السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي7%

السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 813

السيد محمد كاظم اليزدي
  • البداية
  • السابق
  • 813 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 288138 / تحميل: 13204
الحجم الحجم الحجم
السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السيّد محمّد كاظم اليزدي

سِيرتُهُ وأضواء على مرجعيّته ومواقفه

ووثائقه السياسية

١

٢

السيّد محمّد كاظم اليزدي

سيرته وأضواء على مرجعيّته ومواقفه

ووثائقه السّياسيّة

حقائق ووثائق ومذكّرات من تاريخ العراق السّياسي

لم يُنشر بعضها من قَبل

كامل سلمان الجبوري

٣

بسم الله الرّحمن الرحيم

٤

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجَبين.

وبعد:

العراق، أو بلاد مابين النهرين، البلد الغني بخيراته الوافرة، الثريّ بثرواته المعدنية والزراعية التي لا تنضب، ممّا جعلته منذ أمدٍ بعيدٍ محطّ الأنظار، خصوصاً أنظار الدول الاستعمارية الطامعة، التي أخذت تُعنى عنايةً بالغة في تدبير الكيفيّة التي يمكن بها أن تسيطر على هذه الثروات الطائلة، وأن تتغلغل بين ظهراني أبنائه، والاتصال بمختلف طبقات سكّانه، فتارةً بمشاريع كبرى، وأُخرى عن طريق خيريات وتبرّعات ومساعدات إنسانية كـ ( خيرية أوده ) وغيرها.

ولم يتركوا أيّة فرصة في التغلغل بين الصفوف لكسب رضا الناس واسترضائهم، ومجاملة زعماء الدين المتنفّذين، ولم يَدُرْ في خَلَدهم أنّ زعماء الدين كانوا يقظين كل اليقظة، يتابعون عن كثب جميع تصرّفاتهم ومحاولاتهم، بالرغم من السُبات العميق الذي يغطّ به الحكّام الأتراك، حكّام العالم الإسلامي الكبير.

إضافةً إلى الخلفيّة التاريخية التي يتمتّع بها العراق، فقد كان له دور كبير في التاريخ الإسلامي، حتى أصبح يمثّل الحجم الكبير في هذا التأريخ، باعتبار أنّه البلد الذي عاشت فيه الأحداث الكثيرة، التي تركت بصماتها على كل ملامح الأوضاع السياسية اللاّحقة في مختلف بلاد العالم الإسلامي في حياة الشعوب الإسلامية، بحيث لا تجد أي تجمّع إسلامي في انتماءاته المذهبية، أو في اتجاهاته الفكرية، أو في خطوطه السياسية، إلاّ وتلاحظ وجود شيء عراقي في أي جانب من تلك الجوانب، سواء كانت: فقهية أو كلامية أو لغوية أو سياسية؛ لأنّ العراق كان يحمل في تأريخه اتجاهات تلك الجوانب، سواء كانت فقهية أو كلامية أو لغوية أو سياسية.

وفي العراق مدينة النجف الأشرف، التي تمثِّل المركز العلمي الديني الأوّل للمسلمين في العالم؛ فهو الذي يتولّى إعداد الفقهاء الذين ينطلقون لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون، أو ليمنحوا الفكر الفقهي والفلسفي عمقاً وامتداداً وحيويّة، وليفتحوا النوافذ على آفاق الشعر والأدب، من خلال الشعراء والأُدباء الذين يعيشون في دائرة النشاط الثقافي الإسلامي في النجف الأشرف.

٥

وهو بعد ذلك - أي النجف - يراقب الأوضاع السياسية المتحرِّكة في العالم الإسلامي، لاسيّما في البلدان التي ترتبط بالمرجعيّة الدينية في النجف، وتتحرّك من خلال الفتاوى الصادرة عنها لتواجه حاكماً ظالماً، أو دولة جائرة، أو محتلاًّ كافراً غادراً؛ لأنّ الحركة التي تنطلق من الفتاوى الشرعية تُبدع الشهادة في مواقع الجهاد، وتوحي بالأجر العظيم في مواقع التضحية... الأمر الذي يجعل الواقع السياسي الإسلامي متأثِّراً، بطريقة سلبية أو إيجابية، بالواقع الفقهي الذي يمثّله العلماء الفقهاء في حركتهم الشرعية في الصعيد السياسي سلباً أو إيجاباً.

وقد عاشت المرجعيّة الدينية في القرن الرابع عشر الهجري حركةً حيّةً في الواقع السياسي الذي كان يطلّ - في أكثر من مرحلة تاريخية - على إيران باعتبار الارتباط المباشر بين المرجعيّة وبين الشعب الإيراني المسلم الذي يلتزم بفتاواها، ويتحرّك من خلال تعليماتها في قضاياه الداخلية على مستوى التعقيدات المتصلة بشخصية الحاكم، وطبيعة الحكم وشرعيّة القانون وقضاياه الخارجية المتصلة بعلاقاته بالدول الأجنبية الكافرة، التي كانت تحاول السيطرة على مقدَّراته السياسية والاقتصادية، فيما كانت تخطّط له من معاهدات واتصالات، وما إلى ذلك، فكانت الفتاوى الشرعية تواكب التحرّك الشعبي وتوجِّهه وتقوّي مواقعه، وكانت التعليمات الحركية، والمداخلات السياسية تعمل على ترشيد الحركة.

ولنا في الحركة الدستورية ( المشروطة والمستبدّة ) خير دليل على الانفتاح السياسي في ذهنيّة المرجعيّة الدينية، وفي حركيّتها الثوريّة، فلِقادة المشروطة رأيهم في قيادتها للسير بالأُمة إلى حياةٍ حرّةٍ كريمة تحت لواء الشورى والديمقراطية، ولزعماء المستبدّة بُعد نظرهم في عدم السير بركاب قافلة أُولئك؛ لِما آل إليه المصير - فيما بعد - متحققاً ما كانوا يخشونه من نتائج.

وإذا جرينا مع حركة الجهاد على ١٩١٤ في العراق، فإنّنا نجد وعياً إسلامياً وحدويّاً متقدّماً في مواجهة الانكليز، بالانضمام إلى الجيش التركي الذي كان يمثِّل الدولة العثمانية الإسلامية، في الوقت الذي كان علماء الشيعة في النجف وفي غيرها يعانون من ضغط الأتراك على المستوى السياسي والمذهبي، ممّا قد يترك تأثيراً على مستوى التحرّك في الأوساط التي تفكّر في الدائرة الإسلامية بطريقة مذهبية، التي يفضّل فيها البعض الخضوع للحاكم الكافر على الخضوع للحاكم المسلم، إذا كان من مذهب آخر، انطلاقاً من العقدة المذهبية أو في الممارسات الظالمة في تصرّفه تجاه أهل مذهبه.

إنّ دراسة وثائق تاريخ العراق السياسي الحديث توحي إلينا بأنّ المرجعيّة عندما تتحرّك في خطّ الثورة الشعبيّة ضد المستعمر الكافر، فإنّها تتحرّك في المستوى الرفيع من الوعي السياسي المنفتح،

٦

والإرادة الحديدية والموقف الصلب، وانطلاقاً من عمق الحكم الشرعي الإسلامي في مسألة الجهاد، بنفس القوّة التي يمارسون فيها الحكم الشرعي في العبادات من الصلاة والصيام والحج ونحوها، وانسجاماً مع مصلحة الإسلام العليا في مقابل الكافرين والظالمين، بعيداً عن العقدة المذهبية.

وهذا ما حصل للسيد اليزدي مع عدد من الأحداث الصعبة، والمشاكل العويصة، على واقع الساحة الإسلامية، خصوصاً العراق وجيرانه.

وكانت أُولى القضايا التي واجهته هي: قضيّة الحركة الدستورية ( المشروطة ) وكانت يومذاك المرجعيّة الدينية منحصرة بين زعيمين كبيرين هما: الميرزا محمد كاظم الآخوند الخراساني، والسيد اليزدي. وهما البقيّة من عدد من المراجع الذين ذهبوا إلى جوار ربّهم في حقبة قريبة.

فقد وقف السيد اليزدي من المشروطة موقفاً حيادياً، وكلّما أُريد منه - وبإصرار - على الموافقة، وأصرّ هو على الامتناع ( باعتبار أنّه أمر مجهول العاقبة، ولا يسوغ لي الموافقة على أمر مجهول، بل ربّما كان يبوح ويقول إنّه أمر لا يترتّب عليه إلاّ الضرر والفساد، ولكنّي لا أمنع ولا أُوافق ).

إضافةً إلى ذلك، فقد كانت نظرته إلى المشروطة قائمة على أساس رصد الممارسة الفعليّة، التي يقوم بها بعض رجال المشروطة، وتشخيص دوافعهم من ورائها. وكان يعتبر أنّ موقفهم الحقيقي معادٍ للإسلام، وأنّهم يريدون تعطيل أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. ولكنّ الفريق الآخر بعدم موافقته جعله معارضاً، بل جعله زعيم المستبدّة ورئيسهم، فبالغوا وبلغوا الغاية في توهينه وسبّه، والطعن عليه، حتى صدّقت الأيام فراسته، وبرهنت على بُعد نظره وعمق غوره.

ومن مواقفه على الساحة العربية الإسلامية، هو الإفتاء بوجوب الدفاع عن طرابلس الغرب - ليبيا، ضد الاحتلال الإيطالي، ومواجهة التحدّي الاستعماري الذي تتعرّض له البلاد الإسلامية.

وشارك في قضية الاحتلال الروسي لبعض المدن الإيرانية الشمالية، بإصداره بياناً أفتى فيه بالجهاد، واستنكر بشدّة الهجوم الاستعماري الذي تقوم به كل من: إيطاليا وروسيا وبريطانيا على بلاد المسلمين، ودعا إلى التصدّي للاستعمار والتنبّه لمكائده، والدفاع عن كيان الدولتين الإيرانية والعثمانية. هذا بالرغم من سوء علاقته بالحكومتين، ولكنّ رؤيته للخطر الذي تتعرّض له البلاد الإسلامية، وتشخيصه لأبعاد التحدّي الاستعماري جعلته يتخذ هذا الموقف الحاسم.

وفي حركة الجهاد ضد الغزو البريطاني للعراق ١٩١٤، وقف موقفاً مشرّفاً قيادياً في تعبئة الجماهير، فقد كان - بصفته المرجع الديني الأعلى - في طليعة العلماء الذين أفتوا بالجهاد، ولم يكتف بهذا، بل أرسل ولده ( السيد محمد ) على رأس وفد من العلماء للإشراف ميدانيّاً على مجريات المعركة،

٧

والشدّ على أيدي المجاهدين، وبقي هو في النجف يقود المعركة، ويعبّئ لها الرأي العام، من خلال مكاتبته لزعماء القبائل ورؤساء المدن والقصبات للالتحاق بجبهات القتال، وإدارة المعركة...

وله دور في حركات العصيان والثورة على الأتراك كحادثة عاكف بك في الحِلّة، وحادثة حمزه بك في كربلاء، ومعارك بني حسن مع النجفيين، وغيرها، على نحو ما سنفصِّله في الفصل الخاص بها.

أمّا الموقف الأكبر الذي أثار كثيراً من التساؤلات، فهو ما حدث بعد مقتل الكابتن مارشال، والذي أُطلق عليه (ثورة النجف )، فقد أوغلتُ بتفاصيله ومناقشته، وخرجتُ بنتائج وضعتها أمام القارئ الكريم على هيئة يوميّات، أو حِقَب زمنيّة، بالقدر الذي يعطي كامل الدور، ويصف الحالة بكل تفاصيلها ودقائقها؛ ليطّلع المتتبع على سلامة الدور الذي لعبه السيد اليزدي، مستوفياً ذلك ممّا أفادتنا به مصادرنا ووثائقنا.

أمّا في الثورة العراقية، التي بدأ زعماء القبائل، وشيوخ الأطراف في النجف، وشبابها المتطلّعين يخططون لها، فقد قام ثلّة منهم بمفاوضة السيد اليزدي في الأمر سرّاً وتحت حُجب الخفاء. ولمعرفة السيد بأحوالهم وعدم ثقته ببعضهم؛ تنصّل من الدخول معهم ومساعدتهم، وقال لهم: ( أنا لا آمركم ولا أنهاكم، فدعوني جانباً وملجئاً عند الفزع، وعدم الفوز، لا سمح الله ). ولكن المضبطة التي نظمّت للمطالبة بحكومة مستقلّة استقلالاً تامّاً ناجزاً برئاسة ملك عربي مسلم، مقيّد بدستور مجلس تشريعي منتخب، كجواب وحلّ وسط للآراء حول عملية الاستفتاء، كان تنظيم هذه المضبطة بموافقة واستشارة السيد اليزدي. وأخيراً كان الصواب في عدم موافقته... إذ تحرّك الرؤساء والزعماء فكانت الفوائد لهم، والنتيجة لأُولئك الذين ما أُصيبوا في تلك الحوادث بشوكة، ولا خسروا في الثورة قلامة ظفر، والوزر والكفاح على أُولئك الضحايا، وسُرقت تلك الجهود دون أن يستفيدوا منها شيئاً.

والسيد محمد كاظم اليزدي، الأُنموذج المرجعي الرائع، أُثيرت حوله الكثير من التهم والشكوك، حتى صار التعرّض له، وإثارة التهم حول موقفه مع الانكليز لازمة منهجية في الدراسات التأريخية للمرحلة التي عاصرها، ولعلّ تحديد الموقف الحقيقي لهذه الشخصية التاريخية تجاه الانكليز من تعاطف أو حياد أو عداء، أصبح يمثّل منطقة حسّاسة في تأريخ العراق المعاصر، وإصدار الحكم بحقّها مسألة خطيرة ليس من أبعادها الأدبية والأخلاقية، باعتبار أنّ المتّهم في ذمّة التأريخ، والتريّث في إصدار حكم تأريخي بحق أي شخصية من الماضي، لا يمكن أن يتجاوز الثوابت المنهجية التالية:

٨

١ - إنّ الماضي له ظروفه ومكوّناته التي تختلف عن الحاضر؛ وعليه، لا يمكن اعتماد عرف الحاضر كوسيلة لتقويم الماضي وتفسير وقائعه وحوادثه؛ لأنّ حوادث الماضي لها بعدها التاريخي في الانتماء لمرحلة سابقة، لها ظروفها وأجواؤها ومحرّكاتها الخاصة.

٢ - عدم دقّة المؤرِّخين، أو كتّاب التأريخ، ومسجّلي الحوادث، مهما كان حجم جهودهم المبذولة؛ لأنّ الموقف التأريخي يتشكَّل من عنصرين أساسيين: الفعل والدافع، فإذا كان الفعل يمكن رصده وملاحقة تفصيلاته وجزئيّاته وصولاً إلى درجة الدقّة القياسية، فإنّ الدافع يخرج عن ضوابط الرصد الصارمة، ولا يمكن أن تتحقق حالة القطع النهائي في الإحاطة التفصيلية بالدافع، بحيث تشكّل مسلّمة تاريخية نهائيّة غير قابلة للنقاش، وحتى الإقرار الشخصي الذي يُعتبر وثيقة تاريخية عالية الأهميّة، لا يمكن في بعض الحالات الأخذ به كمسلّمة تاريخية.

٣ - إسناد الكثير من المواقف التاريخية إلى غير أصحابها الحقيقيين، فبروز بطل تاريخي على حساب آخر لم يصل إليه التسجيل التأريخي لأسباب مختلفة، ربّما كان بعضها عضويّاً، وقد تقود الأحداث والظروف رجلاً إلى قمّة الموقف التاريخي دون إرادته، وبمقدّمات صنعها آخر أو آخرون، ولهذه الحالة أمثال كثيرة في تأريخ الشعوب، حيث تشمل العناية البعض وتهمل البعض.

٤ - إنّ الشكل العام للحوادث يدور بين جهتين، وفي كثير من الأحايين تكون نتائجها إيجابية لجهة، وسلبية لجهة أُخرى، وهذا شيء طبيعي. إلاّ أنّ هناك حالة ثالثة، هو أن تصب النتائج النهائية لصالح جهة لم يكن لها في الحدث أي علاقة. فلا يمكن أن نجعل من أحد الطرفين له علاقة مع المستفيد الأخير، وهذا ما حدث فعلاً مع مواقف السيد من المحتل البريطاني، الذي أشار مراراً إلى أنّه أفاد من مواقف السيد اليزدي.

ولابد من الإشارة إلى أنّ انعكاسات موقفه من المشروطة، جعلت من بعض مناصريها وهم طليعة الأُدباء والشعراء والمثقّفين والصحفيين النجفيين - يومذاك - منابر إعلام مضاد في إبراز مواقف السيد اليزدي بشكل مشوّه، غير أنّ السيد اليزدي لم يكترث لهذه الحرب الإعلامية، ولم يردّ على افتراءاتها وتصوّراتها.

* * *

علاقتي مع السيد اليزدي تمتد جذورها إلى عام ١٣٩٢ هـ / ١٩٧٢ م، عندما نشرت كتابي ( الكوفة في ثورة العشرين ) يوم لم تصل إلى يدي أيّة وثيقة، أو تحت تصرّفي المصادر الكافية، ولم تنكشف أمامي

٩

الحقائق التأريخية كما هي اليوم، فكانت دراستي يعوزها ما حصلت عليه فيما بعد، وثائق ومستندات ورسائل وبيانات ومصادر، ومقابلات شخصية مع معاصريه ومؤيّديه ومناوئيه.

وقد عزّز هذه المقابلات لقاءاتي المتكرّرة مع المغفور له العلاّمة المحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي، والذي ارتبطت معه بصحبة وثيقة بواسطة الأُستاذ الفاضل المغفور له الشهيد عبد الرحيم محمد علي، فقد تفضّل السيد المحقق بإعارتي مجموعة من الوثائق الخطّيّة وسماحه لي بتصويرها.

ثم تابعت السيد اليزدي بما ورد عنه في الوثائق والتقارير الانكليزية، التي نشر بعضها في صحفهم التي أصدرتها حكومة الاحتلال، وبياناتهم التي وزّعوها، أو مذكّرات قادتهم التي طُبعت فيما بعد.

وبعد أن كتبت عن سيرة السيد اليزدي، ومسيرته الدراسية والتدريسية، وأحواله الشخصية والاجتماعية، ومرجعيته وحياته العلمية، وسلّطت الأضواء على مواقفه التي وقفت منها موقف المحايد - وهذه طريقتي التي اعتدتها في كتاباتي - وأيم الله العلي القدير - لو أنّي توصّلت في بحثي غير هذا؛ لأثبّته، ولأعطيت فيه رأيي دون مراباة أو محاباة، ولم تأخذني في الله لومة لائم.

ولم أخرج دراساتي الأخيرة عن تاريخ النجف السياسي الحديث في وقت سابق؛ لئلاّ تخضعني الظروف فينحرف القلم إلى غير الواقع. فهذا جميع ما في قناعتي، خبرة دراسة واعية لتأريخ العراق السياسي ووضعه الاجتماعي، لفترة تبدأ من قُبيل الاحتلال البريطاني وما تلتها من أحداث ووقائع.

ولم تكن هذه الإشارات السريعة التي أوردتها، أقصد من ورائها الدفاع عن السيد اليزدي كشخصية مرجعيّة عُليا لها شأنها المتقدّم في تلك الفترة، إنّما سقتها كمقدّمات سريعة لدراسة دوره ومواقفه في الأحداث التي عاصرها بسياقاتها الحقيقية من خلال الوقائع الحاصلة آنذاك.

ومازلنا بصدد إصدار تقويم حقيقي حول شخصية السيد اليزدي، فمن الضروري أن نسير مع الحدث في تطوّراته اليومية المتلاحقة وصولاً للحقيقة المتوخّاة...

فكان كتابي هذا يضم خمسة فصول، وخمسة ملاحق، وهي كالآتي:

الفصل الأوّل: سيرته ودراسته وتدريسه:

وقد تحدثت فيه عن: نسبه وأُسرته وولادته، ودراسته وأساتذته في: يزد ومشهد وأصفهان والنجف الأشرف. ثم تدريسه وتلامذته، وقد ترجمت لأكبر عدد منهم، فإجازاته العلمية والروائية، وذكرت شيوخه بالرواية، وممّن أجازهم بالاجتهاد والرواية.

١٠

الفصل الثاني: مرجعيّته وحياته العلمية:

وفيه الحديث عن مرجعيّته العلمية العليا، وآرائه الفقهية المتميّزة، وبراعته في علم الفقه والأُصول، ثم ذكر جوانب من أخلاقه وطباعه، وفهرساً تفصيلياً لتصانيفه ومؤلَّفاته، ونظمه للشعر العرفاني، فمشاريعه: كمدرسته الكبرى، وموقوفاته لسدّ نفقات المدرسة، ومدرسته الثانية.

الفصل الثالث: أضواء على مواقفه:

وقد تحدثتُ فيه عن مواقفه من الأحداث التي عاصرها، كالحركة الدستورية الإيرانية ( المشروطة ) وتداعياتها في العراق، والهجوم الايطالي على طرابلس الغرب - ليبيا، والهجوم الروسي على إيران، وحركة الجهاد ومقاومة الغزو البريطاني للعراق، والحوادث التي تلته من خلال الانفلات الأمني، فمقتل الكابتن مارشال ( ثورة النجف ) وتداعياتها، ثم مقدّمات الثورة العراقية.

الفصل الرابع: في رحاب الخلود:

وقد أوردت فيه وصيّتيه: الأُولى والثانية، ثم مرضه ووفاته، والمآتم ومجالس التأبين التي أُقيمت بالمناسبة والمراثي التي أُلقيت فيها، وأقوال العلماء فيه، وترجمت لأولاده وأحفاده وأعلام أُسرته، ورسمت مشجّراً لأُسرته ونسبه، وختمت الفصل بأهم مصادر ترجمته العربية والفارسية.

الفصل الخامس: الوثائق السياسية الخاصة بمواقفه من الحركات والأحداث، التي بحثتها في الفصل الثالث، مع صورها عن النسخ الأصلية المخطوطة، ومصادر الحصول عليها.

أمّا الملاحق فهي:

- صفحات من مذكّرات الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

- من مذكّرات السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني.

- الصحيفة الكاظمية: من إنشاء السيد اليزدي.

- الكلم الجامعة والحكم النافعة: من إنشاء السيد اليزدي أيضاً.

- بستان نياز وكلستان راز: من إنشاء ونظم السيد اليزدي كذلك.

وختمت الكتاب بوصفٍ لأهمّ مصادر ومراجع الكتاب.

وقد ضمّنت فصول الكتاب بصور فوتوغرافية ووثائق خطّيّة، أثبتّ نصوصها كما هي؛ حفاظاً على الأمانة العلمية والتاريخية، دون أي تغيير أو إضافة، كما كتبها صاحبها.

وبعد أن أكملت الكتاب وأنجزت تأليفه وإعداده، قمت بزيارة مكتبة المحقق الطباطبائي في قم - إيران، وحظيت بمقابلة العلاّمة الفاضل السيد علي بن السيد عبد العزيز الطباطبائي، وأطلعني

١١

على المسوّدات التي كتبها والده، وزوّدني ببعض الصور الفوتوغرافية التي تهمّ البحث، فله منّي جزيل الشكر ووافر التقدير.

كما أتوجّه بالشكر الجزيل والثناء العاطر لكل مَن آزرني في إخراج هذا الكتاب: بتقديم وثيقة، أو ترجمة نصّ، أو إرشادي لمصدر وغيرها.

هذا ما استطعت تقديمه، وكلّي أمل أنّي قد قمت بجزء من الواجب الذي تحتِّمه عليّ خدمة الوطن العزيز ورجاله المخلصين.

وما التوفيق إلاّ من عند الله،

حسبي الله ونعم الوكيل،

عليه توكّلت وإليه أُنيب.

العراق - الكوفة،

السبت في ١ ربيع الثاني ١٤٢٧ هـ،

٢٩ نيسان ٢٠٠٦ م.

كامل سلمان الجبوري

مؤسِّس المتحف الوثائقي لثورة العشرين

في النجف، ومديره سابقاً.

* أفدنا في إعداد هذه المقدّمة ونصوصها من المصادر التالية:

- تاريخ العراق السياسي المعاصر ج ٢.

- دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار.

- مذكّرات الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

١٢

السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قُدّس سرّه)

١٣

١٤

الفصل الأوّل

سيرته ودراسته وتدريسه

* نسبه وأسرته.

* ولادته.

* دراسته وأساتذته.

- يزد.

- مشهد.

- أصفهان.

- النجف الأشرف.

* تدريسه وتلامذته.

* إجازاته العلمية والروائية.

١٥

١٦

نسبه وأُسرته

هو السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم بن إبراهيم بن السيد علي الطباطبائي اليزدي.

والطباطبائيّون سادة حسنيون من ذرّيّة السيد إبراهيم الملقّب بطباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام)(١) .

ينحدر السيد اليزدي من أُسرة فلاّحيّة تعمل بالزراعة، فوالده السيد عبد العظيم من أحد ملاّكي قرية (كسنو )(٢) من قرى يزد، تبعد عنها بحدود ٣٠ ميلاً، وهي الآن داخلة ضمن حدود البلدة، ويعمل لنفسه في أراضيه بالزراعة.

ولادته

وُلد السيد اليزدي في قرية (كسنويه ) على وزن جعفريّه سنة ١٢٥٢ هـ(٣) .

____________________

(١) أوردت بعض المصادر أنّ والد السيد عبد العظيم هو ( إسماعيل بن إبراهيم بن علي الطباطبائي ).

انظر: ترجمة السيد إسماعيل بن حسين بن إسماعيل، في بحث ( أولاده وأحفاده... ).

وقد وجدت ضمن أوراق السيد عبد العزيز الطباطبائي سلسلة نسب لم يتم تحقيقها بعد، نصّها: ( السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي بن عبد العظيم بن خليل بن محمد علي بن محمد حسين بن سعيد بن أبي الحسن بن محمد سعيد بن أبي الحسن بن محمد ابن فاضل بن قاسم بن محمد بن القاسم المدفون بطوشال من قرى أصفهان ابن أمير بن حسن بن محمد بن زين العابدين بن إسماعيل بن عباد بن أبي المجد بن عباد بن علي بن حمزة بن طاهر بن علي المكنّى بأبي الحسن الشاعر الملقّب بشهاب الدين بن أحمد بن أبي الحسن محمد الشاعر الأصفهاني المتوفّى سنة ٣٢٢ هـ، ابن أحمد المكنّى بأبي الفتوح المتوفّى بأصفهان، المكنّى بأبي جعفر المدفون عند جدّه بجميلال بأصفهان، ابن الرئيس أحمد المكنّى بأبي عبد الله بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

(٢) كسنويه: اسم بنت يزدجرد، آخر سلاطين الفرس، الذي فرّ هارباً فقُتل في طاحونة، وكانت القرية لها فسُمّيت باسمها.

(٣) ورد في مسوّدات كتاب ( السيد اليزدي ) للسيد عبد العزيز الطباطبائي: أنّ تأريخ ولادته هذا ( على الصحيح الثابت عند أُسرته وذويه، من أنّ عمره الشريف حين قُبض ٨٤ سنة، لا ما اشتهر أنّ ولادته كانت عام ١٢٤٧ هـ، لاشتهار أنّه بلغ التسعين من العمر ).

انظر: نقباء البشر - خ - ص ١٥، وفيه: أنّ ولادته سنة ١٢٤٧ هـ، و( المشهور عند أحفاده أنّه وُلد سنة =

١٧

دراسته وأساتذته

يزد:

عندما ترعرع السيد اليزدي وشبّ؛ ظهرت أسارير الذكاء والنبوغ في وجهه، وأحسّ والده بذلك، رغب أن يدخل ولده في سلك العلماء ويتزيّن بزيّهم، وكان يبدي له ذلك حيناً بعد حين، وآونة بعد أُخرى، إلاّ أنّ السيد اليزدي لم يكن راغباً في ذلك لاستئناسه بالوضع الذي كان عليه أبوه من الزراعة والتعيّش عن طريقها.

توفّي والده وله من العمر أحد عشرة سنة، فاغتمّ السيد اليزدي لذلك غمّاً شديداً، وبلغ به الأسى والحزن، وبقي وهو الوحيد ينوء بحمل عائلة مكوّنة من سبعة بنات ولما لم يكن سواه، ولم تكفِ واردات أرضهم الزراعية لنفقاتهم، فقد عمل مستخدماً في مدرسة بقرية قريبة من منطقتهم، وهناك تعلّم القراءة والكتابة والمقدّمات، وبدت علامات النبوغ تظهر على أساريره، أبلغه القائم بشؤون المدرسة أن ينخرط في صفوف طلاّبها، وأن يترك عمله في الخدمة.

واستمرّ طالباً في المدرسة فترة من الزمن، ثم غادرها إلى مدينة يزد(١) .

وفيها اشتغل بالدراسة لدى أساتيذها، واختار لنفسه حجرة في مدرسة دومنار ( مدرسة محسنية يا دومنار ) المعروفة في يزد(٢) .

وفي يزد(٣) قرأ مقدّماته في العربية على الملاّ حسن بن محمد إبراهيم الأردكاني(٤) .

____________________

= ١٢٥٢ هـ ).

(١) هذا ما حدثني به سماحة العلاّمة السيد محمد مهدي الخرسان، عن السيد محمد بن السيد إبراهيم الديواني - أحد تلامذة السيد اليزدي - وقد سمع الديواني أستاذه يتحدث ببدايات حياته مراراً، وبين حديث وآخر يفصله بعبارة: ( كوش مدي أغا زاده ) أي: اعتبروا يا أبناء السادة، اسمع يا بن السيّد.

وحدثني به أيضاً الشيخ محمد شريف آل كاشف الغطاء، نقلاً عن والده الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وهو الآخر من تلاميذ السيد اليزدي.

(٢) يذكر السيد رضا الطباطبائي أنّه زار الحجرة التي كان يسكنها السيد اليزدي، ويغلب ظنّه أنّها كانت في زاوية المدرسة أو قريباً من الزاوية.

(٣) انظر: نجوم السرد بذكر علماء يزد، ص ٧١١.

(٤) الشيخ المولى حسن بن محمد إبراهيم بن محتشم الأردكاني اليزدي ( ت ١٣١٥ هـ )، عالم فقيه، فاضل، متتبّع، ورع، جليل، تقي، زاهد عابد، متبحّر في الأدب العربي، وله يد طولى في الشعر.

من كتبه: شرح قصيدة السيد الحميري العينيّة. =

١٨

وسطوح الفقه والأُصول على الآخوند ملاّ هادي بن ملاّ مصطفى (ت ١٣٠٨ هـ)، والآخوند زين العابدين عقدايي ( كان حيّاً ١٣٢٧ هـ ).

مشهد:

وبعد أن أنهى دراساته في يزد، سافر إلى المشهد الرضوي المقدّس للتشرّف بزيارة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وللاستفادة من علمائها، وكانت يومذاك تعجّ بكثير من أعيان العلماء والمدرِّسين، وهناك درس الفقه والأُصول والفلسفة والهيئة والرياضيات على خيرة أساتذتها(١) .

أصفهان:

وحيث رأى استغناءه عن أساتيذه هناك؛ توجّه إلى أصفهان، فشرع في الحضور في نوادي العلم الكبرى التي يحضرها العلماء، وفحول الفقهاء من أهل أصفهان، وقاطنيها من أهل البلدان لشهرتها بمعارفها، ورواج أسواق العلوم بها، فقد حضر درس الأُستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الأصفهاني(٢) مع ولد أستاذه الشيخ محمد تقي المعروف بأغا نجفي(٣) ، والشيخ حسين الشيرواني

____________________

= ( ترجمته في: أعيان الشيعة ٥ / ٢٣٦، الذريعة ١٤ / ٩، معجم المؤلِّفين ٣ / ٢٧٥، نقباء البشر ١ / ٣٧٨، أعيان الشيعة ٥ / ٢٣٦، معجم المؤلِّفين ٣ / ٢٧٥، الذريعة ١٢ / ٢٩٠، ١٤ / ٩، معجم مؤلِّفي الشيعة ٢٠، دائرة المعارف تشيّع ٢ / ٦٨، فرهنك رجال ومشاهير تاريخ معاصر إيران / ٣٢٩، مصنّفات شيعة ٤ / ٢٣٨، فرهيختكان دار العباده ٥٩، شكوه بارسايي وبايداري ٤ / ٦١، سيد محمد كاظم يزدي فقيه دورانديش ٣١، دانشمندان يزد ٢٩ ).

(١) حول أساتيذه في مشهد انظر: كتاب ( بارسايي وبايداري ص ٤ ).

(٢) الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي ابن الحاج محمد رحيم الإيوانكيفي الطهراني (١٢٣٥ - ١٣٠١ هـ) من مشاهير علماء عصره، فقيه مجتهد، زعيم، مؤلِّف، أُمّه بنت الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء.

( ترجمته في: نقباء البشر ١ / ١٩٨، تذكرة القبور ١٦٠، ريحانة الأدب ٣ / ٤٠٤، هدية الأحباب ١٨٥، المآثر والآثار ١٤٢، مكارم الآثار ٣ / ١٠٠٧، الفوائد الرضوية ٤٠٩، نجوم السماء ٢ / ٢، معجم رجال الفكر ١ / ١٣١ وغيرها ).

(٣) الشيخ محمد تقي بن محمد باقر بن محمد تقي بن محمد رحيم الإيوانكيفي الوراميني الطهراني ( ١٢٦٢ - ١٣٣٢ هـ ) من كبار العلماء ورؤساء المذهب في عصره.

( ترجمته في: نقباء البشر ١ / ٢٤٧ - ٢٤٨ ).

١٩

القمّي(١) ، وفي خلال حضوره في إحدى جلسات الدرس، جرى حوار بينه وبين الأُستاذ حول أحد المطالب المبحوث فيها، فوقع السيد اليزدي موقعاً عظيماً في عين أُستاذه، بحيث أدّى إلى تعطيل الدرس في ذلك اليوم، وبادر الأُستاذ إلى الاهتمام بتلميذه الجديد اهتماماً عظيماً، وفي نفس اليوم طلب منه الحضور في مجلس استفتائه المنعقد في داره، وطلب منه أيضاً أن يجعل بحثاً علمياً بينه وبين ابنه - أغا نجفي - المذكور، وشرع السيد اليزدي بتدريس ( كتاب المكاسب ) للشيخ الأنصاري سطحاً، وكان يجتمع في درسه الجمّ الغفير من الطلاب والمشتغلين.

وبعد أن برع وكمل حصلت له الإجازة من شيخه المذكور.

وخلال مدّة إقامته في أصفهان كان معزّزاً مكرّماً عند أُستاذه، لا يغفل عن النظر في أحواله وقضاء حوائجه(٢) .

وقد اتخذ مسكنه في حجرة بمدرسة الصدر.

كما أخذ عن الحاج محمد جعفر الآبادي(٣) ، والسيد محمد باقر بن زين العابدين الخوانساري صاحب روضات الجنّات(٤) ، والحاج ميرزا محمد هاشم الجهارسوقي(٥) .

النجف الأشرف:

بعد ذلك عزم على المهاجرة إلى النجف الأشرف، وقد تكفّل نفقات سفره الخاصة أُستاذه الشيخ محمد باقر الأصفهاني مع زميليه المذكورين: ( الشيخ حسين القمّي،

____________________

(١) الشيخ حسين بن الميرزا علي محمد الشيرواني القمّي (حدود ١٢٦٠ - ١٣٣٦ هـ) عالم كبير، وفقيه فاضل، وورع صالح.

( ترجمته في: نقباء البشر ٢ / ٦٢٢ - ٦٢٣ ).

(٢) المحقق الطباطبائي ٢ / ٧٥٥ - ٧٥٦.

(٣) أعيان الشيعة ط ٥ / ١٤ / ٣٤٨.

(٤) انظر: ريحانة الأدب ٣ / ٣٦٦.

(٥) انظر: ن. م ٢ / ١٩١ - ١٩.

وهو السيد الميرزا محمد هاشم بن زين العابدين بن أبي القاسم الموسوي الجهارسوقي الخوانساري ( ١٢٣٥ - ١٣١٨ هـ ) فقيه مجتهد، مرجع ديني كبير.

( ترجمته في: ضياء الأبصار ٢ / ٥٨١ - ٦٢٥ ).

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

روى أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :«إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما صنع بك، فقال الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة، وتمطر السّماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» (١) .

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد: إنّي لَم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرم(٢) .

حشدت كتائبها على ابن محمّد

بـالطَّف حيث تذكَّرت آباءها

الله أكـبر يـا رواسي هذه الأ

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائباً

عقد ابن منتجع السّفاح لواءها

ما كان أوقحها صبيحة قابلت

بـالبيض جبهته تريق دماءها

المشرعة

مـا بـلَّ أوجـهها الحيا ولو أنّه

قـطع الـصفا بلَّ الحيا ملساءها

مـن أيـن تـنجل أوجـهٌ اُمويّةٌ

سـكبت بـلذّات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واسـتأصلت بـصفاحها امراءها

مـلكت عليها الأمر حتّى حرَّمت

في الأرض مطرح جنبها وثواءها

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٧١ المجلس الثلاثون، وفي مطالب السؤول: إنّهم عشرون ألفاً. وفي هامش تذكرة الخواص: أنّهم مئة ألف. وفي تحفة الأزهار لابن شدقم: ثمانون ألفاً. وفي أسرار الشهادة / ٢٣٧: سنة آلاف فارس وألف ألف راجل. ولم يذكر أبو الفدا في تأريخه ٢ / ١٩٠: غير خروج ابن سعد في أربعة آلاف والحر في ألفين. وفي عمدة القارئ للعيني ٧ / ٦٥٦: كتاب المناقب كان جيش ابن زياد ألف فارس رئيسهم الحر، وعلى مقدمتهم الحصين بن نمير.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠١، ومقتل محمّد بن أبي طالب.

٢٠١

ضـاقت بـها الدنيا فحيث توجَّهت

رأت الـحتوف امـامها ووراءهـا

فـاستوطأت ظـهر الحِمام وحوَّلت

لـلعزِّ عـن ظـهر الهوان وطاءها

طـلعت ثـنيّات الـحتوف بعصبة

كـان الـسيوف قضاءها ومضاءها

لـقلبوبها امـتحن الإلـه بـموقف

مـحضته فـيهِ صـبرها وبـلاءها

كـانت سـواعد آل بـيت محمّد

وسـيوف نـجدتها على من ساءها

كـره الـحمام لـقاءها فـي ضنكه

لـكـنْ أحــبَّ الله فـيه لـقاءها

فـثوت بـأفئدة صـواد لـم تـجد

ريـاً يـبلُّ سـوى الردى أحشاءها

وأراك تـنشىء يا غمام على الورى

ظـلا وتـروي مـن حياك ظماءها

وقـلـوب أبـناء الـنبي تـفطَّرت

عـطشاً بـقفر ارمـضت أشلاءها

وامضّ ما جرعت من الغصص التي

قـدحت بـجانحة الـهدى ايراءها

هـتك الـطغاة عـلى بـنات محمّد

حـجب الـنبوة خـدرها وخـباءها

فـتنازعت احـشاءها حرق الجوى

وتـجاذبت أيـدي الـعدوُّ رداءهـا

عـجـباً لـحلم الله وهـي بـعينه

بـرزت تـطيل عـويلها وبـكاءها

ويـرى مـن الـزفرات تجمع قلبها

بـيـد وتـدفع فـي يـد اعـداءها

مـا كـان اوجـعها لمهجة (أحمد)

وامـضَّ في كبد (البتولة) داءها(١)

وأنزل ابن سعد الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق. فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة(٢) ، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام(٣) .

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي رضوان الله عليه.

(٢) نفس المهموم للمحدث القمي / ١١٦، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٤، ومقتل العوالم / ٧٨.

(٣) الطبري ٦ / ٢٣٤، وإرشاد المفيد، ومقتل الخوارزمي الجزء الأول، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٢.

٢٠٢

اليوم السّابع

وفي اليوم السّابع اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود ونفد ما عندهم من الماء، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش. وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة وتضور ونشيج ومتطلّب للماء إلى متحر له بما يبلّ غلّته وكلّ ذلك بعين أبي علي والغيارى من آله والأكارم من صحبه، وماعسى أنْ يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة.

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبـصدر صعدته الفرات المفعم

ولَـو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطـويـل ذابـله إلـيها سُـلَّم

لَـو سدَّ ذو القرنين دون وروده

نـسَفَته هـمَّته بـما هو أعظم

فـي كـفِّه اليسرى السّقاء يقلّه

وبـكفّه الـيُمنى الحسام المخذم

مـثل الـسّحابة للفواطم صوبه

فيصيب حاصبه العدو فيرجم(١)

هنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء، فصاح عمرو بن الحَجّاج: مَن الرجل؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال: اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى.

وصاح نافع بأصحابه: املأوا أسقيتكم. فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم ابن بجدتها المتربّي في حجر البسالة الحيدريّة أبو الفضل، فجاؤا بالماء. وليس في أعدائهم من تحدثه

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد جعفر الحلّي نوّر الله ضريحه.

٢٠٣

نفسه بالدنوّ منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبلت غلة الحرائر والصبية الطيّبة من ذلك الماء(١) .

ولكن لا يفوتنا أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين رجالاً ونساءً وأطفالاً أو أنّهم ينيفون على المئتين، ومن المقطوع به أنّه لَم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة فسرعان أنْ عاد إليهم الظما، وإلى الله ورسوله المشتكى.

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فـساقي عـطاشي كربلاء أبو الفضل

عـلى أنّ الـناس فـي الـحشر قلبه

مـريع وهـذا بـالظلما قـلبه يـغلي

وقـفتُ عـلى مـاء الفرات ولَم أزل

أقـول لـه والـقول يـحسنه مـثلي

عـلامك تـجري لا جـريت لـوارد

وأدركـت يـوماً بعض عارك بالغسل

أمــا نـشـفت أكـبـاد آل محمّد

لـهـيباً ولا ابـتلَّت بـعلٍّ ولا نـهل

مـن الـحقّ أنْ تـذوي غصونك ذبّلا

أسـىً وحـياء مـن شـفاههِمُ الـذُبل

فـقال اسـتمع للقول إنْ كنت سامعاً

وكـنْ قـابلا عذري ولا تكثرنْ عذلي

ألا إنّ ذا دمـعي الـذي أنـت نـاظر

غـداى جـعلت الـنوح بعدهُمُ شغلي

بـرغـمي أرى مـائي يـلذ سـواهمُ

بـه وهـم صرعي على عطش حولي

جـزى الله عـنهم في المواساة عمَّهم

أبـا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لـقـد كـان سـيفاً صـاغه بـيمينه

عـليّ فـلم يـحتج شباه إلى الصقل

إذا عــدَّ ابـنـاء الـنـبيِّ محـمّد

رآه أخـاهـم مـن رآه بـلا فـضل

ولـم أرَ ظـامٍ(٢) حـوله الـماء قبله

ولَـم يـرو مـنه وهو ذو مهجة تغلي

ومـا خـطبه إلاّ الـوفاء وقـلَّ مـا

يـرى هـكذا خـلا وفـيّاً مـع الخلِّ

يـمـيناً بـيـمناك الـقطيعة والـتي

تـسمى شـمالاً وهـي جامعة الشمل

بـصبرك دون ابـن الـنبيِّ بـكربلا

عـلى الـهَول امر لا يحيط به عقلي

و وافــاك لا يـدري افـقدك راعـه

أم الـعرش غـالته الـمقادير بـالثل

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب. وعلى هذه الرواية يكون طلبهم للماء في السابع، ولعلّه هو المنشأ في تخصيص ذكر العبّاس بيوم السابع. وفي أمالي الصدوق / ٩٥، المجلس الثالث: أرسل الحسين بن علي ولده علياً الأكبر في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء.

(٢) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

٢٠٤

أخي كنتَ لي درعاً ونصلا كلاهما

فقدتُ فلا درعي لديَّ ولا نصلي(١)

غرور ابن سعد

وأرسل الحسين عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسين:«يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟» قال عمر: أخاف أنْ تهدم داري. قال الحسين:«أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قالعليه‌السلام :«أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز» (٢) ، ويروى أنّه قال لعمر:«أعطيك البغيبغة» ، وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلَم يبعها منه(٣) . فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول:«مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزءاً: في الشعير كفاية(٤) .

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري، فادّعى ابن سعد ضياعه، فشدّد عليه باحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه. فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددتُ أنّ في أنف كلّ

____________________________

(١) للشيخ محسن أبو الحب الحائريرحمه‌الله .

(٢) مقتل العوالم / ٧٨.

(٣) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣.

(٤) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٥.

٢٠٥

رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل(١) .

وكان من صنع المختار معه أنّه لمّا أعطاه الأمان، استأجر نساء يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت نظر المارّة إلى أنّ صاحب هذا الدار قاتل سيّد شباب أهل الجنّة، فضجر ابن سعد من ذلك وكلّم المختار في رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا يستحقّ الحسين البكاء عليه(٢) .

ولمّا أراد أهل الكوفة أنْ يؤمّروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية؛ لينظروا في أمرهم، جاءت نساء همدان وربيعة، إلى الجامع الأعظم صارخات يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أنْ يتأمّر. فبكى النّاس وأعرضوا عنه(٣) .

افتراء ابن سعد

وافتعل ابن سعد علي أبي الضيم ما لَم يقله، وكتب إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام فقال في كتابه:

أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح(٤) .

وهيهات أنْ يكون ذلك الأبي ومَن علَّم النّاس الصبر على المكاره وملاقاة الحتوف - طوع ابن مرجانة ومنقاداً لابن آكلة الأكباد! أليس هو القائل لأخيه الأطرف:«والله لا أعطي الدنيّة من نفسي» . ويقول لابن الحنفيّة:«لَو لَم يكن ملجأ لما بايعت يزيد» . وقال لزرارة بن صالح:«إنّي أعلم علماً يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي». وقال لجعفر بن

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) العقد الفريد، باب نهضة المختار.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٠٥، في أخبار يزيد.

(٤) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٥، وتهذيب التهذيب ٢ / ٢٥٣.

٢٠٦

سليمان الضبعي:«إنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

وآخر قوله يوم الطف:«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وإنّ حديث عقبة بن سمعان يفسّر الحال التي كان عليها أبو عبد اللهعليه‌السلام ، قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى مكّة ومنها إلى العراق ولَم اُفارقه حتّى قُتل، وقد سمعت جميع كلامه فما سمعتُ منه ما يتذاكر فيه النّاس من أنْ يضع يده في يد يزيد ولا أنْ يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله، نعم سمعته يقول:«دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة» (١) .

طغيان الشمر

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه، فقام الشمر(٢) ، وقال: أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله،

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٢) في البداية لابن كثير ج ٨ ص ١٨٨ كان الحسين يحدث أصحابه في كربلا بما قاله جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني انظر إلى كلب ابقع يلغ في دماء أهل بيتي ولما رأى الشمر ابرص قال هو الذي يتولى قتلي! وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ابرص. وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٤٤٩ كان شمر بن ذي الجوشن احد قتلة الحسينعليه‌السلام فليس للرواية بأصل ولما قيل له كيف اعنت على ابن فاطمة قال: ان امراءنا امرونا فلو خالفناهم كنا أشد من الحمر الشقاء قال الذهبي وهذا عذر قبيح فانما الطاعة في المعروف. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٠٣ وما بعدها. طبع مصر: كان شمر بن ذي الجوشن مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفين، وخرج من أصحاب معاوية (أدهم بن محرز) يطلب المبارزة فخرج اليه شمر بن ذي الجوشن واختلفا بضربتين، ضربه أدهم على جبينه فاسرع السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع فيه شيئاً، فرجع الشمر الى عسكره يشرب الماء واخذ رمحاً وقال:

(إني زعيم لاخي بأهلة

بطعنة ان لم امت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة

شبيهة بالقتل أو قاتله)

فحمل على أدهم وهو ثابت فطعنه فوقع عن فرسه وحمله أصحابه فانصرف شمر...

وفي نفح الطيب للمقريزي ج ٢ ص ١٤٣ مطبعة ١ عيسى البابي مطبوعات دار المأمون ان الصميل بن حاتم بن الشمر بن ذي الجوشن كان رأس المضرية متحاملاً على اليمانية (وهذه العبارة واردة في طبعة بيروت ج ١ ص ٢٢٢ تحقيق محمد محيي الدين).

٢٠٧

لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بذلك(١) .

فلمّا جاء الشمر بالكتاب، قال له ابن سعد: ويلك لا قرب الله دارك، وقبّح الله ما جئت به، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه.

فقال الشمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر. قال له عمر: أنا أتولّي ذلك، ولا كرامة لك، ولكن كن أنت على الرجّالة(٢) .

____________________________

= وفي حاشية الكتاب، كان حاتم بن الشمر مع أبيه في الكوفة ولما قتل المختار شمر بن ذي الجوشن هرب ابنه الى قنسرين. وفي ص ١٤٥ ذكر ان الصميل كان والياً على سر قسطة ثم فارقها وتولى على طليطلة. وفي كتاب الحلة السيراء لابن الأبار ج ١ ص ٦٧ لما ظهر المختار بالكوفة فر الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي الى الشام بأهله وولده، فاقام بها في عز ومنعة، وقيل قتله المختار وفر ولده إلى ان خرج كلثوم بن عياض القشيري غازياً الى المغرب، فكان الصميل ممن ضرب عليه البعث في اشراف أهل الشام ودخل الأندلس في طاعة بلج بن بشر وهو الذي قام بأمر المضرية في الاندلس عندما أظهر أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي العصبية لليمانية ومات الصميل في سجن عبد الرحمن بن معاوية سنة ١٤٢ وكان شاعراً. وفي تاريخ علماء الاندلس لابن الفوطي ج ١ ص ٢٣٤ باب الشين، شمر بن ذي الجوشن الكلاعي من أهل الكوفة هو الذي قدم برأس الحسينعليه‌السلام على يزيد بن معاوية ولما ظهر المختار هرب بعياله منه ثم خرج كلثوم بن عياض غازياً المغرب ودخل الى الاندلس في طالعة بلج، وهو جد الصميل بن حاتم بن شمر القيسي صاحب الفهرى ا هـ والاصح ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال ٢٩٦ ان شمر بن ذي الجوشن قتله أصحاب المختار بالمذار وبعث برأسه الى محمد ابن الحنفية وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن ابرص وفي تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٢ وكامل ابن الاثير ج ٤ ص ٩٢ حوادث سنة ٦٥ كان الشمر ابرص يرى بياض برصه على كشحه.

(١) ابن الأثير ٤ / ٢٣.

(٢) الطبري ٦ / ٢٣٦.

٢٠٨

الأمان

وصاح الشمر بأعلى صوته: أين بنو اُختنا(١) ؟ أين العبّاس وإخوته؟، فأعرضوا عنه، فقال الحسين:«أجيبوه ولَو كان فاسقاً» ، قالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني اُختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(٢) ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء(٣) .

أيظنّ هذا الجلف الجافي أن يستهوي رجل الغيرة والحميّة إلى الخسف والهوان، فيستبدل أبو الفضل الظلمة بالنور، ويدع عَلَم النبوّة وينضوي إلى راية ابن ميسون؟! كلاّ.

ولمّا رجع العبّاس، قام إليه زهير بن القين وقال: اُحدّثك بحديث وعيته؟ قال: بلى، فقال: لمّا أراد أبوك أن يتزوّج، طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك. فقال العبّاس: أتشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! والله لأرينّك شيئاً ما رأيتَه(٤) ، فجدّل أبطالاً ونكس رايات في حالة لَم يكن من همّه القتال ولا مجالدة الأبطال، بل همّه إيصال الماء إلى عيال أخيه.

____________________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٢٦١ و ٢٦٥ قال: أولاد كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر، أحد عشر ولداً منهم؛ كعب، والضباب. فمن ولد كعب بنو الوحيد الذين منهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد كانت تحت علي بن أبي طالب فولدت له محمداً الأصغر وعثمان وجعفر والعبّاس، وفي صفحة٢٧٠ ذكر بني الضباب فقال: منهم الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين واسم ذي الجوشن جميل بن الأعور عمرو بن معاوية وهو الضاب. ومن ولده الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ساد بالاندس وله بها عقب ونزالتهم بالخشيل من شوذر من عمل جيّان.

وفي العقد الفريد ٢ / ٨٣ عند ذكر مذحج قال: الضباب في بني الحارث بن كعب مفتوحة الضاد وفي بني عامر بن صعصعة مسكورة وحيث أنّ الشمر من بني عامر بن صعصعة يكون الضباب بكسر الضاد.

(٢) تذكرة الخواص / ١٤٢: حكاه عن جده أبي الفرج في المنتظم وإعلام الورى / ٢٨.

(٣) ابن نما / ٢٨.

(٤) أسرار الشهادة / ٣٨٧.

٢٠٩

يـمثل الـكرّار فـي كـرّاته

بل في المعاني الغرّ من صفاته

لـيس يـد الله سـوى أبـيه

وقــدرة الله تـجـلَّت فـيه

فـهو يـد الله وهـذا سـاعده

تـغنيك عـن إثـباته مشاهده

صـولته عـند النزال صولته

لولا الغلوُّ قلت جلت قدرته(١)

بنو أسد

واستأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة، فأجابه تسعون رجلاً، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا، فقُتل جماعة من بني أسد وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره، فقال:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» (٢) .

اليوم التاسع

ونهض ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم، ونادى في عسكره بالزحف نحو الحسين، وكانعليه‌السلام جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، وخفق برأسه فرأى رسول الله يقول: انّك صائر إلينا عن قريب. وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدوّ منّا.

فقال لأخيه العبّاس:«اركب بنفسي أنت (٣) حتّى تلقاهم، واسألهم عمّا

____________________________

(١) للحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٢) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب الحائري، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٣.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٧، وروضة الواعظين / ١٥٧، والارشاد للمفيد، والبداية لابن كثير ٨ / ١٧٦.

غير خاف ما في هذه الكلمة الذهبية من مغزى دقيق، ترى الفكر يسف عن مداه وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات طاهرة تُفتدى بنفس الإمام علّة الكائنات والفيض الأقدس للممكنات. نعم، عرفها البصير الناقد بعد أنْ جربها بمحك النزاهة فوجدها مشبوبة بجنسها ثمّ أطلق عليها تلك الكلمة الغالية، ولا يعرف الفضل إلاّ أهله. ولا يذهب بك الوهم أيّها القارئ إلى القول بعدم الأهميّة في هذه الكلمة بعد قول الإمامعليه‌السلام في زيارة الشهداء من زيارة وارث: «بأبي أنتم واُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الزيارة لَم يكن هو المخاطب لهم وانّما هوعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يخاطبهم بذلك، فإنّ الرواية تنصّ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الصادق في زيارة الحسين وأنْ يعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: «يا صفوان، صم قبل خروجك ثلاثة أيّام - إلى أنْ قال -: ثمّ إذا أتيت الحائر فقُل: الله أكبر - ثمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال -: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلَي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقُل: السّلام عليكم يا أولياء الله...» إلى آخرها. فالإمام الصادقعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّهعليه‌السلام كيف يقول لو أراد السّلام على الشهداء.

٢١٠

جاءهم وما الذي يريدون؟» ، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب، وسألهم عن ذلك قالوا: جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه، أو ننازلكم الحرب.

فانصرف العبّاسعليه‌السلام يُخبر الحسين بذلك، ووقف أصحابه يعظون القوم. فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت. فقال زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة، فإنّي لك من النّاصحين، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة. ثمّ قال عزرة: يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنتَ على غير رأيهم. قال زهير: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله.

وأعلم العبّاس أخاه أباعبد الله بما عليه القوم فقالعليه‌السلام :«ارجع إليهم، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو

٢١١

يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فرجع العبّاس واستمهلهم العشيّة. فتوقّف ابن سعد وسأل من النّاس فقال عمرو بن الحَجّاج: سبحان الله! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة. فقال ابن سعد: والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية. ثمّ بعث إلى الحسين: إنّا أجّلناكم إلى غد، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم(١) .

ضـلّـت اُمـيّـة مـاتر

يـد غـداة مقترع النصول

رامـت تـسوق المصعب

الـهـدار مـستاق الـذليل

ويــروح طـوع يـمينها

قـود الـجنيب أبو الشبول

رامـت لـعمرو ابْن النبي

الـطُّهر مـمتنع الحصول

وتـيمَّمت قـصد الـمحال

فـما رعـت غير المحول

ورنـت على السغب السرا

ب بـأعين في المجد حول

وغـوى بـها جـهل بـها

والبغي من خلق الجهول(٢)

الضمائر الحرّة

وجمع الحسين أصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة(٣) فقال:«اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً (٤) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٢) للكعبيرحمه‌الله .

(٣) اثبات الرجعة للفضل بن شاذان، هكذا عرفه وهو بالغيبة أنسب فانّه لو يوجد فيه من أخبار الرجعة إلا حديث واحد.

(٤) الطبري ٦ / ٢٣٨ - ٢٣٩، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٤.

٢١٢

وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد.

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري» (١) .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي وتابعه الهاشميّون.

والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذِنت لكم» . فقالوا: إذاً ما يقول النّاس، وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن نفيدك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك(٢) .

نـفوس أبـت إلاّ تراب أبيهم

فـهم بـين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى

كما أنست أقدامهم بالمنابر(٣)

وقال مسلم بن عوسجة: أنحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي: والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد

____________________________

(١) إثبات الرجعة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، والكامل ٤ / ٢٤، والإرشاد للمفيد، وإعلام الورى / ١٤١، وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٢.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ١٧.

٢١٣

حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و الله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين: و الله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة، و إنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً(١) .

وفي هذا الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي قد اُسِر ابنك بثغر الري فقال: ما اُحبّ أنْ يؤسر و أنا أبقى بعده حيّاً فقال له الحسين:«أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك»، قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. فقالعليه‌السلام :«إذاً اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه» - وكان قيمتها ألف دينارـ(٢) .

وتـناديت لـلذبّ عنه عصبة

ورثـوا الـمعالي اشيباً وشبابا

مـن يـنتدبهم للكريهة ينتدب

مـنهم ضراغمة الاسود غضابا

خفّوا لداعي الحرب حين دعاهم

ورسوا بعرصة كربلاء هضابا

اسـد قد اتخذوا الصوارم حلية

وتـسربلوا حـلق الدروع ثيابا

تـخذت عيونهم القساطل كحلها

واكـفُّهم فـيض النجيع خضابا

يـتمايلون كـأنّما غـنى لـهم

وقـع الـظّبي وسـقاهم اكوابا

برقت سيوفهم فأمطرت الطّلي

بـدمائها والـنقع ثـار سحابا

وكـأنّهم مـستقبلون كـواعباً

مـسـتقبلين أسـنّـة وكـعابا

وجدوا الردى من دون آل محمّد

عـذباً وبعدهم الحياة عذابا(٣)

ولما عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء فقال:«إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (٤)

____________________________

(١) إرشاد المفيد وتاريخ الطبري ج٦ ص٢٣٩.

(٢) اللهوف ص٥٣.

(٣) للعلامة السيد رضا الهنديرحمه‌الله .

(٤) نفس المهموم ص١٢٢.

٢١٤

حتّى القاسم وعبد الله الرضيع، إلاّ ولدي علياً زين العابدين؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية» (١) .

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟، فدعا لهم بالخير(٢) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها(٣) ، وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النّبي موسى منازلهم في الجنّة(٤) .

وفي حديث أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال لأصحابه:«أبشروا بالجنّة، فوالله إنّا نمكث ماشاء الله بعد ما يجري علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب» فقيل له: من قائمكم يابن رسول الله؟ قال:«السّابع من ولد ابني محمّد بن علي الباقر وهو الحُجّة ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي، ابني وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً» (٥) .

ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اُميّة وأتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصارخ الاطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم

____________________________

(١) أسرار الشهادة.

(٢) نفس المهموم / ١٢٢.

(٣) الخرايج للراوندي.

(٤) أخبار الزمان للمسعودي / ٢٤٧.

(٥) إثبات الرجعة.

٢١٥

بين هذه الكوارث، فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب في غد؟!

نعم كانت ضراغمة آل عبد المطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة وأثبت جأش، فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور، وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة إلى فرح ونشاط.

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى

ولاح بـها لـلغدر بعض العلائم

غـدا ضـاحكا هذا وذا متبسّماً

سـروراً وما ثغر المنون بباسم

هازل برير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لا قون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك. قال حبيب: وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور(٢) .

تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

أنْ قـطبت فـرقاً وجوه كماتها

وتـطلّعت بـدجى الـقتام أهلَّة

لـكن ظـهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردى

حتّى كـأنَّ الموت من نشواتها

وتـعانقت هي والسّيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها(٣)

فكأنّهم نشطوا من عقال، بين مباشرة للعبادة، وتأهّب للقتال، لهم دوي كدويّ النّحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي: مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسينعليه‌السلام يقرأ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ) (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٢) رجال الكشي / ٥٣، طبعة الهند.

(٣) للعلامة السيّد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

(٤) سورة آل عمران / ١٧٨ - ١٧٩.

٢١٦

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

قال له برير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون.

فقال الرجل مستهزئاً: وأنا على ذلك من الشاهدين(١) .

ويقال: أنّه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(٢) حين رأوهم متبتّلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى.

قال علي بن الحسين:«سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول، وهو يصلح سيفه:

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

مِنْ صاحب وطالب قتيل

والـدهر لا يقنع بالبديل

وانّـما الأمر إلى الجليل

وكـلّ حـيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت: وآثكلاه! ليتَ الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن (٣) ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال: يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة.

فقالت عليها‌السلام : افتغصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠، الطبعة الاُولى.

(٢) اللهوف، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٧، طبعة النجف، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٠.

(٣) تايخ الطبري ٤ / ٢٤٠، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٤، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٣٨، الفصل الحادي عشر، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٤٥، طبعة ايران.

(٤) اللهوف.

٢١٧

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود، وصاحت اُمّ كلثوم: وآ محمداه! وآ علياه! وآ اُمّاه! وآ حسيناه! وآ ضيعتنا بعدك!

فقال الحسين: يا اُختاه يا اُمّ كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً» (١) ثمّ إنّ الحسين أوصى اُخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسينعليه‌السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه. وبذلك يحدِّث أحمد بن إبراهيم قال: دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا، اُخت أبي الحسن العسكريعليه‌السلام سنة ٢٨٢ بالمدينة، وكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمّت من تأتمّ بهم، وقالت: فلان بن الحسن. قلت: معاينةً أو خبراً؟ قالت: خبر عن أبي محمّدعليه‌السلام كتب به إلى اُمّه. قلت لها: أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! قالت: اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام فإنّه أوصى إلى اُخته زينب في الظاهر، فكان ما يخرج من علي بن الحسينعليه‌السلام من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسينعليه‌السلام . ثمّ قالت: إنّكم قوم أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة « اكمال الدين للصدوق » ص ٢٧٥ باب ٤٩ طبع حجر أول.

ثمّ إنّهعليه‌السلام أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد. وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو؛ كيلا تقتحمه الخيل، فيكون القتال من وجه واحد(٢) .

وخرجعليه‌السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال: يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين:«إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون» . ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول:«هي هي والله، وعد لا خلف فيه».

ثمّ قال له:«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟»

____________________________

(١) الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠.

٢١٨

فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول: ثكلتني اُمّي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي.

ثمّ دخل الحسينعليه‌السلام خيمة زينب، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أنْ يسلّموك عند الوثبة.

فقال لها:«والله، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب اُمّه» .

قال نافع: فلمّا سمعتُ هذا منه، بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب.

قال حبيب: والله، لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة. قلت: إنّي خلّفته عند اُخته وأظنّ النّساء أفقن وشاركنها في الحسرة، فهل لك أنْ تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن؟ فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة. فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم.

ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: والله الذي مَنّ علينا هذا الموقف، لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا السّاعة، فطب نفساً وقر عيناً. فجزّاهم خيراً.

وقال هلمّوا معي لنواجه النّسوة ونطيّب خاطرهنّ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلَوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السّوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسَموا ألاّ يركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم.

فخرجن النّساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم(١) .

____________________________

(١) الدمعة الساكبة / ٣٢٥، وتكرّر في كلامه (هلال بن نافع) وهو اشتباه فإنّ المضبوط (نافع بن هلال) كما في زيارة الناحية، وتاريخ الطبري، وكامل ابن الأثير.

٢١٩

وفي السّحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثمّ استيقظ وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه وأشدّها عليه كلب أبقع، وإنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وإنّه رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له:«أنت شهيد هذه الاُمّة، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر، فهذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء» (١) .

وانـصاع حـامية الشريعة ظامئاً

مـا بـلَّ غـلَّته بـعذب فـراتها

أضـحى وقـد جـعلته آل اُمـيّة

شـبح الـسهام رمـيَّة لـرماتها

حتّى قضى عطشاً بمعترك الوغى

والـسمر تـصدر منه في نهلاتها

وجرت خيول الشرك فوق ضلوعه

عـدواً تـجول عـليه في حلباتها

ومـخدَّرات مـن عـقائل أحـمد

هـجمت عـليها الخيل في أبياتها

مـن ثـاكل حرّى الفؤاد مروعة

أضـحت تـجاذبها العدى حبراتها

ويـتمية فـزعت لـجسم كـفيلها

حـسرى القناع تعجُّ في أصواتها

أهـوت على جسم الحسين وقلبها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقـعت عـليه تشمُّ موضع نحره

وعـيونها تـنهلُّ فـي عـبراتها

تـرتاع من ضرب السّياط فتنثني

تـدعو سـرايا قـومها وحـماتها

أيـن الحفاظ وفي الطّفوف دماؤكم

سُـفكت بـسيف اُمـيّة وقـناتها

أيـن الـحفاظ وهـذه أشـلاؤكم

بـقيت ثـلاثاً فـي هجير فلاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه أبـناؤكم

ذُبحت عطاشى في ثرى عرصاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه فـتياتكم

حُـملت على الأقتاب بين عداتها

حـملت بـرغم الدين وهي ثواكل

عـبرى تـردّد بـالشّجى زفراتها

فـمَن الـمعزِّي بـعد أحمد فاطماً

فـي قـتل أبناها وسبي بناتها(٢)

____________________________

(١) نفس المهموم / ١٢٥، عن الصدوق.

(٢) للعلامة السيد محمّد حسين الكيشوان ترجمته في شعراء الغري ٨ / ٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813