السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي4%

السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 813

السيد محمد كاظم اليزدي
  • البداية
  • السابق
  • 813 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 288153 / تحميل: 13207
الحجم الحجم الحجم
السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فقهاء يتوفّرون على تأليف فقهي ) عملهم على اتخاذه ( متناً ) للتعليق، أو الشرح، أو الدراسة أساساً، أي: التأليف الفقهي في ضوء ( المتون ) الفتوائية، سواء كانت رسائل عملية أو مجرّد فتاوى، وهذا ما ألمح إليه المؤرِّخون عندما أشاروا إلى أنّ المتون الفقهية مرّت بمراحل متنوِّعة، بدئت بكتاب ( النهاية ) للشيخ الطوسي ( ولا نغفل أنّ الطوسي بدوره قد اعتمد في بعض ممارساته على ( مقنعة ) المفيد،... والمهم: أنّ الحوزة العلمية الرشيدة التي امتدّت أكثر من ألف سنة، كانت تعتمد ( النهاية ) متناً، ثم اتخذت ( الشرائع ) للمحقّق، ثم ( وسيلة العباد ) للجواهري، ثم ( العروة الوثقى ) لليزدي، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

وممّا تجدر ملاحظته ( وهذا ما ألمحنا إليه ونؤكِّده الآن ) أنّ المتن المذكور ( العروة الوثقى ) لعلّه أكثر المتون الفقهية اهتماماً من قبل فقهائنا المحدثين، حيث حظي من جانب باتخاذه ( متناً ) للممارسة الاستدلالية الشاملة، ( ولعلّ أوضح مصاديقها هو كتاب ( مستمّسك العروة الوثقى )، وغيره من الممارسات، كما أنّه - من جانب آخر - حظي بتعليقات تُعدّ بالعشرات، وهو ما يقتصر على مناقشة بعض المتون، من خلال ما يسمّى بـ ( الحاشية ) إمّا مناقشة فتوائيّة فحسب، أو مصحوبة بالاستدلال، وفي الحالتين، فإنّ الاهتمام بهذا المتن بالنحو المتقدّم، يجعل الدراسة لهذا الجانب تحمل مسوِّغاتها، حيث اضطلعت أكثر من مؤسّسة بتجميع آراء الآخرين حيال المتن المذكور، متفاوتة في عدد ( المعلّقين )،... إلاّ أنّ الكتاب الحالي يعدّ أكثر الكتب حشداً للآراء.. كما هو ملاحَظ.

تأسيساً على ما تقدّم، يجدر بنا أن نتناول بالدراسة: نشاط (السيّد اليزدي ) فقهيّاً وأُصوليّاً - أو على الأقل فقهياً بمستوييه: الفتوائي والاستدلالي ( بخاصّة: الأخير )؛ لأنّه ( الخلفية ) التي تستند ( فتاواه ) إليها... ولحسن الحظ، أنّ السيّد اليزدي ترك لنا جملة مؤلّفات استدلالية تتفاوت في حجومها، مثل: ( منجزات المريض ) و( الظن... ) و( تكملة العروة الوثقى )، بالإضافة إلى دراسة استدلالية قد اتخذت من ( متن ) سابق وهو: الكتاب المعروف بالمكاسب للشيخ الأنصاري، قد اتخذت منه: وسيلة لممارسة فقهية معمّقة ومفصّلة... هذا مضافاً إلى كتاب أُصولي ضخم يتحدث عن ظاهرة التضارب بين النصوص بنمطيها: الظاهري والباطني، أو كما يطلق على ذلك

١٠١

مصطلح ( التعارض )، ومصطلح ( التكافؤ ) أو ( التعادل )، ومصطلح ( التراجيح )، وهو أهم الأبحاث الأُصولية؛ لأنّه - بوضوح - أكثر المبادئ ( تطبيقاً ) بخلاف الغالبية من المبادئ الأُصولية التي تضؤل أهميّتها العملية ( أي: الثمرة العلمية ) بالقياس إلى باب ( التعارض ) أو ( التضارب ) - كما نسمّيه - سواء أكان التضارب على مستوى السطح بحيث يجمع بين المتضاربين ( كالجمع العرفي المألوف )، وسواه، أو كان على مستوى ( العمق ) بحيث لا مناص من طرح أحد الطرفين ( مثل موافقته للعامّة ) أو العمل بالآخر ( مثل موافقة الكتاب )، أو العمل بكليهما: على مستوى ( التخيير ) وليس الجمع، أو الطرح لكليهما.. أو التوقّف أو الاحتياط... إلى آخره... ويتميّز الكتاب المذكور بسعة حجمه، وبدخوله في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ بعض المعنيين بهذا الشأن المعرفي قد يكتفون بثلاثين صفحة من الكتاب، بينما تجاوز الكتاب الذي عرضنا له: الستمئة صفحة..

المهم: بما أنّ ( التطبيق ) لمبادئ التضارب لا يتجانس مع ( النظرية ) من حيث الحجم الذي يستخدمه المؤلِّف، لذلك لا ضرورة كبيرة تدفعنا إلى مدارسة هذا الكتاب بقدر ما نقتبس منه بعض الفقرات؛ لأنّ المهمّ هو: ما نلاحظه من الممارسة الفقهية التي تعتمد هذا المبدأ الأُصولي أو ذاك... أي: نعتمد الممارسة التطبيقية لما يطرح من عمليات ( الجمع العرفي ) أو ( الترجيح )... أو... إلى آخره... عبر هذه المسألة الفقهية أو تلك... بالإضافة إلى سائر المبادئ التي يتوكّأ عليها في استخلاص الظاهرة الشرعية بنحوٍ عام...

وهذا ما نبدأ به الآن:

* * *

إنّ المرحلة الأُولى من ممارسة (السيّد اليزدي ) للظاهرة الفقهية، هي: تصديرها بالبُعد ( اللغوي )، أي من حيث التعريف بالظاهرة: موضوعة البحث دلالياً، ومدى انسحاب العنوان المنتخب على الموضوع، يستوي في ذلك أن يكون البحث فقهياً أو أُصولياً. وممّا لا شكّ فيه، أنّ طبيعة البحث العلمي يتطلّب الإحاطة بجوانب الموضوع جميعاً، وفي مقدّمته الجانب اللغوي، ما دامت اللغة هي الواسطة في التعبير عن موضوع البحث، لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ البعد اللغوي يظلّ ( أداةً توظيفية ) وليس

١٠٢

غاية، وهذا ما يقتادنا إلى ملاحظة مهمّة بالنسبة إلى مطلق البحوث، ومنها: البحث الفقهي، حيث نجد أنّ الباحثين لا يكتفون بتعريف الموضوع لغوياً واصطلاحيّاً، في نطاق ما هو ضروري، بل يسهبون في البحث عن جذر الكلمة واستخداماتها، و... إلى آخره، حتى ليحس القارئ أنّه أمام معجم لغوي، وليس أمام بحث لا علاقة له باللغة إلاّ بمقدار الإضاءة الضرورية...

وفي ضوء هذه الحقائق نتّجه إلى (السيّد اليزدي ) لملاحظة استخدامه للبعد ( اللغوي )، حيث نجد عناية خاصّة منه قد لا نجدها عند الآخرين، فهو يدقّق في المفردة الفقهيّة أو الأُصولية، وينقّب في حفريّاتها إلى درجة ملحوظة، حتى نحسب أنّ بعض ممارساته تحمل القارئ على الاستفسار عن مدى فائدة هذا الإسهاب أو التغلغل اللغوي...

المهم: خارجاً عن ذلك يجدر بنا الاستشهاد بنماذج من ممارساته، وهي نماذج إيجابية دون أدنى شك...

من ذلك، مثلاً: في بداية بحثه الأُصولي في باب ( التضارب ) بين الأخبار، أي ( التعارض ) وهو العنوان الذي انتخبه لبحث الظاهرة المذكورة، حيث صدّرها بهذه الفقرات:

( عنوان المسألة بباب ( التعارض ) كما صنّفنا، وفاقاً لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح؛ لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه، إذ التعارض قد يكون مع التعادل، وقد يكون مع الترجيح، ومن المعلوم أنّ الكلّي المتعارض - مع غضّ النظر عن قسيميه - أحكاماً... مثل أولويّة الجمع مهما أمكن، وأنّ الأصل في المتعارضين ماذا؟ وغيرهما ) ثم يذكر جواباً لمَن يجد مسوّغاً للعنوان التقليدي، ويعترض على ما ورد في ( القوانين ) من العنوان القائل ( باب التعارض والتعادل والترجيح )... بعد ذلك يقول: ( لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه، أحدها: أنّ معادل التعادل: التراجح لا التراجيح، إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء... إلى آخره )...

ثمّ يقطع صفحات متعددة لمواصلة بحثه عن مفردات المصطلح المذكور، بحيث يصل إلى ما يقارب عشر صفحات، وهو أمر قد لا نجد له ضرورة...

١٠٣

بغضّ النظر عمّا تقدّم، فإنّ مجرّد انتخاب عنوان شامل - كما صنع السيّد اليزدي يظلّ أفضل - بلا شك - من المفردات الثلاث، ممّا استخدمها الأُصوليّون قدامى وحديثين أيضاً...

وما دمنا نتحدث عن انتخاب ( العنوان ) وضرورة شموليّته وتعبيره عن الموضوع المبحوث عنه، نجد أنّ السيّد اليزدي يتّجه إلى مناقشة كثير من المفردات التي جعلها الفقهاء ( عنواناً ) لممارساتهم،... ومن ذلك مثلاً: ما نلاحظه في كتابه الاستدلالي التعليقي ( حاشية المكاسب ) حيث تعرّض لجملة من المفردات التي اعتبرها غير مفصحة عن طبيعة الموضوعات... ومن ذلك: عنوان ( حفظ كتب الضلال ) أو عنوان ( ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً ).. أو سواهما، حيث قال بالنسبة إلى العنوان الأخير:

( هذا العنوان إنّما يحسن إذا جعلنا المناط في النصوص ذلك، وتعدّينا إلى كلّ ما يكون كذلك، وأمّا على ما هو واقعه من الاقتصار على مواردها من السلاح أو مطلق آلات الحرب، فالأولى أن يقال ( وعدم بيع السلاح )، إذ المفروض خصوصيّة الموضع وعدم كون المناط ما ذكر من العنوان، فلا وجه للعنوان بما ليس موضوعاً ومناطاً... إلى آخره ).

والحقّ أنّ الملاحظة السيّد اليزدي صائبة، ما دمنا نعرف جميعاً: أنّ العنوان في البحوث العلمية يحتل أهمّيته الكبيرة من حيث انطوائه على موضوع محدّد وليس فضفاضاً... والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في التعقيب على عنوان ( حفظ كتب الضلال ) حيث يتناول تعقيبه على العنوان المتقدّم مورداً آخر مضادّاً لسابقه هو: قصور العنوان عن استيعاب ما هو ( ضلال ) حيث لا يقتصر حظر الضلال على الكتب فحسب، بل يتجاوزه إلى المطلق؛ لذلك ينبغي تبديله إلى عنوان أشمل من الكتاب.

وفي هذا الصدد يقول: ( لا خصوصيّة للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً ممّا من شأنه الإضلال.. فكان الأولى التعميم للعنوان ). هنا يحاول السيّد اليزدي توجيه العنوان المتقدّم بقوله: ( لعلّ غرضه المثال، لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان، نعم يمكن الاستدلال على الخصوصية برواية ( الحذّاء ): ( مَن علّم باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به)... ونحن أيضاً يمكننا أن نوجّه إلى المؤلّف السيّد اليزدي نفس الإشكالية بالنسبة إلى

١٠٤

الرواية، حيث إنّ التعليم للضلال لا ينحصر في الكتاب، بل يشمل مطلق الخطاب الإعلامي من: خطبة أو كلام عادي... إلى آخره.

والمهم - في الحالات جميعاً - أن نشير إلى أنّ اهتمام السيّد اليزدي بالعنوان جعله يُعنى به من زوايا أُخرى مصحوبة بجملة نوافذ، ولعلّ تعقيبه أو تصدير ممارسته لظاهرة ( الوكالة ) - مثلاً - يوضح لنا منهجه في التعريف بالظاهرة من جانب، ثم مقارنة العنوان بما تماثله أو تخالفه من سوى ذلك، حيث إنّ تعريفه للظاهرة المبحوث عنها تفرض ضرورتها لكي تتبيّن دلالة الوكالة أو الهبة أو الوقف... إلى آخره، ولكنّ الأهم من ذلك هو: المقارنة مع غيرها من الظواهر في حالة ما إذا كانت ثمّة نقاط مشتركة بين العنوان المبحوث عنه وسواه، وهذا ما نلحظ في النص الآتي:

( الوكالة: وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الأُمور في حال حياته، بخلاف الوصاية فإنّها بعد الموت. وقد يقال في الفرق بينهما: إنّ الوصاية إعطاء ولاية، وفي هذا الفرق تأمّل، بل منع. وأمّا الفرق بينهما وبين الوديعة فهو أنّها استنابة في الحفظ، بل لا يلاحظ فيها الاستنابة وإن استلزمتها، وأمّا بينها وبين العارية فواضح، وكذا المضاربة إذ حقيقتها ليست استنابة وإن تضمّنتها ( في الجملة ) ).

واضح من هذا النص أهميّة هذه الفوارق أو المشتركات بين الظواهر المشار إليها: العارية، الوصاية، الوديعة، المضاربة، حيث أوضح السيّد اليزدي السمات المشتركة المتمثّلة في ( الاستنابة ) بنحوٍ أو بآخر، مع الفوارق بين الاستنابة في مستوياتها وبين الوكالة، وبين ما ذكره من الظواهر...

على أيّة حال: ندع الآن هذا الجانب اللغوي بصفته مجرّد ( مقدّمة ) للدخول إلى الموضوع الرئيسي وهو: الممارسة الاستدلالية للظاهرة، واستخلاص حكمها، أو دلالتها، حيث نتجه إلى الخطوط التي تنتظم منهج السيّد اليزدي في ممارساته بنحو عام.

* * *

بالنسبة إلى الخطوط المنهجية، التي يمكن أن يستخلصها الدارس لممارسة السيّد اليزدي في تناوله للظاهرة الفقهيّة، تظل متفاوتة من ممارسة إلى أُخرى، بحسب ما يتطلّبه الموقف، فمثلاً: عندما يتناول الظواهر التي يعقّب بها على ( الأنصاري ) في حاشيته على

١٠٥

المكاسب، فإنّ تناوله يختلف بطبيعة الحال عن معالجته المستقلّة للظاهرة، كما هو ملاحظ في ( تكملة العروة ) حيث يتناول فيه الظاهرة استدلاليّاً بالقياس إلى العروة المتميّزة بفتاواها فحسب، كما يتناول الظاهرة استدلالياً في سائر نتاجه المتمثِّل في: ( منجزات المريض )، ( الظن ) ولكن بعامّة، ما دمنا نستهدف الإشارة إلى خطوط المنهج بحسب تسلسله؛ نلاحظ أنّ السيّد اليزدي بعد أن يتناول الظاهرة لغوياً، يتقدّم إلى طرح ( فتواه ) مصحوبة بالإشارة الإجمالية أوّلاً إلى الأدلة الرئيسة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل. أو الأدلة الثانوية وفي مقدّمتها: ( الشهرة ) بحيث يعني بها بنحو ملحوظ، أو الدليل العملي... إلى آخره، ولكن ينبغي أن نشير إلى أنّ السيّد اليزدي عندما يتناول الظاهرة الفقهيّة العامة ( مثل: الأبواب الفقهيّة: الربا، الوكالة، الوقف، الضرر... إلى آخره ) فإنّه ليختلف عن معالجته لتفريعاتها أو مسائلها الجزئية، حيث يُعنى بالظاهرة العامة بالتعريف، وبتصدير ما يتطلّبه الباب من تعقيب أخلاقي، كما هو ملاحظ مثلاً في معالجته لظاهرة ( الربا ) حيث يعرض أوّلاً فتواه الذاهبة إلى التحريم، مشيراً إجمالاً إلى الأدلة الرئيسة على هذا النحو ( الربا المحرّم بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ) ثم يقول ( فمستحقّه داخل في سلك الكافرين، وأنّه يقتل.. )... إلى آخره، ثمّ يستشهد بروايات كثيرة تحوم جميعاً على إبراز العقاب المترتّب على ممارس الربا... وفي تصوّرنا أنّ تصدير ( الباب ) بأمثلة هذا البعد الأخلاقي؛ يجسّد ضرورة لا غنىً عنها من حيث أثرها على القارئ، حيث إنّ الهدف أساساً هو حمل الشخصية على معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه، وهو: عدم ممارسة ما هو محرَّم أو مكروه... إلى آخره.

والآن، ما يهمّنا بعد الإشارة إلى مقدّمات الممارسة الفقهيّة من تحقيق لغوي وتعريف أخلاقي، ما يهمّنا هو: ملاحظة الأدوات الاستدلالية التي يستخدمها السيّد اليزدي في معالجته للظاهرة الفقهيّة، حيث تمثّل خطوط ممارسته على هذا النحو:

1 - تصدير الفتوى، مصحوبة بالأدلة الإجمالية في الغالب: كما لاحظنا في تصديره لظاهرة الربا، حيث قال: ( المحرّم بالكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ).. فهنا: إشارة إلى الأدلة الرئيسة.. جميعاً الكتاب والسنّة... إلى آخره، وقد يكتفي بدليل واحد: كالإجماع مثلاً، وهو ما يطبع غالبيّة نتاجه، مثل تصديره لظاهرة

١٠٦

وقف الكافر: ( لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً... بالإجماع ). أو السنّة مثل: ( الأقوى: صحّة وصيّة مَن بلغ عشراً للأخبار... ). أو بالعقل، أو بدليلين كالكتاب والسنّة، مثل: ( تعتد المتمتَّع بها... للآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ... ) والصحيح، أو بثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع ). لكن خارجاً عن هذه المستويات من الأدلّة ( الاستهلاليّة ) التي تتصدّر الفتاوى، فإنّ المهم هو: كيفيّة التعامل مع الأدلّة ذاتها، أي: كيفيّة تعامله مع الكتاب، مع السنّة، مع الإجماع، مع العقل، مع الشهرة، مع الأصل... إلى آخره.

بالإضافة إلى ( الأدوات ) التي يستخدمها في هذه الميادين، وفي مقدّمتها ( الظواهر اللفظية ) وسواها...

ونقف أوّلاً عند تعامله مع ( السنّة ) بخاصّة فيما يتصل بـ ( القول ) بصفته هو الغالب في التوكّؤ عليه بالقياس إلى ( التقرير ) و( الفعل )، وبصفته هو الغالب من الأدلّة بالقياس إلى الكتاب، والإجماع... إلى آخره، على أن نتّجه إليها فيما بعد...

إذن: لنتحدّث عن كيفيّة تعامل السيّد اليزدي مع ( الأخبار ) وهي - كما قلنا - المادة الغالبة في التعامل...

وهذا فيما يتصل بالأدلة الرئيسية: ( الكتاب، السنّة... إلى آخره )، أمّا ما يتصل بالأدلة الثانوية من: ( شهرة ) أو ( أصل )، فإنّ السيّد اليزدي يتوكّأ عليها بطبيعة الحال. أمّا استقلالاً أو ضمناً، أو توظيفاً، فمن أمثلته الأخيرة، مثلاً، بالنسبة إلى شرائط الواقف إذا بلغ عشر سنين ( المشهور على عدم صحّته لعموم ما دلّ... ) حيث إنّ السيّد اليزدي يوظّف دليل الشهرة ( وهو ثانوي ) لتجلية ( دليل رئيسي ) وهو: السنّة،... ولسوف نتحدث عن مستويات تعامله مع الأدلة المشار لها في حينه... سواء أكانت متصلة بالشهرة وأقسامها، أو بالأُصول العملية وسواهما، أمّا الآن فقد استهدفنا مجرّد الإشارة إلى أدوات السيّد اليزدي التي يستخدمها في ( استهلال ) أدلّته إجمالاً، حيث لاحظنا تفاوت ممارسته من حيث السعة وعدمها، بحسب متطلّبات المسألة ذاتها... والآن نتّجه إلى ملاحظة تعامله مفصّلاً مع ( الأخبار )، وفي هذا الميدان نقول:

يظلّ التعامل مع النص ( الأخبار ) - كما قلنا - أهم المحاور التي يرتكن إليها الفقهاء، يليها التعامل مع ( الأصل ) في أبواب بعض المعاملات أو غالبيّتها... ولكن ما يعنينا

١٠٧

الآن هو: التعامل مع النص... وأوّل ما يمكن ملاحظته هنا، هو: أنّ التعامل مع النص يندر أو يضؤل حجمه في حالة ما إذا كان الأمر مرتبطاً بتفسيره أو تأويله أي: استخلاص دلالته، ولكنّ العكس تماماً يتضخّم حجم التعامل مع النص في حالة ( تضاربه مع الآخر )، وهذا ما يجسّد غالبية الممارسات الفقهيّة... ولعلّ ما لاحظناه بالنسبة إلى السيّد اليزدي في جعل ممارساته الأُصولية منحصرة ( في نطاق التأليف ) في باب ( التعارض ) الذي قاربت صفحاته (600 )(1) ، يفسّر لنا أهميّته ومن ثمّ غالبيته الممارسة لهذا الجانب؛ لذلك، نحاول عرض المنهج الذي يتعامل السيّد اليزدي من خلاله مع النص ( المتضارب )، سواء أكان التضارب في نطاق الظاهر أي: التأليف بين الأخبار - الجمع العرفي أو نطاق الباطن ( التعارض ) المُفضي إلى طرح أحد المتضاربين - أو سقوطهما... إلى آخره.

ونبدأ أوّلاً بملاحظة تعامل السيّد اليزدي مع التضارب الظاهري، المُفضي إلى التأليف بين المتضاربين من خلال حمل أحدهما على الندب، أو الكراهة، أو التخصيص، أو التقييد، أو الحكومة، أو الورود... إلى آخره.

هنا، نجد أنّ ( السيّد اليزدي ) - امتداداً مع وجهة نظر ( الطوسي ) الذي عني عنايةً تامّة بمقولة: ( العمل بالخبر ما أمكن من الطرح ) حتى وصل به الأمر إلى أن يبالغ في تفسير أو تأويل المتضارب من النصوص، بما قد لا يحتمله النص، والمهم أنّ السيّد اليزدي يكاد يشدّد في هذا الجانب بنحوٍ ملحوظ، وهو ما نلحظه نظرياً ) في مقدّمة كتابه الأُصولي ( التعارض )، حيث يصرّح بذلك بسفور، أو ما نلحظه ( وهذا ) هو الأهم في تطبيقاته للقاعدة، حيث نجد أنّ كثيراً من الممارسين لا يسحبون نظريّاتهم الأُصولية على الممارسة التطبيقية فقهياً، وهو ما يحملنا على دراسة النص الفقهي التطبيقي، بدلاً من دراسة الخطوط النظرية لهذا المبنى الأُصولي أو ذاك.

ومع عودتنا إلى السيّد اليزدي في تعامله مع النصّين المتضاربين ظاهرياً، نجده - كما هو لدى الغالبية من الفقهاء - يُعنى بعملية الجمع العرفي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يمكننا أن نلاحظه من خلال النماذج الآتية، منها:

____________________

(1) انظر: بحث ( تصانيفه ومؤلَّفاته ).

١٠٨

الحمل على الاستحباب: مثل تأليفه بين الأخبار القائلة بعدم العدّة على غير المدخول بها، وبين القائل بها، حيث قال عن الأخير: ( وخبر عبيد محمول على الاستحباب... ). إنّ أمثلة هذا الحمل متوافرة بعدد هائل، إلاّ أنّ مستويات الحمل تظلّ متفاوتة من حين التوكّؤ على جملة عوامل،... منها: تأييد الحمل بأدلّة ثانوية من نحو العمومات والإطلاقات والأصل... إلى آخره، وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسته الذاهبة إلى عدم وجوب العدّة من السفاح، حيث ذهب صاحب الحدائق إلى وجوبها بموجب خبرين، فجاء الردّ على ذلك بقوله: ( وحمل الخبرين على الندب للأصل، وللعمومات، وإطلاق ما دلّ على جواز التزويج... إلى آخره )، ومن الواضح أنّ إرداف ( الحمل على الندب ) بأمثلة هذه الأدلّة، يمنح الممارسة ثقلاً أكبر من مجرّد الحمل غير المصحوب بالتعليل، وإن قلنا بأنّ الحمل العادي رسمه النص الشرعي ليس مجرّد مبنىً يعتمده هذا الفقيه أو ذاك من خلال تذوّقه... ومنها:

الحمل على الندب - أيضاً - لكن من خلال التردّد بين محامل متعددة، وهذا ما نلحظه في تأليفه بين الطائفة القائلة بتعدد العدّة مع تعدّد السبب، والقائلة بالتداخل، حيث ذهب المؤلّف إلى التداخل، وحمل الطائفة الأُولى على مترددين، قائلاً: ( فتحمل على الندب أو التقية... )، بيد أنّ السؤال هنا هو: هل أنّ الحمل على الندب يحمل مسوّغاته في هذا المورد؟ بخاصة أنّ المؤلّف عندما ردّد بين الندب وبين التقية، رجّح التقية على الندب، من خلال استشهاده بحادثة لأحد خلفاء العامّة، كما استشهد بخبرين من خلال تصريح المعصوم (عليه السلام) بالتداخل جواباً على القائل بتعدّد العدّة.

ومن البيّن أنّ هذه القرائن من حيث وضوح أرجحيّتها ( وهي: التقيّة ) حينئذٍ فإنّ الحمل على الاستحباب يفقد مسوّغه، إلاّ إذا انسقنا مع الاتجاه الفقهي الذاهب إلى أنّ التردّد أو تعدّد الأدلّة من رجحان بعضها على الآخر لا غبار عليه؛ لأنّه مجرّد فرضيّة يتطلّبها النقاش، أو مجرّد طرح يحتمل أحد مصاديقه: إمكانية الصواب.

خارجاً عن ذلك، إذا ذهبنا لمتابعة تعامل المؤلِّف مع ( الحمل على الندب ) في مستوياته المتنوّعة، نجد أنّه يعرض إمكانية الحمل على الندب، ولكنّه مع تحفّظ هو: استبعاده، ففي معالجته لعدّة المتمتَّع بها يطرح الأقوال المعروضة في الظاهرة، وهي أربعة أقوال، منها: القول الأوّل حيث رجّحه ( وأيضاً )، القول الثاني: وأسقط القولين

١٠٩

الآخرين وقال: ( الأقوى هو الأوّل، لرجحانه بالشهرة، وشذوذ الثاني، مع أنّ مقتضى الاستصحاب على فرض التكافؤ هو الأوّل، وإن كان يجوز الجمع بينهما بحمل أخبار الأوّل على الاستحباب لكنه بعيد... ). ما يهمّنا هو: فقرته الأخيرة الذاهبة إلى إمكانية الحمل على الاستحباب، واستبعاده ذلك..

وبغض النظر عن ترجحه بالشهرة، وطرح الآخر لشذوذه، وذهابه إلى اقتضائية ( الاستصحاب ) حيث سنتحدث عن هذه ( الترديدات ) في حينه - إن شاء الله - بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ إمكانية حمل الخبر المتضارب مع الآخر على الندب، وفي نفس الوقت استبعاده يظلّ واحداً من أشكال التعامل مع ظاهرة ( الجمع العرفي ).

وما دام هذا النص من حيث استبعاده للحمل على الاستحباب، يشكّل تحفّظاً حيال الجمع العرفي المذكور، فإنّ المؤلّف في سياقات أُخرى، يتجاوز التحفّظ إلى الرفض: عندما يناقش الأقوال التي تحمل الخبر على الندب، في حالات لا يساعد السياق على ذلك، ومنه مثلاً: في معالجته للمتوفّى زوجها من حيث العدّة يستشهد بطائفتين، تتحدث أحدهما: عن أنّها تبدأ مع بلوغ المرأة خبر وفاته، والطائفة الأُخرى: عن غير ذلك، حيث جمع صاحب المسالك بينهما على الاستحباب، والحمل على التقيّة عند ابن الجنيد، وآخر: التفصيل.

وعقّب المؤلّف على الرواية الأُخرى: (... شاذّة محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها )، (... ولا الجمع بين الفرقتين بحمل المتقدّمة على الاستحباب... ).

إذن: يتفاوت المؤلّف في تعامله مع ظاهرة ( الجمع العرفي ) من خلال العمل على الندب: بين اليقين والترديد والتحفّظ والرفض بحسب متطلّبات السياق.

وإذا اتجهنا إلى الجمع العرفي المقابل للندب وهو الكراهة، حينئذٍ فإنّ العملية ذاتها نلحظها في ممارسات المؤلّف.

وهذا من نحو ممارسته التي تساءل فيها عن جواز أو عدم ذلك، بالنسبة إلى الوكيل الذي أمره موكِّله بأن يدفع مالاً إلى عنوان ينطبق عليه، حيث ذكر المؤلّف قولين في ذلك، كما ذكر روايتين متضاربتين لراوٍ واحد، موضِّحاً بأنّ المانعة لا تقاوم المجوِّزة، معقِّباً على المانعة: ( فينبغي أن تُحمل على الكراهة، بل هو مقتضى الجمع العرفي الدلالي )، وإذا كان السيّد اليزدي ينصّ على ( كراهة ) النص المضارب في الممارسة

١١٠

السابقة، فهو ( يحتملها ) في الممارسة القائلة: ( لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الربا في غير المكيل والموزون مطلقاً، بل يمكن حمل كلام المفصِّلين أيضاً على الكراهية... ).

وأمّا الترديد بينها وبين سواها، فيمكن ملاحظته في ممارسته القائلة ( في باب الوكالة ) بكراهة بيع ما لديه من المواد لموكِّله، حيث ينقل جواز ذلك للأخبار، ويضيف ( وأمّا الأخبار المانعة محمولة على الكراهة )، ثم يعلّل ذلك أنّ ذلك يعرّض الوكيل للتهمة والخديعة، قائلاً: ( كما يُشعر على فهم بعض تلك الأخبار، لكن الأحوط مع ذلك ).

فهنا نجد المؤلّف قد التجأ إلى ( الحمل على الكراهة ) ترديداً بينها وبين الاحتياط، حيث يعني: الاحتياط ترجيح الحرمة لديه... وفي هذه الممارسة نلحظ سوى الترديد بين استخلاصين، ظاهرة ثالثة لاحظناها أيضاً عندما تحدثنا عن ( الحمل على الاستحباب ) حيث أردف في بعض ممارساته: الحمل بتوضيح الأسباب المفضية إلى الجمع... هنا أيضاً: يردف حمله على الكراهة، بالركون إلى الأخبار الأُخرى التي توحي بدلالة الكراهة...

وإذا كان المؤلّف هنا يتردّد بين استخلاصين، فإنّه في الممارسة الآتية يتردّد بدوره، ولكن يتّجه إلى التعليل لأحد المتردّدين ممّا يشكّل سمة سلبية، كما لاحظنا ذلك عند حديثنا عن ( الحمل على الاستحباب ).. يقول المؤلّف عبر بحثه عن إحدى المسائل المتعلّقة بـ ( الربا ): ( فتحمل على الكراهة في النسيئة ) أو على التقيّة؛ لأنّ التفصيل مذهب العامّة. واضح أنّ الترديد هنا - كما لاحظنا في حمله الظاهر على محمل الندب. وتفصيله للآخر بين الكراهة وبين التقيّة، لا يجيء لصالح الكراهة بل التقيّة؛ لأنّ التعليل الذي قدّمه وهو: أنّ التفصيل هو مذهب العامّة، يفصح عن تفضيله للتقيّة، كما هو واضح؛ لذلك لا معنى لحمله على الكراهة، وهذا ما يسجّل على المؤلّف.

المهم: أنّ الخطوات التي قطعها المؤلّف في تعامله مع ( الحمل على الاستحباب ) يمارسها أيضاً في تعامله مع الحمل على الكراهة - كما لاحظنا ذلك - ومنها: ظاهرة ( التحفّظ ) أو الرفض لما يحتمله فقيه آخر في ممارساته، ومنهم: المقدّس الأردبيلي، في حمله على الكراهة في بعض مسائل الربا، وهي مسألة أنّ المواد

١١١

الأصلية والمتفرّعة من الشيء تتماثل حرمة الربا فيها، كالدقيق والسويق مثلاً، ومطلق ما هو أصل وفرعي، حيث استدلّ عليها بالأخبار مقابل أخبار معارضة، حيث حملها الأردبيلي على الكراهة، فقال: ( بحمل الأخبار المذكورة على الكراهة )، هنا عقّب المؤلّف على الحمل المذكور وسواه، بأنّ المراد ليست جميعاً محكومة بهذه السمة؛ لأنّ الحليب ومتنوّعاته مثلاً ليست كالدقيق والسويق؛ لذلك فإنّ الأظهر التفصيل بين المادتين... إلى آخره، وبذلك يكون المؤلّف قد رفض ذلك الحمل ( أي الكراهة ).

المهم: نكتفي بما ذكرناه من الظواهر المتّصلة بحمل أحد المتضاربين من الأخبار على الكراهة أو الندب، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

أمّا الآن فنتّجه إلى حلّ آخر للتضارب الظاهري بين الأخبار، وهو الحمل المؤدّي بالتأليف بينها من خلال حمل المطلق والعام، والمجمل على المقيد، والخاص والمفصّل، وهو باب واسع من الأبواب البحثيّة التي يتوفّر الفقهاء عليها.

إذن: لنلاحظ تعامل السيّد اليزدي مع أمثلة هذه المحامل... طبيعياًَ، أنّ الحمل على المقيد والخاص والمبيّن، بالنسبة إلى الخبر المطلق والعام والمجمل، يختلف عن الحمل السابق، أي الندب أو الكراهة، من حيث إنّهما ( يفاضلان ) بين خبر على آخر، بينما نجد محامل المقيّد والخاص والمبيّن، تقوم على إلقاء الإضاءة من أحدهما على الآخر، حيث إنّ المقيّد يلقي بإنارته على المطلق، وهكذا سواه، فيتمّ التأليف بين المتضاربين على مستوى الدمج بين الروايتين، وليس الفصل بين فاضل ومفضول ( كما هو شأن الحمل على الندب أو الكراهة )...

المهم: يجدر بنا أن نستشهد ببعض الممارسات لدى السيّد اليزدي في هذا الميدان... ومنها، مثلاً: في ميدان الحمل البسيط للعام على الخاص، ذهابه ( وهو يناقش الأنصاري في مكاسبه ) بالنسبة إلى الأحكام المتّصلة بالأرض من حيث صلتها - حالة الفتح - بإذن الإمام (عليه السلام) أو عدمه، مستشهداً برواية ( خاصّة ) لابن وهب تذهب إلى أنّ الأرض المفتوحة إذا كانت بإذنه (عليه السلام) يأخذ الإمام (عليه السلام) الخمس، ويأخذ المقاتلون نصيبهم منه، و... ويعلّق على الرواية بقوله: ( فهي صالحة لتخصيص الآية ) أي آية الخمس:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ) وأمّا في ميدان الممارسة

١١٢

المركّبة، فيمكننا ملاحظة ذلك في الممارسة الآتية التي يتوكّأ المؤلّف فيها على حمل المطلق على المقيّد، والمجمل على المفصّل، وهو يرتبط بعدّة المرأة التي فُقد زوجها، يقول السيّد اليزدي بعد نقله للأقوال، وإشارته إلى اختلاف الأقوال من أنّها راجعة إلى اختلاف الأخبار ذاتها، قائلاً: ( والحاصل أنّه يحمل المطلق منها على المقيّد، والمجمل على المفصّل فيصير الحاصل أنّ عند انقطاع خبره... ) إلى آخره. وهذا أُنموذج واضح لعمليّات التأليف بين النصوص، وتتميّز هذه الممارسة بأنّها تجمع بين أخبار متضاربة متنوّعة، وليس بين طائفتين فحسب؛ لذلك تجسّد ممارسة مركّبة وليس بسيطة لعملية التأليف بين النصوص، فهو يقول تعقيباً على طوائف الأخبار التي أوردها:

( إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المذكورة لزوم الطلاق بتقييد خبر سماعة بسائر الأخبار، ولزوم كون العدّة عدّة وفاة بتقييد أخبار الطلاق بخبر سماعة والمرسل، ولزوم رفع الأمر إلى الحاكم وكون ضرب الأجل بتعيينه، وكون ابتداء الأجل من حين ضربه، بتقييد خبر الحلبي وخبر أبي الصباح بخبر بريد وخبر سماعة ).

إنّ هذه الممارسة التي سمّيناها ( بالحمل المركّب ) مقابل الحمل المفرد أو البسيط الذي يحمل خبراً مطلقاً على خبر مقيّد، أو عامّاً على الخاصّ، أو المجمل على المفصّل؛ يكشف لنا عن براعة السيّد اليزدي في تأليفه الموفّق بين نصوص متضاربة.

هنا يحسن بنا أن نقدّم نموذجاً مفرداً بسيطاً لملاحظة ما قلناه من أنّ الحمل الذي يتوكّأ على إضاءة خبرين متضاربين بخبر ثالث، حيث يمكننا أن نستشهد بالممارسة الآتية، وهي: تأليف السيّد اليزدي بين نصّين متضاربين، يؤيّد أحدهما بأنّ المؤلّف بينهما من خلال الإشارة إلى نصٍّ ثالث وهو مرسلة ابن عمير، التي رسمت الفارق بين المرأة القرشية، وحدّدها بالستين، والعاميّة: وحدّدها بالخمسين.

المهم: أنّ أمثلة هذه التأليفات بين النصوص من خلال إلقاء أحدهما الإنارة على الآخر تقتادنا إلى أمثلة أُخرى، منها: ما يطلق عليه مصطلح ( الحكومة ) و( الورود )، حيث يعني الأوّل منهما أن تكون الرواية ( الحاكمة ) قبالة الأُخرى، محدّدة لموضوعها، والرواية ( الواردة ) رافعة للموضوع. وهذان المصطلحان يندر التوكّؤ عليهما في الممارسات الفقهيّة، حيث يردان على استحياء على ألسنة بعض الفقهاء، ويمكننا بالنسبة

١١٣

إلى ( الحكومة ) ملاحظة ما سبق أن استشهدنا به في ممارسته المرتبطة بالأرض المفتوحة بإذن المعصوم (عليه السلام)، أو عدمه، حيث يعقّب - بعد تخصيصه عموم الآية - باحتمال آخر هو ( حكومة ) الرواية المتحدثة عن إذن الإمام (عليه السلام) وعدمه، بالقول: ( بل يمكن دعوى حكومتها على العمومات الدالّة على كون ما أُخذت عنوة للمسلمين )...

* * *

تبتغي الإشارة سلفاً إلى أنّ التعادل التام يضؤل حصوله بالقياس إلى الأرجحية لخبر - دون مقابله: كالأرجحية - كما هو معروف - بأحد الوجوه المشار إليها.. وإذا كان ثمّة تفاوت لاحظناه بين الفقهاء بالنسبة إلى أرجحيّة أحد المرجّحات، في حالة عدم التعادل، فإنّ نظرات الفقهاء تتفاوت بدورها بالنسبة إلى التعادل بين طرفي المتضاربين، حيث يذهب بعضهم إلى التساقط، والآخر إلى التخيير... إلى آخره.

ويلاحظ أنّ السيّد اليزدي كما ذكر ذلك في كتابه الأُصولي - وكما لاحظناه في نص ممارساته التطبيقية - يجنح إلى ( التخيير )، ولكن بما أنّ التعادل - كما قلنا - يضؤل حصوله بالقياس إلى عدم التعادل، حينئذٍ فإنّ المهم هو: أن نتّجه إلى هذا الجانب من ممارسات السيّد اليزدي.

فماذا نستخلص؟

* * *

كما قلنا: السيّد اليزدي لا يُرجّح مرجّحاً على آخر إلاّ ما يتطلّبه السياق، حيث لا ترتيب بين المرجّحات.. هذا من جانب.. ومن جانبٍ آخر: يجدر بنا ملاحظة أي المرجِّحات يتكاثر على سواه في ممارساته.. حيث يبدو أنّ ( مخالفة العامّة ) و( الأشهرية ) يطغيان على المرجحين الآخرين: الأوثقية، والموافقة، مع تحفظنا على ما استخلصه من ( الأشهرية ) من الفتوى أو الرواية أو كلتيهما...

أمّا سبب ندرة الترجيح بموافقة الكتاب، فلأنّ الكتاب الكريم أساساًَ لا يتضمن جميع الأحكام وتفصيلاتها حتى يركن إليه في كل حادثة وهذا ما يتماثل فيه تناول السيّد اليزدي سواه... ولكن بالنسبة إلى ضئالة الترجيح بالأوثقية، فثمّة تفاوت بين السيّد اليزدي - ويشاركه آخرون كثيرون - بين آخرين من حيث التشدّد في السند وعدمه، ومن

١١٤

حيث الارتكان إلى مرجّح ( الشهرة ) أو عدمه، حيث يعدّ اليزدي من النمط الذي يُعنى بالشهرة في الفتوى غالباً - كما سنلاحظ - ويتوكّأ عليها كثيراً في ممارساته، ولا يُعنى بالأوثقيّة إلاّ في الدرجة الثانية، كما أنّ تعامله مع ( الأكثرية ) - الشهرة في الخبر - يشكّل في الدرجة الأدنى: مع أنّه يستخدمها - أي مرجّح الأوثقية والأكثرية - في سياقات خاصّة، ومنها: ما يتّصل بالاحتياط مثلاً، أو حتى في سياق سواه إذا كان اليزدي مناقشاً بالتفصيل أقوال الآخرين في المسألة، حيث يجعل من الأكثرية والأوثقية مرجّحاً ( مؤيّداً ) وحتى ( أصلياً ) في حالة عدم حصوله على مرجّح الأشهريّة أو المخالفة.

* * *

ما تقدّم، يجسّد ملاحظات على الممارسة الفقهيّة الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة ظاهرياً، حيث يتّجه الفقيه إلى الجمع الدلالي ما وجد إلى ذلك سبيلاً. أمّا الآن فيمكننا ملاحظة الممارسات الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة باطنياً أو داخلياً، حيث يتعادل المتضاربان المتضادان في خصائصهما الخبرية، بحيث لا يترجّح طرف على آخر، أو يترجّح أحدهما على الآخر، بخصّيصة أو أكثر، وهذا ما يشكّل - كما أشرنا - غالبية الممارسات الفقهيّة، بخاصّة: أن النصوص الشرعيّة كما هو واضح، رسمت للفقيه طرائق العلاج للخبرين المتضاربين المتضادين، عبر نصوص متنوّعة تتحدث حيناً عن المتكافئين، فترسم له حلولاً للتخيير أو التوقّف.. وترسم حلولاً للراجح منهما من خلال: الأوثقية والأشهرية، ومخالفة العامّة، وموافقة الكتاب؟.. وهذا ما يتوفّر الفقهاء عليه بطبيعة الحال، إلاّ أنّ التفاوت في وجهات النظر من حيث الأرجحية لأحد المرجّحات فيما بينها، فيما ذهب بعضهم إلى ترتيب خاص ورد في النص، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترتيب، ومن ثمّ فإنّ الغالبية من الفقهاء تذهب إلى الرأي الثاني، بحيث تُقرّ أنّ الفقيه بحسب ما يراه السياقات المتنوّعة التي يرد فيها الخبران المتضاربان، حيث يتحرك بحسب خبرته الذوقية للنصوص، فربّما يبدأ بترجيح الأوثقية، أو الأشهرية، أو المخالفة، أو الموافقة.. وهذا في تصوّرنا هو الموقف الصائب؛ لسبب واضح وبسيط جداً هو: أنّ الأخبار العلاجية لا تقف عند نصيّ ابن حنظلة وزرارة اللذين ورد فيهما ترتيب خاص، بل ثَمّة نصوص متنوّعة أُخرى، لا تردّ فيها سلسلة المرجّحات المذكورة في الروايتين المذكورتين كالاقتصار مثلاً على

١١٥

مخالفة العامّة، أو غيرها من المرجّحات، ممّا يكشف ذلك من أنّ الأولوية لمرجّح دون آخر، في الحالات جميعاً، لا يمكن أن يكون صائباً..

وبالنسبة إلى السيّد اليزدي، نجده يذهب إلى الاتجاه ذاته من خلال كتابه الأُصولي الكبير ( التعارض ) حيث بحث ذلك نظرياً، من خلال ممارساته الفقهية، كما بحث ذلك تطبيقيّاً وهذه - أي البحوث التطبيقيّة - هو: ما نعتمد عليه الآن في ملاحظاتنا على ممارسة اليزدي، وأمّا كتابه النظري البالغ (600 ) صفحة فلا شغل لنا به لكونه ( نظرية ) وليس ( تطبيقاً ذا ثمرة عملية ).

إذن: لنتحدث عن هذا الجانب، أي: تعامل السيّد اليزدي مع ظاهرة ( التقيّة ) في الغالب مع ضم مرجّح آخر، كما يتعامل على مستوى الاحتمال حيالها، ويتعامل ثالثة مع التردّد حيالها، ويتعامل رابعة: مع رفضٍ لها عند مناقشته الآراء الفقهيّة... وأخيراً: يتعامل مع التقية عبر حالتين، إحداهما غير مشفوعة بالتعليل، بل لمجرّد مخالفة الخبر الذي يرجّحه لفتوى العامّة، والأُخرى يشفعها بقرينة أو بأكثر ويبرع فيها غالباً..

ونستشهد بنماذج في هذا الميدان؛ منها:

- فيما يرتبط بتعامله مع ( التقيّة ) مشفوعة بمرجّح آخر، ينتخبه غالباً من خلال ( الخبر الشاذ ) حيث إنّ إيمانه بالشهرة يدفعه إلى الثقة في رفض مقابله وهو: الشذوذ، وهذا ما نلحظه - مثلاً - في ممارسة تتّصل بعدّة الأمَة، حيث ينقل طائفتين وأقوالاً حيال ذلك، حيث رفض خبراً عمل به ابن الجنيد، ويعقّب على الرواية قائلاً: ( شاذّة، محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها كما عند ابن الجنيد... ).

- وأيضاً نلاحظ ممارسة أُخرى يحمل خلالها الرواية على التقيّة، مشفوعة بشذوذها، وهي تتّصل بعدّة المتمتَّع بها، والمتوفَّى عنها زوجها، حيث يرفض خبراً يقول بعدم العدّة في حالة عدم الممارسة، قائلاً: ( فلا عامل به، ومحمول على التقيّة ).

إلاّ أنّ السيّد اليزدي هنا يشفع حمل الرواية على التقيّة بتعليل يُستخلص من رواية أُخرى، وهو أمر يضفي الأهميّة على هذا الحمل، يقول: ( كما يظهر من خبر عبيد، عن زرارة، عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، أعليها عدّة، قال: لا، قلت: المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل عليها، قال: أمسك عن هذا، وفي خبر ( كفّ عن هذا ).. حيث إنّ التقيّة من الوضوح فيها بمكان كما قلنا: أمثلة هذا الاستخلاص يكشف عن البراعة

١١٦

في الممارسة الفقهيّة.

وإذا كان السيّد اليزدي في هذه الممارسة الفقهيّة يستخلص ( لغة التقيّة )، فإنّه في ممارسات أُخرى يكتفي - كما أشرنا - بمجرّد المخالفة، ولكنّه حيناً يصرّح بتوجيه ذلك من خلال السياق الذي ترد فيه فتوى العامّة، حيث نعرف بأنّ الأزمنة والأمكنة تتفاوت - من حيث حكّامها وفقهائهم وقضاتهم - فتتكيّف ( التقيّة ) تبعاً للسياق ذاته، فمن ذلك مثلاً: ما يجسّد فتاوى بعض من العامّة بالنسبة إلى عدّة الأمَة المتوفّى عنها زوجها، من حيث تضارب الأخبار حيث يعقّب: و( الأقوى الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقتها لعموم الكتاب ومخالفتها للعامّة؛ لأنّ مذهب جماعة منهم على التفصيل كما ذكر )... فهذا التعقيب الأخير يفصح بوضوح عمّا ذكرناه من أنّ السياقات المختلفة للموضوع تفرض أمثلة هذا الموقف.

ومع أنّ هذه الممارسة ذكرت إلى جانب مرجّح ( المخالفة ): مرجح الموافقة للكتاب، إلاّ أنّنا استهدفنا بمجرّد الاستشهاد بنماذج من ممارسات اليزدي بالنسبة إلى التعامل مع التقيّة وسياقاتها.

وهذا يقتادنا إلى مستوى آخر من الممارسة، هو - ما ألمحنا قبل سطورٍ إليه - ضمّ المرجّحات الأُخرى إلى مرجّح التقيّة، حيث لاحظنا خلال النماذج المتقدّمة، ضمّ الشهرة إليها، وضم الموافقة للكتاب، وسنرى عند حديثنا عن الحصيلة العامّة لممارسات السيّد اليزدي، من حيث توفّره حيناً على المسألة من وجوه شتّى، بحيث يستخدم أدوات الاستدلال الرئيسية والثانوية وكلّ ما وسعه من الأدلّة في ظاهرة واحدة، لكن حسبنا أن نشير الآن إلى ما يرتبط بموضوعنا وهو ( التقيّة ) بضم الأدلّة المتنوّعة للظاهرة التي يستهدف استخلاص الحكم من خلالها، ولكنّنا نؤجّل الحديث عن ذلك إلى فقرة أُخرى من بحثنا... لكن إذا كانت هذه المستويات من الحمل على التقيّد تجسّد مبنى هو: ( الضمّ )، فإنّ المبنى الآخر يجسّد ( احتمالاً ) فيها: أي الحمل على التقيّة، وهو أمر نلحظه بوضوح في ممارسات متنوّعة، ومنها: الممارسة الآتية التي تتضمّن ما لاحظناه في الممارستين السابقتين، من استخلاص التقيّة من خلال الإشارة إلى رواية أو قول يشكّلان قرينةً على ذلك، ففي الممارسة الآتية نلحظ الظاهرة ذاتها، مع مستوى آخر من مستويات الحمل على التقيّة هو: التردّد بين اثنين من المحامل أو

١١٧

أكثر، وهذا من نحو ما ورد في موضوع الربا من مناقشة جاء فيها التعقيب الآتي: ( فتحمل على الكراهة في النسيئة، أو على التقيّة... )، فهنا ( تردّد ) بين حملين، بينما لاحظنا في النصوص السابقة ( جمعاً من المحامل أو ضمّ بعضها إلى الآخر... )

ونتّجه إلى مستوى آخر من الممارسات، ومنها:

ثَمّة مستوى يتعامل مع التقيّة من خلال ( الاحتمال ) وهو مبنىً لاحظناه عند المؤلّف في تعامله مع الجمع الدلالي للنصوص، والمهم: يمكننا أن نستشهد بنموذج هنا، هو: ممارسته المتّصلة بباب الربا في أحد موضوعاته: ( فتناسب حملها على الكراهة، ويمكن حملها على التقيّة؛ لأن المنع مذهب العامّة... ).

إذن: لاحظنا أنّ مستويات التعامل مع ( التقيّة ) تظل متفاوتة من ممارسة أُخرى على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.

ويمكننا أن ننتقل إلى مستوى آخر من تعامله مع التقيّة، وهو: أرجحيّة الخبرين كليهما، أحدهما على الأُخرى من خلال ( التقيّة )، مع كون الترجّح الآخر: احتمالياً، وهذا ما نلاحظه في ممارسة سبق أن استشهدنا بها، عندما قلنا أنّه يعللّ في قسم من ترجيحه لمخالفته العامّة، بالإشارة إلى أنّ قسماً من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر؛ فلذلك رفضه من خلال الحمل على التقيّة، ولكنّه من جانب آخر احتمل ( التقيّة ) أيضاً؛ لأنّ البعض الآخر من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر الذي رجّحه المؤلّف، وبهذا نستخلص نمطاً آخر من التعامل، حيث يمكننا أن نقول: إنّ قيمة هذه الممارسة تتحدّد بقدر ما يحمل ( الاحتمال ) من درجة...

لكن ينبغي ألاّ نغفل عن ملاحظة مستوى آخر هو: رفضه للحمل على التقيّة في بعض ممارسات الفقهاء، وهو أمر تجدر الإشارة إليه، بل لابدّ من الاستشهاد ببعض النماذج لملاحظة المسوّغات التي تدفعه إلى الرفض، بخاصّة أنّنا شاهدنا غالبية نماذجه يقرنها بما يتناسب مع الحمل المذكور، كالإشارة إلى أنّ ( المنع ) مذهب بعض العامّة، وأنّ التفصيل في العدّة على مذهب بعضهم، وأنّ الروايات ذاتها تتضمّن دلالة التقيّة... إلى آخره.

إذن: لنستشهد بما اعترض عليه من ممارسات الفقهاء بالنسبة إلى التقيّة... ومن ذلك:

١١٨

ما دام الحديث عن ( مخالفة العامّة ) يتداعى بالذهن إلى ملازمه وهو موافقة الكتاب، فإنّ الموقف يستلزم المرور عليه سريعاً؛ لأنّ الترجيح المذكور ذاته ( كما تمّت الإشارة إليه ) يظل محدوداً بمحدودية آيات الأحكام في القرآن... في نطاقات ما لاحظناه في ممارسات السيّد اليزدي، فإنّ الموافقة للكتاب تجيء لديه غالباً مقترنة بمرجّحٍ آخر: كمخالفة العامّة ذاتها، أو مقترنة بموافقة السنّة، حيث إنّ الأخبار العلاجية - كما هو معروف - تشير إلى المرجّح المذكور من خلال كونه سنّة قطعيّة بالقياس إلى ما يخالفها.

والمهم: يمكننا أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج في ضوء استشهادنا ببعضها في فقرات سابقة من هذا البحث، ومنها:

ما يتصل بالخلاف الروائي في عدّة الأمَة المتوفّى زوجها، حيث رجّح المؤلّف العدّة المتمثلة في الأربعة أشهر وعشرة أيام، مقابل الخمسة والستّين يوماً، فيما عقب - كما لاحظنا سابقاً - قائلاً: ( الأقوى: القول الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقة الكتاب... و... ).

والأمر نفسه تمكّننا ملاحظته إلى ما سبقت الإشارة إليه، وهي الممارسة المتّصلة التي جمعت بين ترجيحات متنوّعة ملفتة للنظر حقّاً، ونعني بها: الممارسة التي تحدثت بالنسبة إلى موضوع ( منجّزات المريض ) وصلتها بما هو محظور أو مباح من التصرّفات، حيث رجّح أحد طرفي المسألة بجمّلة مرجّحات، ومنها المرجّح الآتي الذي يطلق عليه ( المرجّح المضموني ) متمثّلاً في موافقة الكتاب، حيث يقول بعد أن يتحدث عن المرجّحات الأُخرى: ( وأمّا من حيث المضمون فلتأيّدها - أي الأخبار التي رجّحها المؤلّف - بالقاعدة القطعية المستفادة من الكتاب و... ).

وإذا كان اليزدي في الممارستين السابقتين يجمع إلى الكتاب مرجّحات أُخرى، فإنّه في الممارسة الآتية يكتفي بمرجّح الكتاب، ولكن مع تحفّظ في الدلالات المستخلصة من النص القرآني الموافق لأحد طرفي الأخبار، يقول المؤلّف معقِّباً على رواية تسمح للزوجين بأن يرجع على الآخر في ( الهبة )، مقابل ما ذهب المؤلّف إليه من عدم جواز ذلك، تبعاً لنصوص تقرّر ذلك، ومنها: رواية صحيحة مقابل الصحيحة المانعة، يقول: ( ولكنّه - أي خبر صحيح - لا يقاوم الصحيحة السابقة ). بعد ذلك يحتمل

١١٩

دلالة خاصّة، ويضيف: ( مع أنّ الصحيحة موافقة للكتاب بناءاً على أنّ المراد بـ( ما آَتَيْتُمُوهُنَّ... ) أعم من الصدقة والهبة... ).

* * *

ولعلّ الترجيح بمصطلح ( الشهرة ) يظل من أكثر الترجيحات خلافاً بين الفقهاء، حيث فهم بعض منهم أنّ المقصود من ذلك: الشهرة الروائية، وفهم البعض الآخر: الشهرة في الفتوى بنمطيها: الفتوى المستندة إلى نص، وغير المستندة، ممّا يطلق عليها: الشهرة العملية في اصطلاح المعنيّين بهذا الشأن.

بَيْدَ أنّ الشهرة في الرواية تظل - هي الأكثر احتمالاً من غيرها، أو لنقل: إنّ الشهرتين الأُخريين: الفتوائية والعملية من الممكن أن تندرج ضمن مصطلح ( الشهرة )، وهو المصطلح الذي ورد في الأخبار العلاجية مثل: ( ما اشتهر )، ( المُجمع عليه )... إلى آخره، حيث إنّ الأمر بالمشهور أو المُجمع عليه بن الأصحاب هو: الراجح على الخبر الآخر...

وسبب الذهاب إلى أنّ الشهرة في الرواية تتصدّر الاحتمال هو: أنّ زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن زمن ( فقهاء مجتهدين ) - كما هو في عصر الغيبة، بل زمن ( رواة ) عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ الراوي يسمع من المعصوم (عليه السلام) كلاماً، فيسجّله أو ينقله إلى الآخرين، فيكون الكلام المنقول هو المادة التي يتوكّأ عليها المعنيّون بهذا الشأن... وبكلمة أكثر وضوحاً: إنّ ( الفتوى ) عصرئذٍ على ( متن ) الرواية، وليس اجتهاداً بالمعنى الاصطلاحي...

صحيح، أنّ بعض المبادئ أو القواعد الفقهيّة قد نثرها المعصوم (عليه السلام) أمام الراوي، كأن يأمر (عليه السلام) أحدهم بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، أو يخاطب أحدهم بأنّ علينا الأُصول وعليكم الفروع، أو يقرّر لأحدهم قاعدة نفي الحرج وأمثالها، وصحيح أنّ بعض الرواة كتب دراسة عن الأًُصول اللفظية: كما ينقل المؤرِّخون، إلاّ أنّ ذلك جميعاً لا يشكّل مبادئ نظرية كاملة، يعتمد عليه الأصحاب في استخلاص الحكم الشرعي...

وفي ضوء هذه الحقائق، يجيء الحديث عن ( الشهرة ) أو بحسب ما ورد من التعبير ( ما اشتهر ) أو ( المُجمع عليه )، منسحباً على المعنى المذكور، وهو: الفتوى على متن الرواية التي يتناقلها الأصحاب عن المعصوم (عليه السلام).. وليس الفتوى الاجتهادية،

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

علماء النجف عند خروجهم إلى جبهة العمارة لمدافعة الاحتلال البريطاني عن ثغور الإسلام في الحرب العامة عام ١٣٣٤هـ.

الجالسون من اليمين إلى اليسار: الشيخ مهدي بن الملاّ كاظم الآخوند الخراساني، الشيخ محمد جواد الجواهري، السيد محمد سعيد الحبّوبي، السيد مصطفى الكاشاني وخلفه نجله السيد أبو القاسم الكاشاني، السيد علي الداماد، السيد محمد بن السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، السيد محمد علي بحر العلوم وخلفه...؟، الشيخ إسحاق الرشتي.

٢٦١

العلوي في شأن العلوم، وتكلّم كذلك السيد أحمد ثم المتصرّف محمد حمزة. ثم أُعطي العلم إلى السيد محمد علي وجماعة أولاد المجتهدين، وقد باتوا في الكوفة ليلة السبت.

وفي ضحى يوم السبت ١٢ محرّم سنة ١٣٣٤هـ، قدم الكوفة مجاهدو شقّ العمارة من أهل النجف، قائدهم سلمان أبو غنيم ومحمد أبو گلل أخو عطية، وورد أيضاً كثير من فرسان بني حسن المجاهدين.

وفي عصر هذا اليوم شخص العلماء، وأبناء المجتهدين، ومحمد فاضل باشا، والمتصرّف، وبقيّة المستخدمين، وكثير من حَمَلة السلاح المجاهدين من أهل النجف والكوفة بالعَلَمين العلويين الأول والثاني إلى مسجد الكوفة، استقبل بهما محراب الأمير المشهور فيه، وتلا، ثم دعاء الثغور المأثور عن زين العابدين (ع)، وتكلّم آخرون، وعطعط جمع من المجاهدين، وقد أخذت صورة الجميع منشورة بينهم الأعلام مرتين. وقد أكثر الطلاّب والعلماء من أعمال مسجد الكوفة المندوبة المناسبة لمقتضى الحال، وورد هذا اليوم أيضاً السيد محمد بن السيّد كاظم اليزدي وجماعته لهذا الوجه الذي توجّه إليه العلماء.

وفي يوم الاثنين ١٣ محرّم سنة ١٣٣٤هـ، تحمّل القوم في الحرّاقات ( المراكب ) وأصعدوا في الفرات. وممّا يستوقف الأنظار ويسترعي الأفكار أنّ الروحانيين والمجاهدين الذين نهضوا في العام الماضي من النجف وديار الفرات زايلوا ديارهم منحدرين إلى عراق البصرة، في مثل هذه الأيام على هذه الهيئات، أمّا اليوم فقد فعلوا ذلك لكنّهم مصعدين لا منحدرين في الفرات إلى بغداد وأعالي العراق، فسبحان مقلّب الأحوال، على أنّ هناك فوارق كثيرة بين النهضتين.

وقد بلغ عدد الحرّاقات التي تحمّلوا فيها زهاء ٣٠ حرّاقة، باتت تلك الليلة أمام ( الكفل )، وقد لحقت بها في منتصف الليل حرّاقات باقي النجفيين وهم من شق المشراق، قائداهم الشيخ مطلق وشباده، ومن البراق قائدهم السيد هادي الرفيعي، ومن الحويش قائدهم حسين الشافعي، وكانت للقوم خيل وبغال نشاهدها أحياناً بشاطئ الفرات وهي قليلة، ومنهم أيضاً الرماحية، عقيدهم عباس العليّ، وهم أعد النجفيين نفوساً.

وفي صباح يوم الاثنين ١٤ محرّم أقلعت الحراقات من الكفل، وكانت الريح

٢٦٢

مساعدة، فوردوا طويريج الساعة ١١ من ذلك اليوم، وأنزل العلم، معه جماعة من الطلاب وأبناء المجتهدين والمتصرّفون والمستخدمون، وعطعط أمامهم النجفيون، ثم ساروا به توّاً وقد تجمهر الناس إلى رحبة دار الحكومة، وتكلّم الأعظمي، وقد وصل بعد القوم إلى طويريج محمّد فاضل باشا عن طريق البريّة ومعه ٢٥٠ فارساً من مجاهدي بني حسن المجهّزين، على أن يلتحق بهم بقيّة الفرسان منهم.

وفي يوم الثلاثاء ١٥ محرّم سنة ١٣٣٤هـ، اجتمع الناس في رحبة دار الحكومة في طويريج، وحضر العلماء وأبناء المجتهدين، والطلاب، ومحمد باشا بالعلم العلوي، وتكلّم في تقصير الناس وانقطاع أعذارهم شيخ الشريعة الأصفهاني ووعظ عظة حسنة.

ثم رقى المنبر السيد محمد بن السيد اليزدي، وخطب القوم وبلّغ عن تأكيد وجوب الدفاع واستخص الحاضرين، قائلاً:

أدعوكم فنادوني ( لبّيك ) فنودي ( لبيك لبيك من أطراف نجد )، وكان لخطبته تأثير بليغ.

وفي عصر هذا اليوم ورد طويريج عن طريق البرية سعد الحاج راضي النجفي وأولاده الثلاثة، وجماعة من الشمرت.

وفي يوم الأربعاء ١٦ أقلعت حرّاقات القوم من طويريج ناشرة القلاع، ولمّا صرنا بحيث لا نسمع وغر المدينة، سمعنا صدى المدافع متنقّلاً من ضفاف دجلة إلى ضفاف الفرات.

وفي الساعة ١٠ من هذا اليوم في السدّة، وافترق القوم نازلين على عدوتي الفرات، وشاهدوا السدّة وبديع ما صنعت الهندسة العلمية الحديثة، ووقفوا باهتين معترفين بالجهل أمام أعظم آثار العلم والمعرفة التي ظهرت في العراق إلى الآن، وألقى في روعهم العجز عن مماتنة الأيدي التي قامت بهذا الأعمال.

ووصلت إلينا ونحن في السدّة الأخبار الكثيرة، تعرب عن انتصار العثمانيين وظهورهم على الإنكليز ظهوراً عظيماً في حروب سلمان باك، والجزيرة التي بدأت في

٢٦٣

يوم ١١ محرّم ستة ١٣٣٤هـ(١) .

وما زال ركب المجاهدين مستمرّاً في مسيرته، لحقت بهم في الأيام التالية جماعات أُخرى من أهالي المدينة. وقد استقبل الجميع بحفاوة بالغة من قِبل إدارة الولاية في بغداد، التي انتدبت لاستقبالهم لجنة من علماء بغداد ورجال الدين فيها، وعدداً من ضبّاط الجيش العثماني. وحضرت حفل استقبالهم ثلة من الدرك والشرطة، ثم استقبل العلماء منهم في مقر إدارة الولاية معاون والي بغداد، الذي قبّل العلم الحيدري وأشاد ببركاته ويمنه(٢) .

وقد مكث السيد محمد اليزدي والعلماء وأهالي النجف في الكاظمية، بانتظار أن تقوم السلطة العثمانية بإعداد وسائل سفرهم إلى الجبهة، التي كانت آنذاك في الكوت، حيث حُوصر فيها الجيش البريطاني. ولكنّ مكوثهم طال حتى منتصف شهر شباط من عام ١٩١٦. وكانوا خلال تلك المدّة يتوقّعون المسير إلى الجبهة بين يوم وآخر. فعقب الوصول إلى بغداد مباشرة زار السيد محمد اليزدي في الأول من كانون الأول ١٩١٥ مستشفيات الهلال الأحمر في بغداد، وقدّم الهدايا للمرضى الراقدين فيها(٣) . وبعث إلى أخيه السيد محمود في النجف رسالة مؤرّخة في ٢٩ محرم ١٣٣٤/ ٧ كانون الأول ١٩١٥م، يخبره فيها بأنّهم بانتظار السفينة التي ستقلّهم ( غداً أو بعد غد إن شاء الله )(٤) .

ولكنّه يبدو أنّ السلطات العثمانية كانت قد تراجعت عن المضي قدماً في الحملة، التي دُعيت بحركة الجهاد الثانية، بعد الشروع بها مباشرة؛ لعدم حاجتها إلى المقاتلين بعد الانتصارات التي أحرزتها على القوات البريطانية آنذاك، والإمدادات النظامية التي كانت تردها من الأناضول. فبعد أربعة أيام من تحرّك جموع العلماء والمقاتلين من النجف، انسحبت القوات البريطانية جنوباً باتجاه الكوت، بعد معارك حامية الوطيس

____________________

(١) مذكّرات الشبيبي ص٢٥١.

(٢) السيد گاطع العوادي ص٨٥ - ٨٦. مذكّرات الشبيبي ص٢٣٦ - ٢٥٤.

(٣) نفسه، ص٢٦٠.

(٤) النجف الأشرف وحركة الجهاد، ص٨٧.

٢٦٤

خاضتها مع القوات العثمانية في منطقة ( سلمان باك ) جنوبي بغداد(١) . وكانت ترد على تلك الجموع الأخبار، وهي في طريقها إلى بغداد، بانتصارات كبيرة كان يحرزها الجيش العثماني في ملاحقته للبريطانيين المنسحبين من سلمان باك(٢) . ومن ثمّ فقد أهملت السلطات العثمانية أمر العلماء والمقاتلين الذين وصلوا بغداد، بعد أن أحتفت بمقدمهم بصحبة العلم الحيدري احتفاءً كبيراً، ولم تقم بتسفيرهم أوانية إلى الجبهة. وعدّت - كما يبدو - حركة الجهاد الثانية، التي ميّزتها مصاحبة العلم هذا لها، دعماً معنوياً لها فحسب.

ونتيجة لذلك بدأ المقاتلون النجفيون - دون العلماء - بالتسرّب شيئاً فشيئاً من الكاظمية والرجوع إلى مدينتهم(٣) . وكان بعضهم، بعد هروبه من الكاظمية، يسلك طرقاً غير مألوفة ابتعاداً عن أعين السلطة، ممّا عرّضه للمتاعب والمشاق. إذ ينقل الشيخ محمد رضا الشبيبي في مذكّراته أنّه ( في يوم ٦ صفر فرّ من الكاظمية نحو ثلاثين من مجاهدي النجفيين، وأثخنوا في طريق غير ناهجة إلى الفرات، فعدا عليهم فريق من زوبع وجرحوا جماعة منهم، ثم جرّدوهم السلاح )(٤) .

وقد حاولت السلطة العثمانية أن تجد مخرجاً لموضوع العلم والسائرين به إلى جبهات القتال، بعد أن انتفت آنياً حاجتها إليه وإليهم، فبعثت لهم في الكاظمية متصرّف كربلاء حمزة بك، ليفاوضهم في الذهاب إلى إيران لتحشيد الإيرانيين، وحثّهم على قتال الروس، الذين كانوا يطلبون من الإيرانيين الاشتراك معهم في الحرب. ولكنّ هؤلاء لم يستجيبوا لطلب الروس، وكتبوا إلى علماء العراق يستغيثون بهم من ضغوط الروس(٥) . ولم يحسم العثمانيون موضوع العلم وحملته إلاّ حسماً ( بروتوكولياً ) شكلياً، بعد تعيين خليل بك والياً على بغداد، وقائداً عاماً

____________________

(١) تحرّك العلماء والمقاتلون من النجف بتاريخ ٢١/١١/١٩١٥، وانسحبت القوات البريطانية من موقع معركة ( سلمان باك ) في ٢٥/١١/١٩١٥.

(٢) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص٢٥٢ - ٢٥٣.

(٣) مذكّرات الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ١٩١٤ - ١٩١٥م، ص٣٧٧. مذكّرات الشبيبي، ص ٢٨٧، ٢٨٨.

(٤) مذكّرات الشبيبي ص٢٧٩.

(٥) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص٢٨١ - ٢٨٢.

٢٦٥

للقوات العثمانية في العراق في ١٢/١/١٩١٦م(١) .

فقد وردت برقية منه وهو في جبهة الكوت إلى معاون والي بغداد في أواخر ربيع الأول سنة ١٣٣٤هـ، الموافق لأوائل شهر شباط سنة ١٩١٦م، يطلب فيها أن يفد العلماء عليه ومعهم العلم الحيدري لأيام معدودة. ولمّا كانت نوايا العثمانيين قد اختلفت بشأن حركة هؤلاء العلماء كما تبيّن لنا، وكان وضعهم العسكري جيّداً لا يتطلّب الاستعانة بهم، إذ نجح العثمانيون آنذاك لأكثر من شهرين في التضييق على عدوّهم المحاصر في الكوت، فإنّ العلماء قد ارتابوا فيما يبدو من دوافع طلب خليل بك وأهدافه، ( وبعد المراجعات واستطلاع أفكاره الموفّقة، أبلغ بأنّ القصد من هذه الحركة المباركة ملاحظات ثلاثة:

الأُولى: أن يتعرّف إلى العلماء ويعرّفهم بأشخاصهم، كي يجتمع شرف السماع والعيان لديه.

الثانية: أن يستمد النصر من الله سبحانه للجنود الإسلامية ببركات روحانيّة العلم الشريف، وأنفاس أعلام الشريعة المقدّسة.

والثالثة: أن يتذاكر شفاهاً مع تلك الذوات فيما يعود إلى المسألة الإسلامية )(٢) .

وبعد الاطمئنان إلى هذا الجواب أقلّت العلماء من بغداد - ومنهم السيد محمد اليزدي - إلى جبهة الكوت باخرة خاصة تُدعى ( برهانية ) في ١١ ربيع الثاني ١٣٣٤هـ / ١٦ شباط ١٩١٦م، حاملين معهم العلم الحيدري. وكان السيد محمد اليزدي عند سفره من الكاظمية مريضاً(٣) ، فأبرق إلى والده في النجف حين وصول الباخرة بعد يومين من السفر إلى جبهة الكوت، يطمئنه ويخبره عن حسن استقبال القائد خليل بك للعلماء، ويصف له قوة الجيش العثماني وانتظامه مما يبعث الثقة بالنصر المؤزّر(٤) .

وبعد إجراءات تظهر احترام العلماء والعلم الحيدري الذي تشرّف بقدومه الجيش

____________________

(١) بخصوص تاريخ تعيين خليل بك ( باشا فيما بعد ) ينظر كتاب: الإدارة العثمانية في ولاية بغداد، ص ٤٢٤.

(٢) مذكّرات الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، ص٣٧٧.

(٣) مذكّرات السيد گاطع العوادي، ص١٢.

(٤) يراجع نص البرقية: مذكّرات الشبيبي، ص٣١٣.

٢٦٦

العثماني فأطلقت مدفعيّته عدّة قذائف بهذه المناسبة على مواقع العدو، وبعد شرح قام به القائد خليل بك لسير المعارك من خلال الخرائط والرسومات، وتوضيح موقف القوات العثمانية، وزيارات ميدانية لبعض القطاعات ومواقع المعارك، والاطلاع على غنائم الجيش العثماني، وشهود بعض المعارك حيّة بين العثمانيين والبريطانيين(١) . وقد استغرق ذلك كلّه اثني عشر يوماً أذن بعدها خليل بك للعلماء بالانصراف، فانحدر بعضهم إلى الجنوب وعاد الآخرون، ومنهم السيد محمد اليزدي، في ٢٣ ربيع الثاني ١٣٣٤هـ / ٢٨ شباط ١٩١٦ إلى الكاظمية، فوصلوها على ظاهر الباخرة ( حميدية ) في ٢٥ ربيع الثاني ١٣٣٤هـ / آذار ١٩١٦م(٢) .

وفي الكاظمية تعرّض السيد محمد اليزدي إلى حمّى عالية، ووجعاً شديداً تحت أضلاعه اليمنى، وأُحضرت الأطباء، فقيل ذات الجنب، وقيل ذات الرئة، وقيل غير ذلك، ولم يزل يشتد مرضه إلى ليلة الثلاثاء ٢٨ رجب ١٣٣٧هـ، وقبل الفجر لبّى نداء ربّه وانتقل إلى رحمة الله(٣) .

نفقات المجاهدين:

كان علماء الدين والمجاهدون يعتمدون على إمكاناتهم الخاصة في تغطية نفقات الجهاد، وفي ذلك شاهد كبير على مدى تفاعلهم مع حركة الجهاد، وإيمانهم العميق بضرورة التصدّى للاستعمار البريطاني. فمثلاً قدّمت القيادة العثمانية للسيد الحبوبي ألف ليرة، وقيل خمسة آلاف(٤) لصرفها على شؤونه وشؤون المجاهدين، فرفض ذلك بإصرار قائلاً: ( إنّي مكلّف بالتضحية في مالي ونفسي، فإذا نفد المال بقيت نوبة النفس، اعتبروني جندياً من الجند آكل ممّا يأكلون وأشرب ممّا يشربون، وجهاد النفس أفضل، لا، لا أقبل درهماً واحداً وقائد الجيش أعرف بمواقع الصرف، ولا أسمح لكل أحد أن يفاتحني في هذا الشأن )(٥) .

____________________

(١) للتفاصيل تراجع: مذكّرات الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، ص٣٨٠ - ٣٨٤.

(٢) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص٣١١، ٣١٣، ٣١٨.

(٣) مذكّرات الإمام كاشف الغطاء، ملحق كتاب: النجف الأشرف وحركة الجهاد، ص٣٨٤.

(٤) شعراء الغري، ٩/١٥٠.

(٥) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية لسنة ١٩٢٠ ونتائجها ١/٣٩.

٢٦٧

والمعروف أنّ السيد مهدي الحيدري أيضاً لم يأخذ من العثمانيين مساعدات ماليّة، وهو الذي كان يتزعّم المجاهدين في الخطوط الأمامية(١) ، ويصرف من ماله الخاص.

إنّ حضور المجاهدين العراقيين من أبناء العشائر، وغيرهم، في ساحات القتال تحت قيادة علماء الدين؛ يكشف عن الوعي العام في تشخيص الخطر الذي يتعرّض له العالم الإسلامي من القوى الاستعمارية، وهو في الموقف الذي سبقته مواقف مماثلة عام ١٩١١م وعام ١٩١٢م، عندما احتلّت روسيا شمال إيران واحتلّت إيطاليا ليبيا. فلقد كان علماء الدين يتعاملون مع الحدث من بُعده الإسلامي دون سواه(٢) .

إنّ موقف النجف الأشرف خلال الحرب العالمية الأُولى، يمثّل تجربة غنيّة في التاريخ الإسلامي المعاصر، ويكشف عن دور العامل العقائدي في تحديد الموقف العام الثابت إزاء الأحداث السياسية، وهذه صفة اتسم بها التأريخ الإسلامي على امتداد مراحله المختلفة(٣) .

وللشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، تلميذ السيد اليزدي، وأحد المقربين إليه، وموفده إلى جبهة الحرب مع ولده السيد محمد اليزدي، مذكّرات سجّل فيها دقائق الرحلة ومجرياتها، أسماها: ( رحلة الجهاد ) أوردناها ملحقاً في آخر الكتاب.

جبهة الصليخ:

جاء في مذكّرات ناجي شوكت ص٣٨، وصف لجبهة أُخرى في مقاومة الاحتلال البريطاني، ولكنّها في منطقة الصليخ ببغداد!

يقول المغفور له ناجي شوكت:

( كنت خلال هذه الفترة أتردد على دار العم مراد سليمان في أغلب الليالي. وكانت الدار المذكورة تضم من المداومين الدائمين السادة: جميل صدقي الزهاوي، وأحمد القيماقچي، وعزّت الفارسي، وعبد الرزاق الشيخ قاسم، والدكتور سامي سليمان. وكان الزهاوي يسمعنا من شعره كل طريف ولذيذ، كما كان يسمعنا عن آرائه في الكون والعلم كل غريب، أما القيماقچي فكان يبتكر لنا الحكايات المضحكة التي تدخل

____________________

(١) الإمام الثائر السيد مهدي الحيدري، ص٤٤.

(٢) انظر: دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار، ص١٠٣.

(٣) انظر: ن. م ١٠٨.

٢٦٨

السرور على قلوبنا. وعنّت لنا فكرة يومذاك، أن نقيم مأدبة عشاء، تعقبها سهرات في ليالي الجمع، وذلك في دار مراد بك الواقعة في الصليخ ( وقد هُدمت هذه الدار بعد اقتران السيد رشيد عالي الگيلاني من كبرى كريمات مراد بك، وحكمت بك، وكامل مهدي باشا، والدكتور سامي سليمان، وصاحب هذه المذكّرات. فكان على كل منّا أن يرتّب مستلزمات الحفلة ويهيّئ الطعام، والشراب والمطربين ( چالغي بغداد )، وله أن يدعو بعض الأصدقاء، كل ذلك على نفقته الخاصة، وكانت هذه النفقات لا تتجاوز الخمس ليرات ذهبية، ( يا للبلاش ) على الرغم من امتلائها بالقوزي المحشي، والسمك المسقوف، والأكلات النادرة، والنقل والشراب، وكان الزهاوي ينقلب في مثل هذه الليالي التي تمتد حتى الصباح، إلى شخصية أُخرى، لا تمت إلى العلم والشعر بصلة، وعند الفجر كنّا نشكّل دائرة ( حلقة ) حول الزهاوي - رحمه الله - ونردّد الأغنية المعروفة ( يا مسعد الصبحية ) حتى إذا أخذ التعب من كل منّا مأخذه، ذهب إلى سريره، ليأخذ قسطاً من النوم والراحة، ومن ثم نعود إلى بغداد. تلك هي الحياة التي كنّا نحياها، على الرغم من أنّ نار الحرب كانت مستعرة، وحالة الطوارئ معلنة في جميع الأرجاء، فكانت هذه السهرات الملاح تنسينا بعض تلك الويلات. وقد مرّت تلك الذكريات والأيام بسرعة خاطفة ).

٢٦٩

حادثة حمزة بك في كربلاء ١٣٣٣ - ١٣٣٤هـ

وموقف السيّد اليزدي

عندما خضعت الحكومة العثمانية في أواخر أيامها، حتى أُطلق عليها اسم - الرجل المريض - وصارت تتبع سياسة التتريك لسائر القوميات التي تحكمها، فأبى العرب أن يخضعوا لها، وزاد هذا السبب على سبب آخر، هو دخول هذه الدولة المنهارة الحرب بجانب ألمانيا ضد الحلفاء عام ١٩١٤، ممّا أجبرها على إعلان النفير العام، وتجنيد كافة الشباب في الجيش استعداداً لخوض الحرب، ولكن أبناء كربلاء أخذوا يفرّون من الجيش ويختفون في البساتين عن أعين ( الجندرمة )(١) ، ويقوم هؤلاء بمهاجمة مخافر الجندرمة وإطلاق الرصاص عليها، وأصبحوا مصدر قلق يقضّ مضاجع الحكومة، وعقدوا اجتماعات عديدة انتهت بإعلان العصيان على الحكومة، وطردها من البلد بمساعدة أهالي النجف(٢) . وكان لهم ما أرادوا، ففي ليلة النصف من شعبان ١٣٣٣هـ، وبينما كانت كربلاء تغصّ بآلاف الزائرين الواردين إليها من الأطراف - كعادتهم سنوياً - هاجمت جماهير غفيرة من أبناء كربلاء والنجف(٣) والعشائر والفارّين من الجيش دورَ الحكومة والمستشفى الحسيني، وثكنة الجند، وثكنة الخيّالة الجندرمة، وأحرقوا بلدية كربلاء، وهمّوا على السجن وأخرجوا المسجونين، وانتهبوا دوائر الحكومة(٤) وبيوت الموظّفين، ففرّ المأمورون والموظّفون أجمع، فجاء المتصرّف ( حمزة بك ) وهو كردي الأصل، شديد الحزم، كثير الدهاء، تمّ تعيينه متصرّفاً لكربلاء في ذي القعدة

____________________

(١) بغية النبلاء في تأريخ كربلاء: للسيد عبد الحسين الكليدار ٤٨.

(٢) يذكر الشبيبي في مذكّراته ص٣٣٣: (... وقد ذهبت من النجفيين إمدادات كثيرة إلى أهل كربلاء، جهّزهم محمد علي كمونة زعيم الكربلائيين، الذي حضر إلى النجف في منتصف جمادى الثانية سنة ١٣٣٤هـ، بعد إيكاله تدبير الفتنة إلى أخيه فخري كمونة، وقد نشبت ثلاثة أيام متوالية ).

(٣) حوادث وحركات كربلاء إبّان الحكم التركي: السيد محمد رضا أحمد آل طعمة - خ -.

(٤) يذكر الشبيبي في مذكّراته ص ٣٣٤: (... وفي يوم ١٢ رجب سنة ١٣٣٤هـ، ويوم الجمعة ١٦ رجب سنة ١٣٣٤هـ ورد المشاهدة ومعهم أحمالهم من المنهوبات التي نُهبت من أهالي كربلاء، لاسيّما من الفرس والسدنة؛ لأنّ السدنة من حزب العثمانيين ).

٢٧٠

١٣٣٣هـ / ١ تشرين الأول ١٩١٦م، مع قوّة، ودخل البلدة من جانبها الشرقي، وتحصّنوا في بعض الخانات والبيوت الحصينة، وصار الطرف الغربي بيد الأهالي، ولم تزل الحرب قائمة بين الطرفين عدّة أيام، وقُتل من الجانبين خلق كثير، وانتهت المعركة بعد قتل ذريع، وخراب أكثر البيوت والمنازل، وهزيمة العسكر، وانتهاب الأهالي أسلحتهم وذخائرهم، وثم طرد الحكومة واستيلاء الثوّار على البلدة(١) .

وفي سنة ١٣٣٤هـ / ١٩١٥م، توسّط العلماء والأشراف بإرجاع الحكومة، وكان الحاج عبد المهدي الحافظ وسيطاً بين الأهلين والحكومة، فعادت الحكومة مشلولة الساعد.

وعلى أثر حادثة كربلاء، وانسحاب الجند والمستخدمين منها، ورد إلى العراق ناظر الحربية ( أنور باشا ) يوم ١٨ رجب سنة ١٣٣٤هـ، فأبرق السيد محمد كاظم اليزدي إليه من النجف يسترعي نظره إلى الحادثة، ويتشفّع عنده لأهل كربلاء والنجف.

وفي يوم السبت ٢٤ رجب ١٣٣٤هـ، وردت برقية جوابية من أنور باشا نصّها: ( مرخجي قوناغ، إدارة تلغراف الحلّة ترسله إلى سيّد محمد كاظم الطباطبائي.

نجيبكم عن تلغرافكم المرسل إلينا بأنّ أهالي النجف وكربلاء خرجوا على الحكومة، وأنّه عاملين مخالفة لرضاء الله ورسوله، ونظراً لحرصنا على الحالة الإسلامية، وحقن الدماء واحترامنا للمجاهدين وعلماء الدين، ورأفة الحكومة بفقراء المحلّين، وشفقتنا عليهم صدر أمرنا لدولة والي الولاية، وقائد جيشها بتمام الرفق عند التعقيب وترتيب المجازاة ).

١٢ مايس

صهر السلطنة ووكيل الخليفة الأعظم

في قيادة الجيوش الإسلامية ناظر الحربية

أنور

وفي ٢٥ رجب سنة ١٣٣٤هـ، وردت كربلاء اللّجنة التي أنفذت من قبل الولاية لمفاوضة الكربلائيين، وأكثرها من علماء الشيعة وفيهم السيّد مهدي السيد حيدر،

____________________

(١) تراث كربلاء ٣٩٠.

٢٧١

والشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ عبد الكريم الجزائري، وفيهم الشيخ عبد الحميد خازن مشهد الكاظمين، وحلمي بك معتمد القائد خليل باشا، وحاجب من حجّاب خليل باشا. وقد ائتمروا غير مرّة فأظهر أهل كربلاء الطاعة التامة، وأنّهم ينتظرون عودة حكومتهم غير مشترطين شرطاً، وأبدوا أنّ سبب الفتنة المتصرّف حمزة بك، والقائد عليّ أفندي، ونعمان أفندي الأعظمي، وقالوا: نخشى من أن يسمّم هؤلاء أفكار الحكومة، فأجابهم حلمي بك بأنّي قد اطلعت على أشياء كدّرت وجداني في المسألة، فلا يجدي ما يقول هؤلاء أبداً، وستبقى اللّجنة إلى ورود الجند والمستخدمين الجدد إلى كربلاء(١) .

____________________

(١) مذكّرات الشبيبي ص٣٣٥.

٢٧٢

أحداث النجف بين عامي ١٩١٥ - ١٩١٨

وموقف السيد اليزدي

الثورة على الأتراك ١٣٣٣هـ / ١٩١٥م:

عندما أفتى العلماء بوجوب الجهاد ضد الاستعمار البريطاني خلال الحرب العالمية الأُولى؛ استجاب رؤساء النجف لدعوة الجهاد وتحمّسوا لأداء واجبهم الإسلامي، غير أنّ الانتكاسة العسكرية في معركة الشعيبة في ١٤ نيسان ١٩١٥م، وسوء معاملة الأتراك للمجاهدين، مثّل بداية تحوّل في موقف رؤساء النجف. لقد تصاعدت في تلك الفترة درجة التذمّر من الحكم العثماني، ولجأ الكثير من الفارّين من الخدمة العسكرية إلى مدينة النجف الأشرف.

يبدو أنّ هذا الوضع الجديد ساهم في تكوين اتجاه يدعو إلى الثورة على الأتراك، وظهرت في المدينة منشورات تنادي بأنّ محاربة الحكومة العثمانية أولى من محاربة المشركين. وعلى أثر ذلك، أرسل الوالي إلى النجف قوة عسكرية كبيرة، قوامها ألف من المشاة والفرسان بقيادة ( عزت بك )، للقبض على الفارّين من الجندية ( البلط )، وقُبيل منتصف ليلة السبت ٨ رجب سنة ١٣٣٣هـ / ١٩١٥م، نفذ إلى البلدة من السور، وقد انضم إليهم طائفة من أبناء النجف، وأعطى قائد القوة إنذاراً للأهالي أمده ثلاثة أيام، لكي يسلّم الفارّون أنفسهم. ولمّا انتهت المدّة أخذ رجال الشرطة يتعقّبون الفارّين، ويداهمون البيوت ليلاً ونهاراً، ويتحسّسون أجساد النساء مخافة أن يكون أحد الفارّين قد تنكّر بزي امرأة(١) .

كان من شأن هذه الإجراءات أن تستفزّ الرأي العام، وتولّد ردود فعل عنيفة، لاسيّما مسألة التعرّض للنساء في مجتمع محافظ كمجتمع النجف. وكان من الطبيعي أن تتحوّل ردة الفعل إلى اتجاه اجتماعي وسياسي عام في المدينة، وأن يتصدّى رؤساء النجف للإجراء الحكومي، باعتبار أنّ التجاوز على البيوت أمر يرتبط مباشرة بموقعهم

____________________

(١) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ٤/١٨٨.

٢٧٣

الاجتماعي واعتباراتهم الشعبية، خصوصاً وأنّ الناس في مثل هذه الحالات يلجأون إلى زعاماتهم المحلّية.

في ليلة ٨ رجب ١٣٣٣هـ / ٢٢ مايس ١٩١٥م، اندلعت في النجف ثورة ضد الإدارة التركية، ودارت معارك عنيفة بين الثوّار وبين القوات العثمانية دامت إلى عصر يوم الاثنين ١٠ رجب ١٣٣٣هـ / ٢٤ مايس ١٩١٥م، حيث اضطرّت الحامية إلى الاستسلام، وجُرّدت من السلاح بعد فقدانها جماعة منها فيهم بعض الضبّاط، وطلب القائد والقائم مقام ( بهيج بك ) والمستخدمون الأمان، وجرت مفاوضات توسّط بها خازن المشهد وبعض رؤساء النجف، تمخّضت عن انسحاب القوة وبعض موظفي الحكومة، وبقاء وجود رمزي لها. وتسلّم النجفيون منذ ذلك اليوم أزمّة الحكم في البلدة، واستمروا سنتين كاملتين، انتهت بتمكّن حكومة الاحتلال من محاولة بسط نفوذها على النجف واحتلالها سنة ١٩١٨.

لم يواجه رؤساء النجف مشكلة داخلية في مشروعهم الإداري، بمعنى أنّهم لم يتعرّضوا لردود فعل من أبناء المدينة أو من علماء الدين. ويبدو أنّ موقف السيد اليزدي كان يمكن أن يفهمه رؤساء النجف على أنّه في صالح الثورة، فخلال المعارك أُصيبت مآذن الصحن العلوي الشريف بقذائف الأتراك، ممّا جعل السيد اليزدي يشجب هذا الاعتداء ببرقية أرسلها إلى اسطنبول(١) .

كان موقف السيد اليزدي دقيقاً في حركة الأحداث آنذاك، فالأتراك يخوضون حرباً دفاعية ضد الاستعمار البريطاني، ورغم مؤازرة علماء الشيعة وأبناء العشائر والمدن الشيعية لهم، إلا أنّهم لم يثمّنوا هذه المواقف الكبيرة للشيعة، الذين تناسوا الخزين التاريخي، ووقفوا إلى جانب الأتراك بدافعٍ إسلامي واعٍ.

في مقابل ذلك، فإنّ توسيع نطاق الثورة، واعتمادها كخط سياسي في التعامل مع الحكومة العثمانية، سيشكّل بدون ريب إضعافاً لوجودهم العسكري، وفي ذلك تقوية لأعدائهم البريطانيين.

إذن، فالسيد اليزدي ومعه علماء الشيعة كانوا يقفون إزاء معادلة سياسيّة حسّاسة

____________________

(١) موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف ١/٢٥١.

٢٧٤

وخطيرة، وقد تعاملوا مع الظرف بطريقة واعية دقيقة؛ وذلك باعتماد منهجين أساسيّين في صياغة الموقف:

الأول: الإبقاء على موقفهم السابق في مواجهة الاحتلال البريطاني، والتصدّي لجيوشه الاستعمارية، كخط شرعي ثابت.

والثاني: الحفاظ على المكسب الاستقلالي الذي حقّقه رؤساء النجف، وإنهاء حالة المواجهة والثورة المسلّحة ضد الأتراك، مع تنظيم صيغة رمزية للعلاقة مع الحكومة المركزية، تحفظ هيبتها وصورتها الرسمية أمام الرأي العام.

ورغم دقّة هذه المنهجية السياسية على المستوى التطبيقي، إلاّ أنّه أمكن تنفيذها بنجاح، بحيث إنّ العلاقة مع الدولة العثمانية لم تشهد تصعيداً جديداً، كما أنّ علاقة السيد اليزدي الوثيقة برؤساء النجف ساهمت في إدارة الشؤون العامّة للمدينة بشكل جيّد، فكانت توصياته تُنفّذ من قِبل الرؤساء، وكان ختم السيد اليزدي يُعتمد في الشؤون الإدارية كالأملاك والعقارات، وغير ذلك من المعاملات التي تتصل بحياة الناس وشؤونهم العامّة(١) .

اهتمّ رؤساء النجف الأشرف بإدارة المدينة، وأوّل عمل قاموا به، إصدار أوامرهم بالمحافظة على الأسعار، وهي مسألة ضرورية في تلك الأيام، كما أصدروا أوامرهم بإعادة تنوير المدينة بالفوانيس وتنظيف الشوارع، وعيّنوا موظفين لجباية الرسوم والضرائب بعد أن خفّضوها إلى النصف. وقد شهدت النجف في تلك الفترة من الإدارة الاستقلالية حركة تجارية نشطة، بحيث صارت مركزاً تجارياً هامّاً تستقطب تجّار بغداد وغيرهم(٢) . فعاشت المدينة فترة ازدهار اقتصادي لم تشهدها تحت الإدارة العثمانية.

لم تكن تجربة النجف الاستقلالية تسير بطريقة منتظمة، فالوضع العام كان جديداً عليها؛ لذلك كانت تحدث مظاهر خلل نتيجة التحوّل الإداري في المدينة. كما أنّ سلطة الرؤساء الأربعة التي تقوم على الأعوان والأتباع، كانت تفرز مظاهر سلبية غير قانونية من قِبل الأشخاص الذين يستفيدون - عادة - من مثل هذه الأجواء، وهي ظاهرة

____________________

(١) دور علماء الشيعة، عن مقابلة مع السيد عبد العزيز الطباطبائي في ٢١ رمضان ١٤١٤هـ / ٤ آذار ١٩٩٤م.

(٢) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ٤/١٩٠.

٢٧٥

مألوفة تشهدها المجتمعات في حالات كهذه. يُضاف إلى ذلك أنّ الفراغ الأمني الذي خلّفه الأتراك، لم يكن من السهولة أن تملأه الإدارة الجديدة، فكانت تقع اشتباكات مسلّحة بين النجف وبعض العشائر المحيطة بها.

النجفيّون وبنو حسن:

إنّ السلطة المستقلّة لرؤساء النجف، دفعتهم إلى توسيع دائرة سلطتهم الجغرافية، وهذا ما خلق لهم أزمات وصلت إلى درجة الاشتباك المسلّح. وقد تمثّلت هذه التجربة في رغبة الرؤساء في ضمّ الكوفة إلى دائرة حكمهم، وهو ما تعارض مع رغبة عشيرة بني حسن المجاورة للكوفة. فتأزّم الموقف بين الطرفين، ووصل إلى معركة دامية بدأت في أوائل جمادى الأُولى سنة ١٣٣٤هـ، حتى صبيحة يوم ١١ منه، حيث تمّ الصلح بين الطرفين.

بعد محاولات أجراها السيد اليزدي لإطفاء هذه الغائلة وإجراء صلح بين الطرفين، حيث ذهب إلى الكوفة عصر يوم الجمعة ٥ جمادى الأُولى ١٣٣٤هـ، ومعه السيد نور الياسري وجماعة من زعماء النجف.

ومكث حتى يوم الثلاثاء ٩ جمادى الأُولى دون أن يعقد صلحاً بين الطرفين.

وأخيراً جرت مفاوضات بين زعماء الطرفين، انتهت بالصلح بين الطرفين، واستوثق كل فريق من الآخر(١) ، لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ عاد بنو حسن واحتلّوا الكوفة من النجفيين(٢) .

إنّ مثل هذه الممارسات تقلّل من قيمة التجربة الاستقلالية، إذا نظرنا إليها من منظار أكبر من الاهتمامات المحلّية المحدودة. إنّها تستفرغ المحتوى السياسي للاستقلال بمفهومه الحقيقي، كما أنّها تخدش صورة أول تجربة استقلالية في تاريخ العراق المعاصر.

وقعت معظم هذه الحوادث في الأشهر الأُولى لحكم رؤساء النجف، ولا ريب أنّ ضخامة التحوّل السياسي كان له الأثر الكبير في معظم ما حدث.

* * *

____________________

(١) مذكّرات الشيخ محمد رضا الشبيبي، ملحق كتاب النجف الأشرف وحركة الجهاد ص٣٢٢.

(٢) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ٤/٢١٢ - ٢١٣.

٢٧٦

خلال تلك الفترة، كانت الجيوش العثمانية تعاني من تدهور خطير في معاركها مع القوات البريطانية التي كانت تتقدّم باتجاه بغداد. وقد بعث الإنكليز بجواسيسهم إلى النجف يرغّبون رؤساءها بالاتصال بالإنكليز(١) . لكنّ النزعة الاستقلالية كانت قوية عند بعض الرؤساء، لاسيّما عطية أبو گلل الذي بعث رسالة إلى الإنكليز يحذّرهم فيها من التدخّل بشؤون النجف، ويستفسر عن نوايا الإنكليز بشأن المنطقة، جاء ذلك في تقرير بريطاني مؤرَّخ في ١٩ آب ١٩١٥م / ٨ شوّال ١٣٣٣هـ: ( فيما يلي مقتبس من رسالة وصلتنا أمس من الشيخ عطية أبو گلل، ويسأل فيها عن نوايانا بشأن النجف ومنطقتها، كما يطلب تأكيداً بعدم تدخّل أحد بين الأهالي في منطقة أمير المؤمنين والمنطقة العربية. ويضيف أنّه إذا كانت نيّتنا هي التوجّه إلى ناحيتهم فوراً وبدون قيد أو شرط، فستحدث اضطرابات كبيرة، وتنشأ لهم صعوبات. ويطلب إخبارهم سرّاً عن نوايانا لكي يخبروا رجال القبائل الرئيسيين ويكونوا وسطاء. ويقول كذلك إنّا إذا لم نوافق فستتعقّد الأُمور، وسيضطر أهالي النجف وجميع العشائر للقتال دفاعاً عن دينهم.

حامل الرسالة يفيد أنّ السيد كاظم اليزدي يؤيّد الشيخ عطية في هذا الأمر )(٢) .

الرسالة تعكس الاتجاه السياسي عند عطية أبو گلل وحذره من الإنكليز، فهو يحدّد لهم بشكل قاطع رفضه لأيّة محاولة بريطانية للتدخّل في شؤون النجف الأشرف وغيرها، ويحذّرهم من مغبّة ذلك، ويطلب التعرّف على نوايا الإنكليز بطريقة سريّة؛ من أجل أن يتدارس الموقف مع العشائر، وهو في ذلك يريد حصر المفاوضات به لتأكيد رفضه لتدخّل الإنكليز في شؤون المنطقة ورجالها. ورغم أنّ التقرير يبيّن أنّه يريد التفاوض مع الإنكليز في خصوص نواياهم المستقبلية، إلاّ أنّه يعود ويختتم رسالته بتهديد صريح للجانب البريطاني، بأنّهم في حالة عدم الإفصاح عن نواياهم، فإنّ عليهم أن يواجهوا أهالي النجف وجميع العشائر الذين سيقاتلونهم دفاعاً عن دينهم.

كانت مبادرة عطية أبو گلل تتّسم بالحسم والقوة، مع أنّ الموقف العسكري كان في صالح الإنكليز، وكان الاعتقاد السائد أنّ القوات البريطانية ستخرج الأتراك من

____________________

(١) ن. م ص١٩٢.

(٢) العراق.. نشأة الدولة ص١١٨.

٢٧٧

العراق؛ لكنّه أراد أن يضمن استقلال النجف من موقع قوّة، قبل أن تتحقّق الهزيمة التركية، ويصل الإنكليز إلى النجف.

والمعروف عن عطية أبو گلل أنّه ظل يحتفظ بمشاعر العداء للإنكليز. ورغم محاولاتهم للتقرّب منه بعد احتلال بغداد، ومنحه صلاحيات واسعة لكسبه إلى جانبهم، إلاّ أنّه ظلّ على موقفه العدائي. وقد تسبّب لهم في خلق مضايقات كثيرة قبل أن يترك النجف ليلتحق بعشيرة عجمي السعدون حليف الأتراك.

أدرك الإنكليز حقيقة التوجّه العام في النجف الأشرف، والذي عبّرت عنه الرسالة السابقة؛ لذلك جاء ردّهم حذراً يحاول تهدئة الطرف الآخر، جاء في الجواب:

(... إنّ البريطانيين يكنّون أخلص المشاعر نحو رجال الدين، وأهالي الأماكن المقدّسة، وقد انتهزوا كلّ فرصة للتعبير عنها. وإنّنا سوف نواصل ذلك، ونحن على ثقة بأنّ السيد محمد كاظم اليزدي والشيخ عطية سيكنّان لنا نفس المشاعر، ونرجو أن يتأكّدا أنّه ليس في نيّتنا التدخّل بأيّ شكل من الأشكال في الشؤون الدينية للعتبات )(١) .

إنّ التأكيدات البريطانية، ومحاولات التهدئة التي جاءت في الجواب الرسمي، لم تؤثّر على موقف السيد اليزدي ورؤساء النجف، إذ أعلن السيد اليزدي وبقيّة علماء الدين دعوتهم الثانية للجهاد، دفاعاً عن الدولة العثمانية ضد الاحتلال البريطاني، وذلك في تشرين الثاني محّرم ١٣٣٤هـ / ١٩١٥م.

خلال فترة الدعوة الثانية للجهاد، كانت الأزمة النفسية لا تزال موجودة بين الحكومية العثمانية ورؤساء النجف؛ لذلك لم يتحمّس الرؤساء في البداية لدعوة الجهاد، لكنّهم استجابوا نزولاً عند طلب علماء الدين، وتفاعلوا مع مراسيم إخراج العلم الحيدري من المرقد العلوي الشريف يوم ١١ محرم ١٣٣٤ هـ / ١٩ تشرين الثاني ١٩١٥ م، وأُقيم احتفال كبير في الصحن الشريف حضره علماء الشيعة وأعضاء الوفد العثماني، وجاء حملة السلاح من محلاّت النجف يهتفون بالنصر للدين والدولة(٢) .

عندما وصل المجاهدون إلى الكاظمية، لم يظهر الارتياح على مقاتلي النجف،

____________________

(١) العراق.. نشأة الدولة، ص١١٨ - ١١٩.

(٢) لمحات اجتماعية ٤/٢٣٦.

٢٧٨

ولعلّ المسئولين الأتراك لم يحسنوا التعامل معهم، فعاد قسم منهم إلى مدينة النجف، وقد أعقب ذلك عودة التوتّر بين رؤساء النجف والموظفين الأتراك في المدينة. ففي ١٦ كانون الثاني ١٩١٦م، شاع خبر في النجف مفاده أنّ حكومة بغداد أرسلت قوة كبيرة للانتقام من النجف. وإثر ذلك وقع اشتباك بين حَمَلة السلاح ورجال الشرطة الأتراك. وفي شباط ١٩١٦م أخذ رؤساء النجف يشتدّون في فرض الضرائب على البضائع التجارية.

في ٢٨ جمادى الأُولى ١٣٣٤هـ / ٥ آذار ١٩١٦م، استدعى السيد اليزدي رؤساء النجف إلى مدرسته للاجتماع بهم، وعرض عليهم برقية القائد العثماني العام في العراق، التي وصلته قبل يومين من الاجتماع، وفيها يشكر علماء الشيعة على مواقفهم. ثم طلب منهم السيد اليزدي أن ينهوا الأزمة، ويعودوا إلى طاعتها ووعدهم باستحصال العفو عنهم(١) .

استطاع السيد اليزدي أن ينهي الأزمة بين الطرفين، حيث تنازل زعماء النجف عن جباية الضرائب فيما بعد، وقد ظلّت سلطتهم الإدارية قائمة على المدينة إلى جانب الوجود الرمزي للحكومة.

إنّ هذه المواقف الكبيرة لعلماء الشيعة، والتي تنطلق من إخلاصهم، وفهمهم لمتطلّبات الظرف، وضرورة مساندة الدولة ضد الغزو الاستعماري، لم يقابلها الأتراك بما تستحق من تقدير حقيقي، إنّما ظلّت سياستهم المعادية للشيعة تسير على نمطها القديم. فقد أراد الأتراك الانتقام من مدينة الحلّة على ثورتها التي اندلعت عام ١٩١٥م، ضمن ثورات مناطق الفرات الأوسط في تلك الفترة. وقد فكّر الأتراك أنّ الانتقام من الحلّة سيكون درساً قاسياً لغيرها من المدن، فلا تفكّر في الخروج على طاعة الحكومة العثمانية كما حدث في النجف.

في تشرين الثاني ١٩١٦م، أرسلت الحكومة قوة عسكرية بقيادة ( عاكف بك ) فدخل الحلّة وأخذت قوّاته بحرق وهدم البيوت وقتل الأهالي، ثم نفّذ حكم الإعدام شنقاً بحق

____________________

(١) ن. م. ٤/٢٤٤.

٢٧٩

مئة وستة وعشرين رجلاً(١) . وبلغ عدد القتلى ألف وخمسمئة، وتمّ نفي أعداد من الأهالي بينهم نساء وأطفال، مات قسم منهم خلال الطريق إلى الأناضول(٢) .

كان لهذه الفاجعة صداها المؤثّر على المناطق الشيعية، حيث ظنّت أنّ الانتقام التركي سيصلها أيضاً. وكان من الطبيعي أن يكون هذا الهاجس قوياً في مدينة النجف الأشرف، بعد الذي حصل بينها وبين الحكومة، فعقد رؤساء العشائر القريبة من النجف اجتماعاً في المدينة، ألقى فيه رئيس آل فتلة الشيخ مبدر الفرعون خطاباً حماسياً، دعا فيه الحاضرين إلى عدم طاعة العثمانيين لظلمهم(٣) .

وفي عام ١٩١٦ استطاع أحد الضبّاط الأتراك بمساعدة السيد هادي مگوطر، أن يقنع مبدر الفرعون بالسماح بمرور جيوش تركية إلى عجمي باشا السعدون في البادية، عند ذلك ذهب عبد نور آل فرعون - ابن أخ مبدر - إلى السيد كاظم اليزدي في النجف، وأقنعه على الذهاب إلى الجعّارة لعقد صلح بين آل فتلة والخزاعل، على أساس أن يمتنع الطرفان عن مساعدة أي جيش من الجيوش المتحاربة، وإذا هاجم الأتراك الخزاعل فمن الضروري أن يهبّ آل فتلة لمساعدتهم، وكان شيوخ الخزاعل على اتصال مستمر مع الإنكليز خلال الأشهر الثمانية عشر التي سبقت احتلال بغداد(٤) .

وصلت أنباء هذه التطوّرات إلى المجاهدين من أبناء الشيعة في مناطق القتال ضد الإنكليز، وكان تأثيرها سيّئاً عليهم. هذا ما تبيّنه الوثيقة التالية المؤرَّخة في ١٥ صفر ١٣٣٥هـ / ١١ كانون الأول ١٩١٦م، والمرسلة إلى السيد اليزدي:

( السلام عليك يا مولاي يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

إلى حضرة مولانا وملاذنا حجّة الإسلام، وأبو الأيتام، ومرجع الخاص والعام، جناب السيد سيد كاظم دام بقاه...

بعد تقييل أياديكم الشريفة، نخبر جنابكم الشريف: خرجنا من النجف الأشرف بأمركم قاصدين نصرة الدين والإسلام، حتى إذا وصلنا لواء المنتفك شوّقنا.. وهيّجنا عشايرنا

____________________

(١) تاريخ الحلّة ١/١٦٩.

(٢) لمحات اجتماعية ٤/٣٠٩.

(٣) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية ١/٤٥.

(٤) العشائر والسياسة، تقرير سرّي لدائرة الاستخبارات البريطانية ص١١٣.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813