السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي0%

السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 813

السيد محمد كاظم اليزدي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سلمان الجبوري
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 813
المشاهدات: 277223
تحميل: 10675

توضيحات:

السيد محمد كاظم اليزدي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 813 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 277223 / تحميل: 10675
الحجم الحجم الحجم
السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبذلنا نفسنا ونفيسنا مواظبين على هذا العمل، حتى وردتنا أخبار واقعة الحلّة، وحركة النجف شوّشتنا وكدرتنا، بل أوجبت الشكّ في الدوام على عملنا، وصرنا في ريب ووقفنا عن العمل بانتظار أمركم، وعشايرنا على الدوام تستفتينا فنقف عن الجواب تارةً ونجمل عليهم أُخرى، ونحن وقوف عن العمل، والتبس علينا الأمر بانتظار أمركم وفتواكم، والسلام عليكم وعلى الأخ مولانا الشيخ أحمد، وعموم السادة أبنائكم الكرام ورحمة الله وبركاته.

15 صفر 1335

من خادمكم عبد الحسين مطر )(1)

قرّر زعماء العشائر في اجتماعهم بالنجف الأشرف القيام بتحرّك عسكري ضد العثمانيين في الحلّة قبل أن يبادروا بإرسال قوّاتهم إلى النجف. وكان الوضع القتالي يزداد سوءاً على جبهات القتال، حيث استعد الإنكليز شنّ هجومهم الكاسح على القوات العثمانية في جبهة الكوت، وهو الهجوم الذي استمر في نجاحه حتى سقوط بغداد.

وجد علماء الدين الشيعة أنّ حركة النجف ضد الأتراك لا تخدم الموقف العسكري في التصدّي للزحف البريطاني، وأنّ الظرف يستدعي تجاوز إساءات الأتراك والتمتّع بالوعي السياسي المطلوب؛ لذلك مارسوا دورهم في حل الأزمة سلمياً مع السلطات العثمانية، وهذا ما توضّحه الوثيقة التاريخية التالية، وهي رسالة بعثها الميرزا محمد تقي الشيرازي في 16 كانون الأول 1916م إلى السيد كاظم اليزدي، ننقلها بنصّها:

( بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا أمير المؤمنين وعلى ضجيعيك وجاريك ورحمة الله وبركاته.

حضرة ملاذ الأنام وحجّة الإسلام السيد الأجل دام ظلّه،

أمّا بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله ظلّكم على المسلمين وتوفيقهم لرشدهم في طاعتك، وهداهم في امتثال أوامركم ونواهيكم، ونفعهم ببركات موعظتكم وأجركم، وحباهم ببركة ذلك خير الدارين وسلامة الدين والدنيا. فغير خفيٍّ عليكم سوء أثر التشاويش في النجف من بعض الجهّال، وقبح نتيجتها ووخامة عاقبتها، ومنافاتها لمراعاة حرمة المشهد المعظّم، واقتضائها لسوء الجوار لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأنتم أبصر

____________________

(1) دور علماء الشيعة ص134.

٢٨١

بذلك وأعرف له، وإنّي مطمئن بدوام اهتمامكم بهذا الأمر من كلّ وجه، ومواظبتكم على النصح والوعظ والزجر، ولكنّي أحببت مذاكرتكم بذلك؛ لأُشارككم في الأجر، والفوز في إصلاح أُمور المسلمين. وقد كاتبنا حضرة القائد العام ومعاون الولاية بطلب العفو والمراعاة، سائلين من الله صلاح أمر الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في 20 شهر صفر الخير 1335

الأحقر

محمد تقي الشيرازي

الختم )(1)

استطاع علماء الشيعة السيطرة على الأزمة، وهم في ذلك قدّموا الدليل الكبير على حرصهم وإخلاصهم لبلاد المسلمين ضد الغزو الاستعماري البريطاني. وأثبتوا تفهّمهم لظروف الدولة الحرجة أكثر من الأتراك أنفسهم، رغم سوء معاملة هؤلاء للشيعة واستخدام القوّة، وسياسة الانتقام بحقّهم.

لم تتخذ السلطات العثمانية الإجراءات المطلوبة في مواجهة الاستعدادات البريطانية، فأخذت قوّاتهم تتقدم نحو الشمال.

وفي 17 جمادى الأُولى 1335هـ / 11 آذار 1917م، سقطت بغداد بيد القوات البريطانية(2) .

وفي الأيام القلائل الأُولى من أيام الاحتلال، ازدحم مكتب رئيس الحكّام السياسيين في بغداد بالزوّار من جميع الطبقات، بدون أن يستثني منهم حتى أبناء الأُسر المسلمة البارزة. وفي إثر وجهاء بغداد جاء شيوخ القبائل الصغيرة المجاورة، لزيارته، متعجّبين من انهيار العهد القديم المفاجئ ومستبعدين دوام العهد الجديد. وكان من بين الأوائل الذين قدموا من الأماكن البعيدة ( محمد علي كمونة ) من كربلاء، والحاج ( عطية أبوگلل ) من النجف، وأعقبهما بعد ذلك بقليل شيوخ بلدة النجف الآخرون. فعُيّنت لهم المخصّصات، ورجعوا إلى أهلهم مخوّلين بالمحافظة على الأمن؛ حتى يكون بإمكان السلطة المحتلّة معالجة شؤون المدينتين المقدّستين بصورة مباشرة.

____________________

(1) دور علماء الشيعة ص135.

(2) تاريخ العراق بين احتلالين 8/302.

٢٨٢

زيارة السر رونالد ستورز للنجف(1) ؟

وبينما كان الوضع الحكومي في النجف على مثل هذا، زار بغداد رجل من رجال الإنكليز الذين كان يتألّف منهم ( المكتب العربي ) في القاهرة، المشرف على شؤون الاستخبارات البريطانية الخاصة بالبلاد العربية جمعاء، وهو ( السر رونالد ستورز ) الذي تعيّن فيما بعد حاكماً في القدس بمعيّة ( هربرت صموئيل ) المندوب السامي الصهيوني في فلسطين، بعد احتلال الإنكليز لها، وأصبح بعد ذلك حاكماً عاماً في قبرص حينما نُفي إليها الملك حسين، على إثر إبعاده عن الحجاز، وفي روديسيا الشمالية كذلك. وكان الجنرال ستورز، وهو ملم بالعربية تمام الإلمام، قد زار النجف في 19 مايس 1917 قادماً من كربلاء، فاتصل ببعض وجوهها وعلمائها، ودوّن في كتابه(2) المعروف أشياء مهمّة عنها في هذا الدور.

فهو يبدأ بوصف الطريق ما بين كربلاء والنجف، ويقول: إنّه كان طريقاً سهلاً. وبعد أن تجاوز منتصفه مع صحبه بانت له من بعيد القبّة المذهّبة وهي تتوهّج بلمعانها في نور الشمس. وحينما وصل إليها بعد الظهر خرج الألوف لاستقباله على ما يزعم، لاسيّما وقد كانت الأسواق مغلقة بمناسبة حلول يوم المبعث(3) . وقد مرّ بعد ذلك في السوق المؤدّية إلى العتبة المقدّسة، ومن هناك توجّه إلى دار السيد عباس الكليدار. ويأتي على وصف البيت فيخص بالذكر منه السرداب الكبير الذي تنخفض الحرارة فيه بمقدار عشر درجات عن الخارج. وحينما صعد وقت الغروب إلى سطح الدار القريبة من الحضرة المطهّرة؛ شاهد منه القبّة والمآذن وبرج الساعة في الصحن عن قرب، وصوّر مناظر عدّة من هناك على ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتى دقّت الساعة مشيرة إلى الثانية عشرة غروبية. وقد تذكّر حينذاك ساعة كيمبرج أو ( بيك بين ) المشهورة. وبعد أن ملّ من مقابلة أعضاء المجلس البلدي وكبار الشيوخ، على حد تعبيره، ذهب إلى الفراش في التاسعة والنصف.

____________________

(1) موسوعة العتبات المقدّسة - قسم النجف 1/254 - 258، لمحات اجتماعية 4/365 - 370.

(2) Sir Ronald Storrs - Orintations ، london ، 1945

(3) أغلب الظن أنّ يوم وروده كان يوم ذكرى وفاة النبي أو أحد الأئمّة، وإلاّ فلم تجر العادة في إغلاق الدكاكين في الأعياد.

٢٨٣

وقد استدعى إليه في صباح اليوم الثاني ( 20 أيار ) تجّار الحرير والسجّاد، ثم حضر فتّاح الفال الذي نفحه بعشر روبيات برغم عدم براعته في مهنته. وتحدث مدّة من الزمن مع الشيخ هادي(1) أحد شيوخ الجعّارة، فأنبّه على ما كان يسمع عنه من تهريبه الطعام والأرزاق، بواسطة عشائره إلى ابن رشيد حليف الأتراك في نجد، وهو يقول إنّه فاتح شيوخ العشائر الآخرين بالموضوع نفسه وهدّدهم. وقد توجّه إلى الكوفة على إثر هذا، فقصد مع جماعته دار علوان الحاج سعدون شيخ بني حسن، الذي يسيطر على الطريق الممتد من النجف إلى المسيّب على حد تعبيره. وقد حرضه خلال حديثه معه هناك على مهاجمة ابن رشيد ونهب العشرة آلاف جمل التي يملكها، فتعهّد هو ومَن كان من الشيوخ الآخرين على تنفيذ ذلك..

وبعد تناول الغداء مرّوا بجامع الكوفة وشاهدوا ما فيه من آثار ومواقع مهمّة، وفي معيّتهم السيد عباس الكليدار، ثم عادوا إلى النجف ليرتاحوا في السرداب البارد. وفي الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم توجّه السر ( رونالد ستورز ) مع رفيقه المستر ( غاربوت )، لزيارة العلاّمة الأكبر السيد كاظم اليزدي، الذي يمتد نفوذه من العراق إلى أصفهان. ويذكر ستورز في هذا الشأن أنّ الإنكليز لم يكونوا مطمئنّين من موقف السيد تجاههم، وأنّه كان قد رفض مبلغ المئتي باون الذي قُدّم إليه على سبيل الهدية من قبل. وكان المستر غاريوت الذي رافقه في السفرة من بغداد، قد طلب إليه في هذه المرة أيضاً أن يتحايل على السيد اليزدي فيقدم له رزمة بألف باون هدية من الحكومة. فاستثقل هذه المهمّة الصعبة، وكلّف السر ( رونالد ستورز ) نفسه بأن يتولّى المهمّة عنه، فقبل بتحفّظ. ودسّ الرزمة في جيبه ثم توجّها إلى دار السيد، وهناك انتظر برهة من الزمن في خارج حجرته ريثما يُخبر بحضورهما. فخرج لهما، وإذا به رجلاً متقدّماً في السن يلبس ( زبوناً ) أبيض ويعتمر بعمّة سوداء، وقد تخضّبت لحيته وأظافره بحنّة حمراء لمّاعة. فحيّاهما من بعيد وأجلسهما على الحصيرة بجنبه خارج الحجرة. ويقول ( ستورز ) بعد أن تبحّر في وجه السيد أنّه أدرك في الحال السر في شهرته ونفوذه. فهناك قوّة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت، ممّا لم يجد

____________________

(1) المقصود به السيد هادي زوين.

٢٨٤

له مثيلاً في أي مكان آخر من بلاد المسلمين.

ويذكر كذلك أنّه بعد أن أثنى عليه وعلى مواقفه المشرّفة، أخذ يسأله عمّا إذا كان هناك أي شيء يريد أن يفعله الإنكليز له، فبادره بقوله: ( حافظوا على العتبات الشريفة، حافظوا على العتبات الشريفة ). فاعتبر ( ستورز ) أنّه يقصد بذلك المحافظة على العتبات ومَن فيها من جماعة العلماء والمجتهدين بوجهٍ عام. ثم عاجله السيد بجملة أُخرى طلب إليه فيها أن لا يعيّنوا في المدن الشيعية إلاّ الموظفين من أبناء الشيعة، وأن يطلقوا سراح بعض الشيعة الذين كانوا معتقلين ومنهم الدكتور مظفّر بك، وأن يعيّنوا الميرزا محمد ( وهو المحامي محمد أحمد الموجود حالياً في البصرة ) قائمقاماً في النجف(1) . وفي هذه المرحلة بدا السيد اليزدي للسر ( رونالد ) وكأنّه قد نزل من عليائه بعض الشيء؛ لأنّه أنعم عليه كما يقول بجملة ثناء أعقبها بكلمة فارسية خاطب بها عالماً آخر كان موجوداً في مجلسه، وقد علم بعد ذلك أنّه قال له: إنّ الأتراك لو كانوا يسلكون مثل هذا السلوك لما أضاعوا تعلّق العرب بهم مطلقاً. فما كان من السر رونالد إلاّ أن يعده بنقل توجيهاته ومشورته هذه إلى السر بيرسي كوكس في بغداد. وبعد تردّد وإحجام، طلب إلى السيد أن يختلي به وحده لمدّة ثلاث دقائق فقط، ثم ذكّره بوجود عدد لا يُحصى من الفقراء الذين كانوا ينظرون إليه في إعاشتهم على الدوام، واسترحم منه بأن يمدّ يد المساعدة للإنكليز في هذا الشأن. وحينما مدّ ( ستورز ) يده لتقديم رزمة الباونات إلى السيد في هذه الأثناء دفع السيد الرزمة برفق مقرون بالعزم الأكيد، وهو يعتذر عن قبولها. فلم يجد ( ستورز ) من اللياقة الإلحاح على تقديمها، وعمد إلى فتح موضوع الشريف معه. وهو يقول إنّ السيد كان من المعجبين ( بالشريف ) والمؤيّدين له. وبعد ساعة انقضت على هذا المنوال عزم السر ( رونالد ) على توديع السيد والعودة إلى المنزل، غير أنّه قبل أن يفعل ذلك حاول تقديم الألف باون مرةً ثانية إليه، لكنّه رفضها من جديد بكل مجاملة وأدب. وهو يعتقد أنّ الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء لا المال، وأنّه لابد أن يخضع في الأخير بطريقة مناسبة حينما يكون الدافع لذلك شيئاً لا مطعن فيه. وهذا

____________________

(1) كان الميرزا محمد قد اشتغل مع الإنكليز قبل الحرب في منطقة الخليج، وجاء مع الحملة إلى العراق فعُيّن معاوناً للحاكم السياسي في كربلاء.

٢٨٥

موقف بعيد تمام البعد عمّا يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة على حد تعبيره.

وحينما عاد ستورز بعد ذلك إلى منزل مضيّفه السيد عباس الكليدار طلب إليه أن يشاركه في تناول العشاء، ويضحّي بآداب المجاملة التي تدعوه إلى الوقوف في خدمة الضيف في أثناء تناول الطعام، وهو يذكر بإعجاب أن السيد عباس وقف بعد ذلك للعناية بتقديم العشاء للسواق أيضاً على المائدة نفسها. ثم آوى إلى فراشه بعد مدة وقضى ليلة خالية من النسيم تماماً فوق السطح، وقد تسنى له خلالها أن يعجب بالهدوء التام والصمت الغريب الذي كان يلف النجف ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وقبيل الفجر كذلك.

وقد غادر السر ( رونالد ) النجف صباح اليوم الثاني ( 21 أيار 1917 ) بعد أن وزّع حوالي مئة وخمسين روبية على الخدم فيها. فمرّ عند خروجه منها إلى طريق كربلاء بالمقابر التي يدفع فيها الناس ستين باوناً لقاء السماح لهم بدفن موتاهم، وهو يقول إنّه سُرّ تمام السرور؛ لأنّه ابتعد عن ضيق البيوت التي كانت تحتشد بالخمسين ألف نسمة من سكّانها، المحصورين بين جدرانها الضيّقة من دون أن تتهيّأ الفرصة لأن يقع نظرهم على أي نبات أخضر، أو تشم أُنوفهم الهواء النقي.

لقد كان قدوم السر رونالد ستورز إلى النجف، في وقت لم يكن قد تشكّل فيها أي نوع من أنواع الحكومة الجديدة بعد احتلال بغداد، سوى التخويل الذي خوّلت به سلطات الاحتلال شيوخ البلد، من أمثال الحاج عطية أبي كلل وجماعته بالمحافظة على الأمن والسكينة.

مارس رؤساء النجف سلطاتهم الإدارية على المدينة حتى أواخر تموز 1917م، حين عيّنت سلطات الاحتلال البريطاني الكابتن ( بلفور ) حاكماً سياسياً لمنطقة الشامية والنجف. وقد كان الإنكليز حذرين في هذا الإجراء، إذ لم يجعلوا مقر الحاكم السياسي في النجف؛ لئلاّ يستفزوا المشاعر الإسلامية؛ وليمنعوا ردود الفعل المحتملة. إنّما عيّنوا حميد خان وهو رجل شيعي بمنصب وكيل الحاكم، وقد رفض حميد خان المنصب؛ لكنّه استجاب لطلب السيد اليزدي وكذلك بعض أصدقائه كالشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ جواد الجواهري، والميرزا مهدي ابن الآخوند الخراساني، حيث كانوا يرون في قبوله الوظيفة خدمة للأهالي.

٢٨٦

وبالفعل كان لحميد خان دوره في قضاء حوائج الناس، والدفاع عن العديد من الشخصيات التي كانت تعمل ضد الإنكليز، بل إنّه حذّر الشخصيات المعارضة في الحالات التي يحيط بها الإنكليز علماً بتحرّكاتها، وتعرّض نتيجة ذلك إلى إحراجات كثيرة بحكم وظيفته في الجهاز البريطاني(1) .

إنّ هذا التحوّل الذي شهدته النجف لم يثر في بدايته زعماء المحلاّت، فلم يحدث ما يشير إلى استيائهم من الوضع الجديد. إلاّ أنّ حادثة وقعت أواخر تشرين الأول 1917م، أثّرت على سير الأحداث، وجعلت الإنكليز يتعاملون مع الوضع الإداري للنجف بطريقة أكثر حسماً. حدث ذلك عندما قدم إلى النجف أحد شيوخ قبيلة عنزة - حليفة الإنكليز في بادية الشام - يحمل كتاباً من الكولونيل ( ليچمان ) إلى حميد خان يوصيه أن يزوّد القبيلة بكميّة كبيرة من الحبوب، لكن الخبر ما كاد يشيع في البلدة حتى ارتفعت الأسعار ارتفاعاً كبيراً.

وفي اليوم التالي أرسل ( فهد الهذال ) رئيس مشايخ عنزة (1200) بعير؛ ليبتاع أصحابها الحبوب من أسواق النجف برخص موقّعة منه، فأحدث ذلك اضطراباً في المدينة(2) ، وخرجت تظاهرة شاركت فيها النساء. ثم هجم أتباع عطية أبو گلل على القافلة فأطلقوا عليها الرصاص، وقتلوا عدداً من جمالها واستولوا على بعض البنادق والأمتعة.

حين علم ( بلفور ) بالخبر أسرع إلى النجف، فاجتمع برؤسائها واتفق معهم على إرجاع المنهوبات ودفع تعويض عن الخسائر، وحدّد لهم مدّة خمسة عشر يوماً للتنفيذ، لكنّ المدة انتهت دون أن ينفّذ الرؤساء شيئاً. وفي ذلك دلالة على اعتراضهم على الإجراء البريطاني، فلقد بدا واضحاً للرؤساء أنّ الإنكليز يفضّلون قبيلة عنزة على مدينتهم(3) ، وبصورة تعرّضها إلى أزمة اقتصادية شديدة؛ لذلك أظهروا سخطهم عن طريق الامتناع عن دفع التعويضات.

في 3 صفر 1336هـ / 19 تشرين الثاني 1917م، جاء بلفور إلى النجف بصحبة

____________________

(1) هكذا عرفتهم 1/47 - 48.

(2) موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف 1/259.

(3) دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي الحديث ص54.

٢٨٧

حاكم الحلّة الميجر ( بولي )، فذهب إلى السراي واستدعى رؤساء البلدة، فحضر اثنان منهم، هما عطية أبو گلل وكاظم صُبّي. وقد اصطحب عطية جماعة من رجاله المسلحين.

كان اللقاء متوتّراً بين الطرفين، فقد طلب بلفور أن يدفع الرؤساء الأربعة مبلغاً قدره أربعة آلاف ليرة، تعويضاً عن أضرار القافلة. ثم تطوّر النقاش بشدة إلى اشتباك بالأيدي، فقد صفع بلفور كاظم صبّي على وجهه، فرد عليه كاظم بصفعة أطارت قبعته، واستدعى عطية رجاله فدخلوا السراي ونهبوا محتوياته وأشعلوا فيه النيران(1) .

إنّ هذا الموقف يمثّل تحدّياً جريئاً لسلطة الاحتلال البريطاني في فترة قوّتها وانتصارها، خصوصاً وأنّ التحدّي سرعان ما اتسعت دائرته. ففي نفس اليوم امتدّت الانتفاضات إلى الكوفة وأبي صخير، حيث هاجم الناس مكاتب السلطات البريطانية، واضطر بلفور نتيجة ذلك أن يلجأ إلى السيد كاظم اليزدي(2) .

في هذه الأزمة لعب السيد اليزدي دوراً أساسياً في إنهائها ومنع تطوّراتها، والتي لو تطوّرت لعرّضت النجف والمناطق الثائرة إلى انتقام الإنكليز، في وقت لم تكن فيه هذه المناطق مستعدّة لمواجهة الإنكليز.

طلب السيد اليزدي من بلفور أن يغادر النجف، ويترك عطية أبوگلل وكاظم صبّي وشأنهما، وقد استجاب بلفور لهذا الطلب(3) ، وبذلك أنهى السيد اليزدي أزمة حادّة كادت تتطوّر إلى مواجهة مسلّحة غير متكافئة بين الإنكليز وزعماء النجف. بل إنّ السلطات البريطانية تراجعت عن موقفها. ففي 25 تشرين الثاني 1917م، أي بعد أقل من أُسبوع على انتهاء الأزمة، اتخذت الإدارة البريطانية قراراً بتزويد النجف بالحبوب ومنع نقلها من الفرات الأوسط إلى بغداد(4) .

إنّ حادثة القافلة وما أعقبها من هجوم على مكاتب الإنكليز؛ جعل الحاكم العام في العراق السير ( برسي كوكس ) يقوم بجولة في مناطق الفرات الأوسط أوائل كانون الأول

____________________

(1) لمحات اجتماعية 5/209 - 210.

(2) فصول من تاريخ العراق القريب ص119.

(3) دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي الحديث، ص66.

(4) لمحات اجتماعية 5/211.

٢٨٨

1917م، وقد كتب عن جولته:

( ومع أنّ كربلاء لم تسبّب لنا مشكلة خطيرة، فإنّ النجف التي كانت فريسة في أيدي شيوخ البلد المحلّيين، قد بقيت شوكة في جانبنا مدة من الزمن... ولذلك قمت بجولة في المنطقة خلال كانون الأول 1917م؛ لأكون في وضع يؤهّلني لتقديم المشورة إلى القائد العام للقوات المحتلّة، بالنسبة لمختلف النقاط الإدارية التي تجعل من مرابطة مفرزات خاصّة من الجيش فيها ناجحاً. وكان من غير المرغوب فيه بطبيعة الحال، وممّا لا يأتلف مع بياناتنا السابقة، أن نبادر إلى وضع قطعات من الجيش في الأماكن المقدّسة نفسها، وهذا الوضع بالذات، هو الذي جعل من الصعب علينا أن نسيطر سيطرة تامة على النجف )(1) .

من الواضح أنّ الإنكليز كانوا يواجهون أزمة حقيقة في طريقة التعامل مع النجف، ناشئة من خوفهم عن ردود الفعل التي قد يقدم عليها علماء الدين، فيما لو وضع الإنكليز قوّاتهم العسكرية في النجف وبقيّة الأماكن المقدّسة. إنّهم كانوا يرون ضرورة هذا الإجراء من الناحيتين الإدارية والعسكرية، لكنّ البعد السياسي للإجراء ينطوي على محتملات خطيرة لا يريد الإنكليز التورّط فيها.

أدرك ( كوكس ) أنّه أمام واقع حسّاس؛ لذلك قام خلال جولته بزيارة السيد كاظم اليزدي في الكوفة، وشيخ الشريعة الأصفهاني في النجف الأشرف(2) ، وهو في ذلك يحاول امتصاص أيّة ردّة فعل قد تنشأ من قِبل علماء الدين، فيما لو اتخذت السلطات البريطانية بعض الإجراءات الإدارية والعسكرية. ورغم أنّ جولة كوكس أسفرت عن اتخاذ سلطات الاحتلال إجراءات تقضي بتعزيز وجودها العسكري في تلك المناطق، إلاّ أنّ الحذر من ردة فعل علماء الشيعة، اضطرّها إلى تنفيذ مشروعها بطريقة هادئة على غير ما تريده وتطمح إليه. وقد شرحت المس بيل تنفيذ المشروع بالقول: ( وبإشارة منه - كوكس - وضعت مفرزات صغيرة في مختلف النقاط الكائنة على النهر وليس في النجف نفسها، حيث إنّ هذه البلدة بنفوسها البالغة (40000) نسمة كانت أحوالها

____________________

(1) موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف 1/260.

(2) لمحات اجتماعية 5/2/211.

٢٨٩

تستدعي وضع عدد كبير من الجنود فيها. وقد تكهّن مَن يعنيهم الأمر بأنّ وجود قوّة مختلطة في الكوفة التي تبعد مسافة سبعة أميال عنها، سيكون له التأثير التهديئي المطلوب بصورة غير مباشرة )(1) .

ثم تنفيذ هذه الإجراءات العسكرية أوائل عام 1918م ( ربيع الأول 1336هـ ) حيث وُضعت الحاميات العسكرية في أنحاء الفرات الأوسط، وكانت حامية الكوفة تجري تمارينها اليومية في الصحراء الواقعة بين النجف والكوفة.

في صباح 12 كانون الثاني 1918م، اقتربت مفرزة من الخيّالة الهنود من محلّة العمارة، ولمّا علم عطية أبو كلل، تصدّى رجاله لهم وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا أحدهم وجرحوا آخر. وقد عادت المفرزة إلى معسكرها في الكوفة دون أن تردّ على النار بالمثل، وبعد ساعات قليلة ظهرت طائرة بريطانية في سماء النجف فأطلق عليها بعض المسلحين نار بنادقهم. وفي الوقت نفسه هجم مسلّحون على مكاتب الحكومة، فهرب حميد خان مع موظّفية إلى الكوفة.

على إثر هذه الحادثة ذهب إلى الكوفة اثنان من رؤساء النجف هما: مهدي السيد سلمان، وسعد الحاج راضي، فقابلا بلفور وأبديا استعدادهما لدفع التعويض عن الخسائر. وفي اليوم التالي ذهب كاظم صبّي لمقابلة بلفور الذي حدّد غرامةً قدرها خمسين ألف روبية، مع تسليم عطية أبو گلل وكريم بن سعد الحاج راضي، المؤيِّد لعطية(2) .

قام رؤساء النجف بدفع الغرامة، وأدرك عطية أبو گلل أنّه لا يستطيع البقاء في النجف، فالتحق بالشيخ عجمي السعدون الموالي للأتراك(3) .

كانت مبادرة زعماء النجف هذه المرة قد منعت انفجار أزمة بين الإنكليز والمدينة، غير أنّ هذه الحادثة جعلت الإنكليز يفكّرون بطريقة أُخرى من أجل السيطرة على النجف. وقد قرّروا في ضوء ذلك فرض إدارتهم العسكرية المباشرة على المدينة، وهو الإجراء الذي أحجموا عن تنفيذه خوفاً من ردود الفعل الشيعية، لكن خوفهم من تزايد

____________________

(1) فصول من تاريخ العراق القريب، ص121.

(2) لمحات اجتماعية 5/2/212.

(3) فصل من تاريخ العراق القريب، ص122.

٢٩٠

التحدّي دفعهم إلى خطوة مضادّة.

فبعد هذه الحادثة قدّم حميد خان استقالته من منصبه، وقرّرت القيادة البريطانية تعيين حاكم بريطاني للنجف، وتنظيم جهاز شرطة جديد بأفراد من الشيعة معظمهم من أكراد كرمنشاه(1) ، وذلك من أجل عدم استفزاز الرأي العام في المدينة التي بدأت تخضع للإدارة البريطانية المباشرة.

إلى هنا ينتهي أحد المقاطع التأريخية في علاقة مدينة النجف الأشرف مع الإنكليز، والذي كان زعماء النجف المحليّون يمثّلون مصدر الفعل التاريخي في حركة الأحداث، وتمثّل القيادة الدينية المتمثّلة بالسيد اليزدي مصدر الردع للإجراءات البريطانية المضادّة.

إنّ تجربة الإدارة المستقلّة لزعماء النجف، جعلت من الصعب عليهم أن يتقبّلوا الحكم البريطاني، ومن جانب آخر كان التحوّل الإداري في المدينة له أهميّته السياسية في مسار الحوادث؛ حيث وجد الزعماء المحليّون أنفسهم أمام تجربة مباشرة في الحكم المحلّي المستقل، وهي تجربة جديدة لم تتوفّر من قبل، كما أنّها لم تحدث في منطقة أُخرى من العراق.

ونستطيع أن نتصوّر حجم ذاك التحوّل، الذي صنعه الرؤساء، من خلال مقارنة حالة الاستقلال بالفرات السابقة، التي كانت تعيشها المدينة في ظل التمييز الطائفي، الذي اعتمده الأتراك على امتداد فترة حكمهم، حيث مثّل الاستقلال إنجازاً سياسياً له أهميّته في منطقة حسّاسة من العراق. وتتضّح أهميّته أكثر إذا عرفنا أنّ الخطوة الاستقلالية كانت نابعة من محيطها الخاص، دون أن تحظى بدعم من جهة أجنبية، إنّما كانت حركة مستقلّة معتمدة على إمكاناتها الذاتية وقراراتها الخاصّة.

إنّ هذا الاتجاه في فهم الاستقلال، نراه يختلف في أُسسه عن اتجاه آخر كان يحاول أن يقوّي نفسه من خلال الاعتماد على الإنكليز، وهو الاتجاه القومي الذي مثّله القوميّون العرب عن طريق التحالف مع الجانب البريطاني لتقويض الدولة العثمانية.

هذه الإشارة السريعة تكفي لبيان صورتين متعاكستين في اتجاهات السياسة

____________________

(1) لمحات اجتماعية 5/2/213.

٢٩١

العراقية، والتي بقيت كلّ منهما تحاول أن تعمّق وجودها في الحياة السياسية. ولا نشكّ أنّ هذه التجربة في تحديد المواقف، قد جعلت الإنكليز يزدادون قناعة بضرورة إقصاء الشيعة عن مواقع الحكم، عندما رسموا مستقبل العراق عام 1920م. بل إنّ هذه القناعة كانت تتركّز في العقل البريطاني نتيجة المواقف الثابتة لأبناء الشيعة(1) .

____________________

(1) دور علماء الشيعة 136 - 143.

٢٩٢

مقتل الكابتن مارشال 1336هـ /1918م

وموقف السيّد اليزدي

تمهيد(1) :

بعد احتلال القوات البريطانية لبغداد، بدأت تتسرّب إلى أسماع العراقيين أخبار مختلفة عن نوايا الإنكليز في كيفيّة حكم العراق، ومستقبل الإدارة فيه، وكلّما تسرّب إليهم خبر من هذه الأخبار؛ راحوا يتهامسون حول نوايا بريطانيا السيّئة تجاه العراق والعراقيين. كما أنّهم كانوا يستشفّون من بعض محاولات هذا الاستعمار الجديد مقدار اهتمام بريطانيا بتفرقة العراقيين، وإثارة العداوات بينهم، ومن ذلك كله كانوا يكتشفون الذهنية الإنكليزية في نظرتها إلى العراق.

وكان أهم ما تسرّب إلى العراقيين في هذه الفترة من الأخبار، بعض مضامين البرقية التي كانت قد أرسلتها وزارة الهند في بريطانيا إلى كل من سكرتير الشؤون الخارجية في سملا، وإلى بغداد، في 29 آذار 1917، والتي تضمّنت ما يلي:

1 - إنّ الأراضي المحتلّة يجب أن تديرها حكومة صاحب الجلالة، وليس حكومة الهند.

2 - أن تبقى البصرة والناصرية وشط الحي والكوت وبدرة بحدودها الشمالية والغربية خاضعة للإدارة البريطانية بصورة دائمية.

3 - أن تكون بغداد دولة عربية يرأسها حاكم محلّي، أو تديرها حكومة خاضعة للحماية البريطانية في كل شيء، عدا الاسم. وعلى هذا سوف لا تكون

____________________

(1) اعتمدنا في كتابة هذه البحث على المصادر التالية:

( أ ) - ثورة النجف للأُستاذ حسن مرزة الأسدي.

( ب ) - ثورة النجف للسيد عبد الرازق الحسني.

( جـ ) - النجف الأشرف ومقتل الكابتن مارشال: لكامل سلمان الجبوري.

( د ) - وثائق الثورة العراقية الكبرى: لكامل سلمان الجبوري - مخطوط.

( هـ ) - مذكّرات الشيخ محمد رضا الشبيبي، ملحق كتاب النجف الأشرف ومقتل الكابتن مارشال.

٢٩٣

لها علاقات مع الدول الأجنبية. وستعهد المهام القنصلية التابعة لها إلى قناصل صاحب الجلالة.

4 - أن تُدار بغداد هذه كولاية غربية من وراء ( واجهات ) عربية، على قدر الأمكان، على أن تبقى فيها المؤسّسات والقوانين الموجودة، أي:

أ - أن لا يستعمل القانون الذي وضع لإدارة المناطق المحتلّة، وأن يبقى النظام العدلي السابق فيما يختص بالقوانين والأشخاص نافذاً، إلاّ في تبديل اسم ( التركي ) باسم ( العربي ) فقط.

ب - وينطبق هذا على الجهاز الإداري والتنفيذي أيضاً. فيحافظ على نظام الحكم العشائري، ومجالس الألوية والبلدية وغير ذلك.

جـ - لا تمس طريقة جباية ضرائب الأراضي الحالية بشيء.

د - لا يُشجّع استخدام الهنود في جميع فروع الإدارة؛ لعدم اتفاقه مع المبادئ المشار إليها أعلاه. فلا يسمح باستخدام الآسيويين إلاّ إذا كانوا من أصل عربي أو إيراني أو متوطّن. ويطبّق الشيء نفسه في ولاية البصرة على قدر الإمكان.

5 - وفي حالة عدم إلحاق البصرة بالهند، يجب أن يكون المندوب السامي المقيم في بغداد، على رأس إدارة جميع ما بين النهرين، وأن يحكم البصرة حاكم تابع إليه. وفي حالة إلحاق البصرة بالهند، يكون عنوان رئيس الحكومة ( حاكم البصرة والمندوب السامي لبلاد ما بين النهرين ) على أن يكون له مقر اسمي في البصرة، بالرغم من إقامته في بغداد. وينوب عنه عند غيابه ( وكيل حاكم ) في البصرة، و( وكيل مندوب سامي ) في بغداد.

6 - أن توحّد الخدمة المدنية البريطانية مع قرينتها في السودان، وإن أمكن مع تلك الموجودة في سواحل البحر الأبيض المتوسّط؛ وأن تتبع في خدمة الجيش الأساليب نفسها، بحيث يمكن تبادل الأشخاص. وإذا احتاج الأمر لخدمة الضبّاط البريطانيين الذين يخدمون في الهند في بادئ الأمر، فتعار خدماتهم مؤقتاً بموجب قوانين الخدمة الخارجية. أمّا مَن يخدم منهم الآن في هذه الأماكن فيسمح له بالتطوّع للانتقال نهائياً.

٢٩٤

النجف - صورة جوّية من جهة الشرق عام 1917

٢٩٥

7 - أن تكون من العتبات الشيعية المقدّسة وحدة منفصلة تكون تحت الإدارة البريطانية، على أن يُعنى بعدم ضم أي منطقة زراعية مهمّة إليها.

8 - أن تدار الكويت وجميع سواحل الخليج العربية، من البصرة.

9 - أن تودع أُمور عدن وحضرموت إلى وزارة الخارجية.

10 - أن تكون إيران الجنوبية، بما فيها عربستان وفارس، منطقة نفوذ لحكومة الهند.

11 - إنّه من المهم جدّاً أنّ الترتيبات الإدارية التي ستُتخذ في ولاية بغداد، يجب أن تتفق تماماً مع المبادئ المدرجة أعلاه منذ البداية )(1) .

عندما تسرّبت أنباء هذه البرقية وغيرها إلى أسماع العراقيين، طار لبّهم وتيقّظوا من غفلتهم؛ فتعدّدت الاجتماعات في جميع المدن العراقية النابهة، لمدارسة مستقبل البلاد العراقية وما تنتظره على يد هؤلاء المستعمرين الجشعين، وكانت النجف مرجع جميع هذه التجمّعات، وبعد أن تجلّى للعراقيين بكل وضوح سوء نوايا الإنكليز في هذه البلاد، وُضعت البدايات الجدية الأُولى للعمل على الثورة ضد الإنكليز، وبذلك جعل السكّان يشكّكون في كل حركات الفاتحين الجدد وسكناتهم، بحيث لا يطمئنّون إليهم بأي شكل من الأشكال. وقد زاد في طين ذلك التشكيك بلّة قيامُ الشيوعيين في نهاية عام 1917 وأوائل عام 1918، بعدما استولوا على الحكم في روسيا، بإذاعة المعاهدات السرّية المعقودة بين الحلفاء، ومنها معاهدة سايكس - بيكو، بين الإنكليز والإفرنسيين لاقتسام البلاد العربية؛ ممّا جعل العرب ينقمون على الحلفاء في كل مكان، وإذا أضفنا إلى ذلك النقمة الصارخة التي نقمها العرب على الإنكليز عند صدور وعد بلفور قُبيل هذا؛ أدركنا السبب في تركيز النقمة على الإنكليز، في جميع البلاد العربية، وفي العراق بصورة خاصة. حيث تملّك العرب - عند ذلك - رد فعل عنيف ضد الإنكليز، فراحوا يؤلّبون عليهم ويعملون ضدهم في كل مكان.

وعلى هذا الأساس وغيره كانت النقمة على أشدّها في العراق ضد الإنكليز، وقد ساعد على اشتداد هذه النقمة الشعور الوطني العارم، الذي انتشر في العراق بعد الحرب،

____________________

(1) العراق دراسة في تطوّره السياسي، لآيرلاند، ص62 - 63.

٢٩٦

كغيره من البلاد الأُخرى.

وكان نصيب النجف من هذا الشعور وافراً جداً؛ بسبب ما خلّفه جهاد الحجّة السيد الشيرازي، والحجّة الخراساني في نفوس النجفيين، من مشاعر وأحاسيس ضد الاستعمار والمستعمرين، وقد تسرّبت هذه النقمة ضد الإنكليز إلى جميع الأوساط النجفية، اللّهمّ إلاّ نفراً ممّن استمرأ طعم الخيانة من العناصر الأجنبية التي تعيش فيها، وقلّة نادرة جداً من النجفيين. حيث إنّ الإنكليز عندما احتلّوا العراق أقاموا جهازاً تجسّسياً رهيباً، حشّدوا فيه أراذل خلق الله من هنود وإيرانيين وأتراك ومصريين وعراقيين، وحكّموهم في رقاب الناس، وكانت النجف تقاسي من هؤلاء ما تقاسيه المدن العراقية الأُخرى.

وكان من أهم مظاهر نقمة النجف على الإنكليز، أنّها حرّمت التوظّف في حكومة الاحتلال، أو أيّة حكومة يصطنعها الاحتلال في العراق، وقد أشارت المس بيل إلى تلك النقمة عليهم بقولها: ( وقبل أن تبدأ القلاقل العلنية في بغداد، كان العنصر الديني الشيعي في المدن المقدّسة منهمكاً في حبك الدسائس ضدّنا )(1) .

أمّا السير برسي كوكس، فقد عبّر عن تلك النقمة في تقرير له جاء فيه: (.... غير أنّ النجف، تلك المدينة التي كانت إدارتها في قبضة زمرة من شيوخها المحلّيين، الذين لم يرضوا الانقياد لنظمنا، بقيت شوكة في جسم إدارتنا )(2) .

وفي هذا وذاك وغيرهما من أقوال وتصريحات كثيرة، ما فيها من الدلالة على مبلغ أهميّة الدور الذي كانت تلعبه النجف في إحباط مساعي الإنكليز.

وتحت تأثير هذه النقمة، وذلك الشعور الوطني الإسلامي العارم، تألفّت في النجف عام 1917 جمعية النهضة الإسلامية السرّيّة، تلك الجمعيّة التي استعجل بعض أعضائها بتقديم ساعة الصفر للثورة النجفية، التي كان مقرّراً أن تكون بعد نضج الفكرة بين رؤساء العشائر، واستكمال استعداداتهم لها؛ ليقوم كل منهم - بعد إعلان الثورة النجفية - بطرد حكومة بلده، لإعلان الثورة العامة في البلاد، وربّما كان ذلك الاستعجال بتحريض من الأتراك؛ لإضعاف العدو وإشغاله(3) .

____________________

(1) Review of the civil Administraion of Mesoptamia ، p156

(2) تكوين العراق الحديث.

(3) جاء في مذكّرات كاشف الغطاء ص388:

٢٩٧

وكما أنّ النجفيين استمرأوا طعم الحرية وحكم أنفسهم بأنفسهم، منذ طردهم لحكومة الأتراك، كذلك كانت الحال مع رؤساء عشائر الفرات، الذين تخلّصوا من نفوذ الأتراك طيلة أيام الحرب، حيث إنّهم أعلنوا العصيان على الحكومة التركية، كل في مكانه، منذ اللحظة التي ثارت فيها النجف على الأتراك وطردتهم.

لذلك، فإنّ الإنكليز عندما أرادوا فرض سيطرتهم على الأماكن التي احتلّوها من الأتراك، عارضهم رؤساء العشائر؛ لأنّهم لا يريدون تبديل استعمار باستعمار. الأمر الذي اضطرّ معه الإنكليز إلى استعمال القوّة القاسية مع الرؤساء المعاندين، وخلق رؤساء جدد يسندونهم ليؤمّنوا مصالحهم في المنطقة، هذه العملية التي ما استطاعوا أن يحقّقوها في النجف، حتى بعد القضاء على ثورتها(1) .

____________________

=

أسّس هذه الجمعية بعض النجفيين ( وفيها بعض المعمّمين، وجماعة من جهلاء ( الفريقين ) ولم يبرموا الأمر على ما يقتضيه الحزم والحصافة ).

(1) كتب السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه ( ثورة النجف ) ص30 - 34، حول هذه الجمعية ما يلي:

( تألّفت في النجف - قُبيل احتلال بغداد جمعية إسلامية باسم: ( جمعية النهضة الإسلامية ) استهدفت تخليص العراق المسلم من براثن السيطرة الإنكليزية، وتأليب المسلمين على الأجانب الكافرين، ضماناً لاستقلال البلاد وتحريرها من ربقة الاستعمار، وكان من بين أعضاء هذه الجمعية العاملين: السيد محمد علي بحر العلوم، والشيخ محمد جواد الجزائري، والشيخ محمد علي الدمشقي، والسيد إبراهيم البهبهاني، والشيخ عباس الخليلي - وقد لُقّب بفتى الإسلام - وكان الخليلي من أشدّ الأعضاء حماسة، وأكثرهم حركة، كما كان الشيخ عبد الكريم الجزائري من مؤيّديها، وقد انهمكت هذه الجمعية في نشر المنشورات، ولصق الإعلانات المندّدة بسياسة المحتلين على الجدران، وانتهاز كل مناسبة للتشهير بسوء إدارتهم، وعظيم غطرستهم، وكانت اجتماعات الأعضاء تُعقد في محلاّت متفرّقة، وأوقات مختلفة؛ حذراً من الجواسيس وضعاف الإيمان.

ولأجل أن تضمن ( جمعية النهضة الإسلامية ) تحقيق أهدافها، نشرت دعوتها بين القبائل المحيطة بالنجف، والكوفة، وأبي صخير، والشامية، وبين حملة السلاح من أهل النجف، وذلك بتكتّم شديد وحذر كبير. فكان ممّن انضم إليها من القبائل: الشيخ مرزوك العواد رئيس العوايد، والشيخ ودّاي رئيس آل علي، والشيخ سلمان الفاضل رئيس الحواتم. ومن حملة السلاح النجفيين: البعض من آل صبّي، وآل غنيم، وآل شبع، وآل كرماشه، وآل العكايشي، وآل الحاج راضي، وألبوگلل، وآل عدوه، وغيرهم ممّن يتعذّر علينا إحصاء أسمائهم، ولم يشترك فيها أحد من جماعة آل السيد سلمان، وهذا يعني أنّه أصبح لـ ( جمعية النهضة الإسلامية ) حزب سياسي تسيّره الأدمغة المفكّرة، وآخر حربي قوامه حملة السلاح، وكان بعض أعضاء الجمعية يقوم بدور الوساطة والاتصال بين الحزبين السياسي والحربي، بعد أن وحّدت رغبة الخلاص من ربقة الاستعمار والكفّار صفوف الطرفين، وقرّبت بعضهم إلى بعض، على الرغم من اختلاف العقائد وتباين النزعات والمآرب.

=

٢٩٨

وعلى كل حال فإنّ رؤساء العشائر الحقيقيين الأصليين ظلّوا على اتصال دائم مع النجفيين، بل ازداد نشاطهم لمقاومة هذا البلاء الجديد.

ومن هنا بذرت البذرة الأُولى لثورة عراقية عامّة ضد الإنكليز، وقد كانت النجف أصلح مكان لتدبير هذه الثورة وتحقيقها؛ وذلك لأنّها المرجع الديني الوحيد من جهة، ومن جهة ثانية: لأنّها البلد المستقل الوحيد الذي لم يجرأ الإنكليز على احتلاله طيلة سنيّ الحرب، فكان يحكم نفسه بنفسه ويستقبل الزعماء من كل الجهات بكل حرية وانطلاق.

وبدأت الاجتماعات السرّية لهذا الغرض تُعقد في كل مكان مرتبط بالنجف والنجفيين، وكانت التمهيدات والاستعدادات جارية في السر على قدمٍ وساق، وكان المعنيّون - في كل منطقة - يستغلّون كل فرصة لإثارة الناس ضد الإنكليز، وفضح نواياهم تجاه العراق.

وكانت تتولّى هذه المهمّة في النجف ( جمعية النهضة الإسلامية ) السرّية التي تألّفت خصّيصاً لرفع لواء المعارضة ضد الإنكليز والثورة عليهم، هذه الجمعية التي استمات الأتراك في استمالة بعض أعضائها، بدافع الروح الإسلامية، لتقديم ساعة الصفر.

قلنا: إنّ الإنكليز لم يستفزّوا النجف باحتلالها من قبل الجيوش الفاتحة، وإنّما تدرّجوا في فرض سيطرتهم على البلد بمحاولات متعدّدة، انتهت بالثورة عليهم.

فهم قبل أن يدخلوا النجف مهّدوا لذلك باسترضاء زعمائها واستمالتهم، وبخاصة الحاج عطية أبو گلل؛ حيث عزّزوا مكانته وفوّضوا إليه كثيراً من الأُمور، حتى أنّ البضائع ما كانت تصدر من البصرة إلى النجف إلاّ بترخيص من الحاج عطية المذكور.

ثم بدا للإنكليز ما يزعزع ثقتهم به، أو إنّهم رأوا أنّ تعاظم نفوذه لا يسهّل لهم تسلّم السلطة؛ لذلك عيّنوا عبد الحميد خان، وهو من سكّان النجف، وابن عمّة أغا خان

____________________

=

وارتأت الجمعية أن تتصل بالجيش العثماني، الذي كان ما يزال يقاتل البريطانيين في أطراف الفرات الأعلى بلواء الرمادي، وفقاً لشروط ومبادئ تتضمّن استقلال العراق، إذا ما كُتب النصر لهذه ( النهضة ) المباركة وهذه الثورة، فراسلت الحاكم العسكري ( أحمد أوراق ) كما اتصلت ببعض رؤساء كربلاء لضمان العون لها عند الضرورة، ولكن هناك من الأدلّة ما يشير إلى أنّ رؤساء كربلاء لم يكتموا الأمر عن سلطات الاحتلال، فمكّنوها من حصر الحركة داخل النجف، وحالوا بذلك دون تسرّبها إلى الخارج، وإشراك القبائل المجاورة فيها على الأقل ).

٢٩٩

زعيم الطائفة الإسماعيلية في الهند؛ عيّنوه كوكيل مفوّض عن الحكومة في النجف، فوصلها من بغداد في أوائل آب 1917، بدون قوّة، ليتصرّف في إدارة البلدة كما يرى، حيث كانت السلطة البريطانية تُمارس في النجف ومنطقة الشامية بصورة غير مباشرة، وفي هذا الخصوص يقول موبرلي:

( منذ احتلال بغداد إلى تاريخ تعيين الوكلاء الحكوميين، كنّا نمارس السلطة في النجف ومنطقة الشامية بصورة غير مباشرة، بواسطة جعالات مالية كنّا ندفعها إلى الشخصيات البارزة في المنطقة. ففي الجهة الشرقية كانت هذه الشخصيات هي: سلمان العبطان وسلمان الظاهر، وهما من الخزاعل. وفي أبي صخير والجعّارة السيد هادي زوين. وفي المشخاب مبدر الفرعون، وكان مخلصاً. وفي الكوفة علوان الحاج سعدون شيخ بني حسن....

أمّا في النجف فكانت السلطة بيد الشيوخ الأربعة، وهم: السيد مهدي السيد سلمان، والحاج عطية أبو گلل، وكاظم صبي، وهم من الزگرت، والحاج سعد الحاج راضي من الشمرت.

ثم جرى تعيين وكلاء حكوميين مع شرطة وموظفين ماليين: حميد خان في النجف، وسركيس أفندي في الكوفة، ومحمود الطبقچلي في أبي صخير. ( وفي كانون الثاني 1918عيّنه الكابتن بروتيرو معاوناً للحاكم السياسي في أبي صخير ). وكلهم عملوا بنجاح في وسط تلك الصعوبات. ولكنّ سيطرة الشيوخ في النجف كانت قوية جداً. وقد ظهر لنا جليّاً أنّنا لا نستطيع فرض سلطتنا في النجف بدون معارضة سرّية، وربّما علنيّة في بعض الأحيان )(1) .

عندما تعيّن حميد خان وكيلاً حكومياً، شعر النجفيون بنوع من التدخّل في شؤونهم، فراحوا يتشاورون في الأمر، وقد جاءت حوادث عنزة واكتيالها من النجف، سبباً مباشراً لظهور النتائج التي ترتّبت على مشاورات النجفيين، حول التدخّل في شؤونهم.

هذه النتائج التي كانت حوادثها العنيفة سبباً في تعيين حاكم سياسي لمنطقة الشامية

____________________

(1) Moberly F.J ، The Campaign in Messoptamia ، p.115

٣٠٠