فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 57922
تحميل: 6888

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57922 / تحميل: 6888
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وسفاسفها، ورَفرفات روحه نحو الملأ الأعلى... وغيرها من المفاهيم الراقية المؤثّرة في رقيّ سلوكه وتعامله... هذه المفاهيم تتزوّد بحيويّة خاصّة من فريضة الصلاة اليوميّة.

وهل أبلغ في جعل الغيب مجسّداً - يحسّه الناس ويتعاملون معه - من عملية الصلاة الواعية وأفقها الشاسع، التي يجعلها الإسلام مظهراً يوميّاً لحياة المسلم والمجتمع الإسلامي، فتُبنى لأجلها المساجد، وتُترك لأدائها الأعمال، وتقسّم بموجبها الأوقات، ويُتطهّر لأجلها بالماء... وتؤدّى باستمرار في وسط النهار وأطرافه...

إنّ الصلاة هي: الإصرار الواعي والمعالجة المستمرّة للنفس البشريّة، من أجل أن تتحرّر من الاستغراق في المتاع القريب، وتوسّع أفقها الزماني والمكاني، لتكون على مستوى حاجاتها الفعليّة والمستقبليّة على الأرض وفي الآخرة، إنّها استمداد المحدود من المطلق، حياة وسِعةٌ في أبعاد ذاته وزمانه ومكانه...

وهي بالتّالي ظاهرة من معالم الحضارة المتميّزة التي يدعو الإسلام لبنائها على الأرض، ممتدّة بأفقها إلى جميع الناس، وإلى مستقبل الأجيال على الأرض، ومستقبل الناس في الحياة الآخرة.

وأيّ شيء يفي بالتحسيس على الغيب كالصلاة... هذه الدقائق العميقة الثريّة... الميسّرة لكلّ الناس.

٤١

الفصل الثاني

الصّلاة في القرآن الكريم

* تقسيم النصوص القرآنية في الصّلاة

* فرض الصّلاة ووجوبها

* توقيت الصّلاة وعددها

* إقامة الصّلاة

* التوجّه شطرَ المسجد الحرام

* قرْن الصّلاة بالإيمان والزكاة

* الاصطبار والمحافظة على الصّلاة

* الإعداد للصّلاة بالتطّهر

* نهي الصّلاة عن الفحشاء والمنكر

* معالجة الصّلاة للهلع في الشخصيّة

* صلاة الكُسالى، وتضييع الصّلاة

٤٢

تقسيم النصوص القرآنية في الصّلاة

للصلاة في القرآن الكريم موقع بارز بين أوليّات الفرائص الإسلامية، حيث تجد عشرات الآيات نزلت في هذه الفريضة، أو ذكرتها تشريعاً وتأكيداً وإيضاحاً لآثارها، ومدحاً لمُقيميها وذمّاً لتاركيها.

والطريقة المفيدة لموضوعنا في دراسة هذه الآيات الكريمة، أن نقسّمها من حيث المضمون، ثمّ ندرس الأقسام المتحصّلة منها.

ونظراً لأنّنا في فصل (الصلاة في السنّة) سنتّبع نفس الأسلوب، ونظراً لوجود مضامين مشتركة بين الفصلين... فسنلتزم في هذا الفصل بتأييد المضامين القرآنية بمضامين السنّة المُرادفة، لكي يختصّ الفصل القادم بالمضامين التي تنفرّد بها السنّة عن القرآن الكريم تقريباً.

والمتحصّل من الآيات القرآنية في الصلاة هو الأقسام أو المضامين التالية:

* فرض الصّلاة ووجوبها

* توقيت الصّلاة وعددها

* إقامة الصّلاة

* التوجّه شطرَ المسجد الحرام

* قَرْن الصّلاة بالإيمان والزكاة

* الاصطبار والمحافظة على الصّلاة

* الإعداد للصّلاة بالتطهّر

* نهي الصّلاة عن الفحشاء والمنكر

* معالجة الصّلاة للهلع في الشخصيّة

* صلاة الكُسالى، وتضييع الصّلاة

٤٣

فرض الصّلاة ووجوبها

وجوب الصلاة وفرضها من المدلولات الصريحة لعدد من الآيات الكريمة، كقوله عزّ وجلّ: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) 56 - النّور.

وقوله تعالى: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) 78 - الحجّ.

وقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) 103 - النّساء.

ومن نافلة القول الاستدلال على وجوب الصلاة في الشريعة، فإنّ نظرة في الآيات القرآنية المتعلّقة بالموضوع تكفي لهذا الغرض، فضلاً عن تواتر السنّة وإطباق سيرة المسلمين ورأيهم كافّة.

نعم؛ ينبغي أن نُلقي الضوء على معنى الفرض والوجوب في الإسلام، لنفهم منه فرض الصلاة ووجوبها.

الوجوب : واحد من الصيغ الخَمس التي تحدّد بها الشريعة المقدّسة موقفها من أنواع سلوك الناس، وهذه الصيغ هي:

1 - الوجوب، الفرض، العزيمة.

2 - الحرمة، الحظْر، المنع.

٤٤

3 - الاستحباب، الندب، الرّخصة.

4 - الكراهة، التنزّه.

5 - الإباحة، الحِلّ.

فكلّ عملٍ في حياتنا لا بدّ أنّ يكون للإسلام فيه حكمٌ من هذه الأحكام الخَمسة، سواءٌ في ذلك ما كان من الشؤون الشخصيّة والاجتماعية والدولية، وسواء في ذلك الأعمال والأوضاع الثابتة والمتجدّدة، بل وحتى الأعمال الذهنيّة من عمليّات عقليّة ونفسيّة...

فإنّ من المُجمع عليه لدى فقهاء الإسلام استحالة خلوّ الواقعة - الحادثة - من حكمٍ، تعبيراً عن ضرورة شمول الشريعة المطلق لشؤون الحياة.

والسبب في هذا الشمول التشريعي واضح؛ فإنّ الإسلام ليس ديناً بالفهم الغربي للدين، بل هو نظام حياة متكامل، منبثق عن عقيدة مُتكاملة، لا يغفل شيئاً من نشاط الإنسان، دون أن يحدّد موقفه الإعتقادي والعملي منه... لذلك نرى الإسلام يشمل كلّ النشاطات البشريّة، الموجود منها والممكن، فينوّعها بالنحو التالي:

القسم الأوّل : أعمال ضروريّة لإقامة الحياة، بالشكل الذي يريده الإسلام - وهو أجمل وأصحّ أشكال الحياة على الأرض - ويُصدر الإسلام أمره بضرورة - وجوب - تحقيق هذه الأعمال والقيام بها، ويَعتبر من تركها فرداً أو مجتمعاً، منحرفاً وعاصياً.

وتنقسم هذه الضرورات أو الواجبات أو الفرائض إلى:

* واجبات إعتقاديّة .

* وواجبات عمليّة ، والأخيرة إلى: واجبات فرديّة وواجبات اجتماعيّة.

ومن أمثلتها: الاعتقاد بالله ورسُله والحياة الآخرة، التفكير بمقدار يوصل الإنسان إلى الحقّ، مساواة الحاكم لفقراء شعبه في معيشته، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقاومة الظلم... إلخ.

القسم الثاني: أعمال مضرّة بالفرد والمجتمع، ويُصدر الإسلام أمره فيها بالمنع الباتّ - التحريم - ويَعتبر من فعلها فرداً أو مجتمعاً، مُنحرفاً وعاصياً.

٤٥

وهي كذلك تنقسم إلى: محرّمات اعتقاديه وعمليّة، فرديّة واجتماعية، كما تنقسم إلى: محرّمات - كبائر - مشدّدة ومحرّمات - صغائر-...

ومن أمثلة هذه المحرّمات: القتل، الكذب، الخمر، الركون إلى الظالمين، الزنا، الربا، السرقة، السفور، الحُكم بغير ما أنزل الله، التصوّرات الجنسيّة المحرّمة، الغشّ... إلخ.

القسم الثالث: أعمال يحبّذها الإسلام؛ لأنّها تحقّق مستوى أرفع لحياة الفرد والمجتمع، ولكنّه لا يفرضها؛ لأنّ الحدّ المرْضي من الحياة يتحقّق بدونها؛ ولذلك لم يَعتبر تركها معصية وانحرافاً، واعتبر القيام بها عملاً صالحاً طيّباً يستحقّ المكافأة في الآخرة.

وتنقسم هذه الأعمال التي تسمّى - المستحبّات - إلى: مستحبّات مؤكّدة، ومستحبات.... ومن أمثلتها: الإعطاء من الثروة زائداً على الواجبات المفروضة، الصلاة، والصيام زائداً على الفريضة، التطوّع لدراسة الإسلام وتعليمه للأُمّة، هذا إذا توفّر الحدّ الواجب من المبلّغين، وكلّ ما سوى الواجبات ممّا يكون نافعاً، فرديّاً واجتماعيّاً، ويُقصد به وجه الله عزّ وجلّ.

القسم الرابع : أعمال لا يرغّب فيها الإسلام؛ لأنّها من بعض وجوهها تشبه المحرّمات بنسبة من الشبه، ولكنّه لا يمنع من ارتكابها؛ لعدم منافاتها للحدّ المرْضي من الحياة؛ ولذلك لا يَعتبر فعْلها معصيةً، وإن كان يَعتبر تركها عملاً صالحاً يستحقّ الجزاء في الآخرة.

وهي تنقسم أيضاً إلى: مكروهات مؤكّدة، ومكروهات.... ومن أمثلتها: الأكل في الطريق، كثرة الكلام، حِلْف اليمين في المعاملة، إذا كان صادقاً - وإن كان كاذباً فهو حرام - الصلاة في الأماكن غير اللائقة، الدخول في سَوْم البضاعة مع وجود من يُساوم عليها...

القسم الخامس : الأعمال الباقية التي ليس فعلها أو تركها ضرورياً لإقامة الحياة المُرادة، ولا هي دخيلة في تحقيق المستوى الأرفع، أو في تخفيض الحدّ المرْضي؛ ولذلك لا يَعتبر الإسلام فعلها أو تركها معصية أو انحرافاً، ومن أمثلة هذه الأعمال التي تسمّى - المُباحات -: القيام، الجلوس، الرواح، المجيء،

٤٦

أكل هذا النوع من الطعام أو ذاك، فتح شخصٍ لمحلّ تجاري أو مخبز... كلّ ذلك إذا لم يكن دخيلاً فيما ذكر أعلاه.

وممّا يتّصل بتنويع الإسلام للنشاطات البشريّة، هذه الأصول التالية:

*أوّلاً

إنّ وحدانيّة الله عزّ وجلّ التي يؤكّد عليها الإسلام - حتى ليسمّى دين التوحيد - هي: إفراد الله في ذاته: بمعنى نفي التركيب والماديّة عنه عزّ وجلّ، وإفراده في الخلْق ابتداءً واستمراراً، وإفراده في حقّ التشريع... فكما إنّ من أجاز عليه سبحانه الحلول والتغيّر فقد أشرك به، فكذلك من جعل حقّ التشريع لنفسه أو لشخصٍ أو جهةٍ فقد أشركهم مع الله تعالى.

ومنشأ ضرورة التوحيد في حقّ التشريع، أنّ تنويع النشاطات البشريّة وإصدار الأحكام المناسبة فيها، أمر لا يمكن أن يمارسه إلاّ الخبير بهذه النشاطات، وتشابكها، وآثارها، ونتائجها على نفس الإنسان، ومجتمعه، في حياته الحاضرة والمُقبلة... ومثل هذه الخبرة العميقة الدقيقة لا تتحقّق إلاّ في الخبير العليم سبحانه.

نعم ، يُستثنى من ذلك مناطق الفراغ التي تركتها الشريعة المقدّسة، وسمحت للدولة العادلة أن تشرّع لها القوانين الملائمة، على ضوء الأوضاع المتطوّرة، وفي إطار الخطوط العامّة للشريعة، ومن الواضح أنّ ملئ هذه المساحات المفتوحة في الشريعة، إنّما هو بالحقيقة وضع لوائح تنظيميّة لغرض تنفيذ أحكام الشريعة العامّة، بنصّها وروحها على ضوء مصلحة الأُمّة المتطوّرة.

*ثانياً

يخضع تنويع الإسلام المتقدّم للنشاطات البشريّة، لقواعد عامّة محدّدة في الشريعة، قد تُوجب تبديلاً في أقسامه، وتسمّى هذه القواعد - العناوين الثانوية -.

فقد يقتضي العنوان الثانوي المنع عن أعمال كانت في أصلها من نوع المُباحات، فتصبح من نوع المحرّمات... مثلاً: تصرّف المالك في ما يملك، أمرٌ

٤٧

جائز في الأصل، لكن إذا استوجب إضراراً بالغير فإنّه يصبح محرّماً؛ وذلك بمقتضى العنوان الثانوي الذي هو هنا - قاعدة نفي الضرر - التي قرّرتها الشريعة الإسلامية في النصّ المشهور عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) .

وقد يقتضي العنوان الثانوي إباحة الحرام أو وجوبه... مثلاً: يشرّع الإسلام الملكيّة الفرديّة، ويحرّم التعدّي عليها، ولكنّه يجيز لحكومته أن تأخذ من الملكيّات الفرديّة - الكبيرة أو الصغيرة - القدر الذي تراه ضرورياً للحاجة الاجتماعيّة.

كما يُجيز أن تُجبر أهل الأموال على تشغيل رؤوس أموالهم المجمّدة للمصلحة الاجتماعيّة، أو تأخذ منهم زيادة على الحقوق الشرعيّة المفروضة.

وقد يقتضي العنوان الثانوي إيجاب المباح أو تحريمه، فالتخصّص الصناعي والزراعي أمرٌ مباح أساساً، ولكن إذا احتاج الوطن الإسلامي بشكل ضروري إلى اختصاصيين في الصناعة والزراعة وغيرها، فإنّ ذلك يصبح واجباً شرعاً، ويحرم على أساسه التخصّص في المجالات الأُخرى غير الضروريّة، وإن كانت مباحة في أصل التشريع.

وهكذا ، يضع الإسلام قواعد عامّة تُوجب التبديل في تنويعه الأساسي للأعمال، وأحكامه الأُولى بشأنها، ولكنّه تبديلٌ ثابت في إطار الإسلام، منسجم مع عقيدته في الحياة، وأهدافه منها، وخطّته فيها.

*ثالثاً

باستطاعة الفرد والمجتمع والدولة المُسلِمَين أن يحوّلوا جميع نشاطاتهم المباحة إلى نشاطات مستحبة، فتكون في ميزان الإسلام أعمالاً صالحة تستحق الجزاء والمكافأة؛ وذلك بأن يعيشوا روح الرسالة الإسلامية، ويقصدوا من حياتهم التقرّب إلى الله عزّ وجلّ بتحقيق أهدافها.

*رابعاً

الأُسلوب السائد في تطبيق التشريعات على المجتمعات هو: أسلوب القوّة؛ حيث تفرض السلطة على الناس تطبيق تشريعها، وتقوم بمعاقبة المخالفين.

٤٨

أمّا أسلوب تكوين الضمير القانوني في المواطنين، عن طريق تركيز قيم التشريع وفوائده في نفوسهم، فلم تسلكه حتى الآن أي من الدول القائمة على دساتير وتشريعات، ولا كلام لنا في الدول المُقامة على غير تشريع.

ولا نستطيع أن نستثني من ذلك إلاّ الدول والمجتمعات التي أقامها الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، فإنّها اعتمدت في تطبيق شرائعها على تربية ضمير التقوى لدى المواطنين، ونجحت في ذلك أيّما نجاح.

وقد تتصوّر إنّ إغفال المشرّعين القانونيين لطريقة تكوين الضمير القانوني؛ إنّما هو لعدم أهمّية هذه الطريقة في حياة المجتمعات... لكنّ الأمر على العكس، فما من مشرّع قانوني إلاّ ويتمنّى أنّ يجمع المواطنين على قيم تشريعه، وما من دولةٍ إلاّ وتتمنّى أن يؤمن المواطنون من أعماق قلوبهم بصحّة الدستور والتشاريع التي تقوم عليها.

بل السبب في خسارة هذا المكسب العظيم؛ إخفاق خبراء التشريع في تكوين الضمير القانوني لدى الناس... (إنّهم يجدون القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور، يستحيل وضعها في ميزان واحد، ومثَل رجل القانون في محاولته هذه، كمثل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مُماثلة، فكلمّا وضع مجموعة في كفّة، وجد أن ضفادع الكفّة الثانية قد وثبت إلى الماء مرّة أُخرى)، هذا ما يقوله أحد خبراء التشريع - الإسلام يتحدّى - ص231.

والنتيجة الطبيعيّة لافتقاد القيم القانونية، افتقاد القانون ذاته، فإلى حدّ الآن أخفق أساتذة القانون في وضع شيءٍ يصحّ تسميته (القانون)، رغم كلّ الجهود والتعديلات التي تُبذل في هذا المجال.

وهذا ما يعترف به أحد خبراء القانون الغربيين L.L. foller ، حتى لقد وضع كتاباً أسماه (القانون)، يبحث عن نفسه ( The Lawin Questof Itself )، ص230 - المصدر المتقدّم.

وينقل البروفسور (باتون) رأياً لبعض علماء التشريع يقول: (إنّ جميع محاولات الدراسة الفلسفيّة للبحث عن الأهداف في فلسفة التشريع قد انتهت

٤٩

إلى غير ما نتيجة...)، ثمّ يتساءل ويُجيب: (أهناك قيم مثاليّة تحدّد الأُسس عند تطوّر التشريعات لم يتمكن المشرّعون من التوصّل إلى هذه القيم حتى الآن؟... غير أنّها لا بدّ منها)، ص234 - المصدر المتقدّم.

أمّا الإسلام الذي حدّد قيم الشريعة، وأقام على أساسها التنويع الكامل لكلّ نشاطات الناس، فإنّ من الميسور له أن يَسلك في تطبيق شريعته أسلوب تكوين الضمير القانوني في نفوس الناس، وأن يجعل من السلطة المعتمدة كلّياً عند غيره خطّ ضمانٍ ثانياً لنظامه، لحالات الشذوذ عن الضمير القانوني.

* * *

من هذا العرض لتنويع الإسلام لنشاطات الناس نجد أنّ: مفهوم الوجوب في الإسلام يعني: الضرورة التي لا تستقيم الحياة بدونها.

ومن تنويع الصلاة في قسم الواجبات نفهم: أنّ هذا العمل التربوي اليومي في نظر الإسلام، ضرورة لا تستقيم حياة الناس بدونه.

يُضاف إلى ذلك جعل فريضة الصلاة من أوليّات الواجبات، بل من الأركان التي بُني عليها الإسلام، ممّا يدلّ بوضوح على أنّها تقع في نطاق الضرورات القصوى لحياة الناس.

ويُضاف إلى ذلك، أنّ وجوب الصلاة وجوب ثابت في كلّ حال، لا يخضع للرفع أو التبديل بالعناوين الثانويّة الآنفة الذكر، فهي إذاً ضرورة قائمة لكلّ الناس، وفي كلّ الظروف، حتى أنّ الله عزّ وجلّ يعلّم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين كيف يؤدّون الصلاة في حالات الخوف، وساحة المعركة، كما في الآيات 101 - 103 من سورة النساء...

وفي السنّة الشريفة أنّ: (الصّلاة لا تُترك بحال)، وأنّ على من يُعالج الغَرق أن يؤدّي صلاته بما يستطيع، ولو بأن يتوجّه بقلبه، ويوميء للركوع والسجود إيماءً... وهل أحدٌ أحوج منه إلى الصلاة؟.

٥٠

توقيت الصّلاة وتعدّدها

دلالة التعدّد

من الثابت عن نشأة النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل البعثة، أنّه كان يجاور في كلّ سنة بحراء (1)، الكهف الصخري الواقع في - جبل ثور - على بُعد خمسة كيلو مترات عن مكّة المكرّمة، ويمضي هنالك أيّاماً في التعبّد.

أمّا ما هي طبيعة هذا التعبّد الذي كان يقوم به (صلّى الله عليه وآله)؟ وهل كان يؤدّي في سائر أيّام السنة لوناً مؤقتاً من الصلاة؟ أم أنّ التوقيت لم يبدأ إلاّ بعد البِعثة في عام الإسراء، كما هو المعروف؟...

ليس بعيداً أنّه (صلّى الله عليه وآله)، كان قبل البِعثة يمارس صلاةً يومية موقتة سوى موسم التعبّد بحراء، الذي كان يمضيه بصلوات طويلة قد تستغرق نهاره وأكثر ليله...

أوّلاً؛ لأنّ قضيّة التوقيت من القضايا الطبيعية لحياتنا، التي يفرضها وجود الليل والنهار، واحتياج الإنسان إلى وجبات الطعام والراحة، فالاهتداء إلى التوقيت ليس صعباً...

وثانياً ؛ لأنّ الوفرة العقليّة التي كان ينعم بها (صلّى الله عليه وآله)، تنسجم مع الاهتداء إلى ضرورة توقيت عمليّة التفهّم والخضوع بين يدي الربّ عزّ وجلّ... هذه الوفرة التي كانت تتنامى باستمرار، ببركة العناية الإلهيّة التي منها: المَلَك الذي

________________________

(1) نهج البلاغة، شرح محمّد عبده - ج2، ص157.

٥١

رافقه منذ طفولته: (ولقد قَرن الله به (صلّى الله عليه وآله) - من لدُن أن كان فطيماً - أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم...) - المصدر السابق.

ومهما يكن من أمر؛ فإنّ المشهور لدى المسلمين أنّ الصلاة اليوميّة فُرضت بعد البِعثة الشريفة، في معراج رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، محدّدة بخَمس فرائض، وسبعَ عشرةَ ركعة، وأوقات معيّنة.

* * *

يستكثر بعض الناس أن يوجب الإسلام على الناس خَمس صلوات في اليوم الواحد... فيسألون: ألا يكفي بعد أن أوضح الله عزّ وجلّ للناس حياتهم، وحدّد لهم أهدافهم، وكشف لهم عن مستقبلهم، أن يكلّفهم بصلاة واحدة صباحيّة مثلاً، يؤكّدون فيها وعيهم وأهدافهم ثمّ ينطلقون إلى أعمالهم؟

أو يسألونك لماذا لا يصحّ أن تُجمع الوقفات الخَمس في وقفة طويلة، صباحية أو مسائية، تكون شحنة تمدّ الناس بالهدى ليوم كامل؟

يقال ذلك ، حينما يُغفل عن طبيعة الإنسان، وطبيعة ظروفه التي يعيش فيها... أمّا حينما يؤخذان بعين الاعتبار فيتّضح أنّ الصلاة هكذا يجب أن تكون، خَمس مرّات كلّ يوم.

صحيح أنّ أحدنا يملك إمكانات هائلة للتكامل، وللسعي باستقامةٍ في تحقيق أهداف وجوده الكبيرة، ولكنّنا بنفس الوقت نحوي بذور ضعفٍ خطيرة تتهدّدنا كلّ حين أن تعصف بإمكاناتنا وأهدافنا...

قد تخرج من بيتك مليئاً بالعزيمة والتصميم، وتشعر بوجودك كياناً قويّاً ساعياً لأهداف كبيرة، ثمّ يعترضك بعد ساعة إغراء مال أو جنس، فما هو إلاّ أن ينهدم الكيان وتنهار القوّة، وتجد نفسك وجوداً خائراً في قبضة الإغراء مجبولاً بطينه...

أو تصمّم على مجابهة وضع اجتماعي، واثقاً كلّ الثقة بحجّتك ضدّه وقوّتك

٥٢

عليه وتضحيتك من أجل تصحيحه، ثمّ ما أن تواجهك الأوهام والتخوّفات حتى تنكص عن التصميم، وتنخذل أمام الخوف...

أو تكون في أحسن حالك المُعتادة، فيفجؤك حدث من مُحزنات الدنيا المتكرّرة، فيبدّل رحابةَ صدرك إلى ضيق، وآمالك إلى آلام، وقوّتك إلى ضعف.

وكثير من أمثلة هذا الضعف تزخر بها حياة الأقوياء من الناس، فضلاً عن الضعفاء.

إنّ الضعف في الإنسان قاعدة وليس فرعاً، وبذوره التي يمكن أن تنمو في أي لحظة ترافقنا طوال حياتنا...

ومعوّقات الحياة... مشاغلها، ومتاعها الحطام تتساعد هي الأُخرى مع ضعفنا، فتشدّنا إلى اللصوق بتوافِه صغيرة، وكثيراً ما تثنينا عن أهدافنا، وتتحوّل إلى حاجب ينسينا أنفسنا وربّنا!

لهذا كان لا بدّ للإنسان أن ينمّي بشكل دائم قوى الإيجاب في نفسه، وأن يحميها من جوانب السلب، ويسدّ ثغراتها مرّات كلّ يوم...

فلو كان أمر الإنسان يستقيم بصلاة واحدة أو اثنين لما فرض الله عزّ وجلّ عليه أكثر منها، ولو كانت تتمّ الشُحنة المطلوبة ليومٍ في وقفة واحدة، لأجاز سبحانه جمع الصلوات الخَمس في وقت واحد، كما أجاز جمع الظهرين والعشاءين تخفيفاً منه ورحمة...

ولكنّها الضرورة النابعة من نفس الإنسان وظروفه، أمْلت هذا التعدّد والتوقيت، فجعلت الصلاة على الأقلّ بعدد وجبات الطعام.

( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) .

إنّ تعدّد الصلاة وتوقيتها في التشريع الإسلامي، يدلّنا بوضوح على أنّ نفس الإنسان وظروفه مأخوذة بعين الاعتبار في هذا التشريع.

فمن الواقعيّة وليس من سوء الظنّ أن نعترف بأنّ الإنسان يحتاج في كلّ يوم يعيشه إلى رعاية وإلى تكرار التوعيّة... إلى عمليّة تفهّم وتخشّع خَمس مرات

٥٣

في الأقلّ، علّهُ يستوعب منها ما يصحّح مشاعره وأفكاره وأعماله، وينقّيها من رواسب الضعف والانحراف...

أليست الصلوات بكلّها معرّضة للفقدان والتحريف حينما يحوّلها الإنسان إلى حقل يابس؟ إلى وقفات جامدة عديمة العطاء...؟ فما بالك إن عوّض عنها بصلاة واحدة...؟

عن الإمام الرضا (عليه السلام)، أنّه سُئل عن حكمة الصلاة وتعدّدها فقال: (...لأنّ في الصّلاة الإقرار بالربوبيّة، وهو صلاح عامّ... لئلا ينسى العبد مدبّره وخالقه، فيَبطر ويطغى... والقيام بين يدي ربّه زاجراً له عن المعاصي، وحاجزاً ومانعاً عن أنواع الفساد... إنّ الله عزّ وجلّ أحبّ أن يبدأ الناس في كلّ عمل أوّلاً بطاعته وعبادته... فإذا فعلوا ذلك لم ينسوه ويغفلوا عنه، ولم تقس قلوبهم...)، عيون أخبار الرضا، ص102، و108.

دلالة التوقيت

يتفاوت إحساس الناس بالوقت - هذا المحيط الزمني الذي يعيش فيه الإنسان، وما حوله من إحياء وأشياء - وتنظيمهم له واستفادتهم منه.

ففي المجتمعات البدائية التي يمثّلها في عصرنا بعض مناطق القارّة الإفريقية، وبعض القبائل المنعزلة في أمريكا اللاتينية، وبعض جزر المحيط الهادي، يعيش الإنسان في هذه المجتمعات بذهنيّة مسطّحة لا عمق فيها، وأبرز ما في حياة أفرادها: الكسل، والتراخي، وإهمال الوقت.

وفي المجتمعات الماديّة المتخلّفة، كما في أمريكا الجنوبية، والمجتمعات البوذيّة والهندوسيّة في آسيا - عدا اليابان - هذه البلاد يعيث فيها الاستعمار فساداً فوق فسادها، ويسيّرها حسب مصالحه، بنهب ثرواتها الخام، ويستغل مواقعها الجغرافية، ويفترس جهود أبنائها... مقابل السلع الاستهلاكية التي يصدّرها إليهم... الوقت في هذه المجتمعات رخيص يُهدر من قِبَل الأكثرية بالتوافِه من الأمور، ويُصرف من قبل الحكّام والمثقّفين لخدمة الاستعمار، ولا تجني بلادهم من وقتهم

٥٤

إلاّ التبعيّة والخضوع... يقول أحد شعراء أمريكا اللاتينيّة:

الوقت نهر يجرفني... وأنا النهر

إنّه نمر يمزقني... وأنا النمر

إنّه النار تأكلني... وأنا النار

أمّا الوقت في مجتمعات المسلمين المتخلّفة، فهو يُشبه الوقت في المجتمعات الماديّة المتخلّفة، مع اختلاف في وجود بقايا المفاهيم والعادات الإسلامية، ووجود محاولات إسلامية جادّة للخروج من المأزق الاستعماري، ومن دوّامة التخلّف بكلّ أبعادها.

وأمّا مجتمعات الحضارة الماديّة المتقدّمة، وهي مجتمعات أمريكا وأوروبا واليابان وإسرائيل، فقد اندفع الناس فيها للاستفادة من الوقت في الحصول على السلع والمُتع الجسديّة بأوسع نطاق، ونَمت عندهم الأشياء بما لم يسبق له مثيل في المجتمع البشري.

فلا يمرّ يوم لديهم إلاّ ويزداد إنتاج السلع البسيطة والمعقّدة، من وسائل الرفاهية، إلى أسلحة الدمار والحرب، ويتميّز المجتمع الشيوعي بالمركزيّة، والمجتمع الرأسمالي بالانطلاق الفردي، وكلاهما يعملان في اتجاه واحد، اتجاه التّرف واللهو والركض وراء السلع والإنتاج والربح والسيطرة (1)...

* * *

إنّ توقيت الصلاة اليوميّة الذي يبدو عملية تعداديّة أو تقسيميّه بسيطة، هو إحدى العمليّات التغيريّة الكبرى التي يحدثها الإسلام في حياة الإنسان وحضارته... فقد بني هذا الدين الإلهي الخالد بناءاً محكماً للإحاطة بحياة الإنسان وتنظيمها تنظيماً شاملاً ودقيقاً، وجعل لحياته محطّات رئيسية تكون مصدراً حيويّاً للتنبيه للوقت إلى الخطّ السليم، ومن أهمّ هذه المحطّات: الصلاة اليومية، علامة المؤمن التي تنهاه عن الفحشاء والمنكر.

إنّ توقيت الصلاة عملية رائعة يتذكّر الناس من خلالها بصورة أكيدة ودائمة وعلى أحسن وجه، صلتهم بربّهم على مدار اليوم من الفجر إلى العشاء.

________________________

(1) مستفاد من كتاب: (دراسة الوقت والعمل).

٥٥

وإلى الثُلث الأخير من الليل.

وإنّ التزام مجتمعاتنا الإسلامية بأداء الصلاة اليومية، لهو واحد من أهمّ الأعمال والظواهر المؤثرة في كفاحنا لإقامة الحياة الإسلامية والحضارة الإسلامية، هذه الحضارة الربانيّة - المعنويّة الماديّة - التي تخرجنا من حالة الخضوع والتخلّف، وهدر الأوقات والأعمار، كما تنجينا من الوقوع في مستنقع مجتمعات الحضارة الماديّة، التي تستفيد من الوقت ولكن ركضاً وراء ترفها، وإمعاناً في استعباد الشعوب المستضعفة.

ومن مفردات تأثير الالتزام بالصلاة اليومية المؤقتة نذكر: تطبيق نظريّة الإسلام عن الليل والنهار، ونشير إلى المُعطى الصحي والنفسي لهذا التوقيت والتنظيم:

*تطبيق نظرية الإسلام عن الليل والنهار

تَنُوف الآيات القرآنية التي تضمن ذكر الليل والنهار على الستين آية، ولكنّ الآيات التي اختصّت بالليل والنهار أو تضمّنت التركيز عليهما تَنُوف على الثلاثين... وهي تنقسم إلى فئتين:

الفئة الأُولى : تتناول الجانب التكويني لظاهرتي الليل والنهار، فتبيّن للناس مختلف أوجه الحكمة والرحمة في تكوين الليل والنهار... في أصل خلْقِهما، وفي تقليب كلّ منهما وتكويره على الآخر، وفي ثبات نظامهما الدقيق وارتباطه بحاجة البشر الحياتيّة، وفي مسيرة الليل الدائبة وراء النهار على مدار الكرة، يطلبه حثيثاً فلا يدركه...

وتدعوهم إلى استيعاب الدلالة والحكمة والرحمة في هاتين الظاهرتين، اللتيْن قُصدتا قصداً في تكوين الأرض، وإعدادها لحياتهم...

من هذه الفئة قوله عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً... ) 12 - الإسراء.

وقوله تعالى ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) 54 - الأعراف.

٥٦

وقوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ*قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ*وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) 71 - 73 القصص.

وقوله تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ) 190 - آل عمران.

والفئة الثانية تتناول الجانب الوظيفي للّيل والنهار، وتدعوا الناس لأن يجعلوا حياتهم منسجمة مع الوظيفة الطبيعيّة لكلّ منهما.

ومن هذه الفئة قوله عزّ وجلّ: ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) 61 - غافر.

وقوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) 62 - الفرقان.

وقوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) 47 - الفرقان.

وغرضُنا في هذا القسم، أن نتبيّن رأي الإسلام في الجانب الوظيفي للّيل والنهار، ثمّ نتبيّن مدى فاعليّة توقيت الصلاة في تطبيق هذا الرأي.

ومن خير النصوص التي تصوغ وظيفة الليل والنهار على ضوء هذه الآيات، هذا المَطْلع البليغ من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام)، في دعائه الصباحي المُنساب الخاشع:

(الحمد لله الذي خلق الليل والنّهار بقوّته، وميّز بينهما بقدرته، وجعل لكلّ واحد منهما حدّاً محدوداً، وأمداً ممدوداً.. يولِج كلّ واحدٍ منهما في

٥٧

صاحبه، ويولج صاحبه فيه، بتقديرٍ منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النّصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومنامه، فيكون ذلك لهم جِماماً وقوّة، ولينالوا به لذّةً وشهوة.

وخلق لهم النّهار مبصراً، ليبتغوا من فضله، ويتسببوا إلى رزقه، ويسرحوا في أرضه، طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الآجل في آخرتهم، بكلّ ذلك يُصلح شأنهم، ويَبلو أخبارهم، وينظر كيف هم في أوقات طاعته، ومنازل فروضه ومواقع أحكامه، ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) ، الصحيفة السجاديّة - الدعاء السادس.

فالجانب الوظيفي للّيل في رأي الإسلام هو: السكن لهذا الجهاز الإنساني، أمّا الحركة فهي اضطرار مخالف لوظيفة الليل الطبيعية.

والجانب الوظيفي للنّهار هو: العمل والنشور - السَرح في الأرض - أمّا السكون فهو مخالف لوظيفة النهار الطبيعية، اللهمّ إلاّ راحة الظهيرة القصيرة التي تنصّ عليها الآية - 58 - من سورة النّور:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ) ، والتي تكون بحكم الاكتفاء بسكن الليل ارتياحاً موجزاً؛ لتجديد النشاط عقِب شوط العمل وطعام الغداء.

وقضيّة السبات والنشور في الليل والنهار حقيقة عميقة في تكوين الإنسان وحياته، سواء تكويننا الجسدي والنفسي والعقلي... والبحوث العلميّة في هذا الجانب لا بدّ أن تجيء مؤيّدة لهذه الحقيقة، كما أيّدها إلى الآن العديد من البحوث الفسيولوجية والنفسية...

ومن أكبر الجنايات التي يستهين بها الناس، جنايتهم في إهمال الوظيفة الطبيعية لليل والنهار، وقلْبها رأساً على عقب... فلو أردنا أن نقّدر الخسائر التي تترتّب على هذا التغيير لرأيناها فادحة جداً في الصحة الجسديّة، أو الصحة العقليّة والنفسيّة للناس، أو في الناحية الاقتصادية أيضاً.

٥٨

لذلك كان من الطبيعي للإسلام وهو المنهج الربّاني للحياة المُثلى، أن يعالج هذه الناحية بتوعيته النظريّة، وبتشريعاته العمليّة..

وقد تمثّل جانب التوعية النظريّة بتقرير الجانب التكويني، والجانب الوظيفي لليل والنهار وتركيزه والتأكيد عليه، وهو ما تكفّلت به الفئتان من الآيات التي أشرنا إليها، والعديد من نصوص السُّنة التي فصّلت النظرية وشرحتها، كقوله (صلى الله عليه وآله): (لا سهر إلاّ في ثلاث، متهجّد بالقرآن، أو في طلب العلم، أو عروس تُهدى إلى زوجها)، رواه في الخصال ص - 112.

وأمّا الجانب التشريعي لمعالجة هذه الناحية من حياة الناس، فأراه يتمثّل أكثر ما يتمثّل في توقيت الصلاة الصباحيّة والمسائية... فقد فرض الله عزّ وجلّ على الناس أن يستيقظوا قَبل طلوع الشمس ليؤدّوا صلاتهم بين يديه سبحانه، إيذاناً ببدءِ النشور وانتهاء السبات، كما فرض عليهم أن يؤدّوا صلاةً أخرى في المساء، إعلاناً بختام فترة النشور ودخول فترة السكون.

إنّ صلاتي الصباح والمساء إذ تحدّدان بصورة طبيعية وأكيدة بدء العمل ونهايته، لَترسمان لنا الصورة اليوميّة لنشاط المجتمع الإسلامي.

مجتمعٌ يهبّ مع الفجر على انسياب الأذان بصوت الإعلان الخالد: (الله أكبر) للماء الطّهور، يفتح به نشاطه بعد استجمام، ويمثُل بين يدي الربّ الرحيم، بادئاً يومه الجديد باسمه وبعونه وبهدايته وفي طريقه...

مجتمعٌ يتنفّس أُناسه مع تنفّس الطبيعة الرائع، وتتفتّح قلوبهم باشراقة الصلاة، مع تفتّح قلب الطبيعة باشراقة التسبيح، فيمتزج ابتهال الإنسان في موكب سعيد من تغريدٍ وثغاءٍ، وأريج وهديل، يعمّ المدن والقرى، والسهول والسفوح، والقِمم فرحة بيوم جديد وأملٍ جديد... ثمّ ينطلق هذا الموكب في نشاطه بعين الله وبعونه، يقيم حياته، ويعمّر أرضه، ويصرّف شؤونه.. حتى إذا نثرت عليه الشمس ثُمالة أشعّتها وعَسْعس الليل مؤذناً بالسكون؛ عَسْعس موكب الحياة المبارك إلى مِهاد أمن الله في ختامٍ رائع، يلتفّ فيه حنان الثغُاء بزقزقةِ الأوكار وإياب النسيم بارتياح الزهور.

وتنزل الملائكة بصلاة الختام، حيث يعود الناس من سَرحهم وكدحهم إلى بيوت

٥٩

الله، أو بيوتهم يشكرونه على توفيق يومهم، ويعتذرون إليه لِما فرط منهم، ويستهدونه لأيّامهم المقبلة، ويستمدّون منه المعونة للسير في المهمّة التي خلقهم من أجلها وهداهم إليها، ثمّ ليسكنوا إلى أهليهم من حركات التعب ونهضات النصَب، ليكون ذلك لهم جِماماً وقوّة وسعادة..

ولافتتاح النهار أثر كبير في سلوك الإنسان، فإنّ العمل المؤثّر الذي تفتتح به نشاطك، والشعور الذي تتلقّاه في الصباح، ينعكسان على عملك في النهار بشعور أو لا شعور، وماذا أبلغ من أن يفتتح الناس نشاطهم في أرضهم بصلاةٍ بين يدي ربّ الأرض والوجود عزّ وجلّ، يستهدونه الطريق، ويستعينونه على الأهداف، ثمّ لِيسرحوا في أرضه ويبتغوا من فضله...

وختام النهار كافتتاحه، أو هو أشدّ حاجة لعودةٍ إلى الله، ووقفةٍ تضع الناس بحصيلة نهارهم بين يديه؛ ليباركوا نتاجهم الخيّر وجهدهم المبرور، وينفضوا عنهم أوضار النهار وأثقاله وآثامه...

إنّها صورة بديعة لبكور الناس وعشيِّهم تشدّنا إلى جمال الحياة الإسلامية، التي افتقدها عالمنا الحاضر، واستبدلها بالتمزّق المرير الذي ينام أُناسه على شبَحه في ساعة متأخرة من الليل، ويستيقظون على مضغه في ضحى النهار...

وماذا باستطاعة حضارة الانفصام عن الله، أن تحقّق للناس غير انفصالهم عن الطبيعة وعن أنفسهم؟

لو كان الناس أكفّاء لإسعاد أنفسهم في الدنيا بدون هدى الله، لانتظموا مع الطبيعة في منهج البكور والعودة على الأقل!

تبارك الذي خلق الليل والنهار، وشَرع للنشور، والعمدة صلاة شاكرة معطاءة تزوّد الناس بالهُدى، وتنتظم بهم في موكب الطبيعة الجميل...

* * *

وإذا بلغ النهار منتصفه وجب على الناس أن يؤدّوا صلاة الظهر، وفي هذا التوقيت علاج لمسألتين مهمّتين في حياة الناس:

الأُولى : تصفية الشوائب التي تعلَق بنفس الإنسان في غمرة الحركة، فإنّ

٦٠