قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 45409
تحميل: 4260

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45409 / تحميل: 4260
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإماميَّة في القَرن الرابع عشر الهِجري، قال: (لا يبقى شكٌّ لـمَن تتبَّع قوانين الإسلام وضوابطه، في أنَّه دين سياسيٍّ اجتماعيٍّ، وليست أحكامه مقصورة على العبادات المشروعة لتكميل الأفراد وتأمين السعادة في الآخرة، بلْ يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة الـمُدن، وتنظيم الاجتماع، وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحُسنيِّين ومُرتبطة بالنشأتين، وذلك كأحكام الـمُعاملات والسياسات مِن الحُدود والقِصاص والديَّات، والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليَّات، التي يتوقَّف عليها حِفظ دولة الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوها؛ ولأجل ذلك اتَّفق الخاصَّة والعامَّة، على أنَّه يلزم في مُحيط الإسلام وجود سائس وزعيم يُدبِّر أُمور المسلمين، بلْ هو مِن ضروريَّات الإسلام).

ويقول (رحمه الله) في موضوع آخر: (لا يخفى أنَّ سياسة الـمُدن وتأمين الجِهات الروحانيَّة، والشؤون الـمُرتبطة بتبليغ الأحكام وإرشاد المسلمين، بلْ كانت السياسة فيه مِن الصدر الأوَّل مُختلطة بالديانة ومِن شؤونها، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُدبِّر أُمور المسلمين ويسوسهم، ويُرجَع إليه في فصل الخصومات، ويُنصِّب الحُكَّام للولايات، ويطلب منهم الأخماس والزكوات ونحوهما مِن الماليَّات، وهكذا كانت سيرة الخلفاء مِن بعده مِن الراشدين وغيرهم حتَّى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنَّه بعدما تصدَّى للخلافة الظاهريَّة كان يقوم بأمر المسلمين، ويُنصِّب الأحكام والقُضاة للولايات.

وكانا في بادئ الأمر يعملون بوظائف السياسة في مراكز الإرشاد والهداية كالمساجد، وكان إمام المسجد بنفسه أميراً لهم، وبعد ذلك كانوا يبنون المسجد الجامع قبل دار الإمارة، وكان الخُلفاء والأُمراء بأنفسهم يُقيمون الجماعات والأعياد، بلْ ويُدبِّرون أمر الحَجِّ أيضاً، حيث إنَّ العبادات الثلاث مع كونها عبادات، قد احتوت على فوائد سياسيَّة لا يوجد نظيرها في غيرها، كما لا يخفى على مَن تدبَّر.

٨١

وهذا النحو مِن الخلط بين الجهات الروحيَّة والفوائد السياسيَّة مِن خصائص الإسلام وامتيازاته(1) .

فالإسلام - إذاً - يمتلك النظام السياسي الذي هو الحَلُّ الحاسم لكافَّة مشاكل الإنسان؛ لأنَّه تنظيم الخالق لشؤون وحياة المخلوق؛ لأنَّ الخالق تعالى هو الذي يعلم إيجابيَّات الإنسان وسلبيَّاته ونقاط القوَّة والضعف في وجوده.

ومِن لوازم الكمال في هذا الدين، أنْ يضع الأساسيَّات لمعرفة مَن يقوم بعد غياب صاحب الرسالة بتطبيق هذا النظام الإلهي وتنفيذه، وعلى يَدِ مَن تكون إدارة الحياة العامَّة للأُمَّة المسلمة، وعن أيِّ طريق يتسلَّم ذلك الحاكم شؤون الحُكم.

1 - مدرسة الخُلفاء.

2 - مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام .

ولكلٍّ مِن المدرستين نظريَّتها في أساس الحُكم.

أمَّا مدرسة الخُلفاء، فقد تبنَّت نظريَّة الشورى في اختيار الحاكم بعد الرسول الأعظم، وذلك على الـمُستوى النظري.

وأمَّا مدرسة أهل البيت، فقد اعتمدوا مبدأ النصِّ في تعيين مَن يَشغل الفراغ، الذي تركه فقدان الرسول الأعظم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وعلى هذا الأساس اختلفت المدرستان في حقيقة الإمام والإمامة، فمدرسة الخُلفاء تعتبر الإمامة مِن فروع الدين، التي تُبحث في الكُتب الفقهيَّة، ويُعتبر الإمام كرئيس دولة يُنتخب مِن قِبَل الشعب، أو نوَّاب الأُمَّة، أو يتسلَّط عليها بانقلاب عسكريٍّ، أو ما شابه ذلك.

____________________

(1) الإسلام ومَنطق القوَّة: ص234 وص235.

٨٢

وأمَّا مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، ترى أنَّ الإمامة استمرار لوظائف النبوَّة، والإمام يُمثِّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلِّ أدواره في حياة الأُمَّة، ولا يُستثنى شيء مِن ذلك ما عدا تلقِّي الوحي فقط؛ ولذلك فهي - الإمامة - أصل مِن أُصول الدين في نظر هذه المدرسة. وأمَّا تعيين الإمام والخليفة، فيتمُّ عن طريق النصِّ الإلهي، الذي يُبلِّغه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولسنا في صَدد نظريَّة الشورى، وما يعتمد عليه القائلون بها مِن الأدلَّة أو إثبات مبدأ النَّصِّ، وإنَّما الكلام يدور حول ما تعرَّضت له الخلافة الإسلاميَّة بعد وفاة الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مِن اضطراب وانحراف خطير دفعت الأُمَّة فيه الثمن باهضاً، حيث تحوَّلت الخلافة الإسلاميَّة إلى مُلْك عضوض، انتُهكت فيه كرامة الأُمَّة وحُرمة دينها، وعُمِل فيها بالجور والفساد، وذلك عندما توصَّل الأُمويُّون إلى رأس السلطة.

ولا شكَّ أنَّ نظريَّة الحُكم التي طرحت للأُمَّة عقيب وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت عنوان الشورى، لها أكبر الأثر في سَير الأحداث بِغَضِّ النظر عن نوعيَّة ما حَدَث عمليَّاً، هل كان مبنيَّاً على قاعدة الشورى أم لا؟ فإنَّ للكلام مجالاً واسعاً في ذلك.

(لقد حَدَثت انتكاسة مَريرة في تاريخ هذه الدعوة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستطاعت هذه الفئة الـمُستكبرة والـمُترفة مِن بني أُميَّة، وغيرهم - مِن الذين عادوا الإسلام طويلاً، وحاربوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وألَّبوا الناس عليه - أنْ يستعيدوا مواقعهم ونفوذهم ومركزهم في الـمُجتمع الإسلامي الجديد بعد أنْ عزلتهم الدعوة عن مواقعهم، وجرَّدتهم مِن نفوذهم وسلطانهم، وألغت دورهم السياسي والاجتماعي إلغاءً كاملاً، ومنهم مَن أهدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دَمه، وإذا علمنا أنَّ هذه الانتكاسة كانت في الأدوار الأُولى مِن حياة الدعوة نعرف مَدى خطر عودة هذه الطبقة إلى قِمَّة الهَرم الاجتماعي في الـمُجتمع الإسلامي، والأثر السلبي الذي تتركه في أفكار الدعوة وقيمها وتطوُّراتها وأحكامها.

٨٣

وإذا علمنا أنَّ هذه الفِئة عادت إلى مراكزها الأُولى مِن موقع الخلافة الإسلاميَّة، وما لها مِن قدسيَّة شرعيَّة في نظر المسلمين، وأنَّها حاولت تغيير مفاهيم وتصوُّرات وأحكام الدعوة مِن خلال موقع الخلافة الإسلاميَّة، وما له مِن الشرعيَّة والقوَّة والنفوذ في الـمُجتمع الإسلامي، عرفنا الخطر الذي كان يُهدِّد الرسالة مِن جَرَّاء عودة هذه الطبقة إلى مواقع النفوذ والتأثير في الـمُجتمع)(1) .

ولو بحثنا عن الأسباب التي مَهَّدت لهؤلاء حتَّى وصلوا إلى كرسيِّ الحُكم، لوجدنا أحداث الثلاثين سنة التي تلت وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن أكبر الـمُمهِّدات، وأهمِّ الـمُقدِّمات التي أتاحت للأُمويِّين الوصول إلى أهدافهم؛ لأنَّ مبدأ الشورى الذي مِن الـمُفترض أنْ تُبنى عليه الخلافة - في نظر مدرسة الخُلفاء - كان مُضطرباً اضطراباً واضحاً، بلْ القارئ الـمُنْصف إذا قرأ أحداث تلك الفترة لا يرى قاعدةً واضحةً للشورى.

وكانت الفُرصة الكُبرى للأُمويِّين وصول عثمان إلى مِنبر الخلافة؛ حيث استغلُّوا (ضعف الخليفة الثالث في استعادة كلِّ مواقعهم الاجتماعيَّة والماليَّة والسياسيَّة، التي كانوا يتمتَّعون بها في الجاهليَّة، والتي جرَّدهم الإسلام منها، فوجدوا في مَيل الخليفة إلى أهله وذويه وحُبِّه وإيثاره لهم، وفي ضعفه وكِبَر سِنِّه فُرصة ليستعيدوا ما فقدوا مِن مَكانة وعِزٍّ وسلطان ومال في الإسلام، ووجدوا فيما مَنحهم الخليفة مِن ثقته الـمُطلقة ومِن السلطان والمال ما يكفي لاستعادة عِزِّهم ونفوذهم وسلطانهم في الـمُجتمع الجديد)(2) .

وكان تعيين مُعاوية والياً على الشام مِن قبل الخليفة الثاني، عاملاً مُهَّماً وخطيراً في تحقيق الأهداف الأُمويَّة؛ فإنَّ الخليفة أطلق لـمُعاوية العَنان في ولايته، فكان لا يُحاسبه على شيء أبداً كما كان يُحاسب سائر وِلاته على الأقطار الإسلاميَّة الأُخرى؛ لذلك بقي

____________________

(1) وارث الأنبياء: ص21.

(2) وارث الأنبياء: ص25.

٨٤

مُعاوية طوال مُدَّة ولايته على الشام في عهد الخليفتين الثاني والثالث، بقي يُفكِّر ويُقدِّر كيف ومتى ينقضُّ على كرسيِّ الخلافة، حتَّى إذا قُتل الخليفة الثالث، وجد مُعاوية الباب مفتوحاً للوقوف في وجه الإمام عليٍّعليه‌السلام حيث بويع أمير المؤمنين بالخلافة بعد قتل عثمان، فرفع مُعاوية قميص عثمان وشعار: يا لثارات عثمان.

وكانت نتيجة تلك الأحداث وتلك التناقضات، التي وقع فيها المسلمون آنذاك، والتي لا تعدو كونها إفرازات لما سبقها مِن الأحداث؛ كانت نتيجة لذلك أنْ استطاع مُعاوية الوصول إلى السلطة الـمُطلَقة على المسلمين، وبدأ يدعم سُلطانه ودولته باسم الكتاب والسُّنَّة، فسخَّر عناصر خاصَّة مُهمَّتها تحوير الفكر القرآني، ووضع النصوص على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي تأمر بالطاعة العمياء، والخضوع الغير المشروط لكلِّ مَن وصل إلى كرسيِّ الحُكم، كائناً مَن كان.

فقد فسَّروا قوله تعالى:( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ... ) (1) بالمعنى الذي يخدم الأُمويِّين وأمثالهم، فقالوا: إنَّ الـمُراد مِن( ... الأَمْرِ مِنكُمْ... ) في الآية كلُّ مَن تسلَّط على رقاب المسلمين، بأيِّ طريق كان، ومَهْما كانت سيرته.

ووضعت الأحاديث التي تدعم هذا التفسير، وإليك بعضاً مِن تلك الأحاديث:

1 - صحيح مسلم: قال حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا بشرٍّ، فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل مِن وراء هذا الخير شرٌّ؟

قال:(نعم) . قلت: هل وراء ذلك الشرُّ خيرٌ؟ قال:(نعم) . قلت: فهل وراء ذلك الخير شرٌّ؟ قال:(نعم) . قلت: كيف؟ قال:(يكون بعدي أئمَّة لا يهتدون بهُداي، ولا يستنُّون بسُنَّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس) .

قال: قلت: كيف أصنع - يا رسول الله - إنْ

____________________

(1) النساء: 59.

٨٥

أدركت ذلك؟

قال:(تسمع وتُطيع للأمير، وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطِع) (1) .

2 - صحيح مسلم: عن ابن عباس يرويه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [ وآله ] وسلَّم):(مَن رأى مِن أميرٍ شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنَّه مَن فارق الجماعة شِبْراً فمات فميتة جاهليَّة) (2) .

3 - صحيح مسلم: عرفجة قال: شمعت رسول الله (صلى الله عليه و[ وآله ] وسلَّم) يقول:(مَن أتاكم وأمركم جَمعٌ على رجل واحد يُريد أنْ يشقَّ عصاكم أو يُفرِّق جماعتكم فاقتلوه) (3) .

4 - صحيح مسلم: سأل سلمة بن يزيد الجُعفي رسول الله (صلى لله عليه [ وآله ] وسلَّم) فقال: يا رسول الله، أرأيت إنْ قامت علينا أُمراء يسألوننا حَقَّهم ويمنعوننا حَقَّنا فما تأمرنا، فأعرض عنه، ثمَّ سأله فأعرض عنه، ثمَّ سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس وقال: اسمعوا وأطيعوا فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم(4) .

ولا شكَّ أنَّ هذه النصوص، وهذا النوع مِن الفكر صريحة التناقض مع صريح القرآن الكريم ونظرة الإسلام للتعامل مع الظلم والظالمين، (فإنَّ القرآن يُحرِّم الركون إلى الظالمين والانصياع لهم ومودَّتهم وموالاتهم بصراحة؛ لقوله تعالى:( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) (5) .

فالآية تنهى عن مُطلق الركون - وهو الـمَيْل والسكون - إلى الظالمين، مُطلق

____________________

(1) صحيح مسلم: ج6: ص20 المجلد الثالث.

(2) صحيح مسلم: ج6: ص21 المجلد الثالث.

(3) صحيح مسلم: ج6: ص23 المجلد الثالث.

(4) صحيح مسلم: ج6: ص19 المجلد الثالث.

(5) هود: 113.

٨٦

الظالمين؛ كي لا يتفشَّى الظلم في جسم الأُمَّة وحياتها، أو تستسلم لحالة مِن حالات الجور مِن أيِّ فرد مِن الناس، كافراً كان أو مسلماً، حاكماً كان أو محكوماً.

ولكنْ برغم هذه الصراحة والوضوح لمعنى الآية، نجد بصمات ذلك الفكر التبريري واضحة على بعض التفاسير، فهذا صاحب المنار يرى أنَّ الـمُراد مِن الظالمين خصوص الكفَّار والـمُشركين.

يقول السيِّد الطباطبائي في مُناقشته لهذا الرأي: أيُّ مانعٍ يمنع الآية أنْ تشمل الظالمين مِن هذه الأُمَّة، وفيهم مَن هو أشقى مِن جَبابرة عادٍ وثمود، وأطغى مِن فرعون وقارون، ومُجرَّد كون الإسلام عند نزول السورة مُبتلى بقريش ومُشركي مَكَّة وحواليها لا يوجب تخصيصها في اللفظ، فإنَّ خصوص المورد لا يُخصصِّ عموم اللفظ، والآية تنهى عن الركون إلى كلِّ مَن اتَّسم بِسِمة الظلم، مُشركاً أو موحداً، مسلماً أو مِن أهل الكتاب(1) .

فلعلَّ صاحب المنار في تخصيصه للآية بالـمُشركين، كان مُتأثِّراً بتلك الروايات التبريريَّة التي مرّ بعضها؛ لأنَّه لا يستطيع ردها؛ لأنَّها ورادة في الصِّحاح، وهو السبب الوحيد لذلك.

وكذلك نرى آثار هذا الفكر بارزاً حتَّى على الـمَجال الفقهي في مدرسة الخُلفاء، قال الباقلاَّني: لا ينخلع الإمام لفِسقه وظلمه، بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس الـمُحرَّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه(2) .

وقال التفتازاني: ولا ينعزل الإمام بالفِسق، أو الخروج عن طاعة الله والجور، أيْ: الظلم على عباد الله؛ لأنَّه قد ظهر الفِسق وانتشر الجور مِن الأئمَّة والأُمراء بعد الخُلفاء

____________________

(1) تفسير الميزان: ج11: ص54.

(2) تفسير الميزان: ج11: ص54.

٨٧

الراشدين، والسلف كانوا ينقادون لهم ويُقيمون الجُمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ونقل عن كُتب الشافعيَّة أنَّ القاضي ينعزل بالفِسق بخلاف الإمام، والفَرق في انعزاله ووجوب نصب غيره، إثارة للفتنة لما له مِن الشَّوكة بخلاف القاضي(1) .

والعجيب أنَّهم اعتبروا ذلك الواقع الـمُنحرف مدركاً فقهيَّاً في حُرمة مُقاومة الحاكم الجائر، كما في صريح عبارات التفتازاني.

ومتى أصبح هذا الفكر جزءاً مِن ثقافة الأُمَّة وعقيدتها؛ فإنَّها سوف تعيش حالة الاستسلام للجور والظلم، ولم تَعْد تتحرَّك لإنكار أيِّ شَكْلٍ مِن أشكال الظلم يصبُّ عليها؛ لأنَّها تثقَّفت بثقافة التخدير والتبرير، بلْ وترى الوقوف في وجه الظالم نوعاً مِن الخروج على قوانين الشريعة، وهذا ما صار إليه حال الأُمَّة في عهد الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ حيث أصبحت الأُمَّة مِن جرَّاء ذلك تعيش حالة مِن موت الضمير وفقدان الإرادة، فاحتاجت إلى هَزَّة عنيفة؛ لتُفيق مِن ذلك السُّبات وتعود لها إرادتها، واحتاج ذلك القِناع إلى مَن يكشف زيفه وباطله، فقام أبو الأحرار بثورته وأعلنها صريحة للأُمَّة قائلاً: (أيُّها الناس، إنَّ رسول الله قال: مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستحلَّاً لحُرَمِ الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالفاً لسُنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا بقول؛ كان حَقَّاً على الله أنْ يُدخله مُدخله. ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَن غيَّر)(2) .

____________________

(1) الإلهيَّات: ج2: ص516، نقلاً عن التمهيد للباقلاَّني.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص27: هامش 1.

٨٨

الحسين في عهد مُعاوية

في ظروف تلك المِحنة التي قاساها الإمام الحسنعليه‌السلام ، والتي ألجأته إلى مُهادنة خصمه اللَّدود مُعاوية، تلك المِحنة التي تتكوَّن مِن جانبين:

الجانب الأوَّل: يتمثَّل في خَصْمٍ لا يتورَّع عن استخدام أيَّة وسيلة للوصل إلى غاياته، مَهْما كانت تلك الوسيلة هزيلة ودنيئة.

والجانب الثاني - مِن مِحنتهعليه‌السلام -: يتمثَّل في اختلاف وتعدُّد عناصر الـمُجتمع الذي كان محسوباً على الإمام، والذي تشكَّل منه ذلك الجيش الذي خرج معهعليه‌السلام لمواجهة مُعاوية، وهو يحمل - أيْ الجيش - مُختلَف الاتِّجاهات والتناقضات؛ مِمَّا سبَّب أزمة مُعقَّدة للإمام تيقَّن عندها أنَّه لو واجه مُعاوية عسكريَّاً - مع تلك الـمُلابسات والتناقضات - لأدَّى ذلك إلى هدم قاعدة أهل البيتعليهم‌السلام ، التي تُمثِّل الخَطَّ الـمُعارض لخطِّ الانحراف الأُموي، فاضطرَّ الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام إلى الانسحاب والـمُهادنة المؤقَّتة؛ حفاظاً على هذه القاعدة والانتظار إلى الظرف الـمُناسب للمواجهة الـمُسلَّحة، سواء ذلك تحت قيادته هو أم تحت قيادة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام .

وقد استغلَّ مُعاوية حِلم الإمام الحسنعليه‌السلام ليتمادى في غَيِّه ويزيد في تجاوزاته وتعدِّياته، فخطَّط لذلك خُططاً تؤدِّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام وضرب قواعده، بدأ بتحريف الحقائق، ونشر البِدع، ومنع الحديث النبوي، وإبطال السُّنَّة في بلاط الأُمراء والحُكَّام، ثمَّ مُحاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلاميَّة الواسعة، لكنَّ الذي يمنعه وجود الأعداد الكبيرة مِن أنصار الحَقِّ وأعوان الإمام عليعليه‌السلام ، الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسنعليه‌السلام بمُخطَّطه العظيم ومواقفه الصائبة(1) .

____________________

(1) الإلهيَّات: ج2: ص516، نقلاً عن التمهيد للباقلاَّني.

٨٩

في هذه الظروف الصعبة والمِحنة الضيِّقة، كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام شريكاً لأخيه في مواقفه يُشاطره آلام مِحنته، حتَّى التحق الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام بالرفيق الأعلى، بقي أبو عبد الله يواجه ذلك الظرف الصعب، ويُمهِّد الأرضيَّة للمواجهة الكُبرى، يُمهِّد لذلك بالمواقف والمواجهات التي تكشف عورات النظام وجرائمه، حتَّى يأتي اليوم الذي يُعلن فيه ثورته الـمُقدَّسة.

وقد سجَّل أبو عبد الله مواقف في عهد مُعاوية، كشف فيها مفاسد النظام الأُموي وانحرافاته، ومِن أهمِّ مواقف الإمام في هذا الظرف موقفه في مِنى، وذلك قبل موت مُعاوية بسنتين حَجَّ الحسين بن عليعليه‌السلام ، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس معه، وقد جمع الحسين بن عليعليه‌السلام بني هاشم رجالهم ونساءهم، ومواليهم وشيعتهم مِن حَجَّ منهم ومَن لم يحَجَّ ومِن الأنصار مِمَّن يعرفه وأهل بيته، ثمَّ لم يدع أحداً مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومِن أبنائهم والتابعين، ومِن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاَّ جمعهم، فاجتمع عليه بمِنى أكثر مِن ألف رجلٍ(1) .

وتبرز أهميَّة هذا المؤتمر الذي عقده سيِّد الشهداءعليه‌السلام بملاحظة ما يلي:

أوَّلاً: نظراً لاشتماله على مُختلف الفئات والعديد مِن الطبقات، مِمَّن يُعتبرون نُخبَة الأُمَّة، وأصحاب الرأي فيها، وأهل الحَلِّ والعقد، كشخصيَّات الهاشميِّين ومَن يُدينون لهم بالولاء، وفِئة مِن الصحابة مِن الـمُهاجرين والأنصار، والتابعين الذين لا يُمكن إغفال رأيهم وتجاوز وجهات نظرهم، فيما يرجع إلى قضايا الأُمَّة المصيريَّة.

ثانياً: نظراً لأهميَّة الزمان والمكان الذي وقع فيهما هذا المؤتمر الشعبي، فأمَّا الزمان فهو موسم الحَجِّ، وأمَّا المكان فهي أرض مِنى؛ ليكون لهذا التجمُّع الكبير أثره وصداه

____________________

(1) الحسين سِماته وسيرته: ص103.

٩٠

في سائر البلاد الإسلاميَّة، بعد رجوع الحُجَّاج إلى بُلدانهم وتحدُّثهم عمَّا جرى في هذا المؤتمر الذي عقده أبو عبد اللهعليه‌السلام .

وكان خطاب الإمام في ذلك اليوم مُطوَّلاً وشاملاً، وقد جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه بأنْ قالعليه‌السلام :

(أمَّا بعد، فإنَّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنِّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء، فإنْ صَدقت قصدِّقوني، وإنْ كَذبت فكذِّبوني، اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمَن آمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِن حَقِّنا، فإنِّي أتخوَّف أنْ يُدرس هذا الأمر ويُذبَّ الحَقَّ ويُغلَب( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) . أُنشدكم الله، أتعلمون أنَّ علي بن أبي طالب كان أخا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟).

قالوا: اللَّهمَّ نعم(2) .

واصل الإمام حديثه يُعدِّد فضائل أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام وما نزل فيه مِن الآيات، وما جاء في حَقِّهم جميعاًعليهم‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما نزل فيهم مِن آيات القرآن مُستشهداً الحضور على ذلك، وهم يجيبونه بقولهم: (اللَّهمَّ نعم).

____________________

(1) الاحتجاج للطبرسي: ج2: ص18، وقريب منه في كتاب سليم بن قيس: ج2: ص789: حديث 26.

(2) كتاب سليم بن قيس: ج2: ص790: حديث 26، وبحار الأنوار: ج33: ص182.

٩١

وانتقل بعد ذلك إلى تشخيص المسؤوليَّة الـمُلقاة على عاتق الأُمَّة - ولا سيَّما هذه النُّخبة الـمُجتمِعة - تجاه ذلك الانحراف الذي يُهدِّد قواعد الإسلام، موضِّحاً الكثير مِن مظاهر ذلك الفساد الـمُستشري.

فقالعليه‌السلام : (اعتبروا أيُّها الناس بما وَعظ الله به أولياءه مِن سوء ثنائه الأحبار؛ إذ يقول:( لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ... ) (1) ، وقال:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله: -لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) (2) .

وإنَّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنَّهم كانوا يرون مِن الظلمة الذين بين أظهرهم الـمُنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيا كانوا ينالون منهم ورهبة ممَّا يحذرون، والله يقول:( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) (3) ، وقال:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (4) ، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنَّها إذا أُدِّيت وأُقيمت استقامت الفرائص كلُّها هيِّنها وصعبها؛ وذلك أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر دعاءً إلى الإسلام، مع ردِّ المظالم، ومُخالفة الظالم، وقِسمة الفيء والغنائم، وأخذ

____________________

(1) المائدة: 63.

(2) المائدة: 78 - 79.

(3) المائدة: 44.

(4) التوبة: 71.

٩٢

الصدقات مِن مواضعها ووضعها في حقِّها.

ثمَّ أنتم أيَّتها العُصابة، عُصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، والنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف، ويُكرمكم الضعيف، ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه ولا يَد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِن طلاَّبها، وتمشون في الطريق بهيبة الـمُلوك وكرامة الأكابر. أليس كلَّ ذلك إنَّما نلتموه بما يُرجى عندكم مِن القيام بحَقِّ الله، وإنْ كنتم عن أكثر حَقِّه تقصرون، فاستخففتم بحَقِّ الأئمَّة، فأمَّا حَقُّ الضعفاء فضيَّعتم، وأمَّا حَقِّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله، أنتم تتمنُّون على الله جَنَّته ومُجاورة رُسُله وأماناً مِن عذابه، لقد خشيتُ عليكم - أيُّها الـمُتمنُّون على الله - أنْ تحلَّ بكم نِقمة مِن نقماته؛ لأنَّكم بلغتم مِن كرامة الله منزلة فُضِّلتم بها، ومَن يُعرف بالله لا تكرمون وأنتم بالله في عباده تُكرَمون.

وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذِمم آبائكم تفزعون، وذِمَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَحقورة والعُمي والبُكَّم والزمَّن في المدائن مُهمَلة لا ترحمون، ولا في منزلتكم

٩٣

تعملون، ولا مَن عَمِل فيها تعنون وبالادِّهان والـمُصانعة عند الظلمة تأمنون، كلُّ ذلك مِمَّا أمركم الله به مِن النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.

وأنتم أعظم الناس مُصيبة لما غلبتم عليه مِن منازل العلماء لو كنتم تسعون (تسمعون)، ذلك بأنَّ مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأُمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلاَّ بتفرُّقكم عن الحَقِّ واختلافكم في السُّنَّة بعد البيِّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمَّلتم المؤونة في ذات الله كانت أُمور الله عليكم تردُ، وعندكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنَّكم مَكَّنتم الظلمة مِن منزلتكم، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم يعملون بالشُّبهات، ويسيرون في الشَّهوات، سلَّطهم على ذلك فِراركم مِن الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مُفارِقتكم، فأسلمتم الضُّعفاء في أيديهم، فمِن بين مُستعبَد مقهور، وبين مُستضعَف على معيشته مغلوب، يتقلَّبون في الـمُلك بآرائهم ويستشعرون الخِزي بأهوائهم، اقتداءً بالأعراب وجرأة على الجبَّار، في كلِّ بلدٍ منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خَوَل لا يدفعون يد لامسٍ، فمِن بين

٩٤

جَبَّار عنيد، وذي سَطوة على الضَّعفة شديد، مُطاع لا يعرف الـمُبدئ الـمُعيد.

فيا عجباً وما لي لا أعجب؛ والأرض مِن غاشٍّ غشوم ومُتسلِّطٍ ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحُكمه فيما شجر بيننا.

اللَّهمَّ، إنَّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان مِنَّا تنافساً في سُلطان، ولا التماساً مِن فضول الحِطام، ولكنْ لنُري المعالم مِن دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون مِن عبادك، ويعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك، فإنَّكم إلاَّ تنصرونا وتُنصفونا، قَوْيَ الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيِّكم، وحَسْبُنا الله وعليه توكَّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير)(1) .

ما أوضح الصورة وأدقُّ التشخيص، الذي عرضه أبو عبد اللهعليه‌السلام لأساس الـمُشكلة التي تُعانيها الأُمَّة في كلِّ أبعادها وآثارها، حيث تبيَّن أنَّ الأُمويين لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه مِن التسلُّط الـمُطلَق على رقاب الناس، فساروا فيهم بالجور والظلم والفساد.. لم يحدث ذلك لو أنَّ الأُمَّة قامت بمسؤوليَّتها الشرعيَّة لا سِيَّما النُّخبة العلميَّة والـمُثقَّفة منها، الذين أشاروا أبو عبد اللهعليه‌السلام إلى مكانتهم الـمُتميِّزة في نفوس المسلمين، حيث كان الناس ينظرون إليهم نظرة التقديس والإجلال؛ لمكانتهم العلميَّة والدينيَّة، إلاَّ أنَّهم لم يكونوا على مُستوى المسؤوليَّة، بلْ كانوا يؤثِرون حياة الدِّعَة والاستسلام

____________________

(1) تحف العقول ص171 - 172، طبع الأعلمي، وبحار الأنوار: ج79: ص79 - 80.

٩٥

حتَّى لو كان ذلك على حساب كرامتهم ودينهم وأُمَّتهم.

فأراد أبو عبد الله مِن خلال خطابه هذا، أنْ يُحذِّرهم ويُحذِّر سائر الأُمَّة مِن نتائج هذا الموقف، الذي هو في حقيقته دعم وإسناد للظالمين ليتمادوا في جورهم وطغيانهم، حيث كانوا لا يرقبون في أحد إلاًّ ولا ذِمَّة، فلا خلاص مِن هؤلاء إلاَّ بقيام الأُمَّة بواجبها الشرعي، مِن الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر.

إنَّ هذا الموقف يُعتبر أقوى مُعارضة علنيَّة، أقدم عليها الحسينعليه‌السلام في مواجهة مُعاوية وإجراءاته الخطرة، التي دأب - طول حُكمه - بعد استيلائه على أريكة الحُكم في سنة 40 للهِجرة، على العمل بكلِّ دهاء وتدبير لتأسيس دولته الـمُنحرفة عنه سُنن الهُدى والصلاح والتُّقى، فحاول في الرِّدَّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهليَّة الأُولى، مِن الظلم والعصبيَّة والتجسيم لله والقول بالجبر والإرجاء، وما إلى ذلك مِن الأفكار التي تؤدِّي إلى تحميق الناس، وإخماد جَذوة الحركة الثوريَّة الإسلاميَّة والتوحيديَّة الإصلاحيَّة(1) .

ولم يكن في حُسبان الإمام الحسينعليه‌السلام القيام بثورته في مواجهة النظام في عهد معاوية؛ لأنَّ الإمام قد شخَّص الظروف الموضوعيَّة آنذاك، فرآها لا تُساعد على القيام بثورته العلنيَّة؛ لما أحدثه مُعاوية مِن التضليل للأُمَّة في إبراز شخصيَّته ونظامه بالصورة التي ألبسها لباس الدين، وأنَّه يُمثِّل ظِلَّ الله في أرضه، وهو خليفته على عباده، فلو أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قام بثورته في مِثل تلك الظروف لما آتت نتائجها وآثارها التي تركتها لأجيال الأُمَّة.

فرأى أبو الأحرار أنْ لا بُدَّ مِن الانتظار، ريثما تتهيَّأ الظروف الموضوعيَّة للمواجهة الكُبرى بالثورة الـمُقدَّسة، فكان الموقف الـمُناسب في حياة مُعاوية هو المواجهة

____________________

(1) الحسين سٍماته وسيرته: ص112.

٩٦

الإعلاميَّة ومُحاولة تمزيق ذلك الغِشاء المموَّه الخادع، الذي ألبسه مُعاوية نفسه ونظامه، حتَّى إذا هلك مُعاوية أصبح الظرف مُناسباً للثورة، فأعلنها أبو عبد الله في وجه يزيد بن مُعاوية مِن أجل إصلاح الأُمَّة وإرجاعها إلى خَطِّ الإسلام الصحيح، وهذا ما ضمَّنه بيانه الأوَّل في وصيَّته لأخيه محمد بن الحنفية، فقالعليه‌السلام :

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن الـمُنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبِلَني بقبول الحَقِّ فالله أولى بالحَقِّ، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحَقِّ وهو خير الحاكمين)(1) .

الهَدَف الأساسي للثورة:

هناك إشكاليَّة مطروحة، وسؤال كثيراً ما يتردَّد على الألسُن وفي الأذهان، وهو: ما هو الهدف الذي كان الإمام الحسين يُريد تحقيقه مِن ثورته الـمُقدَّسة؟

وبصيغة أُخرى: ما هو الباعث الأساسي لأبي الأحرار حتَّى قام بهذه الثورة؟ فهل كان يُخطِّط مِن أجل الإطاحة بدولة يزيد بن مُعاوية وتولِّي مقاليد الحُكم؛ ليصبح على رأس دولة باسم أهل البيتعليهم‌السلام ، إلاَّ أنَّه لم يوفَّق في ذلك، ولم تنجح ثورته وخَسِر موقفه، وصارت النتيجة أنْ قُتِل هو ومَن معه، أم أنَّ الإمامعليه‌السلام كان لديه هدف آخر غير الوصول إلى كرسيِّ الحُكم، وكان التخطيط الذي سلكه أبو عبد الله يتناسب مع ذلك الهدف الذي يُريد الوصول إليه، وأنَّه قد حقَّق هدفه بالفعل وبنجاح باهر؟

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص18: هامش 1، وفي: ص36: هامش 1.

٩٧

وقبل الخوض في مُحاولة الإجابة على هذا التساؤل، نطرح هذا السؤال الـمُفترض، لو فُرِض أنَّ الإمام الحسين إنَّما قام مُطالباً بالحُكم، ويُريد أنْ تكون مقاليد الحُكم بيده وبِغَضِّ النظر عن الظروف الموضوعيَّة التي كانت تحفُّ بالإمام، هل كان هذا الهدف مُخلَّاً بمكانة الإمام وقداسته وأهدافه النبيلة، وهل كان يُريد الحُكم - على الفرض - مِن أجل الحُكم، أمْ أنَّه يُريد الحُكم وسيلة إلى تحقيق الهدف الإلهي وهو إقامة حُكم الله في الأرض؟

إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يحمل الروح والأهداف التي كان يحملها أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنَّ علياً حينما بويع بالخلافة بعد قتل عثمان وأصبح الحُكم بيده، نراه خاض في فترة حُكمه القصيرة ثلاثة حروب قد فُرٍضت عليه. فهل كان بهذه الحروب يُدافع عن الحُكم بما هو حُكم لا غير، أم أنَّه يُريد بذلك دفع الباطل، وتصحيح الانحراف الذي وقعت فيه الأُمَّة بما في ذلك طريقة الحُكم، وذلك عن طريق بقائه في موقع السلطة؛ ليعطي نموذجاً للحاكم القرآني؟

قال عبد الله بن عباس (رضي الله عنه): دخلت على أمير المؤمنينعليه‌السلام بذي قار وهو يَخصف نعله، فقال لي: (ما قيمة هذا النعل؟).

فقلت: لا قيمة له.

فقالعليه‌السلام : (والله، لهي أحبُّ إليَّ مِن أُمرتكم، إلاَّ أنْ أُقيم حَقَّاً أو أُزهِق باطلاً)(1) .

وقالعليه‌السلام موضِّحاً هدفه مِن صراعه مع مُعارضيه، وغايته مِن بقائه في الحُكم: (اللَّهمَّ، إنَّك تعلم أنَّه لم يكن الذي كان مِنَّا مُنافسة في سُلطان، ولا التماس شيء مِن فُضول الحِطام، ولكنْ لنرُدَّ المعالم مِن دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك؛ فيأمن المظلومون مِن عبادك وتُقام الـمُعطَّلة مِن حُدودك)(2) .

وهذا مبدأ أهل البيتعليهم‌السلام لا يشذُّ عنه منهم أحد؛ لذا نجد نفس المنطق في العبارات

____________________

(1) نهج البلاغة: ج1 رقم القطعة 33: ص76، صُبحي الصالح.

(2) نهج البلاغة، قطعة رقم 131، صبحي الصالح.

٩٨

السابقة عن عليٍّعليه‌السلام واضحاً في تصريحات أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، كمْ مَرَّ في خطابه في مِنى حينما قال:

(اللَّهمَّ، إنَّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان مِنَّا تنافساً في سُلطان ولا التماساً مِن فُضول الحِطام، ولكنْ لنري المعالم مِن دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون مِن عبادك، ويُعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك)(1) .

فعلى فرض الوصول إلى السلطة، كان الهدف الأوَّل للحسينعليه‌السلام مِن نهضته لم يكن ذلك مُزرياً بالإمامعليه‌السلام ، فإنَّه يرى نفسه ويراه كافَّة المسلمين الـمُنصفين أنَّه هو الأَوْلى - بعد أبيه وأخيه - بخلافة رسول الله وحُكم الأُمَّة مِن أيِّ شخصٍ آخر مِن المسلمين. وعلى كلِّ المقاييس، فكيف لا يكون أوْلى بذلك مِن يزيد بن مُعاوية، الذي لا يعتمد في حكمه على قاعدة شرعيَّة، وإنَّما فُرِض على رقاب المسلمين بقوَّة السلاح والمال؟

وقد تبنَّى البعض مِن الـمُؤرِّخين والباحثين هذا التفسير لبواعث الثورة الحسينيَّة - أعني هدف الوصول إلى الحُكم - مُستدلِّين ببعض التصريحات التي صرَّح بها الإمام في مسيرته الثوريَّة، كقولهعليه‌السلام :

(إنِّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جدّي رسول الله أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب)(2) .

____________________

(1) تقدَّمت مصادره في: ص96: هامش 1.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص18: هامش 1، وفي: ص36: هامش 1.

٩٩

حيث لا يُمكن للإمام الحسينعليه‌السلام أنْ يقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر، الذي تعني التغيير الشامل لأوضاع الأُمَّة ما لم يتسلَّم مقاليد السُّلطة، وكذلك لا يُمكنه أنْ يقوم بإعادة سيرة جَدِّه رسول الله وأبيه أمير المؤمنين، إلاَّ مِن خلال استيلائه على الحُكم، فالظاهر مِن هذا البيان أو هذه الوصيَّة أنَّ هدف الإمام هو الوصول إلى كرسيِّ الحُكم.

كذلك يظهر مِن استجابته لأهل الكوفة في رسائلهم إليه، وإرساله مسلم بن عقيل، وتعامل مسلم مع الأحداث في بداية الموقف، وإرسال مسلم إلى الحسين يُخبره بمسيرة الأحداث، ويدعوه إلى المسير نحو الكوفة، كلُّ ذلك مؤشِّرات - عند مَن يرى هذا التفسير - إلى أنَّ الإمامعليه‌السلام يهدف أوَّلاً وبالذات الوصول إلى القيادة السياسيَّة للأُمَّة، إلاَّ أنَّ انقلاب الأحداث في الكوفة على أثر وصول ابن زياد إليها أحدث النَّكْسة، ولم يستطع سيِّد الشهداء أنْ يُحقِّق هدفه الأوَّليَّ، وحدث البديل وهو التضحية والشهادة.

بهذه القراءة فسَّرت الثورة الحسينيَّة لدى بعض الباحثين، إلاَّ أنَّ القارئ الـمُتأمِّل قراءة شاملة لـمُقدَّمات الثورة وبياناتها وأحداثها، لا يكاد يقنع بهذه القراءة وهذا التفسير؛ وذلك لما يلي:

أوَّلاً: إذا ما لاحظنا النصوص العديدة، التي وردت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي تُشير إلى شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام وتضحيته، والتي وردت في مصادر المسلمين، وإليك بعضاً منها:

أ - روي عن أنس بن الحرث الكاهلي - وهو مِن صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد شَهِد معه بدراً وحُنيناً، وقد استُشهد مع الحسينعليه‌السلام - أنَّه سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنَّ ابني هذا -يعني: الحسين - يُقتل بأرض كربلاء، فمَن شَهِد ذلك منكم فلينصره)(1) .

____________________

(1) كنز العمَّال للهندي والسيوطي في اللآلئ المصنوعة1: 203.

١٠٠