فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 57970
تحميل: 6891

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57970 / تحميل: 6891
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاصْطبار والمحافظة على الصّلاة

التعجّل مشكلة خطيرة الآثار، وحياة الناس ملئى بالأمثلة عليها...

وأعظم النتائج في حياتنا، قد تتوقّف على دقائق معدودة من الصبر، لكنّ الذي يسبب خسارتنا لها هو تعجلّنا ومللنا عن المقدّمات ونزوعنا إلى القريب الصغير من المنافع، دون البعيد الكبير منها.

والصبر المطلوب في نظر الإسلام كما قسمته أحاديث السنّة الشريفة ثلاثة أقسام:

* الصبر على المصائب: وهي ألوان الخسارات التي يتعرّض لها الإنسان في أحبّائه وأمواله وآماله... فهو بحاجة لأن يمسك عندها نفسه، ويستنقذها من براثن اليأس والغمّ والألم، ويركّز فيها مفهوم الإسلام عن المكاسب والخسائر.

* والصبر عن المعاصي : وهي أنواع المحرّمات التي تتراءى للإنسان نافعة محبّبة، بينما هي سيّئة الآثار وخيمةُ العواقب... فهو بحاجة لأن يمسك عنها نوازعه، ويركّز في نفسه زيف إغرائها ويربّيها على الابتعاد عنها.

* والصبر على الطاعات : وهي أنواع الطاعات التي تتراءى للإنسان ثقيلة باهظة، بينما هي عظيمة النتائج رائعة العواقب.. فهو بحاجة لأن يمسك عليها نفسه، ويركّز فيها عظيم منافعها ويربّيها على القيام بها والانتفاع منها...

ومن أوّل ما يلزم للصبر على الطاعة أن أفهم طبيعة الطاعة، طبيعة الواجبات السلوكيّة التي فرضها الإسلام:

فمن ملامح الطاعة أنّها: تكليف الله لي بصفتي فرداً، وبصفتي جزءاً من

٨١

أُمّة - الفرائص الشخصيّة والاجتماعيّة - وإنّه لشرف عظيم أن يجعلني الله عزّ وجلّ أهلاً للمخاطبة والتكليف، فيطلب مني القيام بأعمال معيّنة، والالتزام بسلوك محدّد، ويندبني إلى إجابة أمره المقدّس المطاع.

ومن ملامح الطاعة أنّها: ضرورة تكفل لي الحياة السعيدة؛ الاطمئنان في النفس، والنور في القلب، والبلاغة في الشخصيّة، والمركز الثابت في الأرض وفي الكون، لي وللجماعة التي أنتمي إليها وأتحمّل معها أداء طاعة الله وتطبيق دينه.

ومن ملامح الطاعة أنّها: عمّا قليل تمنحني العيش الخالد، في بيت أفضل من بيتي، وصحة أقوى من صحتي، وسعادة أوسع وأروع من سعادتي، تؤهلني لأن أُسْتقبل لدى مغادرتي استقبال الإبطال، وأُزفّ إلى الخلود زفاف الأبرار، إنّ عملاً هذه طبيعته ونتائجه؛ لهو عمل يُحرص عليه، ويُصبر عليه، ويُنهض بتكاليفه بسخاء.

والصلاة واحدة من نوع هذا العمل، ومن أهمّ التكاليف التي شرّفنا الله عزّ وجلّ بها، وجعل علينا عهدتها، وحدّد لنا صيغتها وأقواتها.

والصبر على الصلاة من أوّل الصبر على الطاعات، وهو يتألّف من لونين من الصبر: صبرٌ على أدائها، وصبرٌ على الاستفادة منها.

فما دمتُ أفهم طبيعة هذه الطاعة وأؤمن بضرورتها لوجودي، فلماذا لا أُصبّر نفسي على أدائها في مختلف الظروف؟ لم لا أحرص عليها كما أحرص على غذائي؟

إنّي أعجب للمصلّي الذي (يتنازل!) عن صلاته في بعض الحالات، بحجّة ظروف السفر أو المشاكل أو المرض أو المعارضة والاستهزاء من أغبياء حوله...

كيف لا يدرَك إنّ الصلاة في هذه الحالات تتأكّد ضرورتها للشخصيّة؛ لأنّها تتعاظم فائدتها للنفس وراحتها لضمير.

هل ظروف السفر والحضر، والشدّة والرخاء، والصحة والمرض، والتأييد والمعارضة مانعة لي من طلب الغذاء؟ فكيف تكون مانعة لي عن أداء الصلاة؟

٨٢

بل إنّ من يصبّر نفسه على أداء الصلاة في مختلف الظروف التي يلاقيها من داخل نفسه ومن خارجها، سيجد لصلاته طعوماً جديدة.

فهي في السفر: تشعره بالمواطنة من أرض الله... وفي الشدّة هي: المنفذ للفرج والصِلة بمن يملك الأسباب، وفي المرض: هي الدعاء العميق وصحة النفس التي تنعكس على الجسد، وفي حالات المعارضة والاستهزاء: هي الثقة بالشخصيّة والإشفاق على المستهزئين الخاسرين.

وفي كلّ ذلك هي: الثبات على خطّ الرسالة، والاعتزاز بالعقائدية في السلوك، والإصرار على الظروف كي تخضع هي لإرادة الإيمان، ويستعلي الإيمان على ضغوطها.

* * *

والأرقى من الصبر على أداء الصلاة؛ الصبر على الاستفادة منها.

ومنشأ الحاجة إلى هذا اللون من الصبر، وهو طبيعة الحسّ البشري.

إنّ أروع المناظر الطبيعيّة هي في معرض أن تتحوّل لديك إلى أمور عاديّة إذا تكرّرت مشاهدتك لها، وكذلك كلّ معنى بديع وشعور جميل ونعمة سابغة.

ألا ترى الذين يعيشون وسط مناظر الطبيعة الجميلة - من غير ذوي الإحساس المرهف - لا يثير وجدانهم الجماليّ جبلٌ تشتبك خضرته بأشعة الشمس عند الأصيل، وتتراقص أطياره على خرير واديه، وتبعث أزاهيره عطاءها في نسيمه العليل... حتى إنّ حسّهم لا يكاد يفرّق بين هذا الجمال الباذخ، وبين قاعٍ بلْقع، ووادٍ يابس!

ألا ترى الأغنياء وأبناء الأغنياء - من غير ذوي الإحساس المرهف - كيف يفقدون الإحساس بالغِنى والمال والجمال...

وقرّاء القرآن ذوي الإيمان الخافت، قد حُرموا من مروج القرآن وينابيعه وسخائه؛ ذلك أنّ النفس البشريّة يطرأ عليها التلبّد إذا تكرّر عليها الشيء الجميل، ما لم تعط لذاتها على الدوام دفعة الحيويّة اللازمة من أجل الحفاظ على جدّة إحساسها وإرهافه.

٨٣

والصلاة بأوضاعها ومحتواها لوحة غنيّة بالعطاء والجمال، ولكنّ ضرورة تكرارها اليومي تجعلها في معرض أن تتحوّل إلى عمل شكلي يتبلّد إحساس النفس به، وتنغلق عن روعته وعطائه... ولذلك كانت هذه الفريضة بحاجة إلى لون آخر من الصبر، يتمثّل في تفتيح العقل والشعور عليها والعودة إلى الحيويّة في أدائها.

بحاجة كي لا تخسر جمال صلاتك وعطاءها لأن تجدّد في نفسك معنى صلاتك، معنى إيمانك بالله وخشوعك بين يديه، ومعنى انحنائك، ومعنى استلامك الأرض تعفّر بها جبينك، ومعنى جثوّك على ركبتيك تسجّل الشهادة على نفسك لله سبحانه بالوحدانيّة، ولعبده محمّد (صلّى الله عليه وآله) بتبليغ الرسالة.

والصلاة غنيّة بما يجدّد الحيويّة، ويضمن إرهاف الذهن والشعور، حتى يصبح هذا الإرهاف العقلي والعاطفي ملَكة راسخة... ولكنّ مفتاح ذلك هو عزمَة الجدّ الخشوع التي تبدأ فيها صلاتك وتعود إليها كلمّا سرحت عنها، فتصبّر نفسك في حقل الصلاة الثري، تجني من مفاهيمه وتتروى من مشاعره.

* * *

هذان المعنيان للصبر تقصدهما آيات الصبر والمحافظة على الصلاة، كقوله عزّ وجلّ: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) 132 - طه.

( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) 28 - الكهف.

( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) 238 - البقرة.

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ... وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) 1.... - 9 - المؤمنون.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) 9 - المنافقون.

وممّا يُلفت في التعبير القرآني جمال كلمة: ( وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) ، بدل كلمة:

٨٤

- واصبر- فإنّها توحي بلزوم دفعات متكرّرة من الصبر؛ لأنّ - اصطبر - بمعنى: تصبّر أي تكلّف الصبر، وكذلك هو الصبر على الصلاة دفعات من الجدّ تُمسك بها نفسك، فتتغلّب على المعوّقات عن أدائها، والمشوشات عن عطائها.

وممّا يلفت في آيات المحافظة على الصلاة، تخصيص صلاة الظهر بالتأكيد، نظراً لما يحتاجه المرء في وسط النهار من حُزمٍ لانتشال نفسه من العمل وحُزمٍ للتغلّب على مشاغل النفس وتوجيه الفكر والشعور نحو الله عزّ وجلّ.

عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لأبي ذر رحمه الله: (يا أبا ذر: ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب لاهٍ[ساهٍ]) رواه في الوسائل ج3 ص54.

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنّه دخل المسجد وفيه أناس من أصحابه فقال:

(تدرون ما قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنّ ربّكم يقول: إنّ هذه الصلوات الخمس المفروضات، من صلاّهنّ لوقتهنّ وحافظ عليهنّ، لقيني يوم القيامة وله عندي عهد أُدخِلُه به الجنّة....) الوسائل ج3 ص80.

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لكلّ شيءٍ وجه، ووجه دينكم الصّلاة، فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه...) الوسائل ج3 ص16.

٨٥

الإعداد للصّلاة بالتطهّر

(الطهارة): مصطلح إسلامي لنوعين أساسيين من النظافة:

*التطهّر من الخَبَث ، والخَبث هو: الأقذار التي حدّدها الإسلام، كالدم والبول والخمر والميتة وبقية النجاسات، وأوجب أن يكون المطعم والمشرب طاهرين منها، وأن يكون البدن والثياب حال الصلاة طاهرة منها.

*والتطهّر من الحَدَث، والحَدث هو: ما يوجب غسل البدن بتمامه؛ كالجنابة ومسّ الميت والحيض والنفاس، أو ما يوجب غسل الأطراف - الوضوء - كالنوم وما يخرج من الأسفلين.

ويفترق التطهّر من الخبث عن التطهّر من الحدث بأنّ المطلوب في الأوّل هو: مجرّد التطهير حتى لو حصل بدون نيّة القُربة إلى الله عزّ وجلّ، أو حصل قهراً وخطأً نتيجة السقوط في الماء أو سقوط الماء... بينما المطلوب في التطهير من الحدث: أن يحصل عن قصد، وأن تصاحبه نيّة التقرّب إلى الله عزّ وجلّ، وإلاّ اعتُبر باطلاً ووجبت إعادته عن قصدٍ ونيّة.

وللإعداد لصلاة بالتطهّر آثار بالغة في الصحة والنفس، وتنظيم المعيشة يناسب أن نُجملها هنا إجمالاً:

فكم هو مفيد من الناحية الصحيّة أن يلتزم الناس بالنظافة التزاماً دينيّاً لا مجال فيه للتكاسل والإغماض، وأن تكون النظافة شرطاً في قبول صلواتهم عند الله عزّ وجلّ، فيقوموا بتطهير أجسادهم وثيابهم بصورة دائمة، ويعملوا على إتقان ذلك؛ لأنّ الله تعالى: ( التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ... ) .

٨٦

إنّ فارقاً كبيراً في النتائج بين التوعية الصحية الحديثة، التي تعتمد شرح الفوائد والمضارّ، وإصدار الإرشادات الطبيّة، وبين التوعية الصحية بروحها الإسلامية، التي تعتمد بيان أحكام الإسلام بوجوب التطهّر وإجادته، وإنّ الله عزّ وجلّ يأمر بذلك ويشترطه لفرائض الصلاة اليومية، ويحبّ المتطهّرين المتعطّرين ويبارك نفوسهم وبيوتهم وصلواتهم.

وها هو الطبّ يؤيّد غسل البدن الذي يوجبه الإسلام، على أثر الجنابة وحالات النساء تأييداً كليّاً، ولكنّي لا أعرف شخصاً واحداً استطاعت التوعية الصحيّة الخالية من روح الإسلام، أن تلزمه بالاغتسال على أثر هذه الحالات... بينما استطاع الإسلام ويستطيع أن يلزم بهذه النظافة أبعد الناس عن الوعي الصحي.

إنّ أدنى المسلمين نظافةً هو الشخص الذي يغسل تمام بدنه على أثرِ الجنابة وحالات النساء، كما يغسل أطرافه مرّات كلّ يوم، ويحافظ على طهارة بدنه من النجاسات العارضة، ويغسل أسفليه بالماء كلمّا تخلّى عن الفضلات...

ولا غروّ فإنّ الإسلام دين الصحة والنظافة، وأغراضه فيها وفي غيرها متلابسة متّحدة، يمهّد كلّ منهما للآخر، ويحافظ عليه...

* * *

وكم هو مفيد نفسياً أن يشعر الإنسان وهو يَهْمر الماء على بدنه، ويصبّه على أطرافه؛ إنّه بذلك يستجيب لأمر الله لكي يقف بين يديه مطهّراً بنعمة الماء، ثمّ ليصبح مطهّراً بنعمة الصلاة...

كم هو مفيد أن يحسّ الإنسان بأنّ في الحياة أشياء أمره الله عزّ وجلّ بالتطهّر منها، كما أنّ فيها أفكاراً ومشاعر باطلة أمره بالتنزّه عنها.

* * *

أمّا في تنظيم المعيشة، فإنّ الالتزام بالطهارة يوجب إلى حدّ كبير التحفّظ الدائم عن الأقذار، وتنظيم غسل الأطراف، وتنظيم التخلّي عن الفضلات، كما يظهر أثر ذلك في تنظيم المعاشرة الزوجيّة... وفي ذلك أبلغ المنافع في تحقيق

٨٧

الصحة النفسيّة للأسرة، والحفاظ على النشاط الجسمي والجنسي وسلامة النسل.

إنّ أدنى ملاحظةٍ أو تجربة تبيّن لك البُعد الشاسع بين الراحة الكبيرة - الصحيّة والنفسيّة والمعيشيّة - التي يتمتّع بها المجتمع الملتزم بالتطهّر للصلاة، وبين المتاعب والفوضى التي يعيش فيها المجتمع غير الطاهر، وإن بدا لعينيْك نظيفاً.

( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) صدق الله العظيم.

٨٨

نَهي الصَّلاة عن الفحشاء والمنكر

معنى الفحشاء:

إنّ الاعتماد على الاستعمالات القرآنية لتحديد معنى مادّة (فَحَشَ)، أنفع من الاعتماد على كلمات اللغويين المضطربة في هذه المادّة...

نلاحظ أوّلاً: استعمال القرآن لكلمة - الفحشاء - مقابل كلمة - المنكر- في ثلاث آيات كقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ... ) 90 - النحل.

ممّا يَردُّ قول بعض اللغويين، أنّ معنى الفحشاء: كلّ ما نهى الله عزّ وجلّ عنه(1)؛ لأنّ هذا هو معنى المنكر كما ستعرف فلا وجه حينئذٍ للتقابل.

كذلك استعمال القرآن لكلمة - الفواحش - مقابل - كبائر الإثم والْلمَم - كما قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) 37 - الشورى.

ممّا يردُّ قول بعض اللغويين، أنّ معنى الفاحشة: ما يشتدّ قبحه من الذنوب (2)، إذ لو صحّ هذا التعميم لما كان وجه للتقابل أيضاً.

ونلاحظ ثانيا ً: تسمية الزّنا واللواط بالفاحشة، كما في قوله تعالى: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) 32 - الإسراء.

وقوله تعالى: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) 80 - الأعراف.

ونلاحظ ثالثاً : استعمال كلمة - الفحشاء - بمعنى البُخل، كما في قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاَ

________________________

1 - و 2 - راجع تاج العروس مادّة (فَحَشَ).

٨٩

وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) 268 - البقرة.

فبالإضافة إلى أنّ الآية واردة في سياق الأمر بالإنفاق، فقد ورد في الحديث الشريف تفسير الفحشاء في هذا المورد: (بالبخل) كما في تفسير القمّي، والدرّ المنثور.

*ونلاحظ رابعاً، استعمال كلمة الفاحشة بمعنى - بذاءة اللسان، وسوء الخلُق - كما في قوله تعالى: ( وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ - تضيّقوا عليهنّ - لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) 19 - النساء.

فقد أفتى الفقهاء بأنّ الفاحشة المبيّنة تشمل: السباب، وبذاءة اللسان.

*ونلاحظ أخيراً، استعمالاً قرآنياً لكلمة (الفواحش) في قوله تعالى: ( وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) 151- الأنعام.

وقوله تعالى: ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) 33 - الأعراف.

والفواحش الباطنة، رويَ تفسيرها عن ابن عباس: بالزنا، الذي كانت تستبيحه العرب.

نستفيد من ملاحظة هذه الاستعمالات القرآنية: أنّ معنى كلمة فاحشة - ومثْلها كلمة فحشاء التي هي اسم للفاحشة - يشمل المحرّمات الجنسيّة الظاهرة والباطنة، وشراسة اللسان والبخل، فحيث توجد معها قرينة تخصّصها بأحد هذه المعاني فهو، وإن لم توجد قرينة فلا بدّ من حملها على مجموع هذه المعاني، على الأقلّ أخذاً بشمول الإطلاق كما في الآية التي نحن بصددها: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، حيث أُطلقت الكلمة ولم تقيّد بمعنى واحد.

معنى المُنْكَر:

المنْكَر في اللغة هو: في الشيء المجهول، وفي المصطلح الإسلامي: كلّ ما نهى الله عزّ وجلّ عنه، وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم بالمعنى اللغوي، كما في قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) 62 - الحجر.

وبالمعنى الاصطلاحي في قوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) 104 - آل عمران، وفي عدّة آيات أخر.

والوجه في هذا الاصطلاح هو: تشبيه الأمور التي نهى الله تعالى عنها

٩٠

بالأمور المجهولة؛ لأنّها غريبة على السلوك الصحيح للناس.

ولا شكّ أنّ - المنكر - بهذا المعنى المصطلح يشمل الفحشاء؛ لأنّها قسم ممّا نهى الله عزّ وجلّ عنه، فيكون التقابل بينها في الآية من باب تقابل الخاصّ والعامّ، كما تقول: هذا الدواء ينفع في حالة الإرهاق والتعب، فإنّ التعب يشمل الإرهاق؛ لأنّه حالة من حالات التعب، ومع ذلك صحّ التقابل بالعطف؛ لاعتبار الخصوص والعموم.

* * *

وبعد اتّضاح معنى الفحشاء والمنكر، يتحدّد معنى الآية الكريمة: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، بأنّ الالتزام بأداء فريضة الصلاة من شأنه أن يبعد الإنسان بالدرجة الأُولى عن: المحرّمات الجنسيّة كافّة، وعن اثنين من أهمّ المحرّمات الخلُقيّة: - سوء الخلُق، والبخل - وبالدرجة الثانية عن: كافّة المحرّمات التي نهى الله عز ّوجلّ عنها - المنكرات -.

وقبل أن نتعرّف كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، نجيب على سؤال يوجّهه بعض الناس حول الآية، ومفاده:

أنّا نرى بعض المصلّين يرتكبون من الفواحش والمنكرات ما لا يرتكبه بعض تاركي الصلاة! فكيف لا تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟!

ومنشأ هذا السؤال تصوّر أنّ الصلاة كجرعة (الأسبرين) المضادّة للصداع، فكما إنّ تناول الأسبرين يزيل الصداع من الرأس، فكذلك أداء الصلاة يزيل الفحشاء والمنكر من السلوك...

غير إنّه من الخطأ إغفال الفارق ما بين العلاجات السلوكيّة، والعلاجات الفسيولوجيّة مثلاً، فإنّ العلاجات الفسيولوجيّة تقوم بتفاعلاتها وتؤدّي دورها في حقل لا يقع تحت إرادة الإنسان، أمّا العلاجات السلوكيّة فإنّ دورها: أن تقدّم للإنسان دوافع معيّنة تجعله يرجح - بإرادته - لوناً من السلوك ويستبعد لوناً آخر.

إنّ الصلاة لا تجعل الإنسان مسلوب الإرادة، مجبراً على ترك الفحشاء والمنكر، وإلاّ لما استحق الثواب، بل تهيئ في نفسه الدوافع الصالحة التي تدفعه

٩١

لترك الفحشاء والمنكر، ولنلتفت إلى أنّ الله تعالى عبّر بـ - تنهى - ولم يعبّر بـ - تمنع - أو تُزيل.

فما تختصّ به الصلاة إذاً هو غناها بـ (الدوافع النفسيّة الصالحة لإبعاد الإنسان عن الفواحش والمنكرات)، وهي دوافع تقع تحت اختيار الإنسان وإرادته، وتتوقّف استفادتها من الصلاة على تفهّم المرء لصلاته، وجمعه لقلبه عند أدائها، فمثل هذه الصلاة الواعية المتجاوبة، هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر...

كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمُنْكَر؟

علاقة الصّلاة بالسلوك:

السلوك هو: النشاط البشري بألوانه الواسعة، من الرضا والغضب، والإحسان والإجرام، والحرب والسلم، والذهاب والمجيء، والإيمان والكفر، والأكل والنوم، والقراءة والصلاة، وكلّ ما يقوم به الناس من أعمال خارجية إنّما هو في حقيقته انعكاس لوضعٍ نفسيّ هو: الإحساس الذي يَنتج بدوره عن الغرائز الكامنة في صميم الإنسان، وعن المفاهيم التي يحملها عن كونه وحياته ونفسه.

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً

كذلك هو السلوك البشري في مراحله المَعْمليّة: مواد طبيعية، هي الغرائز والأفكار، النظريّة والمكتسبة، تتحوّل في عمليّة نفسيّة - بتوسّط العقل أو بدون توسّطه - إلى مشاعر في النفس، ثمّ تتحوّل هذه المشاعر في عمليّة ثانية نفسيّة - بتوسّط العقل أو بدون توسّطه - إلى ألوان من النشاط تعجّ بها الحياة، نسمّيها (السلوك).

ولكن ما يتمّ تحوّله إلى أحاسيس وسلوك، هو القليل كما تراه في هذا الرسم البياني التقريبي:

٩٢

يوجد هنا رسم

إنّ الذي أوجب أن تقف كميّات من المفاهيم والغرائز، فلا تتحوّل إلى أحاسيس، وأن تقف كميّات من الأحاسيس، فلا تتحوّل سلوكاً... هو: القوّة والضعف في المفاهيم والغرائز والأحاسيس، فبينما تأخذ الغريزة الأقوى والمفهوم الأقوى طريقهما ليتجسّدا في النفس إحساساً، يبقى المفهوم والغريزة الأضعف، مجرّد مفهوم مختزن في الذهن، ومجرّد نزعة في النفس.

وبينما يأخذ الإحساس الأقوى طريقه ليتجسّد سلوكاً، يبقى الإحساس الأضعف مجرّد إحساس مختزن، لا يحرّك عصباً ولا يدفع إلى عمل...

وتبرز هنا بوضوح حاجة الإنسان إلى الدين، فما دامت نفس الإنسان تحوي كميّات كبيرة من الغرائز - الميول الطبيعيّة الخيّرة والشريرة - وما دام تركها وشأنها يؤدّي إلى غلبةِ الغرائز التي تملك الإثارة من الظروف الحياتيّة للإنسان، وهي الغرائز الجنسيّة، والأنانيّة، والغذائيّة على الأكثر...

فإنّ معنى ذلك : أن تأخذ هذه الغرائز طريقها لتتجسّد إحساساً فسلوكاً، ويعيش الإنسان بها على حساب مفاهيمه وعقله، ولا يكون فرق بينه وبين الحيوان؛ لأنّ كلاًّ منهما حينئذٍ يصدر في سلوكه عن مجرّد الغريزة وحسب: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ ) .

أمّا الدين ، فهو يقدّم للإنسان المفاهيم التي تنمّي في نفسه الغرائز الخيّرة، وتهذّب الغرائز الشريرة، ثمّ يقدّم له المنهج التربوي لتحويل كافّة الغرائز والمفاهيم المُزكاة إلى أحاسيس، ثمّ يدفع بهذه الأحاسيس لتتجسّد في سلوك عملي، ويجعل القائم على هذه العمليّة عقل الإنسان، حيث يُنيط به وعي المنهج التربوي وتنفيذه...

٩٣

إنّه لو لم يكن للدين برهان على كونه - حقّاً - من عند الله، إلاّ إنّه مشروعٌ بليغ لصناعة السلوك البشري، على ضوء العقل... لكفاه ذلك برهاناً على صحّته وأحقّيّته.

وها هنا يظهر دور الصلاة في التأثير على السلوك، وإبعاده عن الفحشاء والمنكر.

قال أحدهم بصورة عفويّة: (قبل أن التزم بالصلاة، كنت أنظر إلى كلّ شيءٍ باستهتار وبدون تفكير، أمّا بعد التزامي بالصلاة، فقد أصبحت أفكّر في الأمور وأتعجّب كيف كنت أعيش فيما مضى؟)، ثم أخذ يتحدّث عن تغيّر وضعه النفسي، وسلوكه الجنسي.

إنّ مَثَل مجموعة الغرائز والمفاهيم التي تحملها نفس الإنسان، كمثَل مجموعة من الورود والنباتات المفيدة والضارّة، تحملها مساحة من التربة. والصلاة تؤثّر منع النباتات الضارّة من النموّ في صفحة النفس والتحوّل إلى إحساس فسلوك.

وينتج عن ذلك؛ إزالة المانع عن النباتات المفيدة، كي تأخذ طريقها في النموّ والإثمار، أي إنّ الصلاة تؤثّر بصورة مباشرة على الغرائز والمفاهيم الشرّيرة، فتمنع ضررها، وبصورة غير مباشرة على الغرائز والمفاهيم الخيرة، إذ تزيل عنها الصعاب...

ونجد تأييد هذا المعنى من حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي مثّل الصلاة بنبع معدني يزيل الأدران: (أيسرّ أحدكم أن يكون على باب داره حمة، يغتسل منها كلّ يوم خَمس مرّات).

ومن ناحية ثانية، فإنّ الصلاة تقوّي وتنمّي الغرائز والمفاهيم الخيّرة - النباتات النافعة - وينتج عن ذلك؛ منع الغرائز والمفاهيم الضارّة من النموّ والأثمار السيئ، فإنّ المقصود بـ (ذكر الله) في الآية هو: الصلاة، ومعنى كونه (أكبر من الفحشاء والمنكر)، أنّه يعطي للنفس طاقة دفع للميول الخيّرة، ممّا يجعل ميول الفحشاء والمنكر تتضاءل وتضعُف في جانبها... وكذلك، فإنّ الملاحظ من عطاء الصلاة في أنفُس المصلّين هو: الدفع الإيجابي لنوازع الخير، ممّا ينتج عنه ردع النوازع المنكرة ومنعها عن النموّ.

* * *

٩٤

من أبرز ما في الصلاة:

أنّها توجب الالتزام بالتطهّر اليومي، تطهير الثياب والبدن من النجاسات، ومن حدث الجنابة، وشعور الإنسان بالتزامه في حياته بالتطهّر، مفهوم ينمّي فيه ضمير النزاهة، والترفع عن كثير من أمور الحياة.

ومن أبرز ما في الصلاة:

أنّها توجب في نفس الإنسان شعوره بالالتزام طوال حياته بالوقوف بين يدي الله تعالى، ومفهوم الارتباط بالله تعالى مدى الحياة، وبالحضور اليومي بين يديه، ينمّي في الإنسان النزعة العقليّة - نزعة الموضوعيّة، والجدّ في الأمور، ونزعة الخشوع للخالق سبحانه.

ومن أبرز ما في الصلاة:

شعور المصلّي بالانتماء إلى جماعة المصلّين في العالم، وعلى الأخصّ إلى من يلتقي بهم، ويؤدّي صلاته معهم في المساجد، ومفهوم الانتماء إلى الجماعة والشعور بالشخصيّة الكليّة بدل الفرديّة، ينمّي في الإنسان غريزة حبّ الناس، وغريزة الإيثار، وواضح أنّ هذه الغرائز من المقوّمات الأساسيّة لإنسانية الإنسان.

أمّا وجه تخصيص الصلاة بالنهي عن الفحشاء - والتي سبق تحديد معناها القرآني بالمحرّمات الجنسيّة، وشراسة اللسان، والبخل - فهو يدلّ على أنّ فائدة الصلاة هي بالدرجة الأُولى: للنهي عن هذه المنكرات السلوكيّة الخاصّة، وبالدرجة الثانية: النهي عن عموم المنكرات.

ويمكننا بهذا الخصوص أن نلحظ حالة المصلّين عامّة، ونقارنها بغيرهم من الذين يشابهونهم في الظروف الحياتيّة؛ لنجد أنّ نسبة الفواحش في المصلّين منخفضة إلى حدّ كبير عن نسبتها في غيرهم، أو نلحظ حالة أُناس لم يكونوا من المصلّين، ثمّ أصبحوا من المصلّين، لنجد الفارق الكبير بين ما كانوا يرتبكون من الفواحش قبل الالتزام بالصلاة وبعده.

كما يمكننا أن نقسّم المعنى القرآني للفحشاء إلى قسمين:

القسم الأوّل :

الفُحش الجنسي واللساني، وإنّما جعلناهما قسماً واحداً؛ لأنّهما من وادٍ واحد، فمنشؤهما الذي هو: الاندفاع الغريزي،وعدم الحياء يكاد يكون واحداً، كما إنّ الترابط السلوكي بينهما ملحوظ، ومن طبيعة هذه الفواحش، أنّها تستغرق الإنسان، وتطبع بطابعها تصوراته الذهنيّة، ىوسلوكه اليومي، أنّها كالإخطبوط يمهّد

٩٥

المَخلب الأوّل منه للمخلب الثاني، حتى تحتوي الإنسان وتصبح السمَة البارزة لشخصيّته، والدوافع الأساسية المحرّكة له.

وهنا يظهر دور صفة التنزّه، التي ينمّيها الالتزام بالتطهّر الدائم للصلاة، كما يظهر دور النزعة العقليّة، التي ينمّيها الخشوع اليومي أمام الله، فإنّ مجتمعاً يلتزم بالانضباط أمام الخالق في فترات يومه، ويُدلي بين يديه بالشهادة، ويتحمّل مسؤولية الاستقامة على منهجه، ويعفّر جبينه على الأرض خاشع الضمير؛ لهو أقرب من أي مجتمع آخر إلى التعفّف الجنسي والخُلقي، وأبعد عن الانغماس في دوامة الجنس، وقباحة الخُلق.

والقسم الثاني :

من الفحشاء هو: البخْل، ومنشؤه الروح الفرديّة، التي تنمو في نفس الإنسان، فتدفع به إلى الحرص وتمنعه العطاء.

ويظهر هنا ما لشعور الانتماء إلى جماعة المصلّين من أثر في نهي الإنسان عن فاحشة البخل، فلا شيءَ أنفع في معالجة النزعة الفرديّة الخطيرة، من تنمية النزعة المجموعيّة، وتطوير مفهوم الذات لدى الفرد؛ ليتّسع لمصالح وأهداف الجماعة بل وإيثارها.

وللصلاة في ذلك دورها الكبير، حيث تسهم إسهاماً رائعاً في إنشاء التجمّع البشري الموحّد، تحت لواء الله تعالى، وفي طريقه.

وسيتّضح ذلك بالتفصيل في بحث (التجمّع للصلاة)، وبحث (المعطيات الاجتماعيّة للصلاة) إن شاء الله.

٩٦

معالجة الصّلاة للهَلَع في الشخصيّة

الهلع هو : فقدان الثبات في الشخصيّة، وسرعة التغيّر بالمؤثرات المختلفة، التي تتوارد على النفس.

لا أقصد بذلك التغيّر من الرضا إلى الغضب، ومن الحزن إلى الفرح، ومن الهدوء إلى الثورة، فإنّ ذلك من لوازم بشريّة الإنسان، وإحساسه بما في نفسه وحياته، فالإنسان الذي يتأثر بمؤثرات الحياة المختلفة، دون أن يخرجه ذلك عن منهج الإسلام في فهم الحياة، والإحساس بها.. ليس إنساناً هلوعاً.

أمّا الإنسان الذي يتناقض في مواقفه ومشاعره مع منهج الإسلام في الحياة، فهو الإنسان الهلوع.

فالذي يرى في الوفاء قيمة إنسانيّة، ثمّ يرتكب الخيانة لأنّ فيها مكسباً عاجلاً، هو الإنسان الهلوع، والذي يؤمن بأنّ تقييم الناس يكون بمحتواهم النفسي من الاستقامة، ثمّ تأخذه المؤثّرات المظهريّة فيقيّمهم بأموالهم ومناصبهم... هو إنسان هلوع.

والذي تتغيّر شخصيتّه ومفاهيمه بسبب الفقر والغنى، والمرض والصحّة، والحبّ والبغض، وهذه البيئة أو تلك... هو الإنسان الهلوع... وما أكثر الأمثلة وألوان الهَلع في الناس وحياتهم...

والهَلع سِمة أصيلة من سمات أنفسنا، يتّصل وجودها بتكوين الأنفس، يقول الله عزّ وجلّ: ( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا... ) الضعف فيه قاعدة، والثبات استثناء، ولم يكن بدّ من هذا التكوين؛ لأنّ جهاز النفس يجب أن يكون جهازاً حيويّاً، مرهف الالتقاط... وفي ظرف تكثر فيه جهات الإرسال،

٩٧

وتتنوّع الموجات، يحدث أن يمتلئ الجهاز بالموجات الطوليّة والعرضيّة، السالبة والموجبة، المتواردة عليه.

يخرج أحدنا إلى عمله، فيسعده التوفيق بصديق حميم، طالما اشتاق إلى رؤيته، فيعتنقان بدموع الفرح، وذكريات الأخوّة، فتمتلئ نفسه حبّاً للحياة ومعانيها وأشيائها...

حتى إذا زحمه العمل، وأزعجه أحد الأشياء أو الناس، امتلأت نفسه نفرةً من الناس وغيظاً... ثمّ إذا تسلّم مرتّبه الشهري، عاد الرضا إلى نفسه... فإذا رجع إلى منزله، ووجد طفلته قد فجأها المرض، عادت الحياة سوداء في عيْنيه، فإذا غادرتها الحمّى في وقت لاحق من الليل، وارتاحت إلى نوم رفيق، عادت نفسه مزيجاً من الرضا والغضب والألم والراحة!

في يوم واحد تتوارد على نفس أحدنا ألوان الشرّ والخير.. فما بالك بحياتنا الطويلة، وهي مسيرة بين الأشواك والزهور، في سَهل الدرب وحَزَنه، ونسيمٍ عليل، وسمومٍ لافح... نعماء وضرّاء، ومسرّات وآلام...

يبدو أن الهَلع في الشخصيّة أمر لا مفرّ منه، ما دام ينبع من إرهاف أنفسنا، واختلاف المؤثّرات في حياتنا.

لكنّ الإسلام يرى أن باستطاعة الإنسان أن يتخلّص من الهَلع، بل ويرى في الهَلع تناقضاً في الشخصيّة وتمزّقاً ضارّاً... فأنْ تعيش في الحياة وتمارس خيرها وشرّها، لا يمنع أن تكون نفسك ثابتة النظرة، موحّدة المشاعر، متعالية على ما ينتابها من المؤثّرات.

ومفتاح ذلك في رأي الإسلام، أن تعرف المفهوم الواقعي للخير والشرّ، إنّ ما تراه يملئ حياة الناس من (خيرٍ وشرٍّ) ليس هو في الحقيقة خيراً ولا شرّاً، فلا الفقر ولا المرض، ولا الآلام والنكبات، والموت بشرٍّ ولا خير...! ولا الغنى والرفاه، ولا الجاه العريض والقوّة الواسعة، بخير ولا شرّ...! إنّها جميعاً عناصر أوليّة، وعجائن بيديك تجعلها خيراً أو شرّاً... يقول الله تعالى:

( فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلاَّ ) 15 - 17 - الفجر.

كلاَّ .. فلا هو التكريم والخير في النعماء، ولا هي الإهانة والشرّ في الضرّاء... إنّما هما صحيفتان مقدّمتان لك تملئ كلاًّ منهما بما شئت... فقد

٩٨

تكسب بثروتك شرّاً، وقد تكسب خيراً، وقد تكسب بفقرك خيراً، وقد تكسب شرّاً... والحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، والجميل والدميم، والذكي والغبي، والمشهور والمغمور، كلّ منهم قد يكسب بما هو فيه خيراً، وقد يكسب شرّاً؛ لأنّهم جميعاً يملكون عجائن قابلة للتحويل إلى الخير وإلى الشرّ، وبدرجات واحدة من القابليّة.

هذا هو التقييم الإسلامي لأشياء الحياة، وللمؤثّرات الناتجة عنها، موادّ خام من نوع واحد، لا بالخير ولا بالشرّ، وإن تراءت لأعيننا خيراً وشرّاً...

ومن ثمّ ، وجب في نظر الإسلام أن تمسّ هذه المؤثّرات سطح النفس، مساساً دون أن تنفذ إلى عمقها، وأن يكون المنبع لمواقف النفس وأحاسيسها، الخير الحقيقي لا المظهري، رضا الله تعالى ورضاه وحده... رضا الله الذي هو: تحويل المادّة الخام إلى خير، تحويل الابتلاء إلى نجاح... فبهذا تطمئنّ النفس إلى الخير الحقيقي، وتتخلّص من الهلوع صعوداً وهبوطاً، مع ما يتراءى لها من خير وشرّ.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عجبت للمرء المسلم، لا يقضي الله عزّ وجلّ له قضاءً إلاّ كان خيراً له، وإن قُرّض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له....) الكافي ج2 ص62.

إنّه الخير المطلق المضمون من مصدره، الموصول في منبعه، تتنعّم فيه النفس المؤمنة، وهي تمشي بين الأشواك والورود، وتقطع الحياة بنعمائها وضرّائها، دون أن تجزع من ضرّاء أو تطغى في نعماء، ودون أن تخضع في مواقفها وأحاسيسها لمؤثّرات الخير والشرّ الظاهريين...

وكذلك الإيمان، يتعالى بالنفس عن الهَلع بمؤثّرات الحياة، ويهبها الطمأنينة في كلّ حال:

يروى أنّه عندما أوثق البابليون نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، ووضعوه في المنجنيق؛ ليلقوا به في نارهم المضطرمة، أتاه جبريل (عليه السلام) فقال له: ألك حاجة؟ فأجابه (عليه السلام) باطمئنان: أمّا إليك يا أخي فلا!

ويخرج الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلده مكّة مهاجراً برسالته، بعد أن أجمع المكّيون على عدائه وقتله، فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة ذرّة من الحزن أو الجزع، ثمّ

٩٩

يدخل مكّة فاتحاً في جيش من جند الله، فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة ذرّة من زهو الانتصار الشخصي، بل يدخل خاشعاً ساجداً لله على قربوس جواده!

وتحلّ النكبات بالمؤمنين عبر التاريخ، فلا يرون فيها إلاّ رضوان الله، ويقطعون الحياة بحلوها ومرارتها، فيرونها حلوة كلّها برضوان الله...

إنّ الشخصيّة المؤمنة هي الاستثناء الوحيد من الهلع المرير، الذي يعصف بالناس من حولك... فمن أين تملك يا ترى هذه الوحدة المتينة الجميلة في الموقف والإحساس؟ وتنتصر بها على سِمة الهلع العميقة؟

يحدّد القرآن الكريم ثماني صفات لهذه الشخصيّة:

الصفة الأولى والأخيرة منها تتّصل بالصلاة ودورها في معاجة الهلع:

( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) . 19 - 35 المعارج.

والمقصود بالدوام على الصلاة في الفقرة الأُولى: الدوام على النوافل، وبالمحافظة على الصلوات في الفقرة الثامنة: المحافظة على الفرائص، الوسائل ج 3 ص51.

وبهذا يكون المعنى: أنّ مداومة الإنسان على صلاة النافلة، ومحافظته على صلاة الفريضة؛ هما عاملان على رأس وفي ختام ثمانية عوامل

١٠٠