البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام0%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 273
المشاهدات: 32356
تحميل: 5144

توضيحات:

البنك اللاربوي في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32356 / تحميل: 5144
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

سياسة الأطروحة المقترحة

وحديثنا الآن عن أطروحة البنك اللاربوي المقترحة يجب أن يكون بروح الموقف الثاني ؛ لأنّ المفترض بقاء الواقع كما هو من سائر نواحيه: الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، ولو كنّا نعالج الموضوع بروح الموقف الأوّل لكان لنا حديث غير هذا الحديث.

وروح الموقف الثاني تفرض علينا أن نفتّش عن صيغةٍ شرعيةٍ معقولةٍ للبنك اللاربوي، ولكي تكون الصيغة المقترحة كذلك يجب أن تتوفّر فيها عناصر ثلاثة:

الأوّل: أن لا يكون البنك المقترح مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية.

الثاني: أن يكون البنك قادراً على التحرّك والنجاح في الجوّ الفاسد للواقع المعاش، أي أن لا تخلق صيغته الإسلامية فيه تعقيداً وتناقضاً شديداً مع واقع المؤسسات الربوية الرأسمالية وجوّها الاجتماعي العام بالدرجة التي تشلّه عن الحركة والحياة.

نقول هذا فعلاً، بينما لم يكن هذا التناقض الشديد ليشكّل خطراً على البنك اللاربوي لو أتيح لنا الموقف الأوّل ؛ إذ نستأصل حينئذٍ كلّ المؤسّسات الربوية ونجتثّ كلّ جذورها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهكذا نعرف أنّ

٢١

الصعوبة لا تكمن في إعطاء صيغةٍ إسلامية لاربوية للبنك، بل في إعطائه هذه الصيغة مع افتراض أن يعيش ضمن الواقع الفاسد ومؤسّساته المختلفة.

الثالث: أن تُمكّن الصيغة الإسلامية البنك اللاربوي لا من النجاح كمؤسسةٍ تجاريةٍ تتوخّى الربح فحسب، بل لابدّ للبنك اللاربوي هذا أن يكون قادراً ضمن تلك الصيغة على النجاح بوصفه بنكاً، أي أن يؤدّي في الحياة الاقتصادية نفس الدور الذي تقوم به البنوك فعلاً، من تجميع رؤوس الأموال العاطلة ودفعها إلى مجال الاستثمار والتوظيف على أيدي الأكفاء من رجال الأعمال، وتمويل القطاعات التجارية والصناعية والقطاعات الأخرى بما تحتاجه من المال، وتكثير وسائل الدفع التي تعوّض عن العملة، وتساهم في اتّساع حركة التبادل ونشاطها من شيكاتٍ (صكوك) وغيرها.

وإضافةً إلى ذلك لا بدّ للبنك - لكي ينجح باعتباره بنكاً في بلدٍ من البلاد النامية - أن يؤدّي دوراً طليعياً في تنمية اقتصاد البلد الذي يشكّل البنك جهازاً من أجهزته المالية الحسّاسة، وأن يساهم مساهمةً فعّالةً في تطوير الصناعة في ذلك البلد ودفعها إلى الأمام.

نستخلص من ذلك: أنّ سياسة البنك اللاربوي المقترَح يجب أن توضع على ثلاثة أسس:

أولاً: أن لا يخالف أحكام الشريعة المقدّسة.

ثانياً: أن يكون قادراً على الحركة والنجاح ضمن إطار الواقع المعاش بوصفه مؤسّسةً تجاريةً تتوخّى الربح.

ثالثاً: أن تمكّنه صيغته الإسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، ومن ممارسة الدور الذي تتطلّبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك، وما تتطلّبه

٢٢

ظروف الاقتصاد النامي والصناعة الناشئة من ضرورة التدعيم والتطوير.

وعلى ضوء هذه السياسة سوف نتحدّث عن الأطروحة المقترحة للبنك دون أن نتقيّد بحصر نشاط البنك المقترَح في نطاق الدائرة التقليدية لنشاطات البنوك التجارية (بنوك الخصم والودائع)، أو الدائرة التقليدية لنشاطات بنوك التخصّص (بنوك العمّال)، أو أيّ دائرةٍ أخرى محدودةٍ من هذا القبيل، بل إنّنا سوف نفكّر في أيّ نشاط يمكن أن يقوم به البنك إذا كان منسجماً مع الأسس الثلاثة المتقدّمة، سواء كان هذا النشاط من اختصاص هذه الدائرة أو تلك.

٢٣

٢٤

المعالم الأساسية

للسياسة المصرفية الجديدة

يمكننا أن نلخّص المعالم الرئيسية للسياسة المصرفية الجديدة التي تحدّد بموجب الأسس المتقدّمة في ما يلي:

أولاً: الاتّجاه إلى إبراز عنصر العمل البشري في النشاطات المصرفية بوصفه مصدرَ دخل، والاتّجاه عكسياً إلى الحدّ من دخل رأس المال. فبينما البنك الربوي يمارس عمله بوصفه شخصيةً رأسماليةً ويركّز على دخله بهذا الوصف، يتّجه البنك اللاربوي إلى التأكيد على صفته كعامل، ويركّز على دخله المستمّد من هذا الوصف.

ويتمثّل هذا الاتّجاه من ناحيةٍ في تأكيد البنك اللاربوي على العمولة بوصفها أجرة عملٍ، واهتمامه بتوسيع نطاق دخله القائم على أساس العمولات. ومن ناحيةٍ أخرى في تعفّفه عن فائدة القرض بوصفها أجرة رأس المال والممثّلة لسلطانه الربوي.

وثانياً: الاتّجاه إلى الاحتفاظ مهما أمكن بروح الوساطة في الدور الذي يمارسه البنك بين المودِعين والمستثمِرين، وصياغة موقفه القانوني منهم بصورةٍ تُجسّد الوساطة.

٢٥

وبالرغم من أنّ الظروف الربوية القاهرة التي تحيط بالبنك اللاربوي تمنعه في كثيرٍ من الأحيان من تجسيد الاتّجاهات التي يتبنّاها تجسيداً كاملاً إلاّ أنّها لا تمنعه - على أيّ حالٍ - من التعبير عنها بشكلٍ من الأشكال. وبذلك يحمل البنك اللاربوي - على أقلّ تقديرٍ - بذرة التغيير الإسلامي الشامل في نظام الصيرفة، ويهيّئ للمسلمين الانفتاح على أطروحةٍ تسير في خطّة هذا التغيير ولو على المستوى النظري أحياناً. هذا، إلى جانب ما يكسبه البنك اللاربوي من شرف الالتزام فعلاً بأحكام الشريعة الإسلامية والتقيّدِ بحدود الله تعالى.

وثالثاً: استعداد البنك اللاربوي لتحمّل أعباء التجربة الجديدة في سبيل إشاعة الروح الإسلامية في نظام البنك اللاربوي، واستعداده للتضحية بشيءٍ من الربح، أو المخاطرة حين يتطلّب إنجاح الأطروحة شيئاً من ذلك ؛ لأنّ مؤسّسي البنك اللاربوي إذا كانوا يريدون أن يقدّموا أطروحةً جديدةً للعالم يُجسَّدون فيها بعض قيم الرسالة الإسلامية وروحها العظيمة فلا بدّ أن يتحلََّوا إلى جانب روحهم التجارية بروحٍ رساليةٍ ودوافع عقائديةٍ تجعلهم يُحِسّون دائماً بأنّ العمل الذي يمارسونه ليس مجرّد عملٍ تجاريّ لأجل الربح فحسب، بل هو إضافةً إلى ذلك - لا بدلاً عن ذلك - أسلوب من أساليب الجهاد في حمل أعباء الرسالة، والإعداد لاستنقاذ الأمة من أوضاع الكفر وأنظمته، وكلّ جهادٍ يتطلّب التضحية ويفرض على المجاهد البذل والعطاء.

فالبنك اللاربوي بحكم إقدامه على هذا العمل الرسالي الضخم - في عالمٍ يزخر بالربا - يجب أن يتّجه إلى دراسة أرباحه لا بلغة الأرقام المادية فحسب، بل يُدخل في أرباحه المكاسب العظيمة التي يحقّقها بعمله بأشرف رسالات السماء على الأرض، وهو أولى بتحمّل أعباء التجربة والتضحية ببعض الأرباح من

٢٦

المودِعين أو المستثمِرين الذين لم يعيشوا الدوافع الرسالية للبنك، ولم يرتفعوا إلى مستوى الهمِّ الكبير الذي دفع أصحاب فكرة البنك اللاربوي إلى تقديم أطروحتهم الجديدة إلى العالم.

ورابعاً: البحث عن متنفَّسٍ للبنك اللاربوي يستطيع عن طريقه أن يمارس عمله الفريد النبيل في الاقتراض بلا فائدة، في عالمٍ يسوده نظام الربا والقروض بفوائد من أقصاه إلى أقصاه. وتقوم الفكرة في هذا المتنفّس على تمييز البنك اللاربوي في تعامله بين الجهات التي صنعت ذلك الوضع الشاذّ الربويّ في العالم وغيرها.

فبينما يُحجِم البنك اللاربوي عن إقراض الأشخاص والهيئات بفائدةٍ تَعفُّفاً عن الربا يسمح لنفسه أن يودِع بفائدةٍ في بنوك أشخاص لا يؤمنون بالإسلام، أو بنوك حكومات لا تطبِّق الإسلام. فالبنك كمقرِض لا يأخذ فائدةً من المقترِض، ولكنّه كمودِع في تلك البنوك يمكنه أن يأخذ الفائدة ؛ والمبرّر الواقعي لذلك هو أنّ الوضع الفعلي لهذه البنوك هو المسئول عن الحرج الذي يلقاه البنك المؤمّن في ممارسة نظامه اللاربوي.

والتخريج الفقهي لذلك يقوم على أساس عدّة أحكامٍ، على رأسها الرأي الفقهيّ القائل بجواز التعامل مع الكافر غير الذمّي بالربا وأخذ الزيادة منه، وهو قول يتّفق عليه علماء المذهب الإمامي، ويذهب إليه غيرهم من علماء المسلمين أيضاً، كإمام المذهب الحنفي(١) .

____________________

(١) مقدمات ابن رشد ضمن المدوّنة الكبرى ٣: ٢٨. ونقله عن أبي حنيفة في المجموع ٩: ٤٨٨.

٢٧

٢٨

نظام البنك اللاربوي

سوف يقع حديثنا عن نظام البنك اللاربوي في فصلين:

أحدهما: في النقطة الرئيسية في البحث، وهي طريقة إنقاذ البنك المزمع إنشاؤه من التعامل بالربا، والذي يتمثّل لدى البنوك القائمة فعلاً بصورةٍ رئيسيةٍ في الإيداع لدى البنك بفائدة، والاقتراض منه بفائدة، والذي يعبِّر عن المصدر الرئيسي للتناقض بين تلك البنوك وبين أحكام الإسلام.

وطريقة إنقاذ البنك من التعامل بالربا والقضاء على أساس التناقض بينه وبين أحكام الإسلام يتمّ بتقديم أطروحةٍ تُنظِّم علاقاته بالمودِعين والمستثمِرين على أساسٍ جديدٍ يختلف عن نظام الإيداع والإقراض بفائدة(١) .

والفصل الآخر: نستعرض فيه الوظائف الأساسية التي تمارسها البنوك القائمة فعلاً، وما تشتمل عليه من خدمات وتسهيلاتٍ واستثمارات، وندرسها في ضوء الأطروحة السابقة ؛ لنعرف حكم الشريعة الإسلامية بشأنها، وموقف البنك

____________________

(١) راجع لأجل التوسّع علمياً في التخريجات الفقهية للفائدة الربوية وتحويلها إلى كسبٍ محلّلٍ الملحق رقم (١) في آخر الكتاب (المؤلف قدس‌سره ).

٢٩

اللاربوي من مختلف تلك النشاطات(١) .

____________________

(١) لم نتّبع في تصنيف البحث المنهج الأكثر شيوعاً الذي ينوّع البحث إلى دراسة مصادر أموال البنك أوّلاً، ودراسة استعمالاته لتلك الأموال ثانياً ؛ لأنّ هذا المنهج ينسجم مع وضع البنك الربوي وطبيعة نشاطه، ولا ينسجم مع أطروحة البنك اللاربوي التي نحاول تقديمها ؛ إذ في البنك الربوي يمكن أن تدرس طريقة حصوله على الودائع الثابتة في نطاق البحث عن مصادر أموال البنك، وتدرس طريقة استعماله لتلك الودائع في التسليف والإقراض في نطاق البحث عن استعمالات البنك لأمواله ؛ لأنّ حصول البنك الربوي على الوديعة الثابتة واستعماله لها في مجال الإقراض عمليتان مستقلّتان يمكن دراستهما تباعاً.

وأمّا في البنك اللاربوي فلا يمكن فصل هذين الأمرين أحدهما عن الآخر ؛ لأنّ حصول البنك اللاربوي على الوديعة الثابتة واستعماله لها يمثّلان معاً جزأين من عمليةٍ واحدة، وهي المضاربة، فلابدّ من دراسة للمضاربة بكلّ عناصرها، ولا تصحّ تجزئتها وتفكيك بعض جوانبها عن بعض.

وهذا ما جعلنا نؤثِر تصنيف البحث بالطريقة التي اتّبعناها ؛ لنُبرِز في الفصل الأوّل عملية المضاربة بكامل جوانبها المترابطة وإن أدّى ذلك إلى دمج الحديث عن بعض استعمالات البنك بالحديث عن مصادر أمواله في فصلٍ واحد.

وهكذا ندرس في الفصل الأوّل الأطروحة المقترحة التي تنبغي أن تقع، و ندرس في الفصل الثاني الواقع القائم للبنوك وما يضمّ من نشاطاتٍ على ضوء تلك الأطروحة. (المؤلف قدس‌سره ).

٣٠

الفصل الأوّل:

الأطروحة الجديدة لتنظيم علاقة البنك بالمودعين والمستثمرين

* تنظيم علاقات البنك في مجال الودائع الثابتة.

* الودائع المتحرّكة.

* ملاحظات عامّة حول البنك اللاربوي.

٣١

٣٢

تتكوّن الموارد المالية للبنك عادةً من رأس المال الممتلك للبنك - أي رأس المال المدفوع مضافاً إليه الأرباح المتراكمة غير الموزّعة - ومن الودائع التي يحصل عليها ويتمثّل فيها الجزء الأكبر من موارده.

وتنصبّ أهمّ نشاطات البنك الربوي على الاقتراض بفائدةٍ أو بدون فائدةٍ - فإنّ قبوله للودائع الثابتة اقتراض بفائدةٍ، وقبوله للودائع المتحرّكة اقتراض بدون فائدة، كما سيأتي - ثمّ الإقراض بفائدةٍ أكبر. ويتكوّن دخله الربوي من الفائدة التي يتقاضاها - في حالة اقتراضه بدون فائدة - أو من الفارق بين الفائدتين في الحالة الثانية.

ويستمدّ البنك الربوي أهمّيته في الحياة الاقتصادية من كونه قوةً قادرةً على تجميع رؤوس الأموال العاطلة ؛ بإغراء الفائدة التي يعطيها للمودِعين ودفعها إلى مجال الاستثمار باسم قروضٍ لرجال الأعمال، ومختلف المشاريع التي تحتاج إلى تمويل.

وعلى هذا الضوء نعرف أنّ العلاقة التي يمارسها البنك مع المودِعين من ناحيةٍ ومع المستثمِرين من ناحيةٍ أخرى هي علاقة وسيطٍ بين رأس المال والعمل إذا نظرنا إلى طبيعتها الاقتصادية.

٣٣

وأمّا إذا نظرنا إلى طبيعتها القانونية أي إلى الصياغة القانونية لتلك العلاقة في المجتمع الرأسمالي نرى أنّ القانون صاغها عن طريق تجزئتها إلى علاقتين قانونيّتين مستقلّتين:

إحداهما: علاقة البنك بالمودِعين بوصفه مديناً وبوصفهم دائنين.

والأخرى: علاقة البنك مع رجال الأعمال المستثمِرين، الذين يلجئون إلى البنك للحصول على المبالغ التي يحتاجونها من النقود، وفي هذه العلاقة يحتلّ البنك مركز الدائن، ورجال الأعمال مركز المَدين.

ومعنى هذا أنّ البنك لم يعد في الإطار القانوني مجرّد وسيطٍ بين رأس المال والعمل، أي بين المودِعين والمستثمِرين، بل أصبح طرفاً أصيلاً في علاقتين قانونيّتين، وانعدمت بحكم ذلك أيّ علاقةٍ قانونيةٍ بين رأس المال والعمل، بين المودِعين والمستثمِرين، فأصحاب الودائع ليس لهم أيّ ارتباطٍ قانونيّ برجال الأعمال، وإنّما هم مرتبطون بالبنك ارتباط دائنٍ بمدين، كما أنّ رجال الأعمال المستثمِرين غير مرتبطين بأحدٍ سوى البنك بالذات الذي يدخلون معه في علاقة مَدين بدائن.

والبنك بوصفه مديناً للمودِعين يدفع إليهم الفائدة إذا لم تكن ودائعهم تحت الطلب، وباعتباره دائناً للمستثمِرين يتسلّم منهم فائدةً أكبر، وبذلك يرتبط نظام الإيداع والإقراض بالربا المحرَّم في الإسلام.

والفكرة الأساسية التي أحاول عرضها لتطوير البنك على أساسٍ إسلاميّ يصونه من التعاطي بالربا ترتكز على تصنيف الودائع التي يتسلّمها إلى: ودائع ثابتة، وأخرى: متحرّكة (جارية) ففي الودائع الثابتة تُرفض الصياغة القانونية الآنفة الذكر بعلاقة البنك بالمودِعين والمستثمِرين، وتُعطى بدلاً عنها صياغة قانونية أخرى تنشأ بموجبها علاقة قانونيّة مباشرة بين المودِعين والمستثمِرين ،

٣٤

ويمارس البنك ضمنها دوره كوسيطٍ بين الطرفين، وبذلك تصبح الصياغة القانونية لعلاقة البنك بالمودِعين والمستثمِرين أكثر انطباقاً على واقع تلك العلاقة.

فكما إذا نظرنا إلى واقع هذه العلاقة بصورةٍ مجرّدةٍ عن أيّ طابعٍ قانونيّ نجد أنّها لا تخرج عن معنى الوساطة يقوم بها البنك لإيصال رؤوس الأموال التي تتطلّب مستثمِراً إلى المستثمِرين الذين يطلبون رأس مالٍ يستثمرونه كذلك حين ننظر إلى علاقة البنك بالطرفين في إطار الصياغة القانونية المقترحة التي تنشأ فيها الصلة بين المودِعين والمستثمِرين مباشرة، فإنّها لا تبتعد ضمن هذه الصياغة عن وضعها الطبيعي كوساطةٍ يمارسها البنك بين رأس المال والعمل. هذا في مجال الودائع الثابتة.

وأمّا الودائع المتحرّكة (الجارية)، فلها وضع آخر في الأطروحة المقترحة يأتي الحديث عنه بعد ذلك.

وسوف نتناول أوّلاً تنظيم علاقات البنك بالمودِعين للودائع الثابتة والمستثمِرين ، ونوضّح كيف تُصاغ بشكلٍ تنشأ فيه الصلة مباشرةً بين المودِعين والمستثمِرين ويمارس البنك اللاربوي دور الوسيط بين الطرفين، ثمّ نتكلّم عن تنظيم علاقات البنك بأصحاب الودائع المتحرّكة. ولكن قبل البدء بذلك لابدّ أن نحدِّد ما نقصده من الودائع الثابتة والمتحرّكة.

٣٥

تقسيم الودائع إلى ثابتةً ومتحرّكة

الودائع الثابتة (الودائع لأمدٍ): عبارة عن المبالغ التي يودِعها أصحابها في البنك بقصد الحصول على دخلٍ عن هذا الطريق يتمثّل في ما يتقاضونه من الفوائد، وهؤلاء قد يستهدفون استثمار أموالهم عن هذا الطريق باستمرار، وقد يُقدِمون على هذا الاستثمار مؤقّتاً بانتظار فرصةٍ مناسبةٍ للتشغيل.

والودائع المتحرّكة (الودائع تحت الطلب التي تُكوِّن الحساب الجاري): هي المبالغ التي يودِعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرةَ التداول والسحب عليها لحظة الحاجة ؛ وفق متطلّبات العمل التجاري، أو حاجات المودع كمستهلك. ولا يتقاضى هؤلاء عادةً فائدةً من البنوك على هذه الودائع، كما أنّها تكون تحت الطلب دائماً، بمعنى أنّ البنك يلتزم بدفعها متى ما طولب بذلك، خلافاً للودائع الثابتة فإنّ أصحابها يتقاضون فوائد عليها، ولا يلتزم البنك بدفعها فوراً متى طولب بذلك.

وهناكقسم ثالث من الودائع تلتقي فيه خصائص القسمين السابقين، وهو ودائع التوفير التي يودِعها الموفّرون في البنك وينشئون بذلك حساباً في دفترٍ خاصّ واجب الترقيم عند كلِّ سحبٍ أو إيداع. وتلتقي ودائع التوفير مع الودائع المتحرّكة في إمكان السحب منها متى شاء المودِع، خلافاً للودائع الثابتة التي لا يلتزم البنك بوضعها تحت الطلب دائماً. كما أنّ ودائع التوفير تلتقي مع الودائع الثابتة في ما تقرضه البنوك الربوية من فوائد للموفّر كما تفرضها لأصحاب الودائع الثابتة.

ونظراً إلى أنّ البنك يسمح للموفِّر بالسحب من حسابه متى شاء، ورغبةً منه

٣٦

في إغرائه بعدم السحب مهما أمكن يكتفي بتقييد فائدةٍ لحساب العميل الموفّر على أساس أدنى رصيدٍ في حساب التوفير خلال الشهر.

وإذا أردنا أن نقسِّم الودائع تقسيماً يشمل ودائع التوفير أيضاً أمكن أن نقرِّر أنّ الودائع إمّا ودائع تحت الطلب، أو ودائع لأمد. والقسم الأوّل هو الودائع المتحرّكة (الحساب الجاري)، والقسم الثاني ينقسم بدوره إلى: ودائع ثابتة، وودائع توفير. ولكنّا الآن سوف نتحدّث بصورةٍ رئيسيةٍ عن القسمين الأساسيّين، وهما: الودائع الثابتة، والودائع المتحرّكة، وفي ختام الحديث عن الودائع الثابتة سوف ندرس موقف البنك اللاربوي من ودائع التوفير وأوجه الفرق بينه وبين موقفه من الودائع الثابتة.

٣٧

٣٨

تنظيم علاقات البنك

في مجال الودائع الثابتة

إنّ عملية إيداع هذه الودائع الثابتة لدى البنك - أي إقراضها للبنك - وعملية تقديمها من قبل البنك لرجال الأعمال المستثمِرين يمكن دمجها في علاقةٍ واحدةٍ تسمّى في مصطلحات الفقه الإسلامي ب- (المضاربة).

مفهوم المضاربة في الفقه الإسلامي:

والمضاربة يختلف مفهومها في الفقه الإسلامي عن مصطلحها في الاقتصاد الحديث(١) . فهي في الفقه الإسلامي: عقدٌ خاصٌّ بين مالك رأس المال والمستثمِر

____________________

(١) المضاربة ( Speculation ): اصطلاح يعني بمعناه الضيّق شراء عملات آجلة أو بيعها بحيث يحتفظ المضارب عمداً بمركز صرف بقصد الاستفادة من الفرق بين السعر الآجل يوم التعاقد والسعر الحاضر يوم الاستحقاق، وفي هذه الحالة يتصرّف المضارب بدافع يخالف تماماً الدافع الذي يحدو المتعامل في عمليّات التغطية.

أمّا في المعنى الواسع، فتشمل المضاربة أيضاً الاحتفاظ عمداً بمركز صرف قائم، والدافع لذلك هو نفس الدافع على المضاربة بمعناها الضيّق.

وبهذا المفهوم يعتبر المصدّر مضارباً إذا لم يقم بتغطية مركزه كبائع بإجراء عمليّة آجلة ؛=

٣٩

على إنشاء تجارةٍ يكون رأسمالها من الأوّل، والعمل على الآخر، ويحدّدان حصّة كلٍّ منهما من الربح بنسبةٍ مئوية، فإن ربح المشروع تقاسما الربح وفقاً للنسبة المتّفق عليها، وإن ظلّ رأس المال كما هو - لم يزد ولم ينقص - لم يكن لصاحب المال إلاّ رأس ماله، وليس للعامل شيء. وإن خسر المشروع وضاع جزء من رأس المال أو كلّه تحمّل صاحب المال الخسارة، ولا يجوز تحميل العامل المستثمِر وجعله ضامناً لرأس المال، إلاّ بأن تتحوّل العملية إلى إقراض من صاحب رأس المال للعامل، وحينئذٍ لا يستحقّ صاحب رأس المال شيئاً من الربح(١) .

هذه هي الصورة العامة للمضاربة في الفقه الإسلامي.

أعضاء المضاربة المقترحة:

ولكي نقيم العلاقات في البنك اللاربوي على أساس المضاربة بالنسبة إلى الودائع الثابتة يجب أن نتصوّر الأعضاء المشتركين في هذه المضاربة، ونوعية الشروط والالتزامات والحقوق لكلّ واحدٍ منهم.

إنّ الأعضاء المشتركين في المضاربة ثلاثة:

١ - المودِع بوصفه صاحب المال، ونطلق عليه اسم (المضارِب).

٢ - المستثمِر بوصفه عاملاً، ونطلق عليه اسم (العامل، أو المضارَب).

____________________

=نظراً لأنّه يتوقّع ارتفاعاً عند الاستحقاق في السعر الحاضر للعملة التي يحوزها، وبذا يتحمّل مخاطر مماثلة للمخاطر التي يتعرّض لها مشتري العملات الآجلة. (الموسوعة الاقتصاديّة: ٢٤٦).(لجنة التحقيق) .

(١) لاحظ الملحق رقم

(٢) في آخر الكتاب للتوسّع في فهم هذا الحكم من الناحية الفقهية والاستدلالية.(المؤلّف قدس‌سره ) .

٤٠