراراً على الغيِّ والعُدوان، فاندفع يدعو عليه: (ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلاً! ولا غفر الله لك يوم حشرك، فو الله، إنِّي لأرجو ألاَّ تأكل مِن بُرِّ العراق إلاَّ يسيراً).

وولَّى ابن سعد وهو يقول للإمام سُخريَّةً: إنَّ في الشعير كفاية(1) .

فنرى منطق ابن سعد منطقاً دنيويَّاً صِرفاً، لا يُشمُّ منه رائحة الإيمان، فلا نجد في كلامه ذكراً للدين، فهو لا يتحدَّث إلاَّ عن داره وضيعته وما إلى ذلك. فلم يعد يُفكِّر إلاَّ في الدنيا ومظاهرها وملذَّاتها ولم يعد للآخرة والإيمان بها شيء مِن تفكير هذا الرجل الخاسر.

3 - الـمُتيقِّنون بالـمَعاد

أمَّا الفئة الثالثة، فهم الذين يؤمنون بالمعاد إيماناً جازماً لا يشوبه شكٌّ أو شُبهة، فتكون هذه العقيدة إحدى الركائز الأساسيَّة للرؤية الكَونيَّة التي يحملها هؤلاء.

فهم قد وعوا وجودهم وغاية خَلقهم وعياً تامَّاً، فهم على النقيض مِن الفئة الأُولى الذين يعيشون مَحدوديَّة المادَّة، فلا تتجاوز نظرتهم هذه الحياة الضيِّقة.

بينما المؤمنون يعيشون الأُفق الأوسع، والنظرة الشاملة للحياة الدنيا والحياة الآخرة، فتشمل رؤيتهم عالـمَي الغَيْب والشهادة، فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً وفاعلاً: بأنَّ الإنسان إنَّما جاء إلى هذه الحياة ليقوم بدوره الحضاري، الذي كُلِّف به مِن قبل خالقه تعالى، هذا الدور الذي يُطلِق عليه القرآن عنوان الخِلافة مَرَّة، وعنوان الأمانة مَرَّة

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص133 - 134.

٤٩

أُخرى، فمَرَّة يقول تعالى:( ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... ) (1) ، وتارة يقول:( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (2) .

فهذه المسؤوليَّة الحضاريَّة تُوصَف بكونها خلافة إذا نُظر إليها مِن زاوية الـمُكلِّف - بالكسر - وهو الله تعالى، فهي خِلافة عن الله تعالى، وتُوصَف بكونها أمانة إذا نُظر إليها مِن زاوية الـمُكلَّف - بالفتح - فالإنسان هو الـمُتحمِّل لهذه الأمانة، فهو مُلزَم بكلِّ حدود وشروط هذه الخلافة وتَحمُّل هذه الأمانة، ومتى تجاوز الإنسان تلك الحدود ولم يلتزم بتلك الشروط؛ فإنَّه محكوم عليه بالخيانة التي تؤدِّي إلى الشَّقاء الأبديِّ.

هذا مُجمل الرؤية الكونيَّة التي يحملها ويعيشها المؤمنون الصادقون بالمبدأ والمعاد، ولا شكَّ أنَّ (هذا اللون مِن التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله يتحمَّل أعباء المسؤوليَّة ومَشاقَّها بصدرٍ رحبٍ، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمِّ ويرفض الخضوع للظلم.

وهذا التفكير يملأ الإنسان ثِقة بأنَّ الأعمال - صالحها وطالحها - لها جزاء وعقاب، وبأنَّه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب، خالٍ مِن كلِّ ألوان الظلم يتمتَّع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.

الإيمان بالآخرة يعني اختراق حاجز عالم المادَّة، والدخول إلى عالم أسمى، ويعني أنَّ عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى، ومدرسة إعداديَّة له، وإنَّ الحياة في هذا العالم ليست هدفاً نهائيَّاً، بلْ تمهيد وإعداد للعالم الآخر. الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينيَّة، فهي ليست هدفاً لخلقة الإنسان، بلْ مرحلة تكامليَّة مِن أجل حياة

____________________

(1) البقرة: 30.

(2) الأحزاب: 72.

٥٠

أُخرى، وما لم يولَد الجنين سالماً خالياً مِن العيوب، لا يستطيع أنْ يعيش سعيداً في الحياة التالية.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان يهبه الشجاعة والشهامة)(1) .

ولـمَّا تحدَّث القرآن الكريم عن ركائز الإيمان عند الـمُتَّقين عدَّ منها اليقين بالآخرة، قال تعالى:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) (2) .

و (إنَّما ذكر الإيمان بالغيب ابتداءً؛ لأنَّه أصل كلِّ إيمان وأساس كلِّ اعتقاد وعمل... ثمَّ أعقبه تعالى بالصلاة؛ لأنَّها أهمُّ أركان الدين، وأنَّها الرابطة بين العبد ومعبوده، ثمَّ ذكر الإنفاق؛ لأنَّه أعظم صلة بين أفراد الإنسان، وبه يحصل التعاون بينهم وتطهر أموالهم. فالآية باختصارها جمعت بين الأُصول الاعتقاديَّة وأهمِّ الأعمال الجوارحيَّة وأعظم الأُمور الاجتماعيَّة...

ثمَّ إنَّه تعالى ذكر:( ... وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) مع أنَّ الآخرة مِن أفراد الغيب الذي ذُكِر في أوَّل الآية؛ وذلك لأجل التأكيد والأهميَّة بالنسبة إلى الآخرة؛ فإنَّ عماد النشأتين - الدنيا والآخرة - هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان بالله تعالى، وبه تنتظم حياة الإنسان الفرديَّة والاجتماعيَّة(3) .

وقد وصف أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام هذا الصنف مِن الناس بقولهعليه‌السلام : (اعلموا أنَّ الـمُتَّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكِنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت، ثمَّ انقلبوا عنها بالزاد المبلَّغ والـمُتَّجر الرابح، وتيقَّنوا أنَّهم جيران الله في آخرتهم لا تُردُّ لهم دعوة ولا ينقص عليهم نصيب مِن لذَّة)(4) .

____________________

(1) التفسير الأمثل: ج1: ص75.

(2) البقرة 3 - 4.

(3) مواهب الرحمان: ج1: ص85 - 86.

(4) نهج البلاغة خُطبة الـمُتَّقين رقم الخُطبة 193: ص444.

٥١

فهؤلاء إنَّما ربحوا الدارين؛ لأنَّهم عاشوا وعملوا مِن أجل الآخرة، وقد أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذه الخُطبة إلى مُستوى اليقين الذي يعيشه هؤلاء، فقالعليه‌السلام : (فهم والجَنَّة كمَن قد رآها فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنار كمَن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون)(1) .

هكذا يؤثِّر اليقين بالآخرة أثره في حياة الإنسان، ويصوغها بالصيغة الرَّبَّانيَّة الخاصَّة، ويجعل الإنسان يعيش حالة مِن الشوق إلى لقاء الله تعالى، لا سِيَّما حينما يعيش الإنسان الرَّبَّاني في وسط مليء بالانحرافات، وبيئة اجتماعيَّة قد سادها الفساد والظلم والفسوق، مع عدم قدرته على التغيير، فهو يُفضِّل الموت على الحياة، كما عبَّر عن هذه الحقيقة الإمام الحسينعليه‌السلام عن موقفه مِن مظاهر الانحراف والضلال في عصره، فقالعليه‌السلام :

(وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاَّ صُبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنِّي لا أرى الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برماً)(2) .

فهذا الداعية الرَّبَّاني أصبح لا يرى لبقاء الإنسان المؤمن في هذه الحياة، وفي ظل تلك الظروف أيَّ قيمة، حيث لا يتمكَّن مِن تحقيق الهدف الأسمى مِن وجوده، فأصبح الانتقال إلى عالم الآخرة وإلى جوار الله تعالى هو الأوْلى له والأحرى به، فرفع الإمام

____________________

(1) نهج البلاغة: رقم الخُطبة 193: ص444.

(2) بحار الأنوار: ج44: ص381. واللهوف لابن طاوس: ص48.

٥٢

علم التمرُّد والثورة على تلك الأوضاع اللاَّ إسلاميَّة، فاستجاب له مَن استجاب مِن أبدال الأُمَّة الذين اقتبسوا أشعَّة مِن تلك الروح الـمُقدَّسة فتعلَّقوا به وربطوا مصيرهم بمصيره، حيث وصلوا إلى القناعة التامَّة بأنَّ الحياة أصبحت أتفه مِن أنْ يُفكَّر فيها أو يُلتفت إليها، فمثَّلت لهم الآخرة فرأوها ببصائرهم وقلوبهم؛ فأقبلوا عليها بكلِّ عشقٍ، وقدَّموا أرواحهم قرابين على مذبح الشهادة.

فهذا قائدهم يقول - مُعبِّراً عن شوقه وولهه إلى لقاء الله والآخرة، ذلك اللقاء الذي يجمعه بأسلافه السابقين -:

(وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخْيِر لي مصرع أنا لاقيه...)(1) .

وقد ذكر المؤرِّخون عن هذه الصفوة أُموراً تُحيِّر العقول، عن حالة العشق التي كانوا عليها للقاء الله والانتقال إلى الآخرة.:

(لقد كان بعضهم يُداعب أصحابه ويُمازحهم في الليلة العاشرة، فقد هازل بُرير عبد الرحمان الأنصاري رحمه الله، فقال له عبد الرحمان: (ما هذه ساعة باطلٍ!)، فقال بُرير: (لقد علم قومي ما أحببت الباطل كَهلاً ولا شابَّاً، ولكنِّي مُستبشر بما نحن لاقون. والله، ما بينا وبين الحور العين إلاَّ أنْ يَميل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم، ولوددت أنَّهم مالوا علينا الساعة)(2) .

(وهذا حبيب بن مظاهر خرج إلى أصحابه وهو يَضحك قد غمرته الأفراح، فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلاً: (ما هذه ساعة ضَحك!)، فأجابه حبيب عن إيمانه

____________________

(1) شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ص146. مُثير الأحزان لابن نما: ص29. وبحار الأنوار: ج44: ص366. والعوالم (الإمام الحسين): ص216. واللهوف: ص38 طبع الأعلمي.

(2) في رحاب عاشوراء: ص229.

٥٣

العميق قائلاً: (أيُّ موضعٍ أحقُّ مِن هذا بالسرور! والله، ما هو إلاَّ أنْ تميل علينا هذه الطُّغاة بسيوفهم، فنُعانق الحور العين)(1) .

(وليس في أُسرة شهداء العالم مِثل هذا الإيمان، الذي تفجَّر عن براكينَ هائلةٍ مِن اليقين والمعرفة وصدق النيَّة عظيم الإخلاص.. لقد استبشروا بالفوز في جِنان الخُلد مع النبيِّين والصديقين والشهداء، وأيقنوا أنَّهم يموتون أهنأ موتةٍ وأعظمها في تاريخ البشريَّة في جميع الأجيال والآباد)(2) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3 ص175.

(2) حياة الإمام الحسين: ج3 ص176.

٥٤

٥٥

أهل البيت عليهم‌السلام في بيانات الثورة

تُمثِّل الثورة الحسينيَّة قِمَّة الصراع بين مبادئ أهل البيتعليهم‌السلام ومبادئ خصومهم، على الـمُستوى الفكري والسياسي والعسكري؛ لذلك لا بُدَّ لسيِّد الثوَّار مِن أنْ يؤكِّد في بياناته الثوريَّة على مكانة أهل البيتعليهم‌السلام وعلاقتهم بالرسالة الإسلاميَّة وصلتهم بالأُمَّة، فلم تكن علاقتهم بالرسالة علاقة إيمان وحسب، بلْ علاقة التمازج والتفاعل التامِّ، فهم يُمثِّلون الوجهة الشخصيَّة للرسالة، في فكرهم وأخلاقهم، وأفعالهم وأقوالهم، ويُمثِّلون في الأُمَّة موقع القيادة والريادة.

وبيان هذه الحقيقة مِن أهمِّ الأهداف الـمُقدَّسة لثورة أبي الأحرار، إنْ لم تكن الأهمَّ على الإطلاق، فأبانعليه‌السلام أنَّه لم يتحرَّك ولم ينطلق في ثورته مِن فراغ، بلْ انطلق مِن قاعدة ربَّانيَّة متينة، وهي تلك المكانة الـمُقدَّسة التي تُجسِّد روح الرسالة ومحور الإسلام؛ لأنَّها راجعة إلى الاصطفاء والاختيار الرَّبَّاني لأهل هذا البيتعليهم‌السلام ؛ ليكونوا قادة البشريَّة وروَّادها في هدايتهم إلى الله تعالى، ولتحقيق الأهداف الإلهيَّة على الأرض.

وقد أشار سيِّد الشهداءعليه‌السلام إلى ذلك المقام في أوَّل مواجهة له مع السُّلطات الأُمويَّة الحاكمة، لـمَّا دُعِي إلى مُبايعة يزيد بن معاوية على لسان أمير المدينة المنوَّرة، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.

وبعد شيء مِن الحوار الحادِّ بينه وبين الوليد ومروان بن الحَكم - وكان حاضراً - قالعليه‌السلام :

٥٦

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة ومَعدن الرسالة ومُختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس الـمُحرَّمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبح وتُصبحون وننظر وتنظرون أيَّنا أحَقَّ بالخلافة والبيعة)(1) .

هذا هو الإعلان الأوَّل لأبي الأحرار في مواجهة النظام الأُموي، حيث أعلن رفضه الـمُطلق للاعتراف بذلك النظام؛ مُستنداً إلى المبادئ الرساليَّة التي كان يُمثِّلها هو وأهل بيتهعليهم‌السلام ، والتي تُحتِّم عليه هذا الموقف.

وقد أشارعليه‌السلام هنا إلى عدد مِن خصائص أهل البيتعليهم‌السلام التي تُشير إلى منزلتهم في الإسلام، والتي تجعلهم الأكفَّأ والأوْلى مِمَّن سواهم بولاية أمر الأُمَّة وقيادتها.

ولا بُدَّ مِن وقفة - ولو قصيرة - عند هذه الخصائص التي ذكرها سيِّد الشهداءعليه‌السلام .

1 - (إنَّا أهل بيت النبوَّة)

لا شكَّ أنَّ الـمُراد بأهل بيت النبوَّة هُمْ أهل بيت النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتى أُطلق اصطلاح - أهل البيت - فإنَّما يُراد به أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حَدَّد الرسول الأعظم - وبكلِّ وضوح - الـمُراد مِن أهل البيت، وذلك مِن خلال النصوص الواردة عن طريق الفريقين أنَّ أهل البيت هُمْ: عليٌّ، وفاطمة الزهراء، وولدهما - المعصومون -.

ولكنْ برغم وضوح ذلك، فقد أُثير حول هذا الاصطلاح الكثير مِن الضبابيَّة، ومُحاولة التعتيم لحَرْفِه عن الـمُراد منه، فتارة يزعمون أنَّ الـمُراد بأهل البيت نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ما يشمل نساءه، وتارة أُخرى يُدَّعى أنَّه يشمل كافَّة بني هاشم.

____________________

(1) اللهوف لابن طاووس: ص17. الفتوح لابن أعثم: ج5: ص14، واللفظ للأوَّل.

٥٧

وبقول ثالث زعموا أنَّ الـمُراد به عموم الأُمَّة، كما يظهر مِن الحوار التالي الذي يرويه الشيخ الصدوق في أماليه، كما روي أيضاً في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : الريَّان بن الصلت حضر مجلس المأمون بمروْ، وقد اجتمع في مجلسه جماعة مِن أهل العراق وخراسان - إلى أنْ قال -: فقال المأمون: مَنْ العِترة الطاهرة؟ فقال الرضاعليه‌السلام : (الذين وصفهم الله في كتابه، فقال جَلَّ وعَزَّ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير ) (1) .

وهُمْ الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنِّي مُخلِّف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، وانظروا كيف تخلفوني فيهما. أيُّها الناس، لا تُعلِّموهم؛ فإنَّهم أعلم منكم).

قالت العلماء: أخبرنا - يا أبا الحسن - عن العِترة، أهُمْ الآل أو غير الآل؟

فقال الرضاعليه‌السلام : (هُمْ الآل).

فقالت العلماء: فهذا رسول الله يؤثَر عنه أنَّه قال:(أُمَّتي آلي) ، وهؤلاء أصحابه يقولن بالخبر الـمُستفاض، الذي لا يُمكن دفعه: آل محمد أُمَّته.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : (أخبروني، هل تحرم الصدقة على الآل؟).

قالوا: نعم.

قال: (فتحرم على الأُمَّة؟).

قالوا: لا.

قال: (هذا فَرقٌ بين الآل والأُمَّة)(2) .

فنجد الـمُحاورين للإمامعليه‌السلام قد طرحوا هذه الدعوى، ونسبوها إلى الصحابة، وزعموا أنَّ ذلك مُستفيض عنهم، مِمَّا يُشير إلى أنَّ هذه الـمُحاولات وِجِدت مِن الصدر الأوَّل؛ لإثارة التعتيم على هذا الـمُصطلح ومَن ينطبق عليهم.

وقد استُغِلَّ هذا الـمُصطلح استغلالاً سيِّئاً مِن قِبَل الحُكَّام الأُمويِّين والعباسيِّين، فقد طرح الأُمويُّون أنفسهم بأنَّهم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسخَّروا إعلامهم في سبيل هذا التضليل

____________________

(1) الأحزاب: 33.

(2) عيون أخبار الرضا: ص180.

٥٨

لا سِيَّما في وسط الـمُجتمع الشامي، وقد ذكر المؤرِّخون: أنَّ عشرة مِن قوَّاد أهل الشام وأصحاب النِّعم والرئاسة فيها، حلفوا للسفَّاح على أنَّهم لم يكونوا يعرفون إلى أنْ قتل مروان بن محمد - آخر حُكَّام بني أُميَّة - أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أهل بيت يرثونه غير بَني أُميَّة(1) .

هذا كلُّه نتائج الإعلام الأُموي في تضليل الأُمَّة، ومُحاربة الحَقِّ وأهله والـمُتمثِّل في عِترة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد سخَّر مُعاوية إمكانيَّات دولته في هذا السبيل؛ مِن أجل إبراز نفسه وسائر الأُمويِّين بهالَةٍ مُقدَّسة مِن جِهة، وتشويه ساحة أهل البيتعليهم‌السلام مِن جِهة أُخرى، وإخفاء - بلْ مَحو - ما لهم مِن فضائل تُميِّزهم عن غيرهم على سائر الأُمَّة، وتُشير إلى مقامهم ومنزلتهم السامية، لا سِيَّما عميد بيت النبوَّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد بذل مُعاوية جُهده في طمس كلِّ ما يُميِّزه على سواه، مِن الفضائل النفسيَّة والمواقف الجهاديَّة، التي تؤكِّد على أنَّ عليَّاًعليه‌السلام هو الذي يحتلُّ الموقع القياديِّ لأُمَّة محمد بعد نبيِّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنع مِن ذِكر كلِّ ما يتعلَّق بفضله وفضل أهل بيتهعليهم‌السلام .

يقول المؤرخون: إنَّه بعد عامِ الصلح حَجَّ (مُعاوية) بيت الله الحرام، فاجتاز على جماعة، فقاموا إليه تكريماً ولم يقم ابن عباس، فبادره مُعاوية قائلاً: يا بن عباس، ما منعك مِن القيام كما قام أصحابك إلاَّ لـمَوجدة عليَّ بقتالي إيَّاكم يوم صِفِّين ?! يا بن عباس، إنَّ ابن عَمِّي عثمان قُتِل مظلوماً.

فرَدَّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً: فعمر بن الخطاب قد قُتِل مظلوماً، فسلَّم الأمر إلى ولده وهذا ابنه. فأشار إلى عبد الله بن عمر.

- إنَّ عمر قتله مُشرِك.

فانبرى ابن عباس قائلاً: فمَن قتل عثمان؟!

____________________

(1) حياة الإمام الرضا للعاملي: ص54 الهامش.

٥٩

- قتله المسلمون.

فأمسك ابن عباس بزمامه، فقال: فذاك أدحض لحُجَّتك، إنْ كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاَّ بحَقٍّ.

ولم يجد مُعاوية مجالاً للرَّدِّ عليه، فسلك حديثاً آخر أهمُّ عنده مِن دَمِ عثمان، فقال له: إنَّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذَرِّ مناقب عليٍّ وأهل بيته؛ فكُفَّ لسانك يا بن عباس.

فانبرى ابن عباس يُفيض مِن مَنطقه، وبليغ حُجَّته، ويُسدِّد سِهاماً لمًعاوية قائلاً: فتنهانا عن قراءة القرآن؟!

- لا.

- فتنهانا عن تأويله؟!

- نعم.

- فأيُّهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

- العمل به.

- فكيف نعمل به حتَّى نعلم ما عَنى الله بما أنزل إلينا؟

- سَلْ عن ذلك مِمَّن يتأوَّله على غير ما تأوَّلْته أنت وأهل بيتك.

- إنَّما أُنزل القرآن على أهل بيتي، فاسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط.

- فاقرؤوا القرآن ولا ترووا شيئاً مِمَّا أنزل الله فيكم، وما قاله رسول الله فيكم وارووا ما سِوى ذلك.

وسِخر منه ابن عباس وتلا قوله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

____________________

(1) التوبة: 32.

٦٠