قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45414
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45414 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وصاح به مُعاوية: أكفيني نفسك، وكُفَّ عَنِّي لسانك، وإنْ كنت فاعلاً فليكُن سِرَّاً ولا تسمعه أحداً علانية(1) .

فمِن هذا الحوار تتَّضح مُحاولات مُعاوية، وبذل جهوده لطمس ذكر أهل البيتعليهم‌السلام ومَحو فضائلهم ومُميِّزاتهم التي يتحدَّث عنها القرآن، وأعلن عنها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . مع مُحاولاته هو وسائر الأُمويِّين أنْ يجعلوا أنفسهم أقرب البيوتات إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بلْ ادعوا أنَّهم هُمْ آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما مَرَّ.

وكذلك العباسيُّون لم يصلوا إلى كُرسيِّ الحُكم إلاَّ تحت شعار (الدعوة إلى الرضا مِن آل محمَّد) تمويهاً على الأُمَّة؛ لتستجيب لهم بالنهوض للقضاء على الدولة الأُمويَّة، وبعد وصولهم إلى كرسيِّ السُّلطة بذلوا ما لديهم مِن إمكانيَّات؛ ليجعلوا أنفسهم هم المعنيِّين بأهل البيت(2) .

ولكنْ برغم هذه الـمُحاولات التي قام بها خصوم آل محمد، ومع ما كانوا يملكون مِن إمكانيَّات، فإنَّهم لم يستطيعوا أنْ يُخفوا هذه الحقيقة، ويرجع ذلك إلى أُمور منها:

أوّلاً: ما قام به النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن بيان الحقيقة لأُمَّته بمُختلف الأساليب؛ فمَرَّة نجده يجمع أهل بيته: عليَّاً، وفاطمة، والحسنينعليهم‌السلام عند نزول آية التطهير عليه، وهو في بيت أُمِّ سَلَمة، ويُلقي عليه وعليهم كساءً أو بُردةً يمانيَّة، ويأخذ بطرفيها ويرفع طرفه إلى السماء فيقول: (اللَّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي؛ فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً)، قالت أُمُّ سلمة: فأدخلت رأسي لذلك فقلت: وأنا منهم يا رسول الله؟ قال: (إنَّكِ إلى خيرٍ)(3) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص112 - 114.

(2) حياة الإمام الرضا: ص37 - 63.

(3) راجع كتاب أهل البيت في الكتاب والسُّنَّة: ص27 - 36.

٦١

وتارةً أُخرى نجدهصلى‌الله‌عليه‌وآله - عند خروجه لصلاة الفجر - يمرُّ ببيت عليٍّ، فيضرب الباب ويقول: (السلام عليكم أهل البيت، الصلاة، الصلاة( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) )، كما في العديد مِن الروايات(1) .

ثانياً: جهود الأئمَّة الطاهرين في قيامهم بالإعلام الـمُضادِّ لإعلام خصومهم؛ لبيان الحقيقة وكشفها لأجيال الأُمَّة، وإليك بعض المواقف مِن ذلك:

أ - موسى بن عبد ربَّه: سمعت الحسين بن علي يقول في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياة أبيه عليعليه‌السلام : (سمعت رسول الله يقول: ألا إنَّ أهل بيتي أمان لكم فأحبُّوهم لحُبِّي، وتمسَّكوا بهم لن تضلُّوا. قيل: فمَن أهل بيتك يا نبيَّ الله؟ قال: عليٌّ وسبطاي وتِسعة مِن وِلد الحسين أئمَّة أُمناء معصومون، ألا إنَّهم أهل بيتي وعِترتي مِن لحمي ودمي)(2) .

ب - أبو نعيم عن جماعة خرجوا في صُحبة أُسارى كربلاء، قالوا: فلـمَّا دخلنا دمشق أُدخل النساء والسبايا بالنهار مُكشَّفات الوجوه، فقال أهل الشام الجُفاة: ما رأينا سبايا أحسن مِن هؤلاء! فمَن أنتم؟ فقالت سُكينة ابنة الحسينعليه‌السلام : نحن سبايا آل محمد. فأُقيموا على درج المسجد، حيث يُقام السبايا، وفيهم عليُّ بن الحسين، وهو يومئذٍ فتى، فأتاهم شيخٌ مِن أشياخ أهل الشام، فقال لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وقطع قِرْن الفتنة، فلم يألُ عن شتمهم، فلـمَّا انقضى كلامه، قال له عليُّ بن الحسين: (أما قرأت هذه الآية:( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) ؟).

قال: بلى.

قال: (فنحن أُولئك).

____________________

(1) راجع كتاب أهل البيت في الكتاب والسُّنَّة: ص27 - 50.

(2) كفاية الأثر: ص171.

(3) الشورى: 23.

٦٢

ثمَّ قال: (أما قرأت:( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (1) ؟).

قال: بلى.

قال: (فنحن هم).

قال: (فهل قرأت:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير ) (2) ؟).

قال: بلى.

قال: (فنحن هم).

فرفع الشاميُّ يده إلى السماء، ثمَّ قال: اللَّهمَّ إنِّي أتوب إليك - ثلاث مَرَّات - اللَّهمَّ إنِّي أبرأ إليك مِن عدوِّ آل محمد ومِن قتلة أهل بيت محمد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم(3) .

فنُلاحظ أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام يغتنمون الفرص الـمُتاحة لبيان هذه الحقيقة؛ ومِن هذا الـمُنطلق أعلن سيِّد الشهداءعليه‌السلام رفضه ومُعارضته لبيعة يزيد بن مُعاوية في دار الوليد بن عتبة بقوله: (يا أمير، نحن أهل بيت النبوَّة...).

2 - (ومَعدِن الرسالة)

الـمَعدِن - بكسر الدال - مركز كلِّ شيءٍ، مِن عَدن بالمكان عَدْناً وعدوناً، أيْ: أقام به. وجَنَّات عَدْنٍ أيْ: جَنَّات إقامة لا زوال لأهلها ولا انتقال لهم عنها، ومنه الـمَعدن أيْ: مُستقرُّ الجوهر.

وفي الحديث: (الناس معادِن كمعادِن الذهب والفِضَّة)؛ لأنَّهم يتفاوتون في الكمالات الشرعيَّة على حسب استعداداتهم، ففيهم الجَيِّد والرديء كالمعادِن(4) .

وكون أهل البيت معدِناً للرسالة، يعني أنَّهم مقرُّ ومقام للرسالة الإلهيَّة؛ لأنَّهم هم الحَفَظَة لتلك الرسالة والعالمون بأسرارها وأحكامها وكلِّ جزئيَّاتها، وهذا مِن خصائصهم التي ميَّزتهم على سائر الأُمَّة.

____________________

(1) الروم: 38.

(2) الأحزاب: 33.

(3) أمالي الصدوق ص141، والاحتجاج: ج2: ص120.

(4) شرح الزيارة الجامعة الكُبرى: ج1: ص36.

٦٣

فهم العالمون بتفسير الكتاب العزيز وتأويله، وهم الذين أوُكِل إليهم بعد الرسول الـمُبلِّغ بيان معالم وأحكام الرسالة الإلهيَّة وتفاصيلها.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خُطبةٍ له يذكر فيها آل محمّد: (هُمْ عَيْش العلم وموت الجهل، يخبركم حِلْمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصَمْتهم عن حُكم منطقهم، لا يُخالفون الحَقَّ ولا يختلفون فيه، وهُمْ دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام. بهم عاد الحَقُّ إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه مِن مَنبته وعقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية، فإنَّ رواة العلم كثير ووعاته قليل)(1) .

لذلك قَرَن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم وبين الكتاب العزيز، في الحديث الـمُتواتر مِن طُرق الفريقين وهو حديث الثقلين، حينما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً، لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(2) .

وقد تضمَّن هذا الحديث عدداً مِن النقاط الخطيرة، الـمُتعلِّقة بعَلاقة أهل البيتعليهم‌السلام بالقرآن والأُمَّة، ومِن تلك النقاط قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (... لن يفترقا حتى يردا علي الحوض...)، فالرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هنا ينفي أيَّ شكلٍ مِن أشكال الافتراق بين القرآن والعترة، ومِن كافَّة الجهات:

أوَّلاً: مِن ناحية الوجود والبقاء في وسط الأُمَّة.

فما دام القرآن موجوداً فالعِترة لا بُدَّ أنْ تكون موجودة، فالقرآن هو كتاب الدهر، وكذلك العِترة باقية إلى جانب كتاب الله بوجود شخصٍ تتمثَّل فيه العِترة، فإذا فرض

____________________

(1) نهج لبلاغة رقم الخُطبة 239: ص515.

(2) أهل البيت في الكتاب والسُّنَّة: ص125 - 129.

٦٤

عدم وجود العِترة، حصل الافتراق بين الثقلين الذي نفاه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث.

ثانياً: عدم الافتراق مِن الناحية العلميَّة.

بمعنى أنَّ علم العِترة بالكتاب لا يُحتمَل فيه الخطأ كما في غيرهم، فهم مُحيطون بكلِّ علوم القرآن، وعالمون بها علماً واقعيَّاً مُتطابقاً تمام التطابق، مع مُراد الله تعالى في كتابه، فلو لم يكن الأمر كذلك حصل الاختلاف بينهم، وهو وجه مِن وجوه الافتراق، ولو على مُستوى آية واحدة مِن آيات الكتاب العزيز.

ثالثاً: مِن الناحية العمليَّة.

بمعنى أنَّ أقوال وأفعال العِترة - صغيرها وكبيرها - لا يُحتَمل فيه الـمُخالفة لواقع كتاب الله تعالى، فلو صدر منهم عمل ما مَهْمَا كان صغيراً لا يتَّفق مع القرآن الكريم، فإنَّ في ذلك افتراقاً واضحاً بينهم وبين الكتاب، (فالحديث كما يُرشد إلى عصمة الكتاب، يُرشد إلى عصمة رجاله وعلمائه وأصحابه وقُرنائه بمنار واحد ومدلول ثابت فيهما معاً، ولو أنَّ أهل البيتعليهم‌السلام لا يتَّفقون مع الكتاب في العصمة وغير مأمونين مِن السهو والنسيان والغفلة والعصيان؛ لجاز أنْ ينطقوا - ولو أحياناً - بتأويل يُخالف الحقيقة ويُباين الحَقَّ، وأين هذا مِن عدم الضلالة أبداً بالتمسُّك بهم؟ وأين هو مِن اتِّفاقهم مع القرآن حتَّى آخر لحظة مِن الزمان؟ فلو لم يكن لدينا دليل على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام غير هذا لكفى به شاهداً ودليلاً)(1) .

فهم خَزَنة علم الرسالة وحماتها والـمُرابطون على ثغورها، وبرغم أنَّهم لم تُتْرَك لهم قيادة الأُمَّة لا سيَِّما القيادة السياسيَّة، فإنَّهم اضطلعوا بدورهم في الحِفاظ على وجود

____________________

(1) الثقلان الكتاب والعِترة: ص137.

٦٥

الأُمَّة ومواجهة الانحرافات التي تُهدِّد الإسلام بالدمار الشامل، وهذا الدور مِن أهل البيت جاء على مُستويين:

الـمُستوى الأوَّل: يتعلَّق بالحفاظ على كيان الأُمَّة كأُمَّة مُقابل الكيانات الأُخرى في العالم، حينما يتهدَّد وجودها بالخطر، ويتمثَّل ذلك في التدخُّل الإيجابي الموجَّه لرأس السلطة، الذي يتولَّى قيادة الأُمَّة عقيب وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فإنَّ تلك القيادات كانت تواجه قضايا ومشاكل كثيرة، عقائديَّة واجتماعيَّة، تُثيرها طبيعة الظروف التي تعيشها التجربة الإسلاميَّة بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بسبب الفتوحات التوسُّع في رُقعة العالم الإسلامي، ودخول فئات أُخرى في تركيبة الـمُجتمع الإسلامي، واختلاط أصحاب الأديان الأُخرى بالمسلمين، فهذه الجوانب لا بُدَّ أنْ تُفرز بعض الشُّبهات العقائديَّة والمشاكل الاجتماعيَّة، التي تحتاج إلى مواجهة حادَّة؛ لكي لا تُشكِّل خَطراً فكريَّاً واجتماعيَّاً على الأُمَّة.

وكان الخلفاء لا يُحسنون مواجهة تلك المشاكل والقضايا، ولا يقدرون على حَلِّها الحَلَّ الحاسم الذي يخدم التجربة الإسلاميَّة، بلْ لو أنَّهم حاولوا ذلك لأوقعوا الأُمَّة في أشدِّ التناقضات، ولأوقعوا الإسلام في أشدِّ الأخطار، ولأصبحت التجربة أقرب إلى الموت وأسرع إلى الهَلاك.

وهنا يأتي دور أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيتدخَّل تدخُّلاً إيجابيَّاً موجَّهاً في أنْ ينقذ التجربة مِن المزيد مِن الضياع، ومزيد مِن الانحراف والسير في الضلال، ولقد اعترفت تلك الزعامات بدور عليٍّعليه‌السلام الكبير والخطير، كما كان ذلك مِن عمر في أكثر مِن مجال، وأكثر مِن مُناسبة وبأكثر مِن عبارة(1) .

____________________

(1) راجع كتاب عليٌّ والخلفاء.

٦٦

ومِن الأمثلة على ذلك ما واجهته الدولة الإسلاميَّة في عهد عمر، وهو الموقف الـمُتعلِّق بالأرض المفتوحة، وذلك حينما فُتحت العراق ووقع الخلاف بين الصحابة، هل توزَّع أراضي العراق على الـمُجاهدين الـمُقاتلين، أو أنَّها تبقى مِلْكاً عامَّاً للمسلمين؟ وكان أكثرهم يرى توزيعها على الـمُقاتلين فقط، ولو كان ذلك لتشَّكل إقطاع لا نظير له في التاريخ في الـمُجتمع الإسلامي؛ لأنَّ هذا الحكم سوف ينسحب أيضاً على كلِّ الأراضي المفتوحة، بما في ذلك العراق وسوريا وإيران ومصر، فكلُّ أرض مفتوحة توزع على الـمُقاتلين الذين شاركوا في فتحها، وذلك فيه ما فيه مِن الأخطار على الأُمَّة، وابتعادها عن النظام الاقتصادي الإسلامي.

هذا الخطر الذي كان يُهدِّد الدول الإسلاميَّة لم يهتدِ عمر فيه إلى الحَلِّ الصحيح، وبقي مُتحيِّراً في هذه الـمُشكلة، فكان أمير المؤمنينعليه‌السلام هو الذي أنقذ الموقف، وبيَّن وجِهة النظر الإسلاميَّة في الموضوع، وأنقذ الإسلام مِن ذلك الدمار ولكي يطول عمر التجربة الإسلاميَّة(1) .

ولذا نجد المثيل لهذا الموقف في حياة الأئمَّة الآخرين أيضاً، فقد كان أهل البيتعليهم‌السلام يُراقبون الوضع العام للأُمَّة عن كَثب، فمتى ما تعرَّضت الأُمَّة إلى خطر تحرَّكوا لدفع ذلك الخطر مع غَضِّ النظر عن رأيهم في مَن يحُكم المسلمين؛ لأنَّهم لا يُهمُّهم إلاَّ مصلحة الإسلام والمسلمين(2) .

هذا على مُستوى إنقاذ المواقف التي تُهدِّد الأُمَّة وتجربتها بالفَشل.

الـمُستوى الثاني: يتعلَّق ببيان أنَّ الرسالة الإسلاميَّة لا يُمثِّلها الواقع الـمُعاش عقيب وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنَّما يُمثِّلها أهل البيت الذين انصهروا انصهاراً تامَّاً في تلك الرسالة، فقد

____________________

(1) أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف (بتصرُّف).

(2) كموقف الإمام الباقر في تحرير النقد الإسلامي.

٦٧

كانت مواقفهم تُمثِّل الـمُعارضة لذلك الانحراف، والـمُعارضة السِّلميَّة في أكثر الأحيان، وفي أحيان أُخرى تكون مُعارضة عنيفة إذا ما اقتضى الأمر ذلك، حيث لا يُجدي الأُسلوب السِّلمي، فيقف أهل البيتعليهم‌السلام الموقف الذي يُكلِّفهم الكثير مِن التضحيات.

وواصل أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام نشاطهم في تعميق هذا الخطِّ المعارض للواقع الـمُنحرف، وتوضيح مدى الانفصال ما بين الواقع الذي تعيشه الأُمَّة، وبين واقع الرسالة الإسلاميَّة مِن جِهتيها الفكريَّة والعمليَّة، حتَّى بلغت الأُمَّة درجة مِن الانحدار لا يُمكن السكوت عليها، حيث بلغ الانحدار مُستوى يُهدِّد أُسِس الرسالة والـمُقدَّسات الأساسيَّة لوجود الأُمَّة، كأُمَّة مسلمة ذات رسالة سَماويَّة واجبها في الحياة أنْ تُقيم حُكم الله في الأرض.

والدليل على هذا الانحدار قَبول الأُمَّة بقيادة بعيدة كلَّ البُعْد عن روح الرسالة، بأنْ تقبل بقيادة يزيد بن مُعاوية حاكماً على المسلمين باسم الإسلام، ومُمثِّلاً لصاحب الرسالة.

لا شكَّ أنَّ هذا الوضع يُمثِّل نَكسة حضاريَّة خطيرة، تُهدِّد وجود الإسلام ووجود الأُمَّة المسلمة، التي يجب أنْ تكون حياتها محكومة بالإسلام، وليس في الأُمَّة مِن أحد - آنذاك - مَن يضع حَدَّاً لهذا الانحدار، وهذا الانقلاب الحضاري في حياة الأُمَّة إلاَّ سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، عندما أعلن ثورته في وجه النظام الأُموي، مُحاولاً إصلاح وضع الأُمَّة كما قالعليه‌السلام :

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بَطراً، ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن الـمُنكر)(1) .

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص18: هامش 1، وفي ص36 هامش 1.

٦٨

3 - (ومُختلَف الملائكة)

الـمُختلَف هو المكان الذي يُتردَّد عليه ذهاباً وإياباً، ومُختلَف الملائكة هو مَحلُّ تردُّد الملائكة صعوداً ونزولاً، وأهل البيتعليهم‌السلام هُمْ مَحلُّ تردُّد الملائكة.

ومِن كمال البحث أو مِن لوازمه الإشارة إلى دور الملائكة، الذي يتعلَّق بهذا الاختلاف، ودورهم يأتي في مجالين:

أ - الـمَجال التشريعي.

ب - المجال التكويني.

أمَّا دورهم في المجال التشريعي فواضح، وهو نزولهم بالوحي الإلهي على الأنبياء والرُّسل، يحملون الأوامر والنواهي الإلهيَّة.

وأمَّا دورهم في المجال التكويني، فهو كونهم وسائط في التدبير الإلهي لهذا الكون.

قال في الميزان: (وأمَّا وساطتهم في تدبير الأُمور في هذه النشأة، فيدلُّ عليها ما في مُفتَتح هذه السورة - سورة النازعات - مِن إطلاق قوله تعالى:( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (1) .

وكذا قوله تعالى:( جَاعِلِ الـمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) (2) الظاهر بإطلاقه... في أنَّهم خُلقوا وشأنهم أنْ يتوسَّطوا بينه تعالى وبين خلقه، ويُرسَلون لإنفاذ أمره الذي يُستفاد مِن قوله تعالى في صِفتهم:( ... بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ *

____________________

(1) النازعات: 1 - 5.

(2) فاطر: 1.

٦٩

لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (1) ، وقوله تعالى:( يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (2) وفي جعل الجناح لهم إشارة إلى ذلك.

فلا شُغل للملائكة إلاَّ التوسُّط بينه تعالى وبين خلقه بإنفاذ أمره فيهم، وليس ذلك على سبيل الاتِّفاق بأنْ يُجري الله سبحانه أمره بأيديهم، ثمَّ يُجري مِثله لا بتوسيطهم، فلا خلاف ولا تخلُّف في سُنَّته تعالى:( ... إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) وقال تعالى:( ... فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (4) .

ومِن الوساطة كون بعضهم فوق بعض مُقاماً، وأمر العالي منهم السافل بشيء مِن التدبير، فإنَّه في الحقيقة توسُّط مِن المتبوع بينه تعالى وبين تابعه في إيصال أمر الله تعالى، كتوسُّط مَلَك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح مِن الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة:( وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ) (5) ، وقال تعالى:( مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (6) .

ولا يُنافي هذا الذي ذُكر: مِن توسُّطهم بينه تعالى وبين الحوادث، أعني: بكونهم أسباباً تستند إليها الحوادث، لإسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادِّيَّة، فإنَّ السببيَّة طوليَّة لا عَرضيَّة، أيْ: أنَّ السبب القريب سبب للحادث، والسبب البعيد سبب للسبب.

كما لا يُنافي توسُّطهم واستناد الحوادث إليهم، استناد الحوادث إليه تعالى، وكونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبيَّة، فإنَّ السببيَّة طوليَّة - كما سمعت -

____________________

(1) الأنبياء: 26 - 27.

(2) النحل: 50.

(3) هود: 56.

(4) فاطر: 43.

(5) الصافات: 164.

(6) التكوير: 21.

٧٠

لا عَرضيَّة، ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيَّة القريبة، وقد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى أسبابها الطبيعيَّة، كما صدق إسنادها إلى الملائكة...

فمَثل هذه الأشياء في إسنادها إلى أسبابها الـمُترتِّبة - القريبة والبعيدة - وانتهائها إلى الله سبحانه وتعالى بوجه بعيد كمَثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده والقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثُمَّ إلى اليد التي توسَّلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الإنسان الذي توسَّل إليها باليد والقلم، والسببيَّة الحقيقيَّة معناها هو الإنسان الـمُستقلُّ بالسببيَّة مِن غير أنْ يُنافي سببيَّته استناد الكتابة بوجه إلى اليد والقلم(1) .

فاتَّضح مِمَّا تقدَّم دور الملائكة وتبين وظيفتهم في عالم التكوين، وهي التوسُّط في جريان القَدَر والقضاء الإلهيَّين، هكذا أراد الله تعالى وجعل عالم الإمكان على هذا النظام.

أمَّا عَلاقة أهل البيتعليهم‌السلام بهذا الـمُستوى مِن الأُمور الإلهيَّة، هي أنَّهم مَحلُّ اختلاف الملائكة وتردُّدهم بما يحملون مِن أُمور ربَّانيَّة في مجال التكوين.

فالمعصوم في زمانه هو الذي يستقبل ما يحمله الملائكة مِن تقديرات ربَّانيَّة، كما ورد ذلك في شأن ليلة القدر في قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الـمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) (2) .

حيث (نستوحي استمراريَّة ليلة القدر مِن قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الـمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ... ) دون (تَنزل)، فالفعل الـمُضارع يدلُّ على استمراريَّة نزول الملائكة والروح.

فإذاً، ليلة القدر بهذا الاعتبار مُستمرَّة طول الزمن، ومنذ البعثة وإنْ كانت باعتبار نزول

____________________

(1) تفسير الميزان: ج20 ص183 - 184.

(2) القدر: 4.

٧١

القرآن ليلة واحدة بداية البعثة، أو كانت ثلاثاً وعشرين ليلة طول البعثة بالاعتبارين، لكنَّها مُستمرَّة بنزول الملائكة والروح، وعلى حَدِّ تعبير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هي إلى يوم القيامة.

فهلْ تَنزُل الملائكة والروح مِن كلِّ أمر على بقاع الأرض؟ كلا، إنَّما على قلبٍ واعٍ، قلبُ محمدٍ أو قلبٍ محمديٍّ لا سواه، قلبٍ واعٍ ما يتنزَّل عليه مِن كلِّ أمرٍ، لا القلوب المقلوبة وغير الـمُستعدَّة لهكذا نزول هامٍّ في كلِّ سنة. إنَّها القلوب الطاهرة مِن أهل بيت العصمة المحمديِّ دون سواهم، مِمَّن رعاهم وربَّاهم بالوحي، مِن عليٍّ أمير المؤمنين إلى المهديِّ القائم محمد بن الحسن العسكري عليهم أزكى التحيَّة والسلام.

وبهذه المنزلة السامية، تُصبح سورة القدر حاكية عن منزلة أهل بيت العصمة، وهي نسبتهم الروحانيَّة ما أعلاها(1) .

وهناك النصوص العديدة الواردة عنهمعليهم‌السلام التي تُشير إلى هذه الحقيقة.

في تفسير القُمِّي، قيل لأبي جعفرعليه‌السلام : تعرفون ليلة القدر؟

فقالعليه‌السلام : (وكيف لا نعرف ليلة القدر، والملائكة يطوفون بنا فيها)(2) .

وفي التوحيد عن الباقرعليه‌السلام : (إنَّ لله تعالى علماً خاصَّاً وعلماً عامَّاً، فأمَّا العلم الخاصُّ فالعلم الذي لم يُطلِعْ عليه ملائكته الـمُقرَّبين وأنبياءه الـمُرسلين، وأمَّا علمه العامُّ فإنَّه علمه الذي أطلع ملائكته الـمُقرَّبين وأنبياءه الـمُرسلين، وقد وقع إلينا مِن رسول الله)(3) .

____________________

(1) الفُرقان في تفسير القرآن: ج3: ص383 - 385.

(2) تفسير القُمِّي: ج2: ص434.

(3) التوحيد: ص138.

٧٢

4 - (ومَحلُّ الرحمة)

مِن الطبيعي بعدما يكون أهل البيتعليهم‌السلام مِن بيتهم انطلقت النبوَّة، وهُمْ الـمَحلُّ الذي استقرَّت فيه الرسالة بكلِّ أبعادها، وإليهم تختلف الملائكة بما يحملون مِن أُمورٍ إلهيَّة وتكوينيَّة تشريعيَّة، فما داموا قد اجتمعت لهم هذه الجهات، فمِن الطبيعي أنْ يكونوا مَحلُّ الرحمة الإلهيَّة الـمُفاضة مِن مصدر الرَّحمة وهو المبدأ الأعلى تعالى، فهم الوسيلة والقناة الـمُوصلة لهذه الرحمة إلى سائر الخَلْق.

5 - (بنا فتح الله وبنا ختم)

ذكر العلماء في توجيه هذه الجملة، وما في معناها كما في الزيارة الجامعة الكُبرى: (بكم فتح الله وبكم يختم) ذكروا لذلك توجيهاً على مُستويين.

الـمُستوى الأوَّل: أنَّ الـمُراد بالفتح والختم بهم، هو الفتح والختم التكويني، بمعنى أنَّ الله تعالى قد فتح عالم الإمكان بإيجاد أنوارهمعليهم‌السلام ، كما نطق بذلك العديد مِن الروايات، كالحديث الوارد عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قلت: يا رسول الله، أوَّل شيء خَلَقَه ما هو؟

فقال: (نور نبيِّك يا جابر، خَلَقه الله ثمَّ خلق منه كلَّ خير...)(1) .

قال في الميزان بعد ذكره لحديث جابر: (والأخبار في هذه المعاني كثيرة مُتظافرة)(2) . فهم فاتحة الكتاب التكويني، وأنوارهم الـمُقدَّسة هي وسائط الفيض الإلهي، وفي الأخبار أنَّهمعليهم‌السلام (مفاتيح الرحمة، ومفاتيح الجنان، ومفاتيح الحكمة، ومفاتيح الكتاب)(3) .

وكذلك يختم الله تعالى بهم وجود هذه النشأة، وذلك بمهديِّهم أو برجعتهمعليهم‌السلام (في

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ج1: ص121.

(2) الميزان في تفسير القرآن: ج1: ص121.

(3) الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة: ج5: ص222.

٧٣

بصائر الدرجات بإسناده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : (الحُجَّة قَبل الخَلَق، ومع الخَلَق، وبعد الخَلَق)(1) .

ويُفهَم مِن قولهعليه‌السلام : (... وبعد الخلق...) أنَّه تعالى بهم يختم.

الـمُستوى الثاني: هو الفتح والختم التشريعيَّين، بمعنى أنَّ الله تعالى فتح بهم وجود هذه الرسالة ببعثة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويختم بمهديِّهم؛ حيث تتحقَّق على يده الأهداف الإلهيَّة الكُبرى مِن نزول هذه الرسالة، حيث تكون لها السيادة والحاكميَّة الـمُطلقة في العالم، وذلك بقيادتهم وإمامتهم، وهذا ما دلَّت عليه النصوص الواردة مِن طريق الفريقين، التي تتحدَّث عن الإمام المهدي وقيام دولته العالميَّة(2) .

بعد هذه الوقفات القصيرة أمام هذه الخصائص لأهل البيتعليهم‌السلام ، التي جاءت في الإعلان الحُسيني الأوَّل لـمُعارضته للحُكم الأُموي، يتَّضح مُراد سيِّد الشهداء مِن ذكره لهذه الخصائص، فإنَّ هذه الخصائص التي لا يوجد شيء منها في غيرهم، تُحتِّم أنَّ قيادة الأُمَّة لهم وفيهم، فما داموا هُمْ أهل البيت الذي انطلقت منه الرسالة، وهُمْ حَضنتها والحَفظة للشريعة التي تتعلَّق بحياة الأُمَّة، وفي بيتهم وعليهم تتردَّد، وتختلف الملائكة بما يحملون مِن فيوضات إلهيَّة تكويناً وتشريعاً، وهُمْ الذين فتح الله بهم رسالته ويختم أمره بقائمهم، أو رجعتهم فلهم القيادة بِدءاً وختاماً، فكيف لا تكون لهم القيادة البشريَّة ما بين البدء والختام؟!

إلاَّ أنَّ الأُمَّة قد أخطأت حظَّها بتنكُّرها لأهل البيتعليهم‌السلام ، واستبدلتهم بسواهم حتَّى صار أمرها بأيدي عناصر لا تعنيهم كرامة الأُمَّة واستقامتها، لا مِن قريب ولا مِن

____________________

(1) المصدر السابق: ج5: ص222.

(2) يُراجع في ذلك قلائد الدُّرَر، وموسوعة الإمام المهدي، وغيرهما.

٧٤

بعيد، وقد أشار أبو الأحرار في بعض بياناته يوم عاشوراء إلى النَّكسة التي وقعت فيها الأُمَّة، حيث ارتدَّت على أهل بيت نبيِّها تُقاتلهم، قالعليه‌السلام :

(تبَّاً لكم أيَّتها الجماعة وتَرحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سَللتم علينا سَيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوِّنا وعدوِّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاَّ لكم الويلات إذ تركتمونا والسيف مَشيم والجأش طامن والرأي لـمَّا يُستحصَف)(1) .

ولا نعرف فيما يُصيب الأُمم مِن المآسي مأساة آلم وأفجع مِن أنْ ينقلب الإنسان على نفسه، فيؤثِّر ضَرَّه على نفعه، وفساده على صلاحه، ويُحارب أولياءه ويتحبَّب إلى أعدائه... إنَّنا لا نشكُّ أنَّ الأُمَّة تعرَّضت في هذه الفترة لرِدَّة حضاريَّة عجيبة مِن قبيل ما يقول تعالى:( ... أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ... ) (2) .

وآية هذه الرِّدَّة الحضاريَّة التي تنتكس فيها الأُمَّة، هي أنْ يتحوَّل الأولياء في حياة الأُمَّة إلى موضع الأعداء، ويتحوَّل الأعداء إلى موضع الأولياء.

وعندما يتبادل هذان القُطبان(الولاء والبراءة) في حياة الناس مواضعهما، ويأخذ كلٌّ منهما موضع الآخر فإنَّ هذه الأُمَّة تواجِه أمراً يختلف عن أيِّ أمر آخر.

وهذا الأمر هو الانقلاب الحضاري الشامل، أو الرِّدَّة الحضاريَّة إذا كان هذا الانقلاب باتِّجاه رجعيٍّ.

____________________

(1) معالم المدرستين: ج2: ص100. واللهوف: ص58، واللفظ له.

(2) آل عمران: 144.

٧٥

والأُمَّة في هذه الحالة تتنكَّر لنفسها وتنقلب عمَّا هي عليه إلى شيء آخر، فإنَّ هوية الأُمَّة وشخصيَّتها بالولاء والبراءة، وعندما يتحوَّل الولاء إلى موضع البراءة، والبراءة إلى موضع الولاء؛ فإنَّ هذه الأُمَّة تواجه حالة انتكاسة خطيرة، وهذا ما أشار إليه الإمام في خِطابه لجُند بني أُميَّة يوم عاشوراء: (... فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم...)(1) .

____________________

(1) وارث الأنبياء: ص219 - 221.

٧٦

٧٧

القراءة الثانية

في البُعْد السياسي

أ - مصير الخلافة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ب - بين الحسين ويزيد

٧٨

٧٩

أ - مصير الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

تمهيد:

مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإسلام إنَّما جاء ليبني أُمَّة، ويؤسِّس دولة ويوجد حاضرة، فهل مِن الـمَنطق السليم ما يدَّعيه أعداؤه والخارجون عليه مِن أبنائه بقولهم: إنَّ الإسلام ليس فيه نظام سياسي، وإنَّه ما هو إلاَّ عَلاقة روحيَّة صِرفة بين العبد وبين رَبِّه، ولا عَلاقة له بشؤون الحُكم وإدارة حياة الإنسان العامَّة؟

هذه الدعوى إنَّما أوجدها أعداء الإسلام، وصفَّق لها الـمُتأثِّرون بالفِكر المادِّي مِن أبناء الأُمَّة الإسلامية؛ وذلك لإبعاد النظام الإسلامي عن الحياة؛ لكي لا يكون لوجوده أيُّ أثر أو قوَّة في حياة المسلمين، فيمنعهم عن تحقيق ما يَصبون إليه مِن السيطرة على الأُمَّة.

وإلاَّ فكيف يكون الأمر كما يدَّعون، والإسلام هو الدين الكامل الذي لا يدع جانباً مِن جوانب حياة الإنسان - الخاصَّة والعامَّة - إلاَّ وضع لها الأحكام التي تُنظِّم شؤون الإنسان، بما في ذلك نظام الحرب والدفاع والعلاقات العامَّة في الداخل والخارج، مِمَّا يدلُّ على طبيعة التصميم التشريعي للإسلام كدولة؟!

هذا بالإضافة إلى الواقع التنفيذي، الذي عاشه المسلمون في تاريخ الحُكم، حيث لم نجد هناك أيُّ فراغ تشريعيٍّ مِن البناء الكامل للدولة.

ولا نجد أفضل - في مجال تقديم صورة عن ضرورة الدولة الإسلاميَّة مِن الناحية الفقهيَّة - مِن تحليل السيِّد حسين البروجردي (رحمه الله) أحد مراجع التقليد للمسلمين الشيعة

٨٠