البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام0%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 273
المشاهدات: 32512
تحميل: 5198

توضيحات:

البنك اللاربوي في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32512 / تحميل: 5198
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

الأوّلين لها، ويقرض منها باعتبار كونه مخوَّلاً في ذلك من قِبَل أصحابها، فيكون الدائن والمقرِض حقيقةً هو المودِع لا البنك، وإنّما يكون البنك وكيلاً عن المقرِض ومفوِّضاً من قبله في إقراض ماله بالشكل الذي يرتئيه. وفي هذه الحالة يمكن للبنك أن يشترط على المقتِض ضمن عقد القرض أن يدفع زيادةً على المبلغ المقترَض لدى الوفاء، لكن لا للدائن الذي هو المودِع بحسب القرض، بل للبنك نفسه. وليس هذا رباً ؛ لأنّ الربا هو الزيادة التي يشترطها صاحب المال المقرَض لنفسه على المقترِض. وفي هذا الفرض لم يجعل للمقرِض أيّ حقّ في الزيادة، وإنّما فرض على المقترِض أن يدفع الزيادة إلى شخصٍ آخر غير الدائن الحقيقي، فهو من قبيل أنّ زيداً يقرض خالداً ديناراً ويشترط عليه أن يدفع درهماً لدى الوفاء للفقير.

وهذا التقريب إنّما يجوز إذا لم نستفِد من أدلّة حرمة القرض الربوي إلاّ ترتّب الحرمة فيما إذا اشترط المالك ما يكون منفعةً له، وأمّا إذا استفدنا من مثل قوله في بعض الروايات: (فلا يشترط إلاّ مثلها)(١) ونحوه(٢) ، أنَّ أيَّ شرطٍ لا يجوز إلاّ شرط استرجاع مثل المال المقترَض، فلا يصحّ اشتراط المنفعة لغير المالك في عقد القرض أيضاً.

[ التخريج السابع: ]

وهذا الوجه يستهدف تصحيح أخذ أجور التأمين على الدين من المقترِض، لا أخذ الفائدة على الإطلاق، بمعنى أنّ كلّ بنكٍ يدرك أنَّ جملةً من القروض سوف

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١٨: ٣٥٧، الباب ١٩ من أبواب الدين والقرض، الحديث ١١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٦٠، الباب ٢٠ من أبواب الدين والقرض، الحديث الأوّل.

١٨١

لا تُستوفى وتسمّى بالديون الميّتة، ولهذا تقدِّر البنوك الربوية جزءاً من الفائدة التي تتقاضاها في مقابل تلك الديون الميّتة، أي إنّها تكلِّف مجموع المقترِضين بالتعويض عن الديون الميّتة المحتملة. ومن المعلوم أنّ هذا رِباً، ولهذا اقترحنا في أطروحة البنك اللاربوي أن يلجأ هذا البنك إلى التأمين على كلّ قروضه عند بعض شركات التأمين ؛ لكي يضمن استرجاع تمام المبالغ المقترَضة، غير أنّ شركة التأمين تتقاضى أجراً على التأمين، فهل يمكن تحميل هذا الأجرة على المقترِض أم لا ؟

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ البنك تارةً يشترط على المقترِض أن يُملِّكه مقداراً مساوياً لأجرة التأمين، والبنك بنفسه يؤمِّن على القرض ويسدّد أجرة التأمين من ذلك المقدار، فهذا قرض ربويّ محرَّم بلا إشكال.

وأخرى يشترط البنك على المقترِض أن يؤمِّن الأخير على القرض لمصلحة البنك بحيث يكون المؤمِّن هو المقترِض، غير أنّ التأمين لمصلحة المقرِض. وعلى هذا فاُجرة التأمين لا تدخل في ملك البنك، بل تدخل في ملك شركة التأمين رأساً من المقترِض. ولو فرض أنّ المقترِض يدفعها إلى البنك فهو يدفعها إليه بوصفه وكيلاً عن المقترِض في الاتّفاق مع شركة التأمين ودفع الأجرة إليها. وعلى هذا فلا يكون البنك قد اشترط على المقترِض مالاً لنفسه زيادةً على المبلغ المقترَض، وإنّما اشترط عليه ضمان القرض من قبل شركة التأمين، فهل يكون مجرّد اشتراط هذا الضمان مؤدّياً إلى ربوية القرض أم لا ؟

والجواب على ذلك: أنّ التأمين على الدين تارةً نقول: إنّه نحو من الضمان المعاملي والعقدي تقوم به شركة التأمين ؛ وتتعهّد بموجبه بوفاء المقترِض للقرض.

وأخرى نقول: إنّ عقد التأمين مرجعه إلى الهبة المعوَّضة، بمعنى أنّ المؤمِّن يهب مالاً إلى شركة التأمين - وهو ما يدفع باسم أجور التأمين - ويشترط في هذه

١٨٢

الهبة أن تدفع شركة التأمين مالاً معيّناً في حالةٍ معيّنة.

فإن قلنا: إنّ التأمين على الدين نحو من الضمان المعاملي فمعنى اشتراط البنك على المقترِض التأمين على القرض أنّه يتمنع عن إقراضه ما لم يهيّئ كفيلاً خاصّاً يكفله وهو شركة التأمين، وهذا أمر جائز، ولا يجعل القرض ربوياً ؛ لأنّ من حقّ كلّ مقرِضٍ أن يقترح على المقترِض الكفيلَ الذي يثق به، ويمتنع عن الإقراض ما لم يهيّئ المقترِض ذلك الكفيل. ومجرّد كون تهيئة المقترِض لذلك الكفيل بحاجةٍ إلى إنفاق مالٍ لا يجعل الشرط ربوياً ما دام لا يعود على المقرِض إلاّ بفائدة الاستيثاق من وفاء الدين.

وأمّا إذا قلنا: إنّ التأمين هبة معوّضة، والمفروض أنّ المؤمِّن في المقام على القرض هو المقترِض، وحينئذٍ لا بدّ أن نرى أنّ التأمين الذي يشترطه البنك على المقترِض على ماذا يشتمل ؟ فإن كان بمعنى أنّ المقترِض لشركة التأمين مالاً ويشترط عليها أن تهب للبنك ابتداءً مالاً مخصوصاً في حالة عدم وفاء الدين - وهذا هو معنى كون التأمين لمصلحة البنك - فقد يُدَّعى: أنّ اشتراط التأمين بهذا المعنى من قِبل البنك يكون ربوياً ؛ لأنّه يؤدّي إلى نفعٍ له، حيث إنّ ما سيقبضه من شركة التأمين ليس وفاء للدين، بل هبة مستقلّة.

وأمّا إذا كان المقترِض يؤمّن على القرض لمصلحته هو، بمعنى أنّه يهب لشركة التأمين مالاً ويشترط عليها أن تهب له - لا للبنك - مالاً مخصوصاً في حالة عدم وفائه للدين، فلا بأس بذلك. ولا يكون اشتراط التأمين بهذا المعنى من قِبل البنك على المقترض ربوياً. وفائدة هذا الشرك للبنك أنّه يقبض المال من شركة التأمين في حالة عدم الوفاء وكالةً عن المقترض، ثمّ يحتسبه وفاءً بالمقاصّة، وبذلك يحصل على دينه.

١٨٣

ديون البنك على التجّار المستورِدين:

إنّ الديون التي تحصل على التجّار المستورِدين الذين فتح البنك الاعتماد لطلبهم نتيجةً لتسديد البنك ما عليهم من ديونٍ تجاه المصدِّرين في الخارج، يأتي في فوائدها جملة من الوجوه التي تقدّمت لتخريج فوائد القروض مع مناقشتها. وللتوسّع في مناقشة فوائد ديون البنك على المستورِدين راجع الملحق (١١) الذي خصَّصناه لدراسة فوائد هذه الديون، فجاء تتمّةً للبحث في هذا الملحق.

١٨٤

الملحق (٢)

[ حكم شرط الضمان على عامل المضاربة ]

ذكرنا في الأُطروحة أنّه لا يجوز لصاحب المال أن يشترط على عامل المضاربة إلى جانب مشاركته في الربح أن يكون ضامناً لرأس المال. وسوف ندرس في هذا الملحق بصورةٍ فقهيةٍ موسّعةٍ حكم شرط الضمان على عامل المضاربة، أو غيره من الأمناء على أموال الآخرين ؛ لكي تتّضح مدارك الحكم الشرعي.

تارةً ندرس تحميل الضمان واشتراطه على عامل المضاربة بلحاظ القواعد العامة على أساس أنّه يندرج تحت عنوان الأمين ؛ لنعرف ما هو حكم شرط الضمان على الأمين.

وأخرى ندرس تحميل الضمان واشتراطه على عامل المضاربة بلحاظ الأخبار الخاصة الواردة في المضاربة، وتشخيص ما تقتضيه تجاه الشرط من صحةٍ أو بطلان. فالكلام يقع في موضعين :

الموضع الأوّل : في أنّ القواعد العامة هل تقتضي جواز اشتراط الضمان على الأمين بالمعنى الأعمّ أم لا ؟

١٨٥

ونريد بالأمين بالمعنى الأعمّ كلّ مَن وضع يده على المال بإذنٍ من المالك وتسليط منه، كالمستعير، والمستأجر، والأجير على حمل متاع، وعامل المضاربة، وغيرهم.

ونريد بالأمين بالمعنى الأخصّ مَن استأمنه المالك باستئمانٍ عقديّ، كما في الودعيّ الذي يتكفل عقد الوديعة استئمانه على المال واستنابته في حفظه. والأمين بهذا المعنى يندرج في الأمين بالمعنى الأعم.

[ أنحاء الضمان: ]

والبحث عن جواز اشتراط الضمان على عامل المضاربة وغيره من الأمناء بالمعنى الأعمّ ينقسم إلى بحثين ؛ لأنّنا تارةً نتكلّم عن تضمينه المال على تقدير تلفه، أي عن جعل ضمانٍ عليه بالنحو المشابه لما هو الثابت في موارد ضمان الغرامة.

وأخرى نتكلّم عن جعله ضامناً لا للمال على تقدير تلفه أو نقصه فحسب، بل للقيمة السوقية للمال أيضاً، وهذا مالا يكون مضموناً في موارد ضمان الغرامة عند المشهور، فلو أنّ المال تحت يد الغاصب المشمول لقانون ضمان الغرامة انخفضت قيمته السوقية نتيجةً لتقلّبات الأسعار في السوق لم يكلَّف الغاصب بتدارك القيمة، غير أنّنا في المقام نريد أن نبحث عن اشتراط الضمان على عامل المضاربة بحيث يكلّف بتدارك القيمة إذا انخفضت قيمة مال المضاربة ونقصت مالية المال فعلاً عن مالية رأس المال المدفوع إلى العامل.

وهكذا نعرف أنّ هناك نحوين من الضمان يجب أن نبحث عن جواز تحميلها واشتراطهما على عامل المضاربة أو أيّ أمينٍ آخر:

أحدهما: ضمان المال بالمعنى الموجب لاشتغال الذمّة بقيمته على تقدير

١٨٦

التلف.

والآخر: ضمان مالية المال وقيمته بالمعنى الموجب في حالة تنزّل قيمة المال إلى تدراكها.

اشتراط ضمان المال بالمعنى الأوّل:

أمّا ضمان المال بالمعنى الموجب لاشتغال الذمّة بقيمته على تقدير التلف فقد استشكل جمع من الفقهاء(١) في جواز اشتراط هذا الضمان على الأمين في عدّة موارد، ولهذا كان المعروف عدم نفوذ شرط الضمان على المستأجر. وعلى هذا الأساس استبدل جماعة من الفقهاء(٢) شرطَ الضمان بشرط دفع المستأجر لمالٍ يساوي قيمة العين المستأجرة إذا تلفت ؛ لأنّ هذا من شرط الفعل، ولا إشكال في صحّته.

وأهمّ الوجوه التي تقال لتقريب عدم نفوذ شرط الضمان ما يلي:

الأوّل: أنّ شرط الضمان من باب شرط النتيجة، وشرط النتيجة باطل ح لأنّ مفاد الاشتراط هو تمليك الشرط للمشروط له بقرينة موارد شرط الفعل، والنتائج لا تقبل أن تكون مضافةً إلى مالكٍ، فلا تكون شرطاً.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ مفاد الاشتراط في موارد شرط الفعل وشرط النتيجة

____________________

(١) راجع: تحرير الأحكام الشرعيّة للعلاّمة الحلّي ٣: ١١٧، وجامع المقاصد للمحقّق الكركي ٧: ٢٥٨، ومسالك الأفهام للشهيد الثاني ٥: ١٧٧.

(٢) راجع: العروة الوثقى للسيّد الطباطبائي: ٦٠٠، كتاب الإجارة، الفصل الرابع، ومستمسك العروة الوثقى للسيّد الحكيم ١٢: ٧٣، ومستند العروة الوثقى للسيّد الخوئي، كتاب الإجارة: ٢٣٣.

١٨٧

واحد، وحيث إنّنا نعرف أنّ مفاده في موارد شرط الفعل كشرط الخياطة مثلاً هو تمليك الخياطة للمشروط له بحسب الارتكاز العرفي، فكذلك يكون مفاد الاشتراط في موارد شرط النتيجة كالملكية والضمان مثلاً هو تمليك النتيجة، ولمّا كانت النتيجة لا تقبل التمليك فلا يُتَعقَّل اشتراطها.

وهذا التقريب فيه عدّة مواقع للنظر، أهمّها: أنّا لو سلّمنا أنّ شرط الفعل يستفاد منه بحسب الارتكاز العقلائي تمليك الفعل للمشروط له فليس معنى هذا أنّ المنشأ في مقام الاشتراط نفس تمليك الشرط ليقال: إنّ تمليك الشرط غير معقولٍ فيما إذا كان من النتائج، بل يمكن تصويره على نحوٍ آخر، وهو أن يكون مرجع الاشتراط إلى إنشاء النسبة بين الشرط والمشروط له بحيث يكون المنشأ بالشرط هو نفس المعنى الحرفي المدلول لّلام في قولك عند الاشتراط: لك عليّ خياطة الثوب أو ملكية الكتاب. وهذه بالنسبة التي يدلّ عليها اللام يدلّ إنشاؤها في موارد شرط الفعل على تمليك الشرط للمشروط له ؛ لأنّ الفرد الحقيقي من النسبة بين الخياطة والمشروط له غير قابلٍ للإنشاء، وإنّما هو قابل للإيجاد تكويناً بالإيجاد التكويني للخياطة(١) ، فيكون هذا قرينةً ارتكازيةً متّصلةً على أنّ مراد المنشئ في مقام إنشاء النسبة بين الخياطة والمشروط له الفردُ الاعتباري لهذه النسبة القابل للإنشاء، وهو الملكية الملحوظة بما هي معنىً حرفي ونسبة بين ذات المملوك وذات المالك. وبذلك يتحصّل من الاشتراط إنشاء ملكية الشرط.

____________________

(١) وقد لا يكون هناك فرد حقيقي للنسبة بين الخياطة والمشروط له، كما إذا اشترط البائع للمشتري أن يخيط ثوب شخص آخر، فلو فرض في هذا المورد تعلق الالتزام الشرطي بالنسبة بين الخياطة والمشتري فلا بدّ أن يراد الفرد العنائي الذي هو الملكية. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٨٨

وأمّا في موارد شرط النتيجة فالإنشاء يتعلّق أيضاً بالنسبة بين الشرط والمشروط له، أي بمفاد اللام، غير أنّ الفرد الحقيقي من النسبة بين الشرط والمشروط له قابل للإنشاء في المقام ؛ لأنّ الشرط بنفسه معنىً إنشائي، ونسبة كلّ معنىً إنشائيّ إلى موضوعه قابلة بالعرض للإيجاد الإنشائي لأجل قابلية ذلك المعنى للإنشاء، ويكون المراد حينئذٍ من إنشاء النسبة هو إيجاد فردها الحقيقي المساوق لإنشاء طرفها، أي الشرط.

وعلى هذا الأساس فإن أريد في التقريب السابق ادّعاء أنّ متعلّق الإنشاء في موارد شرط الفعل وشرط النتيجة واحد بحسب المراد الاستعمالي، وحيث إنّ متعلّق الإنشاء في موارد شرط الفعل هو تمليك الشرط، وحيث إنّ النتائج لا تُملَك، فلا يعقل شرط النتيجة، فجواب هذا الادّعاء هو: أنّنا نتحفظ على كون متعلّق الإنشاء على نسقٍ واحدٍ في موارد شرط الفعل أو شرط النتيجة، وليس هو ملكية الشرط، بل النسبة المدلول عليها باللام بين الشرط والمشروط له.

وإن أريد بالتقريب السابق ادّعاء أنّ المراد الجدّي من النسبة المنشأة بين الشرط والمشروط له لا بدّ أن يكون واحداً دائماً فهو غير صحيح ؛ لأنّ المناسبات الارتكازية في موارد شرط الفعل تكون كالقرينة المتّصلة على أنّ المراد الجدّي بالنسبة المنشأة بين الشرط والمشروط له هو الفرد الاعتباري منها، أي الملكية الملحوظة بما هي معنىً حرفي. وأمّا في موارد شرط النتيجة فلا توجد مثل تلك القرينة، فيحمل على الفرد الحقيقي للنسبة، ويكون إنشاؤه بعينه إنشاءً لطرفها.

وبهذا يندفع إشكال آخر يُورَد أيضاً على شرط النتيجة، وهو: أنّ مفاد الاشتراط إذا كان هو إنشاء تمليك الشرط فأين الإنشاء الذي يُنشأ به نفس الشرط إذا كان من النتائج ؟

وجوابه: أنّ مفاد الاشتراط ليس إنشاء تمليك الشرط بهذا العنوان، بل

١٨٩

إنشاء النسبة المدلولة لِلاّم بين الشرط والمشروط له، ومتى أريد بهذه النسبة فردها الاعتباري كان إنشاؤها إنشاءً لتمليك الشرط، كما هو الحال في موارد شرط الفعل. ومتى أريد بها فردها الحقيقي كان إنشاؤها بنفسه إنشاءً للشرط.

هذا كلّه بناءً على تسليم أنّ مفاد الاشتراط في موارد شرط الفعل هو تمليك الشرط. وأمّا إذا أنكرنا ذلك وقلنا: إنّ اللام في موارد الاشتراط متعلّقة بالالتزام، بمعنى أنّ البائع يلتزم لزيدٍ بالخياطة، لا أنّ الخياطة لزيدٍ يلتزم بها وينشئها، فلا يبقى بعد ذلك موضوع للتقريب المتقدّم.

الثاني : أنّ شرط الضمان مخالف لمِا دلّ على عدم الضمان الأمين ؛ فيكون من الشرط المخالف للكتاب.

ودعوى: أنّ عدم ضمانه لعدم المقتضي فلا يكون الشرط حينئذٍ مخالفاً للكتاب - بناءً على اختصاص المخالف بما كان على خلاف الحكم الاقتضائي - مندفعة بأنّ عموم (على اليد ما أخذت)(١) بعدما كان شاملاً ليد الأمين، ظاهر في وجود مقتضي الضمان في يده، فعدم ضمانه لابدّ أن يكون لمقتضي العدم.

والتحقيق في المقام: أنّ ما دل على عدم الضمان في المقام على قسمين:

القسم الأوّل: ما دلّ على نفي الضمان عن الأمين والمؤتمن بهذا العنوان.

والقسم الثاني: ما دلّ على نفي الضمان عن ذات المستأجر والأجير مثلاً من دون أخذ عنوان الأمين والاستئمان في موضوع النفي.

أمّا القسم الأوّل من أدلّة نفس الضمان فهو يدور مدار صدق عنوان الأمين والمؤتمن. ولا إشكال في صدق هذا العنوان على الودعيّ، بلحاظ أنّ المنشأ في عقد الوديعة من قبل المالك هو استئمانه واستنابته في الحفظ، وأمّا غيره من أفراد

____________________

(١) عوالي اللآلئ، لابن أبي جمهور الأحساني ١: ٢٢٤.

١٩٠

[ التخريج الثاني: ]

إنّ الفائدة إنّما تحرم بوصفها تؤدّي إلى ربويَّة القرض، والقرض الربويّ حرام. وأمّا إذا حوّلنا العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فلا تكون الفائدة رباً قرضياً، وتصبح بالتالي جائزة. وأمّا تحويل العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فيتمّ إذا استطعنا أن نميِّز بين الحالتين التاليتين:

الأولى : إذا افترضنا أنّ زيداً مَدينٌ لخالد بعشرة دنانير ومطالب بوفائها فيأتي إلى البنك ويقترض عشرة دنانير ويسدّد بها دَيْنه.

الثانية : أنّ زيداً في الفرض السابق يتّصل بالبنك ويأمره بتسديد دَيْنه ودفع عشرة دنانير إلى خالد وفاءً لِما لَه في ذمّته.

والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي أنّ زيداً سوف تبرأ ذمّته من دين خالد عليه، وسوف يصبح مديناً للبنك بعشرة دنانير، ولكنّ الفارق الفقهي بين الحالتين أنّ زيداً في الحالة الأولى يمتلك من البنك عشرة دنانير معيّنةً على أن يصبح مديناً بقيمتها، وهذا هو معنى القرض، فإنّه تمليك على وجه الضمان. وأمّا في الحالة الثانية فزيد لا يمتلك شيئاً، وإنّما تشتغل ذمّته ابتداءً بعشرة دنانير للبنك من حين قيام البنك بتسديد دينه. واشتغال ذمّته بذلك قائم على أساس أنّ البنك بوفائه من ماله الخاصّ لدَين زيدٍ قد أتلف على نفسه هذا المال، ولمّا كان هذا الإتلاف بأمرٍ من زيدٍ فيضمن زيد قيمة التالف، فالعشرة التي دفعها البنك إلى دائن زيدٍ لم تدخل في ملكية زيد، وإنّما هي ملك البنك ودخلت في ملكية دائن زيدٍ رأساً ؛ لأنّ وفاء دين شخصٍ بمال شخصٍ آخر أمر معقول، كما حقّقناه في محلّه، وهذا معناه أنّه لم يقع قرض في الحالة الثانية، وإنّما وقع أمر بإتلافٍ على وجه الضمان. فلو التزم

١٩١

زيد للبنك حين إصدار الأمر له بالوفاء بأن يعطيه أكثر من قيمة الدين إذا امتثل الأمر لم تكن هذه الزيادة الملتزم بها موجبةً لوقوع قرضٍ ربوي ؛ لأنّ الضمان ليس ضماناً قرضياً، وإنّما هو ضمان بسبب الأمر بالإتلاف.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ الربا المحرّم إنّما يكون في المعاملة كعقد القرض أو البيع أو الصلح ونحو ذلك، وأمّا ضمان الغرامة بقانون الأمر بالإتلاف فهو لا يستبطن تمليكاً معاملياً فلا يجري فيه الربا المحرّم، فلا يكون فرض زيدٍ في هذه الحالة فائدةً للبنك من الفائدة القرضية المحرّمة.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب بأمرين:

الأوّل : أنّ الدليل الدالّ على حرمة إلزام الدائن مدينَه بزيادةٍ على الدين الذي حصل بالقرض يدلّ عرفاً - وبإلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي - على حرمة إلزام الدائن مدينَه بالزيادة فيما إذا كان الدين حاصلاً لا بسبب القرض، بل بسبب الأمر بالإتلاف، كما في المقام بحسب الفرض ؛ لأنّ التفرقة بين الحالتين تعني أنّ المدين إذا أصبح مديناً في مقابل تملّك شيءٍ بالقرض فلا يجوز إلزامه بالزيادة، وإذا أصبح مديناً لا في مقابل تملّك شيءٍ فيجوز إلزامه بالزيادة، فكأنّ تملّك شيءٍ له دخل في الإرفاق به وتحريم إلزامه بالزيادة، وهذا على خلاف الارتكاز العرفي، وعليه فتثبت حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية أيضاً.

الثاني : أنّا إذا سلّمنا عدم حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية لعدم كونها زيادةً في عقد القرض فلا بدّ من سببٍ معامليّ يجعل المدين ملزماً بدفع الزيادة، والمفروض عدم وجود عقد القرض لكي يُشترط على المدين في ضمن ذلك العقد دفع الزيادة.

وقد يراد تصوير هذا السبب عن طريق جُعالةٍ يجعلها زيد فيقول للبنك: إذا

١٩٢

سددت ديني البالغ عشرة دنانير فلك دينار، فيستحقّ البنك حينئذٍ عشرة دنانير بقانون ضمان الغرامة، وديناراً بقانون الجُعالة بإزاء عمله وهو تسديد الدين، وهذه الجعالة تختلف عن الجعالة التي مرّت بنا في الوجه السابق ؛ لأنّ تلك جعالة على عملية الإقراض، أي بإزاء التمليك على وجه الضمان. وأمّا هذه فليست جعالةً على التمليك ؛ لِمَا تقدّم من أنّه لا يوجد تمليك من البنك لزيدٍ في الحالة الثانية التي ندرسها الآن، وإنّما هي جعالة على تسديد البنك لدين زيدٍ على أساس أنّ هذا التسديد عمل محترم يمكن فرض جعالةٍ له.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ هذه الجعالة تواجه نفس الاعتراض الذي أثرناه على الجعالة المتقدّمة في التقريب السابق ؛ لأنّ تسديد البنك لدين زيدٍ ليس له ماليَّةٌ إضافية وراء مالية نفس المال الذي يسدّده لخالد بعنوان الوفاء. والمفروض أنّ هذا المال المسدَّد مضمون فلا يتحمّل المورد ضماناً آخر لنفس عملية التسديد. وإذا لم يُتصوّر الضمان لم تصحَّ الجعالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّها لا تنشئ الضمان، وإنّما تحدِّده في الجعل المعيَّن.

نعم، إذا افترضنا أنّ تسديد البنك لدين زيدٍ كانت له قيمة مالية زيادةً على القيمة المالية للمال المسدَّد جاء فيه ضمان الغرامة، وبالتالي صحَّت الجعالة فيه، وذلك كما إذا كان تسديد البنك لدين زيدٍ يتمثّل في جهدٍ زائدٍ على مجرّد دفع المال إلى دائن زيد، وذلك حين يكون دائن زيدٍ في بلدٍ آخر مثلاً ويأمر زيدٌ البنكَ بإرسال مبلغٍ من المال إلى ذلك البلد ودفعه إلى دائنه، فإنّ ممارسة البنك لهذه العملية لها قيمة مالية زائدة على القيمة المالية لنفس المال المدفوع، وهذه القيمة المالية الزائدة مضمونة على زيدٍ بسبب أمره للبنك بتسديد دينه وتحويله إلى دائنه، وفي مثل هذه الحالة يمكن لزيدٍ أن يقوم بجعالةٍ معيّنةٍ فيجعل للبنك جعلاً خاصّاً على عملية التحويل والتسديد.

١٩٣

[ التخريج الثالث: ]

وهنا تقريب يختصّ ببعض القروض، وهي ما كان من قبيل القروض التي تدفع إلى المدين خارج البلاد. فمثلاً: قد يتقدّم شخص إلى البنك في بغداد طالباً منه أن يزوِّده بخطابٍ إلى وكيله في الهند يأمره فيه بإقراضه مبلغاً معيّناً من المال، فيزوّده البنك بهذا الخطاب، ثمّ يقدِّمه الشخص إلى الوكيل في الهند ويقترض بموجبه المبلغ المحدَّد. وعقد القرض هنا وقع في هذا المثال في الهند.

ومن حقّ المقِرض - بمقتضى إطلاق عقد القرض - إلزام المقترِض بالوفاء في نفس مكان القرض ؛ لأنّ مكان وقوع القرض هو الأصل في مكان الوفاء بمقتضى الإطلاق. وعليه فيكون من حقّ البنك أن يطالب مدينَه بالوفاء في نفس المكان الذي تَمَّ في إقراضه عن طريق وكيله في الهند، غير أنّ المدين غير مستعدٍّ لذلك، فإنّه يريد الوفاء في العراق حالة رجوعه من سفره، لا في الهند، فيمكن للبنك في هذه الحالة أن يطالب بمقدار الفائدة لا بإزاء المال المقترض، بل بإزاء تنازله عن الوفاء في ذلك المكان المعيّن. وليس هذا رباً ؛ لأنّ البنك في الواقع قد أقدم على الإقراض مستعدّاً لقبول نفس المبلغ إذا دفع له في نفس المكان، وإنّما يطالب بالزيادة لقاء تنازله عن المكان، فيكون المقترض بين أمرين: فإمَّا أن يقتصر على دفع نفس المبلغ على أن يدفعه في نفس المكان الذي وقع فيه القرض، وإمَّا أن يدفع زيادةً عليه لقاءَ إسقاط الدائن حقّه في الوفاء في المكان المعيّن. وسوف يختار المقترض الأمر الثاني.

وفي الواقع أنّ هذا الوجه هو الذي جوّزنا للبنك على أساسه أن يأخذ عمولةً على التحويل، كما يأتي مفصَّلاً. ولكن لا يمكن استخدام البنك اللاربوي

١٩٤

لهذا الوجه لكي يطالب بكامل مقدار الفائدة الربوية بإزاء إسقاط حقّ المكان إلاّ بأن ينقلب القرض ربوياً ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يوافق على تسلّم نفس المبلغ دون زيادةٍ إذا دفع إليه في مكان القرض، وإمّا أن يرفض تسلّم المبلغ بدون زيادةٍ ولو دفع إليه في ذلك المكان. فإن كان يرفض تَحَوَّل القرض بذلك إلى قرضٍ ربوي، وإن كان يوافق فبإمكان المدين حين يحلّ أجَل دَينِه وهو في العراق وتتوفّر لديه قيمة الدين الذي اقترضه أن يتّصل ببنكٍ آخر من البنوك الأخرى الربوية، ويطلب منه تحويل قيمة الدين إلى مكان القرض - أي الهند في المثال المتقدّم - ولا تطلب منه البنوك الربوية حينئذٍ إلاّ أجرة زهيدةً على التحويل ؛ لأنّه سوف يدفع القيمة إليها نقداً.

[ التخريج الرابع: ]

ما هو شائع في بعض الأوساط الفقهية من إمكان تحويل القرض إلى بيع فيخرج بذلك عن كونه ربوياً ما دام النقد من الأوراق النقدية التي لا تمثّل ذهباً ولا فضةً، ولا تدخل في المكيل أو الموزون، فبدلاً عن أن يقرض البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ فيكون قرضاً ربوياً، يبيع البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين مثلاً، والثمن هنا وإن زاد على المثمن مع وحدة الجنس ولكنّ ذلك لا يحقّق الربا المحرَّم في البيع ما لم يكن العوضان من المكيل أو الموزون. والدينار الورقي ليس مكيلاً ولا موزوناً، فيتوصّل البنك بهذا الطريق إلى نتيجة القرض الربوي عن طريق البيع.

وقد يقال: إنّ هذا لا يحقّق كلّ مكاسب القرض الربوي المحرَّم ؛ لأنّ الشخص الذي أخذ ثمانية دنانير مع تأجيل الوفاء إلى شهرين مثلاً لو كان أخذها

١٩٥

على أساس القرض الربوي فبإمكان البنك المقرِض على هذا الأساس أن يلزمه بفائدةٍ جديدةٍ فيما إذا تأخّر عن الدفع بعد شهرين. وأمّا إذا كان قد أخذها على أساس الشراء بمعنى أنّه اشترى ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين، فليس للبنك أن يطالبه إلاّ بالثمن المحدَّد في عقد البيع والشراء - وهو عشرة - حتى لو تأخّر عن الدفع بعد شهرين. ولو طالبه بفائدةٍ على التأخّر كان ذلك فائدةً على إبقاء الدين، ويعود حينئذٍ محذور الربا المحرَّم.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك: بأن يشترط بائع الثمانية بعشرةٍ على المشتري في عقد البيع أن يدفع درهماً مثلاً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه المشتري عن دفع الثمن المقرّر من حين حلول أجله، ولا يكون هذا رباً، فإنّ إلزام المدين هنا بدفع الدرهم يكون بحكم البيع، لا بحكم عقد القرض، وليس في مقابل الأجل، فكما كان يمكن للبائع أن يشترط على المشتري أن يهب له درهماً في كلِّ شهرٍ إلى سنةٍ ويكون المشتري ملزماً حينئذٍ بذلك كذلك له أن يشترط عليه أن يدفع له درهماً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه عن دفع الثمن. فليس الشرط هو شرط أن يكون له درهماً في جميع الشهور التي تسبق دفع الثمن من حين حلول الأجل، وحيث إنّه شرط في عقد البيع فيكون لازماً.

والحاصل: أنّ اشتراط دفع شيءٍ في عقد القرض غير جائز ؛ لأنه يُصيِّر القرض ربوياً. كما أنّ اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل بنحو شرط النتيجة غير جائز ولو وقع ضمن عقد بيع ؛ لأنّه من اشتراط الربا. وفي المقام: الشرط المدّعى لا هو واقع في عقد القرض ليؤدّي إلى وجود قرضٍ ربوي، ولا هو من اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل ليكون من اشتراط الربا المحرَّم، فلا مانع من نفوذه.

١٩٦

وبذلك يحصل البنك المقرِض على تمام مكاسب الربا.

والتحقيق: أنّ بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ في الذمّة لا يجوز تبعاً للسيّد الأستاذ (دام ظلّه الوارف)(١) ؛ لأنّه في الحقيقة وبحسب الارتكاز العرفي قرض قد ألبس ثوب البيع، فيكون من القرض الربوي المحرَّم.

وليس هذا بتقريب أنّ البيع لا يصدق على مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ البيع متقوّم بالمغايرة بين الثمن والمثمن، ولا مغايرة في المقام بينهما ؛ لأنّ الثمن ينطبق على نفس المثمن مع زيادة. فإنّ هذا التقريب يندفع بكفاية المغايرة الناشئة من كون المثمن عيناً خارجيةً والثمن أمراً كلّياً في الذمّة، ومجرّد قابليته للانطباق ضمناً على تلك العين لا ينافي المغايرة المصحِّحة لعنوان البيع، وإلاّ لَلزم البناء على عدم صحة بيع القيمي بجنسه في الذمّة مع الزيادة، كبيع فرسٍ بفرسين في الذمّة، مع أنّ هذا منصوص على جوازه في بعض الروايات(٢) . وهذا يكشف عن المغايرة المقوِّمة لحقيقة البيع يكفي فيها هذا المقدار، فليس الإشكال إذن من جهة عدم تحقّق المغايرة.

بل المهمّ في الإشكال دعوى صدق القرض على هذه المعاملة وإن أنشئت بعنوان البيع، وذلك بتحكيم الارتكاز العرفي إمّا بلحاظ الصغرى، أي تشخيص المراد الجدّي للمتعاملين، فيقال: إنّ المراد المعاملي لهما جدّاً بقرينة الارتكاز هو القرض، وليس الإنشاء بالبيع إلاّ من باب تغيير اللفظ. , وإمّا بلحاظ الكبرى، أي بتوسعة دائرة القرض بحسب الارتكاز العرفي بحيث يشمل هذه المعاملة وإن اُريد بها البيع جدّاً.

____________________

(١) منهاج الصالحين (للسيّد الخوئي) ٢: ٥٤ - ٥٥، المسألة ٢٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٣، الباب ١٦ من أبواب الربا، الحديث ٣.

١٩٧

أمّا تحكيم الارتكاز العرفي بلحظ الصغرى وجعله قرينةً على تشخيص المراد الجدّي للمتعاملَين فقد يقال في دفعه: إنّ المقصود بالمراد الجدّي الذي يستكشف بلحاظ الارتكاز إن كان هو الغرض الشخصي للبائع والمشتري من المعاملة، فمن الواضح أنّ مجرّد كون الغرض الشخصي من هذه المعاملة نفس الغرض الشخصي في موارد القرض لا يخرجها عن كونها بيعاً ؛ لأنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين ليست مقوّمةً لأنواع المعاملات المختلفة.

وإن كان المقصود بالمراد الجدّي المنشأ جدّاً في المعاملة فمن الواضح أيضاً أنّ الإنشاء الجدّي سهل المؤونة ؛ لأنّه يرجع إلى الاعتبار، ولا معنى لتحكيم ارتكازٍ خارجيّ على اعتبارات المتعاملَين، إذ بإمكان البائع والمشتري أن يُنشئا التمليك بعوضٍ في مقام الجعل والاعتبار بدلاً عن إنشاء التمليك على وجه الضمان.

ودعوى: أنّ التمليك بعوضٍ في مقام بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة عين التمليك على وجه الضمان ؛ ولهذا يكون قرضاً، مدفوعة: بأنّ التمليك بعوضٍ يشتمل على جعل الضمان المعاوضي، ولهذا يحصل التمليك والتملّك بنفس العقد في البيع، وأمّا التمليك على وجه الضمان فهو لا يشتمل على الضمان المعاوضي، بل على التمليك بنحوٍ يستتبع جريان قانون ضمان الغرامة بتفصيلٍ لا يسعه المقام. ولهذا كان نفوذ القرض على القبض، ولم يكن عقد القرض مشتملاً على المعاوضة.

وهكذا يتّضح أنّ التمليك بعوضٍ والتمليك على وجه الضمان مجعولان اعتباريان مختلفان، وإن تصادفا بحسب النتيجة في مورد تبديل ثمانية دنانير خارجيةٍ بمثلها في الذمّة.

١٩٨

ولهذا فقد يكون من الأفضل التمسّك بالارتكاز العرفي وتحكيمه بلحاظ الكبرى، بحيث يقال: إنّه لمَّا كان القرض بمقتضى الأصل في الارتكاز العقلائي هو تبديل المال المثليِّ الخارجيِّ بمثله في الذمّة - وتعميمه للقيميات ليس إلاّ بنحوٍ من العناية - فيصدق عرفاً عنوان القرض على المعاملة التي تتكفّل بهذا التبديل ولو كان المنشأ فيها عنوان التمليك بعوض. فالعرف لا يريد من كلمة (القرض) إلاّ المعاملة التي تؤدّي إلى ذلك النحو من التبديل، ومعه يصبح بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة قرضاً عرفياً، وتلحقه أحكام القرض التي منها عدم جواز الزيادة.

[ التخريج الخامس: ]

وقد يقال انطلاقاً من فكرة تبديل القرض ببيع: إنّ الدنانير الثمانية في المثال السابق لا تُباع بثمانية دنانير في الذمّة مع زيادة دينارين - أي بعشرةٍ - ليقال: إنّ هذا يعتبر في النظر العرفي قرضاً ؛ لأنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، بل تباع بعملةٍ أخرى تزيد قيمتها على الدنانير الثمانية بحسب أسعار الصرف بمقدار ما تزيد العشرة على الثمانية.

مثلاً: تباع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تُومان في الذمّة، وحيث إنّ النقود الورقية من هذا القبيل لا يجري عليها أحكام بيع الصرف فلا يجب فيها التقابض في المجلس، بل يجوز أن يكون الثمن مؤجّلاً إلى شهرين، وفي نهاية شهرين يمكن للبائع أن يتقاضى من المشتري (٢٠٠) تومان، أو ما يساوي ذلك من الدنانير العراقية من باب وفاء الدين بغير الجنس.

وهكذا تحصل نفس النتيجة المقصودة لمن يريد أن يقرض قرضاً ربوياً دون قرض.

١٩٩

ولئن قبل في بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ: إنّه قرض لكونه تبديلاً للشيء بمثله في الذمّة، فلا يقال هذا في بيع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ؛ لعدم المماثلة فيكون طابع البيع هو الطابع الوحيد لهذه المعاملة.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا لم نَدَّعِ قَرضيَّة هذه المعاملة أيضاً بحسب النظر العرفي بضمّ ارتكاز إلى الارتكاز السابق الذي كان فحواه: أنّ كلّ معاملةٍ مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمّة تعتبر قرضاً عرفاً. والارتكاز الجديد الذي لا بدّ من ضمّه هو ارتكاز النظر في باب النقود إلى ماليّتها دون خصوصياتها، وهذا الارتكاز معناه أنّ المنظور إليه عرفاً من بيع ثمانية دنانير بكذا توماناً هو تبديل ماليةٍ بمالية، وحينئذٍ يشمله عنوان القرض بالنحو المقرّر في الارتكاز السابق ؛ إذ يصدق عليه أنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، إذ بعد أن كان المركوز في النظر العرفي ملاحظة المالية فقط في الدنانير والتُوامين التي وقعت مثمناً وثمناً، فلا يبقى تغاير بين الثمن والمثمن إلاّ في كون أحدهما خارجياً والآخر ذمّياً، وهذا معنى تبديل الشيء إلى مثله في الذمّة الذي هو معنى القرض بمعناه الارتكازي الأوسع الذي يشمل بعض البيوع أيضاً.

فهذا التقريب لا يتمّ أيضاً إذا تمّت الارتكازات المشار إليها، وإلاّ أمكن تصحيحه إذا توفّرت الإرادة الجدّية لمبادلة ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ولم تكن التوامين مجرّد ثمن مأخوذٍ في مقام اللفظ، أو في مقام اعتبارٍ غير جدّيّ يغطّي وراءه الثمن الحقيقي الذي هو عشرة دنانير.

[ التخريج السادس: ]

يمكن للبنك أن يعتبر نفسه وكيلاً عن المودِعين في الإقراض من أموالهم، فهو حين يقرض من الودائع التي لديه يحتفظ لهذه الودائع بملكية أصحابها

٢٠٠