السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي4%

السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 813

السيد محمد كاظم اليزدي
  • البداية
  • السابق
  • 813 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 288152 / تحميل: 13207
الحجم الحجم الحجم
السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فقهاء يتوفّرون على تأليف فقهي ) عملهم على اتخاذه ( متناً ) للتعليق، أو الشرح، أو الدراسة أساساً، أي: التأليف الفقهي في ضوء ( المتون ) الفتوائية، سواء كانت رسائل عملية أو مجرّد فتاوى، وهذا ما ألمح إليه المؤرِّخون عندما أشاروا إلى أنّ المتون الفقهية مرّت بمراحل متنوِّعة، بدئت بكتاب ( النهاية ) للشيخ الطوسي ( ولا نغفل أنّ الطوسي بدوره قد اعتمد في بعض ممارساته على ( مقنعة ) المفيد،... والمهم: أنّ الحوزة العلمية الرشيدة التي امتدّت أكثر من ألف سنة، كانت تعتمد ( النهاية ) متناً، ثم اتخذت ( الشرائع ) للمحقّق، ثم ( وسيلة العباد ) للجواهري، ثم ( العروة الوثقى ) لليزدي، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

وممّا تجدر ملاحظته ( وهذا ما ألمحنا إليه ونؤكِّده الآن ) أنّ المتن المذكور ( العروة الوثقى ) لعلّه أكثر المتون الفقهية اهتماماً من قبل فقهائنا المحدثين، حيث حظي من جانب باتخاذه ( متناً ) للممارسة الاستدلالية الشاملة، ( ولعلّ أوضح مصاديقها هو كتاب ( مستمّسك العروة الوثقى )، وغيره من الممارسات، كما أنّه - من جانب آخر - حظي بتعليقات تُعدّ بالعشرات، وهو ما يقتصر على مناقشة بعض المتون، من خلال ما يسمّى بـ ( الحاشية ) إمّا مناقشة فتوائيّة فحسب، أو مصحوبة بالاستدلال، وفي الحالتين، فإنّ الاهتمام بهذا المتن بالنحو المتقدّم، يجعل الدراسة لهذا الجانب تحمل مسوِّغاتها، حيث اضطلعت أكثر من مؤسّسة بتجميع آراء الآخرين حيال المتن المذكور، متفاوتة في عدد ( المعلّقين )،... إلاّ أنّ الكتاب الحالي يعدّ أكثر الكتب حشداً للآراء.. كما هو ملاحَظ.

تأسيساً على ما تقدّم، يجدر بنا أن نتناول بالدراسة: نشاط (السيّد اليزدي ) فقهيّاً وأُصوليّاً - أو على الأقل فقهياً بمستوييه: الفتوائي والاستدلالي ( بخاصّة: الأخير )؛ لأنّه ( الخلفية ) التي تستند ( فتاواه ) إليها... ولحسن الحظ، أنّ السيّد اليزدي ترك لنا جملة مؤلّفات استدلالية تتفاوت في حجومها، مثل: ( منجزات المريض ) و( الظن... ) و( تكملة العروة الوثقى )، بالإضافة إلى دراسة استدلالية قد اتخذت من ( متن ) سابق وهو: الكتاب المعروف بالمكاسب للشيخ الأنصاري، قد اتخذت منه: وسيلة لممارسة فقهية معمّقة ومفصّلة... هذا مضافاً إلى كتاب أُصولي ضخم يتحدث عن ظاهرة التضارب بين النصوص بنمطيها: الظاهري والباطني، أو كما يطلق على ذلك

١٠١

مصطلح ( التعارض )، ومصطلح ( التكافؤ ) أو ( التعادل )، ومصطلح ( التراجيح )، وهو أهم الأبحاث الأُصولية؛ لأنّه - بوضوح - أكثر المبادئ ( تطبيقاً ) بخلاف الغالبية من المبادئ الأُصولية التي تضؤل أهميّتها العملية ( أي: الثمرة العلمية ) بالقياس إلى باب ( التعارض ) أو ( التضارب ) - كما نسمّيه - سواء أكان التضارب على مستوى السطح بحيث يجمع بين المتضاربين ( كالجمع العرفي المألوف )، وسواه، أو كان على مستوى ( العمق ) بحيث لا مناص من طرح أحد الطرفين ( مثل موافقته للعامّة ) أو العمل بالآخر ( مثل موافقة الكتاب )، أو العمل بكليهما: على مستوى ( التخيير ) وليس الجمع، أو الطرح لكليهما.. أو التوقّف أو الاحتياط... إلى آخره... ويتميّز الكتاب المذكور بسعة حجمه، وبدخوله في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ بعض المعنيين بهذا الشأن المعرفي قد يكتفون بثلاثين صفحة من الكتاب، بينما تجاوز الكتاب الذي عرضنا له: الستمئة صفحة..

المهم: بما أنّ ( التطبيق ) لمبادئ التضارب لا يتجانس مع ( النظرية ) من حيث الحجم الذي يستخدمه المؤلِّف، لذلك لا ضرورة كبيرة تدفعنا إلى مدارسة هذا الكتاب بقدر ما نقتبس منه بعض الفقرات؛ لأنّ المهمّ هو: ما نلاحظه من الممارسة الفقهية التي تعتمد هذا المبدأ الأُصولي أو ذاك... أي: نعتمد الممارسة التطبيقية لما يطرح من عمليات ( الجمع العرفي ) أو ( الترجيح )... أو... إلى آخره... عبر هذه المسألة الفقهية أو تلك... بالإضافة إلى سائر المبادئ التي يتوكّأ عليها في استخلاص الظاهرة الشرعية بنحوٍ عام...

وهذا ما نبدأ به الآن:

* * *

إنّ المرحلة الأُولى من ممارسة (السيّد اليزدي ) للظاهرة الفقهية، هي: تصديرها بالبُعد ( اللغوي )، أي من حيث التعريف بالظاهرة: موضوعة البحث دلالياً، ومدى انسحاب العنوان المنتخب على الموضوع، يستوي في ذلك أن يكون البحث فقهياً أو أُصولياً. وممّا لا شكّ فيه، أنّ طبيعة البحث العلمي يتطلّب الإحاطة بجوانب الموضوع جميعاً، وفي مقدّمته الجانب اللغوي، ما دامت اللغة هي الواسطة في التعبير عن موضوع البحث، لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ البعد اللغوي يظلّ ( أداةً توظيفية ) وليس

١٠٢

غاية، وهذا ما يقتادنا إلى ملاحظة مهمّة بالنسبة إلى مطلق البحوث، ومنها: البحث الفقهي، حيث نجد أنّ الباحثين لا يكتفون بتعريف الموضوع لغوياً واصطلاحيّاً، في نطاق ما هو ضروري، بل يسهبون في البحث عن جذر الكلمة واستخداماتها، و... إلى آخره، حتى ليحس القارئ أنّه أمام معجم لغوي، وليس أمام بحث لا علاقة له باللغة إلاّ بمقدار الإضاءة الضرورية...

وفي ضوء هذه الحقائق نتّجه إلى (السيّد اليزدي ) لملاحظة استخدامه للبعد ( اللغوي )، حيث نجد عناية خاصّة منه قد لا نجدها عند الآخرين، فهو يدقّق في المفردة الفقهيّة أو الأُصولية، وينقّب في حفريّاتها إلى درجة ملحوظة، حتى نحسب أنّ بعض ممارساته تحمل القارئ على الاستفسار عن مدى فائدة هذا الإسهاب أو التغلغل اللغوي...

المهم: خارجاً عن ذلك يجدر بنا الاستشهاد بنماذج من ممارساته، وهي نماذج إيجابية دون أدنى شك...

من ذلك، مثلاً: في بداية بحثه الأُصولي في باب ( التضارب ) بين الأخبار، أي ( التعارض ) وهو العنوان الذي انتخبه لبحث الظاهرة المذكورة، حيث صدّرها بهذه الفقرات:

( عنوان المسألة بباب ( التعارض ) كما صنّفنا، وفاقاً لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح؛ لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه، إذ التعارض قد يكون مع التعادل، وقد يكون مع الترجيح، ومن المعلوم أنّ الكلّي المتعارض - مع غضّ النظر عن قسيميه - أحكاماً... مثل أولويّة الجمع مهما أمكن، وأنّ الأصل في المتعارضين ماذا؟ وغيرهما ) ثم يذكر جواباً لمَن يجد مسوّغاً للعنوان التقليدي، ويعترض على ما ورد في ( القوانين ) من العنوان القائل ( باب التعارض والتعادل والترجيح )... بعد ذلك يقول: ( لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه، أحدها: أنّ معادل التعادل: التراجح لا التراجيح، إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء... إلى آخره )...

ثمّ يقطع صفحات متعددة لمواصلة بحثه عن مفردات المصطلح المذكور، بحيث يصل إلى ما يقارب عشر صفحات، وهو أمر قد لا نجد له ضرورة...

١٠٣

بغضّ النظر عمّا تقدّم، فإنّ مجرّد انتخاب عنوان شامل - كما صنع السيّد اليزدي يظلّ أفضل - بلا شك - من المفردات الثلاث، ممّا استخدمها الأُصوليّون قدامى وحديثين أيضاً...

وما دمنا نتحدث عن انتخاب ( العنوان ) وضرورة شموليّته وتعبيره عن الموضوع المبحوث عنه، نجد أنّ السيّد اليزدي يتّجه إلى مناقشة كثير من المفردات التي جعلها الفقهاء ( عنواناً ) لممارساتهم،... ومن ذلك مثلاً: ما نلاحظه في كتابه الاستدلالي التعليقي ( حاشية المكاسب ) حيث تعرّض لجملة من المفردات التي اعتبرها غير مفصحة عن طبيعة الموضوعات... ومن ذلك: عنوان ( حفظ كتب الضلال ) أو عنوان ( ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً ).. أو سواهما، حيث قال بالنسبة إلى العنوان الأخير:

( هذا العنوان إنّما يحسن إذا جعلنا المناط في النصوص ذلك، وتعدّينا إلى كلّ ما يكون كذلك، وأمّا على ما هو واقعه من الاقتصار على مواردها من السلاح أو مطلق آلات الحرب، فالأولى أن يقال ( وعدم بيع السلاح )، إذ المفروض خصوصيّة الموضع وعدم كون المناط ما ذكر من العنوان، فلا وجه للعنوان بما ليس موضوعاً ومناطاً... إلى آخره ).

والحقّ أنّ الملاحظة السيّد اليزدي صائبة، ما دمنا نعرف جميعاً: أنّ العنوان في البحوث العلمية يحتل أهمّيته الكبيرة من حيث انطوائه على موضوع محدّد وليس فضفاضاً... والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في التعقيب على عنوان ( حفظ كتب الضلال ) حيث يتناول تعقيبه على العنوان المتقدّم مورداً آخر مضادّاً لسابقه هو: قصور العنوان عن استيعاب ما هو ( ضلال ) حيث لا يقتصر حظر الضلال على الكتب فحسب، بل يتجاوزه إلى المطلق؛ لذلك ينبغي تبديله إلى عنوان أشمل من الكتاب.

وفي هذا الصدد يقول: ( لا خصوصيّة للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً ممّا من شأنه الإضلال.. فكان الأولى التعميم للعنوان ). هنا يحاول السيّد اليزدي توجيه العنوان المتقدّم بقوله: ( لعلّ غرضه المثال، لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان، نعم يمكن الاستدلال على الخصوصية برواية ( الحذّاء ): ( مَن علّم باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به)... ونحن أيضاً يمكننا أن نوجّه إلى المؤلّف السيّد اليزدي نفس الإشكالية بالنسبة إلى

١٠٤

الرواية، حيث إنّ التعليم للضلال لا ينحصر في الكتاب، بل يشمل مطلق الخطاب الإعلامي من: خطبة أو كلام عادي... إلى آخره.

والمهم - في الحالات جميعاً - أن نشير إلى أنّ اهتمام السيّد اليزدي بالعنوان جعله يُعنى به من زوايا أُخرى مصحوبة بجملة نوافذ، ولعلّ تعقيبه أو تصدير ممارسته لظاهرة ( الوكالة ) - مثلاً - يوضح لنا منهجه في التعريف بالظاهرة من جانب، ثم مقارنة العنوان بما تماثله أو تخالفه من سوى ذلك، حيث إنّ تعريفه للظاهرة المبحوث عنها تفرض ضرورتها لكي تتبيّن دلالة الوكالة أو الهبة أو الوقف... إلى آخره، ولكنّ الأهم من ذلك هو: المقارنة مع غيرها من الظواهر في حالة ما إذا كانت ثمّة نقاط مشتركة بين العنوان المبحوث عنه وسواه، وهذا ما نلحظ في النص الآتي:

( الوكالة: وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الأُمور في حال حياته، بخلاف الوصاية فإنّها بعد الموت. وقد يقال في الفرق بينهما: إنّ الوصاية إعطاء ولاية، وفي هذا الفرق تأمّل، بل منع. وأمّا الفرق بينهما وبين الوديعة فهو أنّها استنابة في الحفظ، بل لا يلاحظ فيها الاستنابة وإن استلزمتها، وأمّا بينها وبين العارية فواضح، وكذا المضاربة إذ حقيقتها ليست استنابة وإن تضمّنتها ( في الجملة ) ).

واضح من هذا النص أهميّة هذه الفوارق أو المشتركات بين الظواهر المشار إليها: العارية، الوصاية، الوديعة، المضاربة، حيث أوضح السيّد اليزدي السمات المشتركة المتمثّلة في ( الاستنابة ) بنحوٍ أو بآخر، مع الفوارق بين الاستنابة في مستوياتها وبين الوكالة، وبين ما ذكره من الظواهر...

على أيّة حال: ندع الآن هذا الجانب اللغوي بصفته مجرّد ( مقدّمة ) للدخول إلى الموضوع الرئيسي وهو: الممارسة الاستدلالية للظاهرة، واستخلاص حكمها، أو دلالتها، حيث نتجه إلى الخطوط التي تنتظم منهج السيّد اليزدي في ممارساته بنحو عام.

* * *

بالنسبة إلى الخطوط المنهجية، التي يمكن أن يستخلصها الدارس لممارسة السيّد اليزدي في تناوله للظاهرة الفقهيّة، تظل متفاوتة من ممارسة إلى أُخرى، بحسب ما يتطلّبه الموقف، فمثلاً: عندما يتناول الظواهر التي يعقّب بها على ( الأنصاري ) في حاشيته على

١٠٥

المكاسب، فإنّ تناوله يختلف بطبيعة الحال عن معالجته المستقلّة للظاهرة، كما هو ملاحظ في ( تكملة العروة ) حيث يتناول فيه الظاهرة استدلاليّاً بالقياس إلى العروة المتميّزة بفتاواها فحسب، كما يتناول الظاهرة استدلالياً في سائر نتاجه المتمثِّل في: ( منجزات المريض )، ( الظن ) ولكن بعامّة، ما دمنا نستهدف الإشارة إلى خطوط المنهج بحسب تسلسله؛ نلاحظ أنّ السيّد اليزدي بعد أن يتناول الظاهرة لغوياً، يتقدّم إلى طرح ( فتواه ) مصحوبة بالإشارة الإجمالية أوّلاً إلى الأدلة الرئيسة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل. أو الأدلة الثانوية وفي مقدّمتها: ( الشهرة ) بحيث يعني بها بنحو ملحوظ، أو الدليل العملي... إلى آخره، ولكن ينبغي أن نشير إلى أنّ السيّد اليزدي عندما يتناول الظاهرة الفقهيّة العامة ( مثل: الأبواب الفقهيّة: الربا، الوكالة، الوقف، الضرر... إلى آخره ) فإنّه ليختلف عن معالجته لتفريعاتها أو مسائلها الجزئية، حيث يُعنى بالظاهرة العامة بالتعريف، وبتصدير ما يتطلّبه الباب من تعقيب أخلاقي، كما هو ملاحظ مثلاً في معالجته لظاهرة ( الربا ) حيث يعرض أوّلاً فتواه الذاهبة إلى التحريم، مشيراً إجمالاً إلى الأدلة الرئيسة على هذا النحو ( الربا المحرّم بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ) ثم يقول ( فمستحقّه داخل في سلك الكافرين، وأنّه يقتل.. )... إلى آخره، ثمّ يستشهد بروايات كثيرة تحوم جميعاً على إبراز العقاب المترتّب على ممارس الربا... وفي تصوّرنا أنّ تصدير ( الباب ) بأمثلة هذا البعد الأخلاقي؛ يجسّد ضرورة لا غنىً عنها من حيث أثرها على القارئ، حيث إنّ الهدف أساساً هو حمل الشخصية على معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه، وهو: عدم ممارسة ما هو محرَّم أو مكروه... إلى آخره.

والآن، ما يهمّنا بعد الإشارة إلى مقدّمات الممارسة الفقهيّة من تحقيق لغوي وتعريف أخلاقي، ما يهمّنا هو: ملاحظة الأدوات الاستدلالية التي يستخدمها السيّد اليزدي في معالجته للظاهرة الفقهيّة، حيث تمثّل خطوط ممارسته على هذا النحو:

1 - تصدير الفتوى، مصحوبة بالأدلة الإجمالية في الغالب: كما لاحظنا في تصديره لظاهرة الربا، حيث قال: ( المحرّم بالكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ).. فهنا: إشارة إلى الأدلة الرئيسة.. جميعاً الكتاب والسنّة... إلى آخره، وقد يكتفي بدليل واحد: كالإجماع مثلاً، وهو ما يطبع غالبيّة نتاجه، مثل تصديره لظاهرة

١٠٦

وقف الكافر: ( لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً... بالإجماع ). أو السنّة مثل: ( الأقوى: صحّة وصيّة مَن بلغ عشراً للأخبار... ). أو بالعقل، أو بدليلين كالكتاب والسنّة، مثل: ( تعتد المتمتَّع بها... للآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ... ) والصحيح، أو بثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع ). لكن خارجاً عن هذه المستويات من الأدلّة ( الاستهلاليّة ) التي تتصدّر الفتاوى، فإنّ المهم هو: كيفيّة التعامل مع الأدلّة ذاتها، أي: كيفيّة تعامله مع الكتاب، مع السنّة، مع الإجماع، مع العقل، مع الشهرة، مع الأصل... إلى آخره.

بالإضافة إلى ( الأدوات ) التي يستخدمها في هذه الميادين، وفي مقدّمتها ( الظواهر اللفظية ) وسواها...

ونقف أوّلاً عند تعامله مع ( السنّة ) بخاصّة فيما يتصل بـ ( القول ) بصفته هو الغالب في التوكّؤ عليه بالقياس إلى ( التقرير ) و( الفعل )، وبصفته هو الغالب من الأدلّة بالقياس إلى الكتاب، والإجماع... إلى آخره، على أن نتّجه إليها فيما بعد...

إذن: لنتحدّث عن كيفيّة تعامل السيّد اليزدي مع ( الأخبار ) وهي - كما قلنا - المادة الغالبة في التعامل...

وهذا فيما يتصل بالأدلة الرئيسية: ( الكتاب، السنّة... إلى آخره )، أمّا ما يتصل بالأدلة الثانوية من: ( شهرة ) أو ( أصل )، فإنّ السيّد اليزدي يتوكّأ عليها بطبيعة الحال. أمّا استقلالاً أو ضمناً، أو توظيفاً، فمن أمثلته الأخيرة، مثلاً، بالنسبة إلى شرائط الواقف إذا بلغ عشر سنين ( المشهور على عدم صحّته لعموم ما دلّ... ) حيث إنّ السيّد اليزدي يوظّف دليل الشهرة ( وهو ثانوي ) لتجلية ( دليل رئيسي ) وهو: السنّة،... ولسوف نتحدث عن مستويات تعامله مع الأدلة المشار لها في حينه... سواء أكانت متصلة بالشهرة وأقسامها، أو بالأُصول العملية وسواهما، أمّا الآن فقد استهدفنا مجرّد الإشارة إلى أدوات السيّد اليزدي التي يستخدمها في ( استهلال ) أدلّته إجمالاً، حيث لاحظنا تفاوت ممارسته من حيث السعة وعدمها، بحسب متطلّبات المسألة ذاتها... والآن نتّجه إلى ملاحظة تعامله مفصّلاً مع ( الأخبار )، وفي هذا الميدان نقول:

يظلّ التعامل مع النص ( الأخبار ) - كما قلنا - أهم المحاور التي يرتكن إليها الفقهاء، يليها التعامل مع ( الأصل ) في أبواب بعض المعاملات أو غالبيّتها... ولكن ما يعنينا

١٠٧

الآن هو: التعامل مع النص... وأوّل ما يمكن ملاحظته هنا، هو: أنّ التعامل مع النص يندر أو يضؤل حجمه في حالة ما إذا كان الأمر مرتبطاً بتفسيره أو تأويله أي: استخلاص دلالته، ولكنّ العكس تماماً يتضخّم حجم التعامل مع النص في حالة ( تضاربه مع الآخر )، وهذا ما يجسّد غالبية الممارسات الفقهيّة... ولعلّ ما لاحظناه بالنسبة إلى السيّد اليزدي في جعل ممارساته الأُصولية منحصرة ( في نطاق التأليف ) في باب ( التعارض ) الذي قاربت صفحاته (600 )(1) ، يفسّر لنا أهميّته ومن ثمّ غالبيته الممارسة لهذا الجانب؛ لذلك، نحاول عرض المنهج الذي يتعامل السيّد اليزدي من خلاله مع النص ( المتضارب )، سواء أكان التضارب في نطاق الظاهر أي: التأليف بين الأخبار - الجمع العرفي أو نطاق الباطن ( التعارض ) المُفضي إلى طرح أحد المتضاربين - أو سقوطهما... إلى آخره.

ونبدأ أوّلاً بملاحظة تعامل السيّد اليزدي مع التضارب الظاهري، المُفضي إلى التأليف بين المتضاربين من خلال حمل أحدهما على الندب، أو الكراهة، أو التخصيص، أو التقييد، أو الحكومة، أو الورود... إلى آخره.

هنا، نجد أنّ ( السيّد اليزدي ) - امتداداً مع وجهة نظر ( الطوسي ) الذي عني عنايةً تامّة بمقولة: ( العمل بالخبر ما أمكن من الطرح ) حتى وصل به الأمر إلى أن يبالغ في تفسير أو تأويل المتضارب من النصوص، بما قد لا يحتمله النص، والمهم أنّ السيّد اليزدي يكاد يشدّد في هذا الجانب بنحوٍ ملحوظ، وهو ما نلحظه نظرياً ) في مقدّمة كتابه الأُصولي ( التعارض )، حيث يصرّح بذلك بسفور، أو ما نلحظه ( وهذا ) هو الأهم في تطبيقاته للقاعدة، حيث نجد أنّ كثيراً من الممارسين لا يسحبون نظريّاتهم الأُصولية على الممارسة التطبيقية فقهياً، وهو ما يحملنا على دراسة النص الفقهي التطبيقي، بدلاً من دراسة الخطوط النظرية لهذا المبنى الأُصولي أو ذاك.

ومع عودتنا إلى السيّد اليزدي في تعامله مع النصّين المتضاربين ظاهرياً، نجده - كما هو لدى الغالبية من الفقهاء - يُعنى بعملية الجمع العرفي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يمكننا أن نلاحظه من خلال النماذج الآتية، منها:

____________________

(1) انظر: بحث ( تصانيفه ومؤلَّفاته ).

١٠٨

الحمل على الاستحباب: مثل تأليفه بين الأخبار القائلة بعدم العدّة على غير المدخول بها، وبين القائل بها، حيث قال عن الأخير: ( وخبر عبيد محمول على الاستحباب... ). إنّ أمثلة هذا الحمل متوافرة بعدد هائل، إلاّ أنّ مستويات الحمل تظلّ متفاوتة من حين التوكّؤ على جملة عوامل،... منها: تأييد الحمل بأدلّة ثانوية من نحو العمومات والإطلاقات والأصل... إلى آخره، وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسته الذاهبة إلى عدم وجوب العدّة من السفاح، حيث ذهب صاحب الحدائق إلى وجوبها بموجب خبرين، فجاء الردّ على ذلك بقوله: ( وحمل الخبرين على الندب للأصل، وللعمومات، وإطلاق ما دلّ على جواز التزويج... إلى آخره )، ومن الواضح أنّ إرداف ( الحمل على الندب ) بأمثلة هذه الأدلّة، يمنح الممارسة ثقلاً أكبر من مجرّد الحمل غير المصحوب بالتعليل، وإن قلنا بأنّ الحمل العادي رسمه النص الشرعي ليس مجرّد مبنىً يعتمده هذا الفقيه أو ذاك من خلال تذوّقه... ومنها:

الحمل على الندب - أيضاً - لكن من خلال التردّد بين محامل متعددة، وهذا ما نلحظه في تأليفه بين الطائفة القائلة بتعدد العدّة مع تعدّد السبب، والقائلة بالتداخل، حيث ذهب المؤلّف إلى التداخل، وحمل الطائفة الأُولى على مترددين، قائلاً: ( فتحمل على الندب أو التقية... )، بيد أنّ السؤال هنا هو: هل أنّ الحمل على الندب يحمل مسوّغاته في هذا المورد؟ بخاصة أنّ المؤلّف عندما ردّد بين الندب وبين التقية، رجّح التقية على الندب، من خلال استشهاده بحادثة لأحد خلفاء العامّة، كما استشهد بخبرين من خلال تصريح المعصوم (عليه السلام) بالتداخل جواباً على القائل بتعدّد العدّة.

ومن البيّن أنّ هذه القرائن من حيث وضوح أرجحيّتها ( وهي: التقيّة ) حينئذٍ فإنّ الحمل على الاستحباب يفقد مسوّغه، إلاّ إذا انسقنا مع الاتجاه الفقهي الذاهب إلى أنّ التردّد أو تعدّد الأدلّة من رجحان بعضها على الآخر لا غبار عليه؛ لأنّه مجرّد فرضيّة يتطلّبها النقاش، أو مجرّد طرح يحتمل أحد مصاديقه: إمكانية الصواب.

خارجاً عن ذلك، إذا ذهبنا لمتابعة تعامل المؤلِّف مع ( الحمل على الندب ) في مستوياته المتنوّعة، نجد أنّه يعرض إمكانية الحمل على الندب، ولكنّه مع تحفّظ هو: استبعاده، ففي معالجته لعدّة المتمتَّع بها يطرح الأقوال المعروضة في الظاهرة، وهي أربعة أقوال، منها: القول الأوّل حيث رجّحه ( وأيضاً )، القول الثاني: وأسقط القولين

١٠٩

الآخرين وقال: ( الأقوى هو الأوّل، لرجحانه بالشهرة، وشذوذ الثاني، مع أنّ مقتضى الاستصحاب على فرض التكافؤ هو الأوّل، وإن كان يجوز الجمع بينهما بحمل أخبار الأوّل على الاستحباب لكنه بعيد... ). ما يهمّنا هو: فقرته الأخيرة الذاهبة إلى إمكانية الحمل على الاستحباب، واستبعاده ذلك..

وبغض النظر عن ترجحه بالشهرة، وطرح الآخر لشذوذه، وذهابه إلى اقتضائية ( الاستصحاب ) حيث سنتحدث عن هذه ( الترديدات ) في حينه - إن شاء الله - بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ إمكانية حمل الخبر المتضارب مع الآخر على الندب، وفي نفس الوقت استبعاده يظلّ واحداً من أشكال التعامل مع ظاهرة ( الجمع العرفي ).

وما دام هذا النص من حيث استبعاده للحمل على الاستحباب، يشكّل تحفّظاً حيال الجمع العرفي المذكور، فإنّ المؤلّف في سياقات أُخرى، يتجاوز التحفّظ إلى الرفض: عندما يناقش الأقوال التي تحمل الخبر على الندب، في حالات لا يساعد السياق على ذلك، ومنه مثلاً: في معالجته للمتوفّى زوجها من حيث العدّة يستشهد بطائفتين، تتحدث أحدهما: عن أنّها تبدأ مع بلوغ المرأة خبر وفاته، والطائفة الأُخرى: عن غير ذلك، حيث جمع صاحب المسالك بينهما على الاستحباب، والحمل على التقيّة عند ابن الجنيد، وآخر: التفصيل.

وعقّب المؤلّف على الرواية الأُخرى: (... شاذّة محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها )، (... ولا الجمع بين الفرقتين بحمل المتقدّمة على الاستحباب... ).

إذن: يتفاوت المؤلّف في تعامله مع ظاهرة ( الجمع العرفي ) من خلال العمل على الندب: بين اليقين والترديد والتحفّظ والرفض بحسب متطلّبات السياق.

وإذا اتجهنا إلى الجمع العرفي المقابل للندب وهو الكراهة، حينئذٍ فإنّ العملية ذاتها نلحظها في ممارسات المؤلّف.

وهذا من نحو ممارسته التي تساءل فيها عن جواز أو عدم ذلك، بالنسبة إلى الوكيل الذي أمره موكِّله بأن يدفع مالاً إلى عنوان ينطبق عليه، حيث ذكر المؤلّف قولين في ذلك، كما ذكر روايتين متضاربتين لراوٍ واحد، موضِّحاً بأنّ المانعة لا تقاوم المجوِّزة، معقِّباً على المانعة: ( فينبغي أن تُحمل على الكراهة، بل هو مقتضى الجمع العرفي الدلالي )، وإذا كان السيّد اليزدي ينصّ على ( كراهة ) النص المضارب في الممارسة

١١٠

السابقة، فهو ( يحتملها ) في الممارسة القائلة: ( لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الربا في غير المكيل والموزون مطلقاً، بل يمكن حمل كلام المفصِّلين أيضاً على الكراهية... ).

وأمّا الترديد بينها وبين سواها، فيمكن ملاحظته في ممارسته القائلة ( في باب الوكالة ) بكراهة بيع ما لديه من المواد لموكِّله، حيث ينقل جواز ذلك للأخبار، ويضيف ( وأمّا الأخبار المانعة محمولة على الكراهة )، ثم يعلّل ذلك أنّ ذلك يعرّض الوكيل للتهمة والخديعة، قائلاً: ( كما يُشعر على فهم بعض تلك الأخبار، لكن الأحوط مع ذلك ).

فهنا نجد المؤلّف قد التجأ إلى ( الحمل على الكراهة ) ترديداً بينها وبين الاحتياط، حيث يعني: الاحتياط ترجيح الحرمة لديه... وفي هذه الممارسة نلحظ سوى الترديد بين استخلاصين، ظاهرة ثالثة لاحظناها أيضاً عندما تحدثنا عن ( الحمل على الاستحباب ) حيث أردف في بعض ممارساته: الحمل بتوضيح الأسباب المفضية إلى الجمع... هنا أيضاً: يردف حمله على الكراهة، بالركون إلى الأخبار الأُخرى التي توحي بدلالة الكراهة...

وإذا كان المؤلّف هنا يتردّد بين استخلاصين، فإنّه في الممارسة الآتية يتردّد بدوره، ولكن يتّجه إلى التعليل لأحد المتردّدين ممّا يشكّل سمة سلبية، كما لاحظنا ذلك عند حديثنا عن ( الحمل على الاستحباب ).. يقول المؤلّف عبر بحثه عن إحدى المسائل المتعلّقة بـ ( الربا ): ( فتحمل على الكراهة في النسيئة ) أو على التقيّة؛ لأنّ التفصيل مذهب العامّة. واضح أنّ الترديد هنا - كما لاحظنا في حمله الظاهر على محمل الندب. وتفصيله للآخر بين الكراهة وبين التقيّة، لا يجيء لصالح الكراهة بل التقيّة؛ لأنّ التعليل الذي قدّمه وهو: أنّ التفصيل هو مذهب العامّة، يفصح عن تفضيله للتقيّة، كما هو واضح؛ لذلك لا معنى لحمله على الكراهة، وهذا ما يسجّل على المؤلّف.

المهم: أنّ الخطوات التي قطعها المؤلّف في تعامله مع ( الحمل على الاستحباب ) يمارسها أيضاً في تعامله مع الحمل على الكراهة - كما لاحظنا ذلك - ومنها: ظاهرة ( التحفّظ ) أو الرفض لما يحتمله فقيه آخر في ممارساته، ومنهم: المقدّس الأردبيلي، في حمله على الكراهة في بعض مسائل الربا، وهي مسألة أنّ المواد

١١١

الأصلية والمتفرّعة من الشيء تتماثل حرمة الربا فيها، كالدقيق والسويق مثلاً، ومطلق ما هو أصل وفرعي، حيث استدلّ عليها بالأخبار مقابل أخبار معارضة، حيث حملها الأردبيلي على الكراهة، فقال: ( بحمل الأخبار المذكورة على الكراهة )، هنا عقّب المؤلّف على الحمل المذكور وسواه، بأنّ المراد ليست جميعاً محكومة بهذه السمة؛ لأنّ الحليب ومتنوّعاته مثلاً ليست كالدقيق والسويق؛ لذلك فإنّ الأظهر التفصيل بين المادتين... إلى آخره، وبذلك يكون المؤلّف قد رفض ذلك الحمل ( أي الكراهة ).

المهم: نكتفي بما ذكرناه من الظواهر المتّصلة بحمل أحد المتضاربين من الأخبار على الكراهة أو الندب، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

أمّا الآن فنتّجه إلى حلّ آخر للتضارب الظاهري بين الأخبار، وهو الحمل المؤدّي بالتأليف بينها من خلال حمل المطلق والعام، والمجمل على المقيد، والخاص والمفصّل، وهو باب واسع من الأبواب البحثيّة التي يتوفّر الفقهاء عليها.

إذن: لنلاحظ تعامل السيّد اليزدي مع أمثلة هذه المحامل... طبيعياًَ، أنّ الحمل على المقيد والخاص والمبيّن، بالنسبة إلى الخبر المطلق والعام والمجمل، يختلف عن الحمل السابق، أي الندب أو الكراهة، من حيث إنّهما ( يفاضلان ) بين خبر على آخر، بينما نجد محامل المقيّد والخاص والمبيّن، تقوم على إلقاء الإضاءة من أحدهما على الآخر، حيث إنّ المقيّد يلقي بإنارته على المطلق، وهكذا سواه، فيتمّ التأليف بين المتضاربين على مستوى الدمج بين الروايتين، وليس الفصل بين فاضل ومفضول ( كما هو شأن الحمل على الندب أو الكراهة )...

المهم: يجدر بنا أن نستشهد ببعض الممارسات لدى السيّد اليزدي في هذا الميدان... ومنها، مثلاً: في ميدان الحمل البسيط للعام على الخاص، ذهابه ( وهو يناقش الأنصاري في مكاسبه ) بالنسبة إلى الأحكام المتّصلة بالأرض من حيث صلتها - حالة الفتح - بإذن الإمام (عليه السلام) أو عدمه، مستشهداً برواية ( خاصّة ) لابن وهب تذهب إلى أنّ الأرض المفتوحة إذا كانت بإذنه (عليه السلام) يأخذ الإمام (عليه السلام) الخمس، ويأخذ المقاتلون نصيبهم منه، و... ويعلّق على الرواية بقوله: ( فهي صالحة لتخصيص الآية ) أي آية الخمس:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ) وأمّا في ميدان الممارسة

١١٢

المركّبة، فيمكننا ملاحظة ذلك في الممارسة الآتية التي يتوكّأ المؤلّف فيها على حمل المطلق على المقيّد، والمجمل على المفصّل، وهو يرتبط بعدّة المرأة التي فُقد زوجها، يقول السيّد اليزدي بعد نقله للأقوال، وإشارته إلى اختلاف الأقوال من أنّها راجعة إلى اختلاف الأخبار ذاتها، قائلاً: ( والحاصل أنّه يحمل المطلق منها على المقيّد، والمجمل على المفصّل فيصير الحاصل أنّ عند انقطاع خبره... ) إلى آخره. وهذا أُنموذج واضح لعمليّات التأليف بين النصوص، وتتميّز هذه الممارسة بأنّها تجمع بين أخبار متضاربة متنوّعة، وليس بين طائفتين فحسب؛ لذلك تجسّد ممارسة مركّبة وليس بسيطة لعملية التأليف بين النصوص، فهو يقول تعقيباً على طوائف الأخبار التي أوردها:

( إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المذكورة لزوم الطلاق بتقييد خبر سماعة بسائر الأخبار، ولزوم كون العدّة عدّة وفاة بتقييد أخبار الطلاق بخبر سماعة والمرسل، ولزوم رفع الأمر إلى الحاكم وكون ضرب الأجل بتعيينه، وكون ابتداء الأجل من حين ضربه، بتقييد خبر الحلبي وخبر أبي الصباح بخبر بريد وخبر سماعة ).

إنّ هذه الممارسة التي سمّيناها ( بالحمل المركّب ) مقابل الحمل المفرد أو البسيط الذي يحمل خبراً مطلقاً على خبر مقيّد، أو عامّاً على الخاصّ، أو المجمل على المفصّل؛ يكشف لنا عن براعة السيّد اليزدي في تأليفه الموفّق بين نصوص متضاربة.

هنا يحسن بنا أن نقدّم نموذجاً مفرداً بسيطاً لملاحظة ما قلناه من أنّ الحمل الذي يتوكّأ على إضاءة خبرين متضاربين بخبر ثالث، حيث يمكننا أن نستشهد بالممارسة الآتية، وهي: تأليف السيّد اليزدي بين نصّين متضاربين، يؤيّد أحدهما بأنّ المؤلّف بينهما من خلال الإشارة إلى نصٍّ ثالث وهو مرسلة ابن عمير، التي رسمت الفارق بين المرأة القرشية، وحدّدها بالستين، والعاميّة: وحدّدها بالخمسين.

المهم: أنّ أمثلة هذه التأليفات بين النصوص من خلال إلقاء أحدهما الإنارة على الآخر تقتادنا إلى أمثلة أُخرى، منها: ما يطلق عليه مصطلح ( الحكومة ) و( الورود )، حيث يعني الأوّل منهما أن تكون الرواية ( الحاكمة ) قبالة الأُخرى، محدّدة لموضوعها، والرواية ( الواردة ) رافعة للموضوع. وهذان المصطلحان يندر التوكّؤ عليهما في الممارسات الفقهيّة، حيث يردان على استحياء على ألسنة بعض الفقهاء، ويمكننا بالنسبة

١١٣

إلى ( الحكومة ) ملاحظة ما سبق أن استشهدنا به في ممارسته المرتبطة بالأرض المفتوحة بإذن المعصوم (عليه السلام)، أو عدمه، حيث يعقّب - بعد تخصيصه عموم الآية - باحتمال آخر هو ( حكومة ) الرواية المتحدثة عن إذن الإمام (عليه السلام) وعدمه، بالقول: ( بل يمكن دعوى حكومتها على العمومات الدالّة على كون ما أُخذت عنوة للمسلمين )...

* * *

تبتغي الإشارة سلفاً إلى أنّ التعادل التام يضؤل حصوله بالقياس إلى الأرجحية لخبر - دون مقابله: كالأرجحية - كما هو معروف - بأحد الوجوه المشار إليها.. وإذا كان ثمّة تفاوت لاحظناه بين الفقهاء بالنسبة إلى أرجحيّة أحد المرجّحات، في حالة عدم التعادل، فإنّ نظرات الفقهاء تتفاوت بدورها بالنسبة إلى التعادل بين طرفي المتضاربين، حيث يذهب بعضهم إلى التساقط، والآخر إلى التخيير... إلى آخره.

ويلاحظ أنّ السيّد اليزدي كما ذكر ذلك في كتابه الأُصولي - وكما لاحظناه في نص ممارساته التطبيقية - يجنح إلى ( التخيير )، ولكن بما أنّ التعادل - كما قلنا - يضؤل حصوله بالقياس إلى عدم التعادل، حينئذٍ فإنّ المهم هو: أن نتّجه إلى هذا الجانب من ممارسات السيّد اليزدي.

فماذا نستخلص؟

* * *

كما قلنا: السيّد اليزدي لا يُرجّح مرجّحاً على آخر إلاّ ما يتطلّبه السياق، حيث لا ترتيب بين المرجّحات.. هذا من جانب.. ومن جانبٍ آخر: يجدر بنا ملاحظة أي المرجِّحات يتكاثر على سواه في ممارساته.. حيث يبدو أنّ ( مخالفة العامّة ) و( الأشهرية ) يطغيان على المرجحين الآخرين: الأوثقية، والموافقة، مع تحفظنا على ما استخلصه من ( الأشهرية ) من الفتوى أو الرواية أو كلتيهما...

أمّا سبب ندرة الترجيح بموافقة الكتاب، فلأنّ الكتاب الكريم أساساًَ لا يتضمن جميع الأحكام وتفصيلاتها حتى يركن إليه في كل حادثة وهذا ما يتماثل فيه تناول السيّد اليزدي سواه... ولكن بالنسبة إلى ضئالة الترجيح بالأوثقية، فثمّة تفاوت بين السيّد اليزدي - ويشاركه آخرون كثيرون - بين آخرين من حيث التشدّد في السند وعدمه، ومن

١١٤

حيث الارتكان إلى مرجّح ( الشهرة ) أو عدمه، حيث يعدّ اليزدي من النمط الذي يُعنى بالشهرة في الفتوى غالباً - كما سنلاحظ - ويتوكّأ عليها كثيراً في ممارساته، ولا يُعنى بالأوثقيّة إلاّ في الدرجة الثانية، كما أنّ تعامله مع ( الأكثرية ) - الشهرة في الخبر - يشكّل في الدرجة الأدنى: مع أنّه يستخدمها - أي مرجّح الأوثقية والأكثرية - في سياقات خاصّة، ومنها: ما يتّصل بالاحتياط مثلاً، أو حتى في سياق سواه إذا كان اليزدي مناقشاً بالتفصيل أقوال الآخرين في المسألة، حيث يجعل من الأكثرية والأوثقية مرجّحاً ( مؤيّداً ) وحتى ( أصلياً ) في حالة عدم حصوله على مرجّح الأشهريّة أو المخالفة.

* * *

ما تقدّم، يجسّد ملاحظات على الممارسة الفقهيّة الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة ظاهرياً، حيث يتّجه الفقيه إلى الجمع الدلالي ما وجد إلى ذلك سبيلاً. أمّا الآن فيمكننا ملاحظة الممارسات الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة باطنياً أو داخلياً، حيث يتعادل المتضاربان المتضادان في خصائصهما الخبرية، بحيث لا يترجّح طرف على آخر، أو يترجّح أحدهما على الآخر، بخصّيصة أو أكثر، وهذا ما يشكّل - كما أشرنا - غالبية الممارسات الفقهيّة، بخاصّة: أن النصوص الشرعيّة كما هو واضح، رسمت للفقيه طرائق العلاج للخبرين المتضاربين المتضادين، عبر نصوص متنوّعة تتحدث حيناً عن المتكافئين، فترسم له حلولاً للتخيير أو التوقّف.. وترسم حلولاً للراجح منهما من خلال: الأوثقية والأشهرية، ومخالفة العامّة، وموافقة الكتاب؟.. وهذا ما يتوفّر الفقهاء عليه بطبيعة الحال، إلاّ أنّ التفاوت في وجهات النظر من حيث الأرجحية لأحد المرجّحات فيما بينها، فيما ذهب بعضهم إلى ترتيب خاص ورد في النص، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترتيب، ومن ثمّ فإنّ الغالبية من الفقهاء تذهب إلى الرأي الثاني، بحيث تُقرّ أنّ الفقيه بحسب ما يراه السياقات المتنوّعة التي يرد فيها الخبران المتضاربان، حيث يتحرك بحسب خبرته الذوقية للنصوص، فربّما يبدأ بترجيح الأوثقية، أو الأشهرية، أو المخالفة، أو الموافقة.. وهذا في تصوّرنا هو الموقف الصائب؛ لسبب واضح وبسيط جداً هو: أنّ الأخبار العلاجية لا تقف عند نصيّ ابن حنظلة وزرارة اللذين ورد فيهما ترتيب خاص، بل ثَمّة نصوص متنوّعة أُخرى، لا تردّ فيها سلسلة المرجّحات المذكورة في الروايتين المذكورتين كالاقتصار مثلاً على

١١٥

مخالفة العامّة، أو غيرها من المرجّحات، ممّا يكشف ذلك من أنّ الأولوية لمرجّح دون آخر، في الحالات جميعاً، لا يمكن أن يكون صائباً..

وبالنسبة إلى السيّد اليزدي، نجده يذهب إلى الاتجاه ذاته من خلال كتابه الأُصولي الكبير ( التعارض ) حيث بحث ذلك نظرياً، من خلال ممارساته الفقهية، كما بحث ذلك تطبيقيّاً وهذه - أي البحوث التطبيقيّة - هو: ما نعتمد عليه الآن في ملاحظاتنا على ممارسة اليزدي، وأمّا كتابه النظري البالغ (600 ) صفحة فلا شغل لنا به لكونه ( نظرية ) وليس ( تطبيقاً ذا ثمرة عملية ).

إذن: لنتحدث عن هذا الجانب، أي: تعامل السيّد اليزدي مع ظاهرة ( التقيّة ) في الغالب مع ضم مرجّح آخر، كما يتعامل على مستوى الاحتمال حيالها، ويتعامل ثالثة مع التردّد حيالها، ويتعامل رابعة: مع رفضٍ لها عند مناقشته الآراء الفقهيّة... وأخيراً: يتعامل مع التقية عبر حالتين، إحداهما غير مشفوعة بالتعليل، بل لمجرّد مخالفة الخبر الذي يرجّحه لفتوى العامّة، والأُخرى يشفعها بقرينة أو بأكثر ويبرع فيها غالباً..

ونستشهد بنماذج في هذا الميدان؛ منها:

- فيما يرتبط بتعامله مع ( التقيّة ) مشفوعة بمرجّح آخر، ينتخبه غالباً من خلال ( الخبر الشاذ ) حيث إنّ إيمانه بالشهرة يدفعه إلى الثقة في رفض مقابله وهو: الشذوذ، وهذا ما نلحظه - مثلاً - في ممارسة تتّصل بعدّة الأمَة، حيث ينقل طائفتين وأقوالاً حيال ذلك، حيث رفض خبراً عمل به ابن الجنيد، ويعقّب على الرواية قائلاً: ( شاذّة، محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها كما عند ابن الجنيد... ).

- وأيضاً نلاحظ ممارسة أُخرى يحمل خلالها الرواية على التقيّة، مشفوعة بشذوذها، وهي تتّصل بعدّة المتمتَّع بها، والمتوفَّى عنها زوجها، حيث يرفض خبراً يقول بعدم العدّة في حالة عدم الممارسة، قائلاً: ( فلا عامل به، ومحمول على التقيّة ).

إلاّ أنّ السيّد اليزدي هنا يشفع حمل الرواية على التقيّة بتعليل يُستخلص من رواية أُخرى، وهو أمر يضفي الأهميّة على هذا الحمل، يقول: ( كما يظهر من خبر عبيد، عن زرارة، عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، أعليها عدّة، قال: لا، قلت: المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل عليها، قال: أمسك عن هذا، وفي خبر ( كفّ عن هذا ).. حيث إنّ التقيّة من الوضوح فيها بمكان كما قلنا: أمثلة هذا الاستخلاص يكشف عن البراعة

١١٦

في الممارسة الفقهيّة.

وإذا كان السيّد اليزدي في هذه الممارسة الفقهيّة يستخلص ( لغة التقيّة )، فإنّه في ممارسات أُخرى يكتفي - كما أشرنا - بمجرّد المخالفة، ولكنّه حيناً يصرّح بتوجيه ذلك من خلال السياق الذي ترد فيه فتوى العامّة، حيث نعرف بأنّ الأزمنة والأمكنة تتفاوت - من حيث حكّامها وفقهائهم وقضاتهم - فتتكيّف ( التقيّة ) تبعاً للسياق ذاته، فمن ذلك مثلاً: ما يجسّد فتاوى بعض من العامّة بالنسبة إلى عدّة الأمَة المتوفّى عنها زوجها، من حيث تضارب الأخبار حيث يعقّب: و( الأقوى الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقتها لعموم الكتاب ومخالفتها للعامّة؛ لأنّ مذهب جماعة منهم على التفصيل كما ذكر )... فهذا التعقيب الأخير يفصح بوضوح عمّا ذكرناه من أنّ السياقات المختلفة للموضوع تفرض أمثلة هذا الموقف.

ومع أنّ هذه الممارسة ذكرت إلى جانب مرجّح ( المخالفة ): مرجح الموافقة للكتاب، إلاّ أنّنا استهدفنا بمجرّد الاستشهاد بنماذج من ممارسات اليزدي بالنسبة إلى التعامل مع التقيّة وسياقاتها.

وهذا يقتادنا إلى مستوى آخر من الممارسة، هو - ما ألمحنا قبل سطورٍ إليه - ضمّ المرجّحات الأُخرى إلى مرجّح التقيّة، حيث لاحظنا خلال النماذج المتقدّمة، ضمّ الشهرة إليها، وضم الموافقة للكتاب، وسنرى عند حديثنا عن الحصيلة العامّة لممارسات السيّد اليزدي، من حيث توفّره حيناً على المسألة من وجوه شتّى، بحيث يستخدم أدوات الاستدلال الرئيسية والثانوية وكلّ ما وسعه من الأدلّة في ظاهرة واحدة، لكن حسبنا أن نشير الآن إلى ما يرتبط بموضوعنا وهو ( التقيّة ) بضم الأدلّة المتنوّعة للظاهرة التي يستهدف استخلاص الحكم من خلالها، ولكنّنا نؤجّل الحديث عن ذلك إلى فقرة أُخرى من بحثنا... لكن إذا كانت هذه المستويات من الحمل على التقيّد تجسّد مبنى هو: ( الضمّ )، فإنّ المبنى الآخر يجسّد ( احتمالاً ) فيها: أي الحمل على التقيّة، وهو أمر نلحظه بوضوح في ممارسات متنوّعة، ومنها: الممارسة الآتية التي تتضمّن ما لاحظناه في الممارستين السابقتين، من استخلاص التقيّة من خلال الإشارة إلى رواية أو قول يشكّلان قرينةً على ذلك، ففي الممارسة الآتية نلحظ الظاهرة ذاتها، مع مستوى آخر من مستويات الحمل على التقيّة هو: التردّد بين اثنين من المحامل أو

١١٧

أكثر، وهذا من نحو ما ورد في موضوع الربا من مناقشة جاء فيها التعقيب الآتي: ( فتحمل على الكراهة في النسيئة، أو على التقيّة... )، فهنا ( تردّد ) بين حملين، بينما لاحظنا في النصوص السابقة ( جمعاً من المحامل أو ضمّ بعضها إلى الآخر... )

ونتّجه إلى مستوى آخر من الممارسات، ومنها:

ثَمّة مستوى يتعامل مع التقيّة من خلال ( الاحتمال ) وهو مبنىً لاحظناه عند المؤلّف في تعامله مع الجمع الدلالي للنصوص، والمهم: يمكننا أن نستشهد بنموذج هنا، هو: ممارسته المتّصلة بباب الربا في أحد موضوعاته: ( فتناسب حملها على الكراهة، ويمكن حملها على التقيّة؛ لأن المنع مذهب العامّة... ).

إذن: لاحظنا أنّ مستويات التعامل مع ( التقيّة ) تظل متفاوتة من ممارسة أُخرى على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.

ويمكننا أن ننتقل إلى مستوى آخر من تعامله مع التقيّة، وهو: أرجحيّة الخبرين كليهما، أحدهما على الأُخرى من خلال ( التقيّة )، مع كون الترجّح الآخر: احتمالياً، وهذا ما نلاحظه في ممارسة سبق أن استشهدنا بها، عندما قلنا أنّه يعللّ في قسم من ترجيحه لمخالفته العامّة، بالإشارة إلى أنّ قسماً من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر؛ فلذلك رفضه من خلال الحمل على التقيّة، ولكنّه من جانب آخر احتمل ( التقيّة ) أيضاً؛ لأنّ البعض الآخر من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر الذي رجّحه المؤلّف، وبهذا نستخلص نمطاً آخر من التعامل، حيث يمكننا أن نقول: إنّ قيمة هذه الممارسة تتحدّد بقدر ما يحمل ( الاحتمال ) من درجة...

لكن ينبغي ألاّ نغفل عن ملاحظة مستوى آخر هو: رفضه للحمل على التقيّة في بعض ممارسات الفقهاء، وهو أمر تجدر الإشارة إليه، بل لابدّ من الاستشهاد ببعض النماذج لملاحظة المسوّغات التي تدفعه إلى الرفض، بخاصّة أنّنا شاهدنا غالبية نماذجه يقرنها بما يتناسب مع الحمل المذكور، كالإشارة إلى أنّ ( المنع ) مذهب بعض العامّة، وأنّ التفصيل في العدّة على مذهب بعضهم، وأنّ الروايات ذاتها تتضمّن دلالة التقيّة... إلى آخره.

إذن: لنستشهد بما اعترض عليه من ممارسات الفقهاء بالنسبة إلى التقيّة... ومن ذلك:

١١٨

ما دام الحديث عن ( مخالفة العامّة ) يتداعى بالذهن إلى ملازمه وهو موافقة الكتاب، فإنّ الموقف يستلزم المرور عليه سريعاً؛ لأنّ الترجيح المذكور ذاته ( كما تمّت الإشارة إليه ) يظل محدوداً بمحدودية آيات الأحكام في القرآن... في نطاقات ما لاحظناه في ممارسات السيّد اليزدي، فإنّ الموافقة للكتاب تجيء لديه غالباً مقترنة بمرجّحٍ آخر: كمخالفة العامّة ذاتها، أو مقترنة بموافقة السنّة، حيث إنّ الأخبار العلاجية - كما هو معروف - تشير إلى المرجّح المذكور من خلال كونه سنّة قطعيّة بالقياس إلى ما يخالفها.

والمهم: يمكننا أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج في ضوء استشهادنا ببعضها في فقرات سابقة من هذا البحث، ومنها:

ما يتصل بالخلاف الروائي في عدّة الأمَة المتوفّى زوجها، حيث رجّح المؤلّف العدّة المتمثلة في الأربعة أشهر وعشرة أيام، مقابل الخمسة والستّين يوماً، فيما عقب - كما لاحظنا سابقاً - قائلاً: ( الأقوى: القول الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقة الكتاب... و... ).

والأمر نفسه تمكّننا ملاحظته إلى ما سبقت الإشارة إليه، وهي الممارسة المتّصلة التي جمعت بين ترجيحات متنوّعة ملفتة للنظر حقّاً، ونعني بها: الممارسة التي تحدثت بالنسبة إلى موضوع ( منجّزات المريض ) وصلتها بما هو محظور أو مباح من التصرّفات، حيث رجّح أحد طرفي المسألة بجمّلة مرجّحات، ومنها المرجّح الآتي الذي يطلق عليه ( المرجّح المضموني ) متمثّلاً في موافقة الكتاب، حيث يقول بعد أن يتحدث عن المرجّحات الأُخرى: ( وأمّا من حيث المضمون فلتأيّدها - أي الأخبار التي رجّحها المؤلّف - بالقاعدة القطعية المستفادة من الكتاب و... ).

وإذا كان اليزدي في الممارستين السابقتين يجمع إلى الكتاب مرجّحات أُخرى، فإنّه في الممارسة الآتية يكتفي بمرجّح الكتاب، ولكن مع تحفّظ في الدلالات المستخلصة من النص القرآني الموافق لأحد طرفي الأخبار، يقول المؤلّف معقِّباً على رواية تسمح للزوجين بأن يرجع على الآخر في ( الهبة )، مقابل ما ذهب المؤلّف إليه من عدم جواز ذلك، تبعاً لنصوص تقرّر ذلك، ومنها: رواية صحيحة مقابل الصحيحة المانعة، يقول: ( ولكنّه - أي خبر صحيح - لا يقاوم الصحيحة السابقة ). بعد ذلك يحتمل

١١٩

دلالة خاصّة، ويضيف: ( مع أنّ الصحيحة موافقة للكتاب بناءاً على أنّ المراد بـ( ما آَتَيْتُمُوهُنَّ... ) أعم من الصدقة والهبة... ).

* * *

ولعلّ الترجيح بمصطلح ( الشهرة ) يظل من أكثر الترجيحات خلافاً بين الفقهاء، حيث فهم بعض منهم أنّ المقصود من ذلك: الشهرة الروائية، وفهم البعض الآخر: الشهرة في الفتوى بنمطيها: الفتوى المستندة إلى نص، وغير المستندة، ممّا يطلق عليها: الشهرة العملية في اصطلاح المعنيّين بهذا الشأن.

بَيْدَ أنّ الشهرة في الرواية تظل - هي الأكثر احتمالاً من غيرها، أو لنقل: إنّ الشهرتين الأُخريين: الفتوائية والعملية من الممكن أن تندرج ضمن مصطلح ( الشهرة )، وهو المصطلح الذي ورد في الأخبار العلاجية مثل: ( ما اشتهر )، ( المُجمع عليه )... إلى آخره، حيث إنّ الأمر بالمشهور أو المُجمع عليه بن الأصحاب هو: الراجح على الخبر الآخر...

وسبب الذهاب إلى أنّ الشهرة في الرواية تتصدّر الاحتمال هو: أنّ زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن زمن ( فقهاء مجتهدين ) - كما هو في عصر الغيبة، بل زمن ( رواة ) عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ الراوي يسمع من المعصوم (عليه السلام) كلاماً، فيسجّله أو ينقله إلى الآخرين، فيكون الكلام المنقول هو المادة التي يتوكّأ عليها المعنيّون بهذا الشأن... وبكلمة أكثر وضوحاً: إنّ ( الفتوى ) عصرئذٍ على ( متن ) الرواية، وليس اجتهاداً بالمعنى الاصطلاحي...

صحيح، أنّ بعض المبادئ أو القواعد الفقهيّة قد نثرها المعصوم (عليه السلام) أمام الراوي، كأن يأمر (عليه السلام) أحدهم بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، أو يخاطب أحدهم بأنّ علينا الأُصول وعليكم الفروع، أو يقرّر لأحدهم قاعدة نفي الحرج وأمثالها، وصحيح أنّ بعض الرواة كتب دراسة عن الأًُصول اللفظية: كما ينقل المؤرِّخون، إلاّ أنّ ذلك جميعاً لا يشكّل مبادئ نظرية كاملة، يعتمد عليه الأصحاب في استخلاص الحكم الشرعي...

وفي ضوء هذه الحقائق، يجيء الحديث عن ( الشهرة ) أو بحسب ما ورد من التعبير ( ما اشتهر ) أو ( المُجمع عليه )، منسحباً على المعنى المذكور، وهو: الفتوى على متن الرواية التي يتناقلها الأصحاب عن المعصوم (عليه السلام).. وليس الفتوى الاجتهادية،

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

السر أي. تي. ولسن

نائب الحاكم الملكي العام في العراق

٤٦١

فخرج السيّد علوان وهو أشدّ ما يكون انفعالاً، وقد أفاض للسيّد محمّد رضا بأسباب انفعاله، وأسمعه الشيء الكثير من كرهه للإنكليز وحكومتهم، فبادله السيّد محمّد رضا الرأي، وتحدّثا طويلاً، وتطرّقا في أحاديثهما إلى أن الخلاص من الإنكليز لا يتم إلاّ بالعمل، وأن الاهتداء إلى كيفية النهوض بالعمل لا يتم في هذا الموقف على قارعة الطريق.

وافترقا على أن يتم الاجتماع في النجف، وعلى أن يتذاكرا مليّاً مع الجماعة الآخرين لإيجاد المنفذ الّذي يلجأون منه للحرية، ويتخلّصون من هذا الكابوس الجاثم على صدورهم(١) .

وحين زار السيّد علوان الياسري النجف، قصد الشيخ عبد الكريم الجزائري بمعيّة السيّد محمّد رضا الصافي، ثم اتصل بالشيخ محمّد رضا الشبيبي، والشيخ محمّد باقر الشبيبي اتصالاً وثيقاً، وصار للسيّد كمال الدين، والسيّد حسين كمال الدين تماس قويّ بالسيّد علوان، وكان مع الشيخ عبد الرضا الشيخ راضي سابق اتصال وثيق على الاطمئنان من هذه الطبقات التي يلتقيها عند مجلسه أو في المجالس الأخرى المختلفة، فإذا بهذه الاتصالات تنمو وتسفر عن اتجاهات منتظمة، وكان الحجر الأساس في قيام الثورة بوجه الإنكليز.

ثم التحق بهم السيّد گاطع العوادي، وشعلان الجبر رئيس عشيرة آل إبراهيم بواسطة السيّد علوان، انضم إليهم رؤساء العشائر الآخرون(٢) كالسيّد نور الياسري، والسيّد محسن أبو طبيخ، والشيخ عبد الوحد الحاج سكر(٣) والشيخ علوان الحاج سعدون، والشيخ غثيث الحرجان، والشيخ شعلان أبوالچون(٤) .

الاستفتاء:

وكان السير أرنولد ولسن نائب الحاكم الملكي العام في العراق قد بعث إلى الحكّام السياسيّين في الألوية والأقضية أن يجمعوا صغار النفوس وضعاف الإيمان والّذين

____________________

(١) على هامش الثورة العراقية: ١٠١ - ١٠٢، لمحات اجتماعية ٤/١/١١٦ - ١١٧.

(٢) على هامش الثورة العراقية: ١٠١ - ١٠٣.

(٣) لمحات اجتماعية: ٥/١/١١٨.

(٤) مذكرات السيّد سعيد كمال الدين: ص٢٤.

٤٦٢

ترتبط أعمالهم ومصالحهم مع السّلطة الحاكمة لتكون أجوبتهم صدى لإدارة السّلطة البريطانية، وكانت الأسئلة:

١ - هل ترغبون في دولة عربية واحدة تحت الوصاية البريطانية، تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتّى الخليج؟

٢ - هل ترغبون أن يترأس هذه الدولة رئيس عربي؟

٣ - من هو الرئيس الّذي تريدونه لرئاسة الحكومة(١) ؟

ولما كانت النجف وبسبب مركزها الديني الواسع النطاق، وتأثير علمائها على جماهير الشعب، فقد كانت أول بلدة تحسست بثقل السّلطة الأجنبية، وأول مدينة عراقية فكّرت بالتخلّص من الاستعمار البريطاني، بالنظر لما كانت قد تشبعت به من روح الحرية والنزوع إلى الديمقراطية، بسبب ما كانت تتلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الإمام أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية، ولهذا فقد اهتم بها الحاكم الملكي العام اهتماماً عظيماً، وأراد أن يعرف رأي سكّانها والمحيطين بها في مستقبل بلادهم، معرفة دقيقة، فسار إليها في ١٢ كانون الأول ١٩١٨م، بعد أن أوعز إلى الميجر نوربري الحاكم السيّاسي للواء الشامية والنجف، أن يدعو علماء النجف وأشرافها وزعماء القبائل وساداتهم في أبي صخير والشامية للاجتماع به، فكان ممن حضر هذا الاجتماع:

من العلماء: الشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محمّد جواد صاحب الجواهر، والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي.

ومن الرؤساء: السيّد نور الياسري، والسيّد محسن أبو طبيخ، والسيّد علوان الياسري، وعبد الواحد الحاج سكر، وعلوان الحاج سعدون، ومحمّد العبطان، وعبادي الحسين، ومرزوك العواد، ولفته الشمخي، ومجبل الفرعون.

ومن الوجوه والأشراف والأدباء: عبد المحسن شلاش، ومحمّد رضا الشبيبي، والسيّد هادي الرفيعي وغيرهم.

____________________

(١) مذكرات السيد محمّد عليّ كمال الدين، ٢٨.

٤٦٣

وكان (مصطفى خرمة البيروتي) أحد الموظفين العرب المستخدمين في دائرة الحاكم السيّاسي الميجر نوربري، على علم من موضوع الاستفتاء، وقبل مجيء الحاكم الملكي العام إلى النجف بفترة قصيرة، ومن الدعوة التي وجهت إلى من سيجتمع به، فدفعه شعوره القومي إلى اطلاع السيّد سعيد كمال الدين أحد الشبان الوطنيّين المتحمسين على ذلك، وكان طبيعياً أن يطلع السيّد سعيد زملاءه على الموضوع، وأن تتخذ التدابير اللاّزمة لمجابهة طواغيت الاحتلال(١) .

ووصل الحاكم الملكي العام في الموعد المضروب، واجتمع بالعلماء والزعماء والأشراف والسرّاة، في سراي الحكومة، خارج المدينة، وبعد أن استقر المجلس أعلن الغاية من مجيئه، وهي أن بريطانية وحلفاءها قرّروا استمزاج آراء سكّان البلدان المحرّرة من السّلطة العثمانية في شكل الحكومة التي يختارونها، ثم عرض الأسئلة الثلاثة المذكورة، وطلب الإجابة عليها، فجرت مناقشة حادّة نوجزها فيما يلي:

الحاج عبد المحسن شلاش: هل أنّ الحكومة البريطانية تريد أن تعامل العراقيين بهذه المعاملة رأفة منها بحال السكّان، أم هنالك عوامل أخرى تستدعي هذا الاستفتاء؟

الحاكم العام: إن بريطانيا عادلة، ومن عدلها أنها تريد معرفة رأي السكّان في تقرير مصيرهم.

السيّد هادي الرفيعي: لا نريد غير الإنكليز.

الشيخ عبد الواحد الحاج سكر: بل نريد حكومة عربيّة وطنية.

الحاكم العام: هل هذا هو رأيك أم رأي الجميع؟

فأجابه الشيخ عبد الواحد: إن هذا رأيي الشخصي، ولا بد من أن أكثر الحاضرين يؤيدونه.

الشيخ محمّد رضا الشبيبي: إن الشعب العراقي يرتأي أن الموصل جزء لا يتجزأ من العراق، وإن العراقيين يرون من حقّهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة استقلالاً تاماً، وليس فينا من يفكر في اختيار حاكم أجنبي.

____________________

(١) مذكرات السيّد سعيد كمال الدين: ٢٤.

٤٦٤

فاحتدم الحاكم غيظاً، وقاطع المتكلّم مراراً، ضارباً بيده على المنضدة التي أمامه، وحاول أن يطّلع على رأي بقيّة المدعوين، فلم يعترضوا على الأقوال السّالفة.

فكانت تلك أول مجابهة بها سياسة الاحتلال، وطواغيت المحتلّين، ثم سرت في العراق سريان النار في الهشيم(١) .

ثم تكلّم السيّد علوان الياسري، قائلاً: لما كان المدعوون غير مسبوقين بالموضوع فهم يرجون إمهالهم إلى الغد لدرس الأسئلة الثلاثة، وتوحيد الأجوبة عليها، وذلك بعد الاتصال بالعلماء وببقية الرؤساء.

فلم ير الحاكم مانعاً من ذلك، إلا أنه طلب أن ترسل الأجوبة إليه بواسطة الحاكم السيّاسي للنجف والشامية، الميجر نوربري.

وقام الحاكم الملكي العام السير أي. تي. ولسن بزيارة السيد اليزدي والتحدث معه بشأن الاستفتاء يقول: (وكان لي صباح الثاني عشر شرف زيارة السيد محمد كاظم اليزدي الطاعن في السن.. قال: أنا أنطق باسم الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ومهما تكن الحكومة أرجو أن تتركوا لهم أن يتبصروا بمصالحهم التي تتعلق بالشيعة خاصة، ولا سيّما العامة التي لا تعرف من الأمر شيئاً، والتي لا حول ولا طول لها، إن هؤلاء الناس ليسوا متحضرين، وإن تنصيب الموظفين العرب سيؤدي إلى الفوضى، إنهم لم يتعلموا بعد معنى الاستقامة، وإلى أن يتعلموا ذلك فيجب بقاؤهم تحت أوامر الحكومة، ولا يمكن إيجاد شخص يكون مقبولاً كأمير)(٢) .

وبعد أن تفرّق المدعوون، ذهب رؤساء القبائل إلى الكوفة لاستطاع رأي الزعيم الروحي السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي في الموضوع، فلمّا عرضوا عليه الأسئلة، قال:

____________________

(١) العراق في دوري الاحتلال والانتداب: ١/٧١ - ٧٢، أيضاً: الثورة العراقية الكبرى ٤٢ - ٤٣، وفي ماضي النجف وحاضرها: ١/٣٥٥ - ٣٥٦، إن قبل هذا جرى اجتماع في دار الحاج عبد المحسن شلاش فوضعوا الأسئلة المذكورة على بساط البحث، فاتضح لهم سوء النتيجة، وأن كلّ ذلك مكر وخديعة.

(٢) العراق، نشأة الدولة، للعطية ص٣٥٥.

٤٦٥

(إنّ الأمر لخطير جداً، ولكلّ أحد حقّ إبداء الرأي، سواء أكان تاجراً أم بقالاً، زعيماً أم حمّالاً).

ونصحهم بالاجتماع والمداولة وموافاته بالنتيجة، فعادوا إلى النجف، وعقدوا اجتماعاً في اليوم التالي في دار الشيخ محمّد جواد صاحب الجواهر، حضره رهط من العلماء والزعماء والمتمولين والمتعلّمين والأشراف والسّادات وغيرهم، فجرى الكلام حول الأسئلة والأجوبة بنطاق واسع، وتشعّبت الآراء، فحمي وطيس الجدال، أراد الشيخ عبد الواحد أن يقتضي على هذه البلبلة، فألقى كلمة موجزة، أقرّه المجتمعون عليها، قال:

(لسنا اليوم أيها السّادة أكفاء للجمهورية، ولسنا فرساً، أو تركاً، أو إنكليزاً، فنختار أميراً فارسياً، أو تركياً، أو إنكليزياً، وإنما نحن عرب، فيجب أن نختار أميراً عربياً، وحيث إن البيت الشريف في مكّة أكبر بيت في العالم العربي، فإننا نرغب أن تكون لنا حكومة عربية مستقلّة برأسها أحد أنجال جلالة الملك حسين)(١) .

وهكذا تفرّق القوم وذهب الرؤساء إلى الكوفة، وطالبوا السيّد اليزدي بإبداء الرأي، فقال لهم: (أنا رجل دين، لا أعرف غير الحلال والحرام ولا دخل لي بالسيّاسة مطلقاً).

فلمّا ذكّروه بما قاله بالأمس، قال: (اختاروا ما هو أصلح للمسلمين)(٢) .

____________________

(١) الثورة العراقية الكبرى للحسني، ص٤٣.

(٢) جاء في مذكرات الإمام كاشف الغطاء ص٣٩٣: (... كان كثير من زعماء القبائل وشيوخ الأطراف في النجف، بعد إظهار موالاة الإنكليز، قلبوا ظهر المجن له، وتذمّروا من أعماله، سيّما (دلي) حاكم الديوانية، فإنه أساء معاملة رؤساء القبائل، وكان يعاملهم بسوء المعاملة، ويقابلهم بالاحتقار والمهانة. وكلما رفعوا شكواهم وطلبوا من معتمد بريطانيا في العراق تحويله لا يصغي إليهم، فصمموا على الثورة. وبما أن الثورة لا تكون ذات أثر إلاّ إذا استندت إلى موافقة الزعيم الروحاني والمرجع العام، فكانوا يحضرون - أرى ثلة - ويفاوضونه في الأمر سرّاً وتحت حجب الخفاء، والسيد - أعلى الله مقامه - لمعرفته البليغة بأحوال أهل العراق، وعدم ثقته بهم، يتنصّل من الدخول معهم ومن مساعدتهم، ويقول: أنا لا آمركم ولا أنهاكم، فدعوني جانباً وملجئاً عند الفزع وعدم الفوز لا سمح الله. وبقيت الفكرة تختلج في الصدور، والقوم يحجمون تارة ويقدمون أخرى، كل ذلك من عدم موافقة السيد التي كانت هي الحزم والسداد).

٤٦٦

مما دلّ على أن السّلطة اتخذت للأمر عدّته، إذ لم يكد المجتمعون ينتقلون إلى دار السيّد نور الياسري لمواصلة البحث ووضع الضوابط المتفق عليها، حتّى داهمتهم الشرطة، فشتتهم أيدي سبأ، واضطر هؤلاء الرؤساء إلى الاعتصام بقبائلهم في الشامية وأبي صخير.

وبعد يومين دعاهم الحاكم السيّاسي وحاول أن يحصل منهم على ما يريده، معتقداً أن الحصول على ذلك في خارج مدينة النجف أجدى للسّلطة وأنفع، فأخفق، إذ وقّع الجميع مضبطة(١) ، نصّها:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن اجتمع بنا الحاكم العام في النجف الأشرف، وأخبرنا بلسان الحكومة البريطانية المحتلة بشكل الحكومة التي نختارها وننتخب ملكاً. وبعد أن وقفنا على مقررات دولتي بريطانيا وفرنسا حول تحرير الشعوب، وخلاصة قولها إن غرض الحكومة في الشرق تحرير الشعوب تحريراً نهائياً، وإنشاء حكومات وإدارات وطنية في سورية والعراق تقوم بها الشعوب بذاتها، من خالص رغبتها ومحض اختيارها. وبعد ملاحظة الأصول الإسلامية الجعفرية، فإننا قررنا على أن تكون لنا حكومة عربية إسلامية مقيّدة بقانون أساسي، بشرط أن لا يخالف قواعدنا وعاداتنا وشعائرنا الدينية منها والوطنية، تحت ظلّ ملك عربي وهو أحد أنجال الشريف حسين.

هذه رغبات الأمة العراقية لا نحيد ولا نتنازل عنها قيد شعرة.

____________________

(١) الثورة العراقية الكبرى للحسني. ومذكرات السيّد حسين كمال الدين: ص ١٢ - ١٣. الحقائق الناصعة: ص ٨٤ - ٨٥، وفيه: إن التوقيع على هذه المضبطة جرى في دار الشيخ جواد الجواهري.

انظر: تأريخ العراق سياسي المعاصر: ٢/١٨٢، وفيه إن المضبطة نظمت على أثر استشارة السيد اليزدي.

ويذكر الأستاذ حسن الأسدي - وهو ممن عاصر وقائع الاستفتاء -: (إن السيد اليزدي حسم النزاع الذي ظهر نتيجة تعدد الآراء، برأي وسط فاعتمده الجميع ودوّنوه في مضبطتهم. ولو أنه امتنع عن حسم الخلاف، ولم يشر بالحل الوسط في ذلك الجوّ المضطرب، لَمَا تمّ الاتفاق على رأي موحّد، لأن الذين اختلفوا في وجهات النظر لم يكونوا من عامّة الناس، وإنما هو علماء الدين ورؤساء العشائر الذي يصعب أن تتغيّر قناعاتهم إلاّ بموقف المرجع الديني). (انظر: ثورة النجف للأسدي ص٣٣٦).

٤٦٧

وقد وقّع عليها كبار رجالات الدين وزعماء العشائر ورؤساء القبائل ووجوه مدينة النجف الأشرف(١) .

دعوة الإمام الشيرازي:

بعد أن فشل الحزب النجفي في إقناع السيد اليزدي وجلبه إلى حضيرتهم، وأدرك الرؤساء أن السيد تجرّد من الحركة أدبياً، وأن كل عمل لا يكتب له النجاح التام إن لم يعطف عليه ذوو المعرفة كالعلماء الأعلام وخصوصاً في مرحلة كهذه، عمدوا إلى إيقاع سوء التفاهم بينه وبين زعماء العشائر وبثّ روح التفرقة، والفصل بين المقلدين ومرجعهم، فقد بثّوا دعاية صارخة ضده - تحت غطاء الدين - في أنه متعاون مع المحتل الإنكليزي وأنه ليس كما يقال فيه، وأطلقوا عليه لقب (اليزيدي)، وأن السيد نور السيد عزيز الياسري عدل عن تقليده - وهو من مقلدي السيد المتشدّدين - فكان أول من عدل عن تقليد السيد اليزدي وتبعه كثير من الزعماء.

كما قرّر الحزب أن يوجّهوا أنظار الناس إلى مجتهد آخر، وكان المرشّح حينئذ الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي في الكاظمية، فقد وسّطوا ولده الميرزا محمد رضا والشيخ عبد الكريم الجزائري، لعلاقة سابقة بينهم منذ الحركة المشروطة وحركة الجهاد عام ١٩١٤، ويعلموه استعداد الناس لتقليده، ويطلبون منه القدوم إلى النجف لقيادة الحركة، وردّ الجواب بالموافقة، ويرجو تحضير دار ليسكنها، وبعث بكتبه وأثاث داره، وهنا تغيّر رأي الرؤساء على أن يجعلوا مقرّه في كربلاء لاقتضاء المصلحة، ولئلاّ يكون ذلك تحدياً ظاهراً للسيّد اليزدي، وكاتبوه بذلك فوافق، ولدى وروده إلى كربلاء استقبل استقبالاً حافلاً بالجماهير والأهازيج من (خان العطيشي) حتّى كربلاء.

ثم قام أفراد الحزب بتزوير ٤٠٠ - ٥٠٠ رسالة وأرسلوها بالبريد مفادها عدول أصحابها عن تقليد السيد اليزدي إلى تقليد الميرزا الشيرازي، وقد فازوا بهذه العملية - لضعف المواصلات يومذاك ووقوف الناس على الحقيقة - وكمل فوزهم بوفاة السيد

____________________

(١) الحقائق الناصعة ٨٤ - ٨٥.

٤٦٨

اليزدي بعد أشهر قليلة أو في بحر القضية(١) .

____________________

(١) مذكرات السيد سعيد كمال الدين: ص٢١. وانظر أيضاً: مذكرات السيد حسين كمال الدين: ص ١٥.

وقد جاء في مذكرات الإمام كاشف الغطاء (مخطوطة)، ما يتعلّق بهذا الموضوع ما نصّه: (وانتقلت المرجعية العامة والزعامة الكبرى بعد السيّد قدّس سرّه إلى المرحوم الشيخ محمّد تقي الحائري، فالتفت عليه زعماء القبائل، ووجدوا منية السيد ثمرة العذاب، سيّما وقد كان التفاوت بين الزعيمين في أصل طباعهما بعيداً جداً، فقد كان السيد (رحمه الله) صلب المراس شديد الشكيمة، في غاية الحذر وسوء الظن، لا يُغر ولا يُخدع، بخلاف الميرزا (قدس سره) لأنه، ملس سلس القياد، سريع الاعتقاد، حسن الظن، فأقنعوه على الموافقة على الثورة واستدرجوه...

وتحرك أولئك الرؤساء لتنفيذ مكاسب لهم، والوزر والكفاح على أُولئك الأغبياء، وكانت النتيجة لأولئك الذين [ لم ] يصيبوا في تلك الحوادث بشوكة، ولا خسروا في الثورة قلامة ظفر. ولا نريد أن نأتي على تفاصيل تلك الثورة وشئونها وشجونها، فإنها تحتاج إلى إفراد مؤلف واسع، وقد كتب كثير من الكتبة فيها، ولكن لم يأتوا على جميع أسرارها ودقائقها، ولا تزال تلك الحقائق مطمورة في الصدور دون السطور إلى يوم النشور. ولكن الغرض أنه بعد أن نشبت أظفار الثورة واستوت الحرب بين قبائل الفرات الأوسط والجنود البريطانية اشتركنا في القضايا الوطنية واشتغلنا بها. ولمّا تغلّب الإنكليز، ازدادوا بتبعيدنا فحال الله بينهم وبين ذلك، إلى أن توفّي المرحوم الميرزا محمد تقي، ورجعت الزعامة الروحية إلى المرحوم الأستاذ شيخ شريعة الأصفهاني، وكان في آخر رمق من الحياة، وبعد ستة أشهر تقريباً انتقل إلى دار البقاء...).

ومما يظهر من ذلك أن ثورة العشرين في نظر الشيخ كاشف الغطاء حدثاً فاشلاً، كان يعرف نتيجتها ويتنبَّأ بها من عام ١٩١٩، ويؤيِّد فكرة السيّد اليزدي في عدم البت والإفتاء للقيام بالثورة، لعدم توفّر العدة وما تستلزمه أمور الحرب... وغيرها.

٤٦٩

٤٧٠

الفصل الرابع:

في رحاب الخلود

* وصيَّته.

* وفاته.

* المآتم والمراثي.

* سِجِل الخالدين.

* أولاده وأحفاده وأعلام أُسرته.

* مصادر ترجمته.

٤٧١

٤٧٢

وصيّته

ذكر الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في مذكّراته(١) :

(وفي منتصف رجب ١٣٣٧، توعّك السيّد وأصابته حمّى شديدة، وامتنع عن الخروج للصلاة والدرس. وفي اليوم الثالث من عروض الحمّى عدناه عصراً، وكان لا يأذن بالعيادة إلاّ لقليل من الخواص، فخلى بنا في محلّه الخاص، فكنت وأخي المرحوم والسيّد (قُدِّس سِرُّه) ولا رابع معنا إلاّ الله جلّ شأنه، فقال: أجدني لا أسلم من هذا المرض، وإني راحل عن قريب، وتعلمون أن أولادي الذين كنت أعتمد عليهم وأثق بهم، قد رحلوا أمامي ولم يبق من ولدي من أعتمد عليه، وعليّ حقوق كثيرة، وأموال في البيت وعند التجار وافرة، وأريد أن أوصي إليكم لتفريغ ذمتي وأداء واجباتي. ويعني بأولاده الذين كان يعتمد عليهم: ولده الأكبر السيد محمد، الذي توفّي في الكاظمية بعد رجوعه من السفر الثاني الذي سافره للجهاد سنة ١٣٣٤، والسيد محمود الذي توفّي بعد بسنتين تقريباً، والسيد أحمد الذي توفّي قبلهما هو والسيد حسن بمدة طويلة. فلمّا ألقى علينا تلك الكلمات، ونعى إلينا نفسه الشريفة، كأنما أطبقت السماء علينا، واسودت الدنيا بأعيننا، ثم أخذ رضوان الله عليه يشجعنا ويسلّينا ويناشدنا حق الأستاذية، وأنه لا يعتمد على غيرنا. فطلبنا منه أن يشرك معنا شخصاً أو شخصين للمساعدة ورفع الهم، وظن السوء، فأشرك الحاج محمود والشيخ علي المازندراني من وجوه تلاميذه، ثم ألقى عليّ المطاليب التي في نفسه، وأمرني بكتابة الوصية بخطي كي يوقّع عليها، فكتبتها وجئت بها إليه صباحاً، فأمرني بكتابة وصيته وتشتمل على ما في الأولى، وعلى زيادات تجدّدت في نظره، فكتبتها بخطي وجئت بها إليه عصراً.

وكان قد اشتدّ مرضه، فبعث الشيخ عبد الرحيم اليزدي - خادمه الخاص - وجمع له جماعة من أعيان تجّار النجف من العجم والعرب، وجماعة من طلاب العلم الأفاضل

____________________

(١) انظر كتابنا: النجف الأشرف وحركة الجهاد: ص٣٩٣ - ٣٩٤، نصّ المذكرات في الملحق رقم (١) بآخر الكتاب.

٤٧٣

وجملة من الأعيان فحضروا ليلاً، وأمرني فقرأت عليهم الوصيتين، وأمرهم بأن يحرّروا شهادتهم فيها، ووقّع عليها بخطّة وخاتمه، ثم أحضر الحاكم السياسي الإنكليزي مع العميد حميد خان(١) فشهدا فيهما.

وفي ليلة الثامن والعشرين من رجب مقارن طلوع الفجر، انتقل إلى رحمة الله، وكان من جملة وصاياه: إعطاء الخبز للطلاب ثلاثة أشهر، وطبع تتمّات (العروة الوثقى)، وإن زاد المال يطبع (السؤال والجواب)، وإعطاء العبادات والحج المقيّدة في دفاتره، فأنجزنا بتوفيقه تعالى جميع ما أراد.

ولا تزال الوصيتان - وهما بخطّي وتوقيعه وتوقيع الشهود - محفوظتين عندي مع دفاتره(٢) . وكان كثيراً ما يقع الخلاف والتشاكس بين الأخ المرحوم وبين الوصيين الآخرين ويقف العمل، فأسعى بلطائف التدابير في إصلاحهما والتقارب إلى أن أنجزت الوصايا بأجمعها، وكان المال الكثير قد اختلس في دار السيد، ولم نحصل إلاّ على القليل منه، وسلّمت لنا الأموال التي عند التجار على أن بعضهم أيضاً جحد الكثير منها)(٣) .

____________________

(١) ولد حميد خان عام ١٨٩٠ في النجف، وتوفّي ببغداد في ٢٣/١٢/١٩٤٣. درس في بغداد فالهند، وعاد منها عام ١٩١١، واختار السكنى في النجف. وعند احتلال الإنكليز لبغداد عيّن حاكماً للنجف عام ١٩١٧، ومعاوناً للحاكم السياسي لمنطقة عموم الشامية والنجف. وعند انتهاء الثورة العراقية عاد إلى وظيفته كحاكم للنجف، فمتصرّفاً للواء كربلاء عام ١٩٢١، واستقال من الوظيفة عام ١٩٢٢، وانتخب نائباً عن لواء كربلاء عام ١٩٤٣، حتى وفاته.

(٢) حصلت على صورة الوصيتين من العلامة الجليل السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان، وهما عن الأصل المحفوظ لدى مكتبة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في النجف.

(٣) جاء في مقدمة (الفردوس الأعلى) للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: (... عدنا إلى النجف الأشرف سنة ١٣٣٢ أوائل الحرب العالمية الأولى، وألجأونا إلى الإرشاد والدعوة، وسافرنا للجهاد عدة مرات، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، وانتقل أستاذنا السيد الإمام الكاظم إلى جوار به، وتحملنا أعباء وصيّته مع الأخ المرحوم (أعلى الله مقامه) الذي اجتهدنا معه في تنقيح (العروة الوثقى) وطبعها مرتين في حياته، وكانت مرجعية الإمامية في عموم الأقطار قد انتهت إليه (رضوان الله عليه)، وعلينا كان يعوّل في جميع مهماته ولا يضع ثقته عند غيرنا، وإلينا يرجع كل مرافعة تنشر عنده فيحكم بحكمنا، ويقضي بقضائنا، ولا تزال وصاياه بخطّه عندنا).

٤٧٤

الوصية الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً على محمد وآله الطاهرين.

وبعد:

فإني قد صالحت بالصلح الصحيح الشرعي المشتمل على الإيجاب والقبول، وسائر شرائط الصحة واللزوم، داري الكبيرة الواقعة في محلة البراق من محلاّت النجف الأشرف، المتّصلة إليّ بالشراء من ورثة المرحوم أمين أغا بن المرحوم نظام الدولة، هي والدار الصغير الملاحقة لها، المعلومتي الحدود والجهات، مع ما فيهما من الأسباب والأثاث والفرش والكتب وغيرها من جزئي وكليّ، وكذا ما في دار شريعة الكوفة الوقف من الأسباب، والأرض الواقعة في شريعة الكوفة المتصلة إليّ بالشراء من الحاج أحمد اللاّري مع ما فيها من العمارة، لولدي المحروس سيد أسد أدام الله توفيقه وحراسته، ولوالدته وأخواته منها، له من ذلك حصتان والباقي لهم على السويّة.

وقد صالحت وأجريت عقد الصلح الصحيح معهم عن جميع ذلك وحصل القبض والإقباض، وقِبَل الكبار منهم وقبلتُ، وقبضتُ عن الصغار بحسب الولاية، وشرطتُ في ضمن عقد الصلح أنّ لي الخيار بنفسي وبلساني، بحيث لا ينتقل إلى ورثتي من الآن إلى مدة عشر سنين متى شئتُ فسختُ ذلك العقد.

وقد أوقفتُ المدرسة الكبيرة الشهيرة مع توابعها ولواحقها وكتبها على المشتغلين بتحصيل العلوم الدينية.

وأوقفت نصف الحمّام الواقع في شريعة الكوفة مع توابعه من الدكاكين، وكذا الحصّة التي في الكوفة، والدكاكين الواقعة في شريعة الكوفة المشتركة بين المدرسة وبين ورثة ولدي المرحوم السيد أحمد وغيرهم: أوقفت جميع ذلك - [ على ] ما يلزم للمدرسة من تعمير وماء وغيره بعد إخراج العشر من وارداتها - للمتولي، وقد جعلت المتولي جميع الذكور من أولاد ولدي المرحوم السيد محمد، مرتّبين طبقة بعد طبقة، لا يشارك الثاني من البطون الأول، ولو بقي واحد من البطن السابق لا يشاركه اللاحق، ولكن بشرك الرشد والتقوى، وحق التولية مشترك بين جميع الطبقة التي لها الولاية.

٤٧٥

وكذلك أوقفت الخان الواقع في النجف الأشرف في محلة العمارة على الزوّار، وأوقفت لواحقه من الدكاكين المتّصلة به والدارين الملاصقين له - على ما يلزم من تعميره وسائر لوازمه من الضياء والماء وغيره -، وجعلت تولية الخان وأوقافه لولدي السيد أسد، وله حق تولية العشر من الواردات ثم لأولاده وأولادهم مرتّبين.

وكذا الدار القديمة في شريعة الكوفة أوقفتُها على تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) والتولية للسيد أسد وأولاده.

وأما ما عدا ما جرى عليه عقد الصلح والوقف من الأملاك الراجعة لي، فهي على ما فرض الله للذكور والإناث.

وقد جعلت الأوصياء عني على تنفيذ تلك الأمور وعلى إبراء ذمتي وقضاء ديوني، وأداء الحقوق التي عليّ، واستيفاء الديون التي لي على الناس، بموجب السندات التي باسمي وغيرها، من الحقوق الشرعية وغيرها:

[ ١ - ] جناب الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء(١) .

[ ٢ - ] وأخاه الشيخ محمد حسين(٢) .

[ ٣ - ] والحاج ميرزا محمود أغا الهندي التبريزي(٣) .

[ ٤ - ] والشيخ علي

____________________

(١) ترجمته في بحث: (تدريسه وتلامذته) [ص ٣٠].

(٢) ترجمته في بحث: (تدريسه وتلامذته) [ص ٦٧].

(٣) الحاج محمود أغا بن الميرزا أبو القاسم الهندي التسويجي التركي (ت ١٣٤٣هـ / ١٩٢٥م).

عالم، فقيه، مجتهد، من بيت علم ودين وزعامة، تخرج على أساتذة النجف، وكان يتردد على الهند، وأصبحت له سمعة عالية وشهرة واسعة. وفي حركة المشروطة كان من قادتها.

كان يجيد عدة لغات حيّة إجادة تامة، ومنها الإنكليزية، مما دعا السيد محمد كاظم اليزدي أن يجعله ضمن وفوده وإحضاره مجالس المفاوضات مع السلطة المحتلة ليكون مؤتمناً على الترجمة، وعرض المطالب.

وفي خلاصة التقارير البريطانية: (أنه كان من موزّعي وقف أوده، موالٍ لبريطانيا بصورة علنية، يعمل كسكرتير اليزدي، قدّم خدمات جليلة في أيلول / سبتمبر ١٩١٧ وكذلك خلال الحصار، وليس له نفوذ).

له: (تأريخ الأمة ووقائع الأيام) ط، و(رسالة عملية) ط.

عقبه: الشيخ أبو القاسم، وهو زوج الأديبة زهرة بيكم.

والشيخ محمد أقا كوچك.

(ترجمته في: معجم رجال الفكر والأدب ١/، الجذور ٣٣٩).

٤٧٦

الوصية الأولى

٤٧٧

المازندراني(١)

(دام تأييدهم).

وجعلت لهؤلاء الأوصياء النظارة على تلك الأوقاف جميعاً، وعلى المتولي عليها وعزله، وعلى صرف عائداتها في مصارفها اللازمة بنظره ونظرهم، وجعلت لهم أن يجعلوا ناظراً من بعدهم على ذلك ومتولِّياً.

وأما الأموال التي تحت يدي، وفي حجرتي في النجف، أو الجسر، أو عند التجّار من نوط أو نقود، وكذا الديون التي على الناس باسمي، مما كان فيها سندات أم لا، فقد عزوت إلى الأوصياء المزبورين أن يخرجوا منها - أولاً - الصوم والصلاة والحج والكفارات الراجعة للناس، حسبما هو مقيّد في دفاتري الخاصة التي يلزم تسليمها مع سائر الأوراق والسندات إليهم، ثم يصرفونه بنيّة أصحابه < ا > مع إضافة مقدار زايد عليه احتياطاً من السهو في عدم تقييد بعض الموارد. وما يفضل من ذلك فهو من الحقوق الشرعية، وقد عهدت إلى الأوصياء أن يطبعوا منه"تكملة العروة الوثقى" و"السؤال والجواب" المجموع من الفتاوى المنسوبة إليّ، ويصرفون الباقي على الفقراء والمشتغلين بإدامة إعطاء الخبز في شهري شعبان ورمضان من هذه السنة، على نحو ما كنت أعطية في ما مضى، وإن بقي شيء يصرف على المستحقين على سبيل التوزيع والتوسيع.

وأما الصغار من أولادي وأولاد أولادي من الذكور والإناث، فقد جعلت القيّم عليهم والمتولّي لإصلاح شئونهم أمهاتُهم بنظارة الأوصياء المزبورين.

وقد جرى جميع ما ذكر من الصلح والوقف والوصية في حال الصحة والاختيار، وليس لأحد من ولدي ولا غيرهم المعارضة والمناقشة في شيء مما سطر. ورجائي أن يتَّفقوا ولا يختلفوا، وعلى فرض حصول الاختلاف، فالعمل على رأي الشيخ أحمد وأخيه الشيخ محمد حسين أدام الله تأييدهما.

____________________

(١) الشيخ علي المازندراني النجفي (ت١٣٥٢هـ) من تلامذة السيد اليزدي (انظر بحث: تدريسه وتلامذته) [ص ٥٣].

٤٧٨

بسم الله الرحمن الرحيم،

جميع ما في الورقة صحيح.

الأحقر

محمد كاظم الطباطبائي

في ١٧ رجب سنة ١٣٣٧هـ

بمنه تعالى، نعم قد اعترف جناب مولانا حجة الإسلام وآية الله في الأنام السيد محمد كاظم دام ظله بصحّة ما حرّر ورقم في الورقة لدى الأقل كليدار الروضة الحيدرية، ١٧ رجب سنة ١٣٣٧هـ.

السيد عباس [الكليدار](١)

نعم، اعترف حجة الإسلام السيد محمد كاظم الطباطبائي روحي فداه بما حرّر ورقم لدى الأقل السيد هاشم نجل المرحوم السيد محمد زيني(٢) .

١٧ رجب سنة ١٣٣٧ هـ

نعم اعترف حضرة آية الله السيد دام بقاه بما فيها لدى الأقل محمد رءوف شلاش(٣) في ١٧ رجب ١٣٣٧.

از جناب حجة الإسلام والمسلمين سكيدجوم أقاي أقا سيد محمد كاظم آية الله شنيدم كه صحيح أست

أقل السادات أبو القاسم الموسوي

بسمه تعالى، نعم، اعترف حضرة آية الله السيد دام ظله العالي بجميع ما في الورقة

____________________

(١) السيد عباس بن السيد محمد حسن بن جواد الرفيعي الكليدار (ت ١٣٨٩هـ) سادن الحرم العلوي، وهو زعيم أسرته في عصره.

(٢) السيد هاشم بن السيد محمد صادق بن محمد بن أحمد زين الدين (زيني) الحسني ولد السيد حسن زيني التاجر المعروف.

(٣) الحاج محمد رؤوف بن عبود بن مهدي شلاش الخفاجي، أخ الحاج عبدالمحسن شلاش من تجار النجف البارزين، له دور بارز في الثورة العراقية ١٩٢٠، انتخب رئيساً لغرفة تجارة النجف منذ تأسيسها سنة ١٣٦٩هـ / ١٩٥٠م حتى سنة ١٣٧٧هـ / ١٩٥٧م.

(ترجمته في: النجف الأشرف والثورة العراقية ص٤٧٩).

٤٧٩

لدى الأقل نظام العلماء، ١٧ رجب المرجب ١٣٣٧هـ.

عبد الحميد

p.٧. Norbary Magor

of political officer

Thamiyah Division

٢٦. IV. ١٩١٩

الوصية الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

وبعد، فإني لمّا أوقعت بعض المصالحات في ورقة سابقة على هذه، وقد أوقعت بعدها مصالحات أخرى لزم ذكرها تفصيلاً.

منها: إني قد صالحت وملّكت التمليك الشعري الصحيح الدارين الواقعتين في محلة الحويش من النجف الأشرف القديمتين لمجموع أولاد أولادي الذكور والإناث على ا لسواء، وهم: أولاد السيد محمد، وأولاد السيد أحمد، وابن السيد حسن، وأولاد السيد محمود، لكل واحد حصته، ذكراً كان أو أنثى.

ومنها: إني قد صالحت وملّكت نصف الدار الواقعة في شريعة الكوفة، المنتقلة إليّ من الحاج علي أصغر اليزدي، من ولد ولدي السيد محمود، وهو السيد حسين، والنصف الآخر لأولادي وأولاد أولادي جميعاً، ذكوراً وإناثاً على السواء.

ومنها: إني قد صالحت وملّكت الدارين الواقعتين في محلة المشراق من النجف الأشرف، الدار الواقعة على جبل المشراق، والأخرى الصغيرة، من ولدي السيد علي وخليصته عيال السيد إسماعيل، ثلثان للسيد علي، وثلث لأخته المزبورة.

وأما البستان الواقعة في قرب علوة الفحل، وقطعة الأرض الواقعة في طرف البلد من شريعة الكوفة، والحصة من الطرادة، فقد نقلت الجميع بالناقل الشرعي إلى الحاج حسين البهبهاني، بشرط أن يدفع مثل وارداتها إلى الأوصياء يصرفونه على مقبرة أولادي ولوازمها من عيب وغيره... الأعيان وتبديلها بالأحسن كأن لهم الفسخ وبيعها على الغير وشراء ما هو خير منها لتلك الجهة.

وقد نقلت جميع ما استحقه إرثاً من السدس في تركة أولادي السيد محمد والسيد

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813