فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 57953
تحميل: 6889

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57953 / تحميل: 6889
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

باستطاعتك أن تدرّس فرداً أو أفراداً من الناس؛ لترى الفرق الكبير بين حالتهم النفسية في الصباح، حينما توجّهوا إلى أعمالهم باسم الله وعلى بركته، وبين حالتهم النفسية قُرابة الظهر، وقد قطعوا شوطاً من العمل في طلب الرزق، والتعامل مع الناس.

أو تلحظ المحتوى النفسي لمجتمع استقبل يومه الجديد بالصلاة الصباحية، فخشع بين يدي الله وتملّى وجوده وهدفه ومفاهيمه عن الحياة والسعي فيها وانتشر في أعماله... ثمّ تلحظ هذا المجتمع قُرابة الظهر، وقد أمعن فلاّحوه في حقولهم، وتجّاره في أسواقهم، وموظّفوه في دوائرهم، وعمّاله في أعمالهم، ومسؤولوه في تصريف أموره... لَتجد المسافة بين مشاعر الصباح ومشاعر هذه الساعة...

سترى مجتمعاً استغرق في حركة السعي لرزقه، حتى كاد ينسى مفهومه عن السعي، والروح الفرديّة قد تسرّبت في أفراده، حتى ليكاد الواحد منهم أن ينحصر في جوّه ومشاغله الخاصّة، ناسياً بذلك وجوده المجموعي ومسؤولياته في ذلك...

إنّه داء النسيان يعاود الإنسان في غمرة علائقه بالدنيا، فيتهدّد مفهومه عن المال والذات، ويتهدّد هدفه من كدحه وسَرحه، حتى تكاد تنفذ من قلبه شحنة المشاعر الجيّدة التي تلقّاها في الصباح، فلا يعيده إليها إلاّ نداءٌ يأتي من مختلف الجنَبات معلناً:(الله أكبر) لتتجاوب معه أعماق الضمير قائلة: نعم الله أكبر... نداءٌ وكأنّه يد الغيب الرفيقة، تمتدّ فتنتشل الناس من نسيانهم لتضعهم بين يدي ربّهم الأكبر عزّ وجلّ، أمام مفاهيمهم ومشاعرهم وهدفهم من حياتهم الدنيا... وحياتهم العليا...

ضعيف هذا الإنسان عندما يستغرق في كدحه، فينسى كدحه ويستغرق في نفسه فينسى نفسه، ينسى أنّه موجود في زاوية من كون الله الكبير، وأنّه لا بدّ تاركٌ هذه الزاوية، وعائد إلى قلب الكون ليلاقي هناك ربّه وعمله... ولذلك كانت صلاة الظهر نِعم الدواء، نِعم العون على الضعف والمنعش للنفس.

والمسألة الثانية : التي يعالجها توقيت الصلاة بانتصاف النهار: مسألة تحديد

٦١

شوط العمل، فمن الواضح في المجتمع الإسلامي، أنّ أذان الظهر يعلِن انتهاء شوط العمل الصباحي، ويدعوا الناس لأداء فريضتهم وتناول غدائهم...

لقد أحكم الله سبحانه بقدرته خلْق الإنسان، فجعل نفسه وجسده يحتاجان إلى الطاقة في آن، فما أن تبلغ الشمس كبِد السماء، حتى تحتاج النفس إلى استعادة مُعطى السلام من المفاهيم والأهداف، في صلاة بين يديّ الله تبارك وتعالى، ويحتاج الجسم إلى وجبة الغذاء وربّما لشيءٍ من الراحة.

إنّ الصورة الإسلامية المفضّلة للعمل في الأرض، أن يكون انتصاف النهار نهاية لشوطِ الصباح، وبملاحظة البكور في النشور الذي تفرضه صلاة الفجر، فإنّ الدوام الرسمي يكون فترة واحدة تبدأ بطلوع الشمس أو بعده بقليل، وتنتهي بصلاة الظهر.

أمّا الأعمال الحرّة فتكون على فترتين:

أولاهما : فترة الدوام الرسمي.

والثانية : تبدأ بعد راحة الظهيرة وصلاة العصر، وتنتهي بصلاة المغرب... ثمّ يكون السكون والاستجمام.

ونلمس حرص الإسلام على هذه الصورة لمجتمعه، من تأكيده بشكل خاص على الصلاة الوسطى، صلاة الظهر، فقد ورد في تفسير قوله تعالى: ( ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) ، إنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر)، كما في الوسائل ج3 ص - 14.

كما ورد في تفسير قوله تعالى: ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) ، أنّ الانتشار المقصود هو: الانتشار يوم السبت، وليس عصر الجمعة، رواه في الخصال ص393.

المُعطى الصحي للتوقيت

إنّ نظرة في الشريعة الإسلامية من زاوية اهتمامها بصحة الإنسان، ترينا أنّ تطبيق هذه الشريعة العظيمة كفيل بالوقاية من كثير من الأمراض، بالقضاء على منابعها وأسبابها، كما أنّه كفيل بتوفير أفضل ظروف العلاج ووسائله الماديّة والنفسيّة.

فمن الطبيعي للخالق عزّ وجلّ وهو الخبير بمن خلق، وبما خلق، أن يُدخل في

٦٢

حساب تشريعاته توفير كل المكاسب الممكنة لحياة الإنسان، ما عرف الإنسان منها وما لم يعرف.

ومن الطبيعي للخالق عزّ وجلّ أن يقدّر في أصل تكوين الإنسان وحياته أنّهما ينسجمان مع شريعته المقدّسة، سواء بتحقيق المكاسب الصحية والعقلية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية... وكافّة المكاسب التي تسهم في إقامة حياة الإنسان سعيدة هنا، وتضمَنها سعيدةً في الجنّة.

وفي مجال الجانب الوظيفي لليل والنهار، كم يؤلمك أن ترى الحضارة الماديّة المنكودة، قد وصلت في مخالفة هذه الوظيفة إلى حدّ النقيض.

أوّل ما ترى ملايين العمّال المستضعفين، الذين لا تعطيهم الأنظمة الظالمة فرصة لسدّ رمقهم ورمق عوائلهم، إلاّ بأن يقلبوا ليلهم نهاراً ونهارهم ليلا.

ثمّ ترى عادة استهلاك نصف الليل في كثير من الترف واللهو والفسوق، هذه العادة التي نشرتها الحضارة الجاهليّة بثقافتها ووسائلها في أنحاء العالم، فجعلت أكثر الليل ظرفاً لأنواع الفساد، والإرهاق المدمّر لأعصاب الناس واقتصادهم.

إنّ توقيت الصلاة إذ يَفرض على الناس أن ينهضوا مبكّرين لأداء صلاة الفجر، يرفض أن يكون الليل أو قسم منه وقت عمل... فالليل فترة سكن وجِمام، وعلى الإنسان أن ينال منه حاجة جسمه ونفسه، إلاّ من اضطر غير باغٍ ولا عادٍ، ممّن يحتاج المجتمع إلى عملهم في الليل.

إنّ الليل الإسلامي ليلٌ هادئ سعيد، وما أغنى الحياة عن كدح البائسين الذين تسرق منهم الحضارة الظالمة فرصة العمل في نهارهم، وتحرمهم في الليل سكنهم وراحتهم، ولو اكتفى الطامعون من الرأسماليين والشيوعيين، وعدلوا في توزيع الثروات التي وهبها الله لعباده، لاستغنوا عن إرهاق ملايين المستضعفين الكادحين في الليل، وأعادوا إليهم حياتهم المقلوبة وراحتهم المسلوبة.

والليل الإسلامي ليلٌ هادئ سعيد، وليس ظرفاً للصحب وإرهاق الأعصاب، وتبديد العقول كما هو ليلُ المسرفين... فكم في الحياة من أنواع

٦٣

السعادة وأنواع المُتع الحلال التي يسرها الله، وهدى إليها الإنسان وأعطاه الوقت الكافي لنيلها في النهار، وفي الشطر الأوّل من الليل.

ولو أنّ دولة من دول الحضارة الماديّة اتخذت الإجراءات والقوانين اللازمة لإعادة الوظيفة الطبيعية لليل، لحقّقت أعظم الفوائد في الحفاظ على صحة شعبها وأعصابه، ولوفّرت عليهم مبالغ هائلة تصرف عبثاً في استهلاك الطاقة الكهربائية وفي العلاج... ولكن أنّى لهم ذلك بدون الإسلام.

* * *

وممّا يزيد في الخسارة الصحية والاقتصادية، أنّ ما يقابل إتلاف الليل، أو إتلاف قسم منه في العمل والصخب والفسوق؛ خسارة غرّة النهار وأفضل ساعاته، وبالأخصّ فترة ما بين الطلوعين، طلوع الفجر وطلوع الشمس... فلا شكّ أنّ هواء هذه الفترة، ثروة صحية كبيرة يبدّدها المسرفون في الليل، فتمرّ عليهم وهم نائمون خاملون.

إنّ الله تعالى أراد للناس أن يهبّوا مع يقظةَ الطبيعة؛ ليؤدّوا صلاة الفجر وينعموا بثورة نسيم الصباح الباكر، إضافة إلى ما يبعثه جوّ الفجر وطلوع الشمس من مشاعر جميلة، تعود على الجسم والنفس باليقظة والراحة والنشاط، خاصّة بملاحظة الحكم الشرعي الذي يقضي بكراهة النوم بين الطلوعين.

ولئن كان هارون الرشيد يقول لزوجته زبيدة كما يُروى: (قومي نتنسّم هواء الفجر قبل أن تلوّثه أنفاس العامّة)، فإنّ الله يقول لعامّة الناس: انهضوا وصلّوا وتنسّموا هواء الفجر، قبل أن تغادركم هذه النعمة اليوميّة.

ولئن كان أحد إبطال الكمال الجسمانيّ يقدّم نصيحته الوحيدة لهواةِ الكمال الجسمانيّ، بأن يلتزموا بأقلّ من ربع ساعة رياضة قبل طلوع الشمس؛ ليجدوا الفارق في أجسامهم في أقلّ من شهر... فإنّ الله تعالى يوجب على الناس أن يستيقظوا قبل طلوع الشمس لأداء الصلاة؛ من أجل كمال نفوسهم وأجسامهم.

كم يؤلمك أن تنظر إلى مجتمعات الحضارة الجاهليّة في هدأة الليل، فترى بؤس الكادحين وصخب الصاخبين من الناس... ثمّ تنظر في تنفّس الصبح فلا تجد

٦٤

منهم إلاّ غطيطاً يحرمهم من ثروة النسيم العليل التي خلقها الله لهم...

متى سيتوب الإنسان عن مناقضة الوظيفة الطبيعيّة لليله ونهاره، ويلتئم مع الطبيعة ويشاركها حياتها الجملة...؟

ذلك عندما يلتئم مع نفسه فيجد ربّه وهداه، ويجد نفسه بين يدي ربّه، ويدي أهدافه في وقفة الصباح والمساء... في تنفّس الصباح، وهدأة المساء.

* * *

ولراحة الظهيرة التي يفرضها توقيت الإسلام للصلاة نفع صحي كبير، لأنّها تعوّض الجسم والنفس قدراً من الطاقة والحيويّة التي استنفذها العمل.

وهي فترة نافعة بشكل خاصٍ لأولئك الذين يعملون بشكل متواصل إلى وقت متأخر من النهار؛ إمّا لأنّ أصحاب العمل يفرضون عليهم ذلك، أو بدافع الحاجة والحرص، كأولئك الفلاّحين والكادحين الذين يستطيعون أن يستفيدوا من راحة الظهيرة ولكنّهم لِعَوزهم وجهلهم يحوّلون نهارهم إلى معركة جهد مُضنية، لا يوقفها إلاّ تداعي قواهم، فيعودون إلى مساكنهم محطّمي القوى لا يشعرون كيف يتناولون طعامهم أو يرون أسرهم، ثمّ يسلّمون أنفسهم إلى نوم لا يفقه طعم النوم... ثمّ ليعودوا في اليوم التالي إلى معركتهم... وهكذا دواليك.

من أجل ذلك؛ كانت راحة الظهيرة التي تفرضها الصلاة، حدّاً إلزامياً لشوط العمل، تُلزم الناس بالمحافظة على سلامة أبدانهم، كما تلزمهم بالمحافظة على سلامة نفوسهم.

* * *

المُعطى النفسي للتوقيت

ومن معطيات توقيت الإسلام للصلاة اليومية، الالتزام بالنظام والاطمئنان النفسي.

إنّ كلّ ما حول الإنسان من إحياء وأشياء ملتزمٌ بنظام لحياته، السماء: بحركة أجرامها.. والماء: بجريانه وتبخّره وعودته... والنبات: بغذائه ونموّه

٦٥

وأثماره... والحيوان: بقوانين تكوينه وغريزته... بل الذرّة الواحدة: بحركات أجزائها ونواتها... بل الإنسان: - في تكوينه الجسدي - ملْتزم بنظام...

ولذلك ؛ فإنّ النزوع إلى النظام يعتبر نزعة طبيعية لدى الإنسان، الذي لا يقرّ عقله ولا تطمئنّ نفسه إلى الفوضى والعبث.

أمّا حالات الاتجاه والرغبة إلى التخلّص من الالتزام بالانتظام؛ فهي ترجع إلى رفض نظام حياة معين لاستبداله بنظام آخر، أو إلى التعوّد الطويل الأمد على الحياة غير المنظمة، أو إلى حالة غير سويّة في شخصيّة الإنسان... ولا أظنّ لهذا الاتجاه المضادّ للانتظام سبباً وراء هذه الأسباب الثلاثة.

إنّ اتجاه الناس في مجتمعاتنا إلى عدم الالتزام بأنظمة الحياة الموضوعة من قِبل الحكومات، هو القناعة العامّة بظلم هذه الالتزامات التي تفرضها أنظمة ظالمة متسلّطة، وهو في بعض الحالات عدم التعوّد على الالتزام بالنظام الموروث من فوضى الانحطاط وفوضى الإفساد التي أشاعها الاستعمار.

وكذلك حالة الميل إلى الفرديّة، وعدم الانتظام في ظلّ الدولة الإسلامية، والمؤسسات والحركات الإسلامية، هي حالة ناشئة من عدم التعوّد على النظام، أو من خلل ذهني ونفسي في شخصيّة المسلم.

وأمّا الظاهرة التي تسمّى (ثورة الجيل الجديد) - في المجتمعات الغربية المتقدّمة على كلّ التزام وانتظام - فهي في اعتقادي ليست خروجاً على (مبدأ الالتزام)، وإنّما ثورة للبحث عن التزام نافع، بدَل الالتزام بالأنظمة الماديّة الفارغة... إنّ السبب في تيار الفوضى والعبث الهيبي والوجودي وأمثاله، هو: شعور هؤلاء (الثوّار) أنّ التزام الناس بشكل الحياة الغربي بدون جدوى... فلماذا يقيّد الإنسان نفسه بقوانين؟ ولماذا ينتظم في عمل يومي مرهق؟ ولماذا؟ ولماذا؟...

فما دام كلّ ذلك من أجل أن يعيش الإنسان عمره سعيداً هانئاً، فمن يقول: أنّ شكل الحياة القائم المعقّد المرهق هو أكثر سعادة وهناءة من شكلها الحرّ الطليق البسيط، حيث يفعل الإنسان ما يشاء ويعيش كما يشاء...

إنّ هذه الموجات الخارجة عن الانتظام الباحثة عن المجهول، لا بدّ أن

٦٦

تنتهي إلى ألوان من الالتزامات المبسّطة والمعقّدة، تبعاً للظروف التي تحيط بها، والأفكار التي تنمو في أوساطها.

وما دام الالتزام بنظامٍ في السلوك هو نداء الفطرة ونداء الحياة من حول الإنسان، فإنّ الإسلام بتوقيته للصلاة اليوميّة يلّبي هذا النداء، ويضع نشاط الإنسان اليومي في إطار عبادة تعلّم الإنسان الانتظام الجادّ الحيوي، وتعطي نفسه الاستقرار بعيداً عن انضباط التقاليد المَمْلول، أو انضباط الأنظمة الماديّة الظالمة.

* * *

وفي النظام المقنع الواعي استقرار النفس واطمئنانها... فالنفس إن فقدت هذا الاطمئنان فليس إلاّ الأعراض الرهيبة تنتابها من كلّ جانب وتهدّد كيانها...

من أصحّ ما وصفت به حضارة الجاهليّة الغربيّة: أنّها حضارة الرعب والقلق، فقد نقل الغربيّون إلى مجتمعاتهم كلّ مخاوف الحضارة اليونانية، التي تصوّر حياة الإنسان صراعاً مع الطبيعة، وزادوا عليها مخاوف الظلم الاجتماعي في مجتمعاتهم وخارجها، وزادوا عليها مخاوف الوسائل التدميريّة الهائلة التي أنتجوها... حتى أصبح إنسان هذه الحضارة يعيش العداء والخوف من الطبيعة المحيطة به، ومن الناس الذين حوله، ومن التكنولوجيا التي بين يديه، ومن المجهول الذي أمامه...

لقد تمكّن الرعب والقلق من إنسان الحضارة الغربية، وفقد لؤلؤةَ الاطمئنان من محّارة نفسه، لقد أصبح أمله في أن يسكن الكواكب البعيدة أملاً قريباً، ولكنّ أمله في أن تطمئنّ نفسه التي بين جنبيه لا زال بعيداً بعيداً.

إنّه لا أقْدر من الإسلام على إهداء اللؤلؤة المفقودة إلى الأنفُس القلقة، يقوم الإسلام أوّلاً: بتطمين الناس عقيديّاً، فيقدّم لهم مفهومه السعيد الفريد عن الوجود، وعن موقعهم المطمئنّ فيه - وليس هذا مجال استعراض مدى الطمأنينة والموضوعيّة في مفهوم الإسلام هذا -.

ثمّ يضع لهم فريضة الصلاة، التي تجعل من الاطمئنان حقيقة يتعاملون

٦٧

معها في سلوكهم، بعد أن استوعبوها في عقيدتهم...

ماذا أبلغ في تطمين النفس البشريّة من أن تأوي في فترات نهارها إلى مليك الوجود عزّ وجلّ، تتفيأ رعايته وحنانه وهداه، وتستمدّ منه العون لحاضر أمرها ومُقبله.

وللتوقيت الحكيم الذي اختاره الله سبحانه لفريضة الصلاة، ارتباط واضح بدفعات الطمأنينة التي تحتاجها النفس كلّ يوم... فما أن يرخي الليل أسداله على الأرض، حتى يرتفع الأذان، وتمتدّ يد الصلاة لتُطمئن الإنسان، فتضعه بين يدي ربّه وآماله، مسلّمة إيّاه إلى سكون مقصود...

وينهض الإنسان ليوم جديد، فتوافيه الصلاة مبكّرة، تُبارك له آماله وتبشّره... ويستغرق في العمل وملابسات الحياة، فتعود اليد الرفيقة لتنتشله من حرصه ومخاوفه، وتعيد إليه طمأنينته وارتياحه من تعب النفس وتعب الجسم.

توقيت حكيم كتبه الله على الإنسان كي يجدّد لنفسه إيمانها واطمئنانها، كلمّا قطعت مرحلة من النهار، من أجل أن تبقى مفعمةً بالهداية والسعادة، سائرة برعاية ربّها وهداه، تجني لوجودها خير الحاضر المطمئن، وفوز المستقبل المأمول...

( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) صدق الله العظيم.

٦٨

قامة الصّلاة

لم يستعمل القرآن الكريم في الأمر بالصلاة تعبير: صلّوا، أو تعبير: أدّوا الصلاة، بل اختار تعبير: أقيموا الصلاة وحرص عليه حتى أصبح الصيغة الرسميّة كلمّا أمر عزّ وجلّ بالصلاة.

إنّ هذا التعبير من أدقّ التعابير القرآنية وأبلغها، فإنّ الأمر بالصلاة بصيغة - صلّ - ينصّبّ فيه الوجوب على تحقيق نفس الصلاة، أمّا الأمر بها بصيغة - أقم الصلاة - فينصّبّ فيه الوجوب على إقامتها، وهي أكثر من مجرّد الأداء... فإقامة الشيء تعني: تحقيق وجود بارز له، بحسب ما يناسبه من وجود، فهي مسألة اجتماعيّة وليست فرديّة.

يتّضح ذلك من استعمالات القرآن الكريم لمادّة - أقَامَ - حيث يُعبّر بها عن الأمور التي يريد لها تحقيق وجود اجتماعي بحسبها.

فقد أمر عزّ وجلّ بإقامة الشهادة في قوله: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ) 2 - الطّلاق.

ومعنى إقامة الشهادة: جعْلها أمراً جارياً متعارفاً في المجتمع.

وأمر بإقامة الوزن بالقسط في قوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) 9 - الرحمان.

ومعنى إقامة الوزن بالقسط: جعل التقييم العادل للأشياء والحقوق، أمراً متّبعاً سائداً بين الناس.

وأمرَ المسلمين بإقامة الإسلام بكتابه وسنّة نبيه (صلّى الله عليه وآله) بقوله تعالى: ( شَرَعَ

٦٩

لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) 13 - الشورى.

ومعنى إقامة الدين: جعله منهجاً اجتماعياً وطريقة عيشٍ سائدة...

وأمر سبحانه بإقامة أحكامه في الحياة الزوجيّة، كما في قوله تعالى: ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) 299 البقرة.

ومعنى إقامة حدود الله بين الزوجين: جعل الأحكام الشرعية التي تحكم هذه العلاقة، هي السائدة المتّبعة في الحياة الزوجيّة.

وأمر سبحانه بإقامة الصلاة في كلّ الآيات التي أمر فيها بالصلاة تقريباً، ومعنى الأمر بإقامة الصلاة: تكليف الناس أن يقيموا لهذه الفريضة وجوداً اجتماعياً، بحيث يكون أداؤها والاهتمام بشؤونها ظاهرة واضحة من ظواهر مجتمعهم.

وكذلك ينسجم التعبير القرآني البليغ بإقامة الصلاة مع طبيعة المسؤولية الاجتماعية التي يقرّرها الإسلام على كلّ الناس، فلا يرضى لهم أن يعيشوا الروح الفرديّة، التي يعاني منها مجتمع الحضارة القائمة، المسؤولية التي يشدّ الإسلام من أواصرها بين جماعته المؤمنة، فلا يُجيز لنفسه أن يخاطبهم بعقيدته وتشريعاته كأفراد يطلب منهم تطهير أرواحهم بعيداً، وأداء صلواتهم في زوايا الأكواخ والقصور، بل يخاطبهم كأُمّة ذات رسالة عالمية، كوجود متّحد متضامن، يعمل وسط الناس لإنقاذ حياتهم وإقامتها على هدى الله...

وينسجم التعبير كذلك مع طبيعة الصلاة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يُنادى بها على مسامع الناس: أقبلوا على الصلاة، أقبلوا على الفلاح، أقبلوا على خير العمل، وجعل سبحانه هذا النداء مقدّمة لصلاةِ كلّ مصلٍ، حتى ولو كان بمفرده في بيته...

وينسجم التعبير الحكيم مع تكلّم المصلّي بضمير الجماعة، بدل ضمير المفرد، إذ يقول: إيّاك نعبدُ، وإيّاك نستعين، اهدنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

٧٠

وينسجم مع تأكيد الإسلام على أداء هذه الفريضة جماعات لا أفراداً، وفي بيوت الله العامّة لا في البيوت الشخصيّة.

كلّ ذلك إفهام من الله عزّ وجلّ بأنّ هذه الفريضة إنّما تتحقّق كما أرادها تعالى، وإنّما تعطي ثمارها في النفس والمجتمع؛إذا حقّق الناس لها وجوداً بارزاً ظاهراً في مجتمعهم، ونهضوا بمسؤولية إقامتها بهذا النحو، كما يقيمون الشهادة وكما يقيمون الوزن بالقسط.

٧١

التَوجُّه شَطر المسجد الحرام

الناس أبناء أبٍ واحدٍ، وعباد ربّ واحد، ومصيرهم واحد ورسالتهم واحدة... فكم يناسب أن يكون لهم مركز واحد يتّجهون إليه في صلواتهم، من وراء البحار، ومن خلف الجبال، وفي امتداد السهول... وكلّ مكان ينتشرون عليه في الأرض.

إنّ المسجد الحرام، يمثّل في الشريعة الإسلامية المسجد الأبَ الذي تتّجه إليه مساجد العالم، ومركز التوجّه الذي تلتقي عليه من جوانبه قلوب البشر وأنظارهم.

والوحدة في شريعة الإسلام ظاهرة أصليّة، لا نستغرب عليها أن تمتدّ إلى وحدة الناس في المركز والتطلّع...

والذي يعمّق من هذه الوحدة في الاتجاه: قداسة مركز الاتجاه، وما أعرق هذه القداسة، وأرفع شأنها.

فالبيت الحرام والمسجد الحرام: أوّل بيت وضع للناس، مهبط آدم، ومقام إبراهيم، ومنزل إسماعيل، ومحجّ الأنبياء، ومتنزّل الملائكة، ومنبثق الإسلام... شاء الله أن يكون هذا الشرف الرفيع لهذه البقعة العتيقة عن الخضرة والنضرة وأسباب الرفاه وأطماع الناس.

بقعةٌ متواضعة في وادٍ متواضع، كم انشقّت من فوقها السماء فتنزّلت فيها الملائكة... وكم حفل ثراها وروابيها بأنبياء الله وعبادة المؤمنين، وكم غمرها جلال الله ونوره ورحمته، وكم سيمتدّ هذا الشرف في مستقبل التاريخ...

يقول علي أمير المؤمنين (عليه السلام):

٧٢

(ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدنْ آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الأرض مدراً، وأضيق بطون الأودية قُطْراً، بين جبالٍ خشنة، ورمال دمِثة، وعيون وشِلة، وقرىً منقطعة، لا يزكوا بها خفّ ولا حافر ولا ظلف.

ثمّ أمر آدم وولده أن يُثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغايةً لمُلقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوزَ قفارٍ سحيقة، ومهاوي فِجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزّوا مناكبهم ذُللاً يهلّلون الله حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاءِ الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً إلى رحمته ووصلة إلى جنّته.

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار، وسَهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتف البنا، متّصل القرى، بين بُرّةٍ سمراء، وروضة خضراء، وأرياف مُحدقة، وعراصٍ مُغدقة، ورياض ناظرة، وطرقٍ عامرة، لكان قد صغر قَدر الجزاء على حسب ضعف البلاء،

ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع، بها بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك من مسارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى مُعتلج الريب عن الناس.

ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذُللاً لعفوه...) - نهج البلاغة، تعليق محمّد عبده - ج2 ص170.

* * *

كلّ شيء في مكّة يثير العقل والقلب: موقعها الجغرافي بين آسيا وأفريقيا،

٧٣

وتركيبها الجيولوجي، من رمالٍ وجبال داكنة، أشبعتها نُضجاً شمس القرون... وموقعها الكونيّ حذوَ الضراح الذي في السماء، والذي هو: البيت المعمور - الكافي ج4 ص188.

وتاريخها الضارب بجذوره إلى بدء تكوين اليابسة، وبدء سكنى الإنسان الأرض، والمُمتدّ مع تاريخ البشر، وأمجاد النبوّات...

قال الله عزّ وجلّ: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) 96 - 97 - آل عمران.

عن الإمام الباقر (عليه السلام): (لمّا أراد الله أن يَخلق الأرض، أمرَ الرّياح فضربنّ وجهَ الماء حتى صار موجاً، ثمّ أَزبَد فصارَ زَبداً واحداً، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلاً من زبد، ثمّ دَحى الأرض من تحته، وهو قول الله عزّ وجلّ: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا... ) ) الوسائل ج9 ص348.

وقال الله عزّ وجلّ: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) 27 - 28 - الحج.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لمّا ولد إسماعيل، حمله إبراهيم وأّمّه على حمار وأقبل معه جبرئيل، حتى وضعه في موضع الحجر، ومعه شيءٌ من زادٍ وسِقاء فيه شيءٌ من ماء، والبيت يومئذٍ رَبوةٌ حمراء من مَدَر، فقال إبراهيم لجبرئيل: (عليهما السلام): ها هنا أُمرت؟ قال: نعم، قال: ومكّة يومئذٍ سَلم وسمَر - نوعان من الشجر - وحول مكّة يومئذٍ ناسٌ من العماليق)، الكافي ج4 ص201.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (صلّى في مسجد الخيْف سبعمئة نبي، وإنّ ما بين الركن والمقام لمشحون من قبور الإنبياء (عليهم السلام))، الكافي ج4 ص214.

٧٤

وعنه (عليه السلام): (لم يزل بنو إسماعيل ولاة البيت، [و]يقيمون للناس حجّهم وأمر دينهم، يتوارثونه كابراً عن كابر، حتى كان زمن عدنان بن أددَ، فطال عليهم الأَمد فقست قلوبهم، وأفسدوا وأحدثوا في دينهم... وكان فيما بين إسماعيل وعدنان بن أدَد موسى (عليه السلام))، الكافي ج4 ص210.

* * *

كلّ شيءٍ في مكّة يثير العقل والقلب: مسجدها حرم الله ومسكن أبويْنا البرّين الطاهرين، وكعبتها بيت الله ومثابتهً لأحبائه بني آدم، وبئرها سقيا الله لآبائنا وأنبيائنا، وحَجَرها الأسود، المَلََك الكريم الذي شهد على أبينا آدم بميثاقه في توحيد الله،فحوّله الله مادّة نلمسها بأيدينا، ونشمها ونستشهدها على ميثاقنا...! ومقام أبينا إبراهيم فتى بابل العظيم وأبي النبوّات والبشر، وحِجْر إسماعيل غرسة الله عند بيته الحرام...

ناهيك عن تاريخها الحديث المزدان بنشأة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وبعثته وجهاده، حيث تلّقى في مكّة نور السماء وأفاضه منها على العالم، فخطّ الخلود على روابيها وبيوتها وساحاتها، وأعطاها أمجاداً إلى أمجاد...

ها هنا ولد سيّد البشر... وها هنا درج ونشأ... وها هنا تلّقى الوحي في البيت والمسجد والربوة والوادي... وهاهنا وقف خاشعاً يصلّي، ودموعه تفيض على هذا التراب، وها هنا وقف يفيض من قلبه على الناس يدعوهم إلى الله.

جميع هذه الأمجاد والأشياء تتّصل بكلّ إنسان وتثير في أعماقه الحنين والحنان، وتجعله يحسّ وهو يتّجه إليها في صلاته أنّه يتّجه إلى وطنه الأوّل، ومنابعه المباركة الصافية... إلى روافد رسالة الله التي أشرقت بها الأرض، وانهمرت بها السماء هدى للعالمين، وإلى فوّارها الخالد، يبعث تيّاره كبير الرسل وسيّد البشر (صلّى الله عليه آله).

* * *

إنّ من الطبيعي لمكّة وهي تحفل بما تحفل به، أن تكون للناس جميعاً ما دامت تتّصل بهم جميعاً، بهذا العمق من الاتصال، ومن الطبيعي لكعبتها أن تكون عتيقةً طليقة حرّة من النسبة إلى شخص أو قوم أو عنصر أو إقليم...

٧٥

سئل الإمام الباقر (عليه السلام): لِمَ سمّي البيت العتيق؟ فقال: (هو بيت حرّ عتيق من الناس، لم يملكه أحد)، الكافي ج4 ص189.

ومن الطبيعي أيضاً للرسالة الإلهيّة الخاتمة أن ترشد الناس للتوجّه إلى هذا البيت، ما دام هو المنطلق أوّلاً، والمنطلق أخيراً، والملتقى فيما بين ذلك.

كذلك شاء المخطط الإلهي للرسالة أن تتجمّع روافدها، من أرض كنعان وبابل والخليل والقدس وسيناء وبيت لحم ونينوى... في هذا المركز العتيق المقدّس، والمنبع الأوّل والأخير ليكون قبلةَ المراكز كما كان محجّ الأنبياء.

ولأسباب اختباريّه صرفةٍ، لم يفرض الله عزّ وجلّ التوجّه إلى مكّة في أول فرائص الإسلام، بل أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) المسلمين وهم في مكّة أن يتّجهوا إلى بيت المقْدس، فكان الرسول وهو في مكّة يجمع بين الاتجاهين فيصلّي قبلةَ المسجد والقدس معاً.

وكان هذا الأمر الإلهي في التوجّه إلى القدْس الشريفة، اختباراً للمشركين المكيّين الذين يعتبرون البيت العتيق مجداً عنصريّاً وإقليمياً، ويأنفون أن يعترفوا بالقداسة لبقعة أخرى من الأرض... ثمّ كان اختباراً لليهود والنصارى في المدينة وما حولها عندما نزل الوحي بتحويل القِبلة عن القدْس، التي يعتبرونها بدورهم مجداً عنصريّاً وإقليمياً، ويرفضون الاعتراف بهذه القداسة لبقة أخرى من الأرض...

يصف لنا الله عزّ وجلّ حالة الرسول (صلّى الله عليه وآله) حينما كثرت أقاويل اليهود ولغطهم بأنّ محمداً ما دام تابعاً (لقبلتهم)، فما عليه إلاّ أن يتّبع (دينهم)! وكيف توجّه الرسول في هذه الفتنة إلى الله عزّ وجلّ، وأخذ يقلّب وجهه في السماء منتظراً وعده السابق بتحويل القبلة، ومتفكّراً أتكون القبلة التي يختارها عزّ وجلّ مكّة؟ أم بقعة أُخرى يشاؤها سبحانه؟.

فيأتي الوحي حكيماً حاسماً: ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ

٧٦

كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) 142 - 148 - سورة البقرة.

هذه الآيات الحكيمة الحاسمة تقرّر وسطيّة الاتجاه إلى مكّة؛ بسبب ما تحفل به من عراقة في تاريخ الإنسان، والرسالات الإلهيّة.

ثمّ أنظر إلى التأكيد على الاتجاه الفكري في الآية الأخيرة، من أجل إعطاء الاتجاه المكاني إلى المسجد الحرام محتواه الفكري الإسلامي، وإبعاده عن معاني الجاهليّة والتصنيم...

* * *

هذه البدائة الواضحة الصارخة في الاتجاه إلى المسجد الحرام، تُرى هل فاتت المستشرقين وإتباعهم الذين يقولون: أن تقديس الإسلام لمكّة وللمسجد وللكعبة ألوان من التصنيم؟ أم هو العمى ومرض القلب، يبتلي الله به من يستحقّ؟

٧٧

قَرْن الصّلاة بالإيمان والزكاة

إنّ الإيمان الذي لا يثير الضمير ولا يدفع إلى العمل بموجبه أشبه بالمصباح المحجور في صندوق، أو بالجسد المحنّط عن الحياة، أو بالمحرّك المفصول عن عجلات السيارة، أو بشجرة الورد البلاستيكيّة الممنوعة من النموّ والعطاء...

كيف يؤمن الإنسان بوجود الله تعالى، ويصدّق ما بَلّغ عنه رسله الكرام، ثمّ لا يتدفّق حياة بهذه الحياة، ولا ينبعث إلى العمل لخير وجوده كما بعثه وأرشده الله تعالى؟.

كيف يؤمن أحدنا بأعماقه أنّه كادح إلى ربّه كدحاً فملاقيه، وساعٍ إليه فموافيه، ثمّ لا يتوقّد أملاً وعملاً وإشفاقاً؟.

إنّ الإيمان الحيّ لا بدّ أن يدفع إلى العمل به، وهي حقيقة يقرّرها القرآن الكريم، ويَزن الإيمان على أساسها، ولذا تجد الإيمان أكثر ما تجده في القرآن مقروناً بالعمل الصالح، ومشروطاً بالعمل الصالح، وكأنّهما إلْفان لا يفترقان، وسبب ونتيجة لا يتخلّفان:

( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ... ) 35 - البقرة.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ... ) 9 - يونس.

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ) 28 - ص.

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ) .

وفي قرابةِ سبعين آية من القرآن الكريم، يظهر العمل الصالح تحرّكاً لازماً

٧٨

يبعث إليه الإيمان، واستجابةً طبيعية للاعتقاد بالله تعالى ورسالته.

والعمل الصالح، كلّ العمل الصالح هو ثمرة الإيمان: الجهاد مع النفس، وفي المجتمع والعمل المعيشي، والراحة اللازمة، وأداء كافّة الواجبات والمستحبات التي بلّغها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أو هدى إليها عقل الإنسان (الرسول الباطن)، ولكنّ أول عمل صالحٍ ينتج عن الإيمان، وأوّل ثمرةٍ تبرز من أكمامه؛ إقامة الصلاة، ثمّ يليها إيتاء الزكاة...

( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) 2 - 3 البقرة.

( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً ) 31 - إبراهيم.

( الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) 1 - 4 لقمان.

وآياتٍ كريمة عديدة قرن الله فيها الإيمان بالصلاة وبالزكاة.

إنّ قضيّة إيمانك بالإسلام تقف في أوّل خطواتها أمام امتحانك على الصعيد العملي، فإنّ أنت عشتها في جزء من يومك وقسط من نفسك، تابعت خطواتها في حياتك وعطاءها...

وأوّل بديهة يتطلّبها منك إسلامك لله: أن تعيش حياة المسلم المألوه... وهل حياة المألوه الخالية عن تركيز التألّه عمليّاً إلاّ كحياة المؤمن بالوطن البعيد عن سلوك المواطنة، المؤمن بالقانون الرافض لمظهر القانون...؟ على سعة الفرق بين قضيّة المواطنة والقانون، وقضيّة الدينونة لإلهِ الوطن والقانون والكون أجمع تبارك وتعالى...

* * *

وعلاقة الزكاة بالإيمان والصلاة منشؤها؛ أنّ حقل الإيمان في رأي الإسلام ليس هو النفس منفصلة عن حركة الحياة، ولا هو حركة الحياة مفصولة عن

٧٩

النفس، بل هو المساحة الكاملة لحركة النفس وحركة الحياة جميعاً.

لا بدّ أن تمتدّ قضيّة الإيمان إلى الربح الموسمي والسنوي، لكي تُسهم ضريبة الزكاة في إنجاح الحياة الاجتماعية وتكافلها.

ولا بدّ كما خضعت حركة النفس لمتطلّبات الإيمان، فتقدّست أن تخضع حركة الإنتاج لمتطلّبات الإيمان تتّسم بالعطاء لتتقدّس... فما بعد عطاء الوقت أهمّ وأبعد أثراً من عطاء المال...

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إنّ الله عزّ وجلّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أُخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلّى ولم يزكِّ لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتّقاء الله وصلة الرحم، فمن لم يَصِلْ رحمه لم يتّق الله عزّ وجلّ) رواه في الخصال ص 156.

* * *

ومن الحقائق التي يلفت إليها التعبير القرآني في هذا المجال؛ أن يصف المصلّين بأنّهم أهل زكاة، فهم إذاً أهل عمل وإنتاج، ليسوا متصوّفة يهربون بصلاتهم من الكدح والعيش في خضمّ الناس، ولا كُسالى يجعلون من الصلاة حرفةً فاشلة ووسيلة استعطاء.

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) 1-4 المؤمنون

( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) 17 - 19 الذاريات.

وتلك هي صورة المؤمنين المصلّين حقّاً، الذين تملؤهم صلاتهم بالنشاط، وتدفعهم إلى العمل والإنتاج والعطاء...

٨٠