شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف0%

شخصيات ومواقف مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 244

  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36964 / تحميل: 5703
الحجم الحجم الحجم
شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف

مؤلف:
العربية

يُبايعون مِن كلِ النواحي(١) .

كان ذلك في واقعة الحَرَّة.. فما جرى فيها مِن الفضائع؟!

الحَرَّة، واقعة في مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو قُرْبها، وحين ثار أهلُها على يزيد وطردوا بني أُميَّة منها - لظلمهم وفجورهم - وأنكروا على يزيد فُسقه وكفره وانتهاكه لحرمات الله، ومِن ذلك قتلُ سيِّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة الطفِّ.. غضب يزيد، فكتب تهديداً إلى أهل المدينة جاء فيه: لئن آثرتُ أنْ أضعكم تحت قدَمَيَّ لأطأنَّكم وطأةً أُقِلُّ منها عددَكم، وأترككم أحاديثَ تتناسخ كأحاديث عادٍ وثمود..(٢) .

فبعث إلى مسلم بن عقبة وقال له: سِرْ في اثنَي عشر ألفاً مِن جيش الشام إلى المدينة، فاقتُل مَن ظفرتَ به منهم، وانهبْها ثلاثاً(٣) .

وقال له: السيفَ السيف! أجهزْ على جريحهم، وأقبل على مُدبرهم، وإيَّاك أن تُبقيَ عليهم(٤) .

____________________

١ - يُراجع قصَّة ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في (الإمامة والسياسة ٢: ٧-١٣).

٢ - دائرة معارف القرن العشرين ٤: ٧٧٤.

٣ - يراجع: تتمَّة المُختصر في أخبار البشر، لابن الورديّ ١: ٢٦٢، والكامل في التاريخ.

٤ - دائرة معارف القرن العشرين ٤: ٧٧٥.

١٢١

وفي هذا إشارةٌ واضحة للإباحة: إباحة الأموال والدماء والنساء.. وكان مسلم بن عقبة مُستعدَّاً لذلك. يقول اليعقوبيّ: طلب يزيد بن معاوية مسلمَ بن عقبة المري مِن فلسطين، وأدخله منزله وقَصَّ عليه قصَّةَ خلع أهلِ المدينة إيَّاه، فقال مسلم: يا أميرَ المؤمنين، وَجِّهْني إليهم. فواللهِ، لأدَعنَّ أسفلَها أعلاها - يعني مدينةَ الرسول(١) .

فوضع مسلمُ بن عقبة السيفَ في أعناق أهل المدينة، مدينةِ المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً - أيْ: ثلاثة أيَّام -.. فماذا كان؟!

ذكر المؤرِّخون أنَّ عدد قتلى (واقعة الحَرَّة) بلغ ألفاً وسبعمئة مِن وجوه الناس مِن قريش والأنصار والمُهاجرين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان ممَّن أُوذي أبو سعيد الخدريّ، أخرجوه فنتفوا لحيته وضربوه ضربات، ثمَّ نهبوا كلَّ ما في بيته حتَّى الصوف.

أمَّا جابر بن عبد الله الأنصاريّ فأرادوا قتله، ثمَّ أُنقذ مِن أيدي الغزاة.

كما ذكر المؤرِّخون أنَّ عدد القتلى بلغ: سبعمئة مِن الصحابة، وألفاً وسبعمئة مِن أولاد الصحابة، وعشرةَ آلاف مِن الموالي وغيرهم(٢) .

____________________

١ - تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٣٧. ويُراجع كذلك: تاريخ الإسلام، للذهبيّ ٢: ٣٥٤. والإمامة والسياسة، لابن قتيبة الدينوريّ ٢: ١٣ - ١٦.

٢ - يُراجع: دائرة المعارف الإسلاميَّة الشيعيَّة، لحسن الأمين ٢: ١٠.

١٢٢

قيل: وقُتِل من سائر الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان(١) .

وروي عن أنس بن مالك أنَّه قال: قُتِل يوم الحَرَّة مِن حَمَلة القرآن سبعمئة(٢) .

وجاء عن الذهبيّ أنَّه كان يُؤتى بالصحابيّ ويُقال له: بايعْ على أنَّك عبدٌ ليزيد، فيقول: أُبايع على سُنَّة الله ورسوله. فلا تُقبَل منه بيعته فيُضرَب عُنُقه(٣) . وقد قُتِل ثلاثة مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

وجاسَ الجندُ ديارَ الرسالة والوحي، يسعون فيها الفساد، ويهلكون الحرث والنسل، ويعيثون ويُدمِّرون، ويهتكون الحُرمات، فانتشروا في الأزقَّة والطُّرقات، ثمَّ هجموا على البيوت بعد أنْ اختبأ فيها أهلُها.. فماذا فعلوا؟!

ما ترك جند مسلم بن عقبة بيتاً إلاَّ نهبوه، ثمَّ منح مسلم الأمان لجمع مِن الأعيان في المدينة، فلمَّا مَثَلُوا بين يديه قتلَهم واحداً بعد واحد(٤) .

وليت الأمر انتهى عند هذا.. فما يُدْمي القلوب، ويُنكِّس الرؤوس، ويُندي جباه الغيارى، أنَّ جيش يزيد هذا قد انتهك الأعراض على مَقربةٍ مِن ضريح المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وحَرمه!!

____________________

١ - الإمامة والسياسة - في ذكرْ واقعة الحَرَّة ٢: ٥ - ٧، ١٣ - ١٦.

٢ - تاريخ الإسلام ٢: ٣٥٩.

٣ - تاريخ الإسلام ٢: ٣٥٩.

٤ - ناسخ التواريخ - مُجلَّد زين العابدين (عليه السلام): ٣٤٣.

١٢٣

لقد خطب مسلم بن عقبة في جُنده قائلاً: هذه المدينة لكم مُباحةٌ ثلاثة أيَّام: دماؤُها، نساؤها، أموالها!!

ونادى مُنادٍ عن لسان مسلم بهم: يا أهل الشام، إنَّ أميرَكم مسلم بن عقبة - بأمرِ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية - أباح لكم هذه المدينة كلَّها ثلاثة أيَّام، ومَن زنى بامرأةٍ فذلك له!!!

فوقع جيش الشام في الزنا بالمسلمات.. وفيهنَّ بنات المهاجرين والأنصار، وفيهنَّ ذوات الأزواج، وفيهنَّ الأبكار والمُخدَّرات. هجم عليهنَّ ذئاب يزيد، فكان أنْ انتُهكت بكارة ألف بنت في هذه المأساة!! وحملت مِن التجاوز بالزنا في تلك الأيَّام سبعمئة امرأة!! وقُتلت كثيرٌ مِن النساء على أثر مُكابرتهنَّ!!!(١) .

وولدت الأبكارُ منهنَّ ألف امرأة لا يُعرَف مَن أوْلَدهنَّ - كما يقول اليعقوبيّ في تاريخه -(٢) .

وكان هنالك أَسْرٌ للمسلمين.. أولاد المُهاجرين والأنصار، أمر مسلم بن عقبة أنْ يُثقَلُوا بالحديد ثمَّ يُدْعَوا إلى بيعة يزيد(٣) .

ولمَّا وصلت هذه الأخبارُ المُفجِعة إلى يزيد.. سُرَّ بها كثيراً، وأخذ يُنشد أبياتَ عبدِ الله بن الزبعرى - كما أنشدها بعد قتل الحسين (عليه السلام) -:

____________________

١ - يُراجع: يزيد بن معاوية فرع الشجرة الملعونة: ١١٧.

٢ - تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٣٥٩.

٣ - دائرة معارف القرن العشرين ٤: ٧٧٩.

١٢٤

ليت أشياخي ببدرٍ شهِدوا جزعَ الخزرج مِن وقْع الأسَلْ

لأهلُّوا واستهلُّوا فرحاً ثمَّ قالوا يا يزيدُ لا تُشَلّ(١)

وكان يزيد قد كتب مِن قبلُ إلى أهل المدينة: أمّا بعد، فإنِّي قد حملتكم على رأسي، ثمَّ على عيني، ثمَّ على فمي، ثمَّ على صدري (أو: بطني). واللهِ، لئن وضعتكم تحت قَدَميَّ لأطأنّكم وطأةً.. أُقِلُّ منها عددَكم، وأتركُكم أحاديث تُنسخ مع أحاديث عادٍ وثمود!(٢)

ولا بأس أن نطالع ما كتبه اليعقوبيّ في تاريخه حول هذه الواقعة العجيبة، والربة، والغيبة، ثم قال وهو يتحدّث عن جرائم يزيد في واقعة الحرّة وحرق الكعبة المعظّمة بالمنجنيق!:

وولّى يزيدُ عثمان بن محمّد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنّه أراد حمل ما كان يحمله في كلّ سنة من تلك الصافي من الحنطة والتمر، وأنّ أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم فكلّمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمَن كان معه بالمدينة من بني أميّة، وأخرجوهم من المدينة واتّبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلمّا انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجّه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثمّ قصّ عليه القصّة، فقال: يا أمير المؤمنين!

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين: ٧٤٤ - ٧٤٥.

(٢) العقد الفريد ٢: ٢٥٦. صبح الأعشى ٦: ٣٩٠. الأخبار الموفقيّات: ١٩٧.

١٢٥

وجِّهني إليهم، فو الله لأدعنَّ أسفها أعلاها، يعني مدينة الرسول. فوجَّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحرَّة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً، وخندقوا على المدينة، فرام ناحية مِن نواحي الخندق، فتعذَّر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مئة فارس، فأتبعه الخيل حتَّى دخلت المدينة، فلم يبقَ بها كثير أحدٍ إلاَّ قُتل، وأباح حرم رسول الله، حتَّى ولدت الأبكار لا يُعرَف مَن أولدهنَّ! ثمَّ أخذ الناس على أنْ يبايعوا على أنَّهم عبيدُ يزيد بن معاوية، فكان الرجل مِن قريش يُؤتى به، فيقال: بايعْ آية أنَّك عبدٌ قنٌّ ليزيد، فيقول: لا! فيُضرَب عنقه.

وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل: مِن فلسطين ألف رجل، عليهم روح بن زنباع الجذاميّ، ومِن الأردن ألف رجل، عليهم حبيش بن دَلَجة القينيّ، ومِن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاريّ، ومِن أهل حمص ألف رجل، عليهم الحُصَين بن نُمير السكونيّ، ومِن قنسرين ألف رجل، عليهم زفر بن الحارث الكلابيّ.

وكان المدبِّر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام، عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاريّ.

حرق الكعبة:

وخرج مسلم بن عقبة مِن المدينة يُريد مكَّة لمحاربة ابن الزبير،

١٢٦

فلمَّا صار بثنيّة المُشلّل احتُضر، واستخلف الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار! لو لا حبيش بن دلجة القينيّ لما ولَّيتك، فإذا قدمت مكَّة فلا يكون عملك إلاَّ الوقاف ثمَّ الثقاف، ثمَّ الانصراف، ثمَّ قال: اللهمَّ، إنْ عذَّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرَّة، فإنّي - إذاً - لشقيّ. ثمَّ خرجَتْ نفسه فدُفن بثنيّة المُشلّل، وجاءت أمُّ ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المُشلِّل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه، وقتل جماعةً مِن أهل ذلك الموضع، وقيل: لم يدع منهم أحداً.

وقدم الحصين بن نمير مكَّة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتّى أحرق الكعبة. وكان عبد الله بن عمير اللّيثيّ قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمَناً في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتَّقوا الله يا أهل الشام! فيصيح الشاميّون: الطاعة الطاعة! الكرَّة الكرَّة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتّى أُحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نُطفئ النار، فمنعهم، وأراد أنْ يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام: إنَّ الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة ٦٣ هـ(١) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢٥٠ - ٢٥١.

١٢٧

أجل.. ومِن قبل ذلك كانت ليزيد جريمةٌ عُظمى، تلك هي واقعة كربلاء، قتل فيها الإمامِ الحسين (عليه السلام) وأهلَ بيته وأصحابَه، وسبى نساءَه فسيَّرهم مع اليتامى والأطفال إلى الكوفة ثمَّ إلى الشام، ورؤوس الشهداء مرفوعة على أسنَّة الرماح. أعرضنا عن تفصيل الواقعة لِعظم فجيعتها، ولطول تفصيلها.. فنأتي إلى ما بعدها:

قال ابن الأثير: حتَّى إذا مضت ثلاثة أيَّام مِن شهر ربيع الأوَّل سنة أربع وستِّين رمَوُا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون:

خَطَّارةٌ مثلُ الفَنيقِ المُزْبِدِ نرمي بها أعوادَ هذا المسجدِ(١)

ورُوي أنَّ صاعقة مِن السماء نزلت فأحرقتِ الموكَّلين بالمجانيق مِن أجناد الشام(٢) . وهكذا أُحرقت الكعبة المُعظَّمة.

ذكر البلاذريّ - عن ابن الكلبيّ وأبي مخنف وغيرهما - جملةً مِن مفاسد يزيد: قتلُ الحسين، وقتلُ أهل الحَرَّة، ورميُ البيت وإحراقه(٣) .

____________________

(١) - الكامل في التاريخ ٤: ١٢٤. الإمامة والسياسة ٢: ١٩ - ٢٠.

(٢) - ناسخ التواريخ: ٤٥١.

(٣)ـ أنساب الأشراف ٤: ١.

١٢٨

مجمع المفاسد

وهنا يحسن بنا أنْ نذكر ما كتب ابن عبّاس في جوابٍ له على رسالة أتته مِن يزيد.. حيث كتب اليعقوبي في تاريخه يقول:

وأخذ ابنُ الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أنَّ عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسرَّه ذلك، وكتب إلى ابن عبّاس: أمَّا بعد، فقد بلغني أنَّ المُلحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته؛ لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنَّك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا، وطاعةً لله فيما عرَّفك مِن حقِّنا، فجزاك الله مِن ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم؛ فإنِّي ما أنسَ مِن الأشياء فلست بناسٍ برَّك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنْت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول. وانظر - رحمك الله - فيمَن قبلك مِن قومك، ومَن يَطرُؤ عليك مِن الآفاق ممَّن يسحره المُلحدُ بلسانه وزُخرف قوله، فأعلمهم حُسن رأيك في طاعتي، والتمسُّك ببيعتي؛ فإنَّهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمُحلّ المُلحد، والسلام.

فكتب إليه عبد الله بن عباس: مِن عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أمَّا بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إيَّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه مِن بيعته، فإنْ يكُ ذلك كما

١٢٩

بلغك، فلستُ حمدك أردت ولا ودَّك، ولكنَّ الله بالذي أنوي عليم. وزعمت أنَّك لست بناسٍ ودِّي، فلعمري ما تؤتينا ممَّا في يديك مِن حقِّنا إلاَّ القليل، وإنَّك تحبس عنَّا منه العريض الطويل. وسألتني أنْ أحثَّ الناس عليك وأخذَّلهم عن ابن الزبير، فلا، ولا سروراً، ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ، بفيك الكَثْكَثُ، ولك الأثْلَب، إنّك - إنْ تُمنِّك نفسُك ذلك - لعازب الرأي، وإنّك لأنت المُفنِد المهوّر. لا تحسبني - لا أباً لك - نسيت قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدُّجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرَّعين في صعيد مرمَّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء لا مُكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنشي بهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنُّوهم في أكفانهم، وبي - والله - وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد!

وما أنْسَ - مِن الأشياء - فلست بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر، ابن العاهر، البعيد رحماً، اللّئيم أباً وأمّاً، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلاّ العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأُولى، وفي الممات والمَحْيا، إنّ نبيّ الله قال: الولدُ للفراش، وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يُلحق بالعفيف النقيِّ ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنّة جهلاً، وأحيا البِدعَ والأحداث المضلّة عمداً.

١٣٠

وما أنْسَ - من الأشياء - فلست بناسٍ اطِّرادك الحسين بن عليّ مِن حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسَّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته مِن حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقَّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوَّأ بها مقاماً واستحلَّ بها قتالاً، ولكنْ كره أنْ يكون هو الذي يستحلُّ حُرمة البيت وحرمة رسول الله، فأكبر مِن ذلك ما لم تكبر، حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم. وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنُّ!! بلْ لا شكُّ فيه أنَّك للمُحَرِّفُ العريف!! فإنّك حِلْفُ نسوة!! صاحب ملاهٍ!! فلمّ!ا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ثمَّ إنَّك الكاتب إلى ابن مرجانة أنْ يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمُعاجلته، وترك مُطوالته، والإلحاح عليه، حتَّى يقتله ومَن معه مِن بني عبد المطّلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير.

ثمَّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلَّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم

١٣١

كأنَّما قتلوا أهل بيت مِن التُّرك والكفر، فلا شيء عندي أعجب مِن طلبك ودِّي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفُك يقطر مِن دمي، وأنت آخذٌ ثأري، فإنْ يشأ الله لا يطلْ لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإنْ سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قُتل النبيُّون وآل النبيّين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومِن الظالمين مُنتقماً. فلا يعجبنّك أنْ ظفرت بنا اليوم، فو الله، لنظفرنَّ بك يوماً.

فأمَّا ما ذكرت مِن وفائي، وما زعمت مِن حقِّي؛ فإنْ يكُ ذلك كذلك، فقد - والله - بايعتُ أباك، وإنِّي لأعلم أنَّ ابني عمِّي وجميع بني أبي أحقُّ بهذا الأمر مِن أبيك، ولكنَّكم - معاشر قريش - كاثرْتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقِّنا، فبُعداً على مَن يجترئ على ظُلمِنا! واستغوى السفهاء علينا، وتولَّى الأمر دوننا! فبُعداً لهم كما بَعُدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومُكذِّبو المرسلين!

ألا ومِن أعجب الأعاجيب وما عشت أراك الدهرُ العجيب، حملُك بنات عبد المطلب وغلمةً صغاراً مِن ولده إليك بالشام كالسبيّ المجلوب، تُري الناسُ أنَّك قهرتنا، وأنَّك تأمر علينا، ولعمري، لئن كنت تُصبح وتُمسي آمناً لجرح يدي، إنِّي لأرجو أنْ يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقرُّ بك الجدل، ولا يُمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلاَّ قليلاً، حتَّى يأخذك أخذاً

١٣٢

أليماً، فيُخرجك اله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعِشْ لا أباً لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله(١)

ثمَّ ماذا نقول عن يزيد هذا؟! وقد ولَّى على رقاب المسلمين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة المنوَّرة، وعمروَ بن سعيد بن العاص الأشدق على مكَّة ثمَّ على المدينة، وعبيد الله بن زياد على البصرة ثمَّ على الكوفة(٢) .. وجملةً مِن السفَّاحين والمُفسدين والسُرَّاق! ففعل ما فعل، وفعلوا ما فعلوا في حُكم ثلاث سنوات وتسعة أشهر فقط.. في الأُولى كانت فاجعة كربلاء، وفي الثانية كانت إباحة المدينة، وفي الثالثة إحراق الكعبة.

ولِمَ لا يفعل ذلك؟! ويزيد مُستشارُه رجل مسيحيٌّ مشبوه مِن نصارى الرومان، اسمه (سرجون)، وكان مشاورَ أبيه معاوية وموضع أسراره وشريك مُخطَّطاته. فما يُنتظَر غير الفتك بالمسلمين، وهتك الحُرمات والمُقدَّسات، وملء السجون بالأبرياء والبريئات؟!

ثمَّ ماذا يُنتظَر مِن أهل البيت (عليهم السلام) إلاَّ إنقاذ الإسلام مِن المُحرّفين، وإنهاض المسلمين مِن الذِّلَّة والمهانة؟!

____________________

(١)- تاريخ اليعقوبي٢٤٧:٢_٢٥٠

(٢)- يراجع: كربلاء بين الحقائق, والأوهام, تأليف إبراهيم إشكاني:٧٠-٧٨

١٣٣

وهنا نترك القلم للسيّد عبد الرزّاق الموسويّ المقرّم؛ ليضع يزيد في ميزان الاعتدال، ويجول بنا في آراء علماء أهل السنَّة حوله.. حيث كتب يقول:

لقد كان بين الله سبحانه وتعالى وبين أوليائه المُخلصين أسرار غامضة، تنبو عنها بصائر غيرهم وتنحسر أفكار القاصرين، حتّى أمَّتهم العصبيّة فتجرَّأوا على قُدْس المنقذ الأكبر، وأبوا إلاَّ الركون إلى تعصُّب الشائن، فقالوا: إنَّ الحسين قُتل بسيف جدِّه؛ لأنّه خرج على إمام زمانه (يزيد) بعد أنْ تمَّت البيعة له وكملت شروط الخلافة بإجماع أهل الحلِّ والعقد، ولم يظهر منه ما يُشينه ويُزري به!(١)

وقد غفل هذا القائل عن أنَّ ابن ميسون (يزيد) لم يكن له يوم صلاحٍ حتَّى يُشينه ما يبدو منه، وليس لطامَّاته ومخازيه قبلُ وبعد،

____________________

(١) العجب مِن التزام القائل بصحَّة خلافة يزيد، وهو يقرأ حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يزال أمرُ أُمّتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل مَن يثلمه رجل من بني أُميّة يقال له: يزيد) . رواه ابن حجر في (مجمع الزوائد ٥: ٢٤١) عن مسند أبي يعلى والبزّاز، وفي (الصواعق المحرقة: ١٣٢) عن مسند الرويانيّ عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(أوّل مَن يبدِّل سُنّتي رجل مِن بني أميَّة يقال له: يزيد) . وفي كتاب الفتن مِن (صحيح البخاري) باب قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(هلاك أُمّتي على يدي أُغليمة مِن أُمّتي) . وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(هلكة أُمتي على يدي غلمةٍ مِن قريش) ، قال ابن حجر في شرح الحديث مِن (فتح الباري ٣: ٧): كان أبو هريرة يمشي في السوق ويقول: اللّهمّ، لا تُدركني سنة ستِّين ولا إمارة الصبيان. قال ابن حجر: أشار بذلك إلى خلافة يزيد؛ فإنَّه في سنة ستِّين ولم يتعقَّبه.

١٣٤

وقد ارتضع درَّ ثَدْي (الحلبيّة) المزي بالشهوات، وتربَّى في حِجْر مَن لُعِن على لسان الرسول الأقدس(١) وأمر الأمَّة بقتله متى شاهدته متسنِّماً صهوة منبره(٢) ، ولو امتثلت الأُمَّة الأمر الواجب لأمنت العذاب الواصب المُطلَّ عليها مِن نافذة بدع الطاغية ومِن جرَّاء قسوته المُبيدة لها، لكنَّها كفرت بأنعُم الله فطفقت تستمرئ ذلك المورد الوبيء ذعافاً مُمقِراً، فألبسها الله لباس الخوف وتركها ترزخ تحت نير الاضطهاد، وترسف في قيود الذلِّ والاستعباد، ونصب عينها استهتار الماجنين وتهتُّك المُنهمكين بالشهوات، وكلُّ ما تنضح به الآنية الأُمويَّة الممقوتة.. شبَّ (يزيد الأهواء) بين هاتيك

____________________

(١) في (تاريخ الطبريّ ١١: ٣٥٧ - حوادث سنة ٢٨٤) و(تاريخ أبي الفداء ٢: ٥٧ - حوادث سنة ٢٣٨هـ) وكتاب (صفّين لنصر: ٢٤٧) - طبعة مصر، و(تذكرة الخواصّ) لسبط ابن الجوزيّ: ١١٥ -: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى أبا سفيان على جمل وابنه يزيد يقوده ومعاوية يسوقه، فقال:(لعن الله الراكب والقائد والسائق) .

(٢) في (تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ١٢: ١٨١) و(تهذيب التهذيب لابن حجر ٢: ٤٢٨ و ٥: ١١٠) و(تاريخ الطبريّ ١١: ٣٥٧) وكتاب (صفّين: ٢٤٣ و ٢٤٨) و(شرح النهج الحديديّ ١: ٣٤٨) و(كنوز الدقائق) للمناوي على هامش (الجامع الصغير ١: ١٨) و(اللآلئ المصنوعة للسيوطي ١: ٣٢٠ - كتاب المناقب) وفي (ميزان الاعتدال للذهبيّ ١: ٢٦٨ - مصر في ترجمة الحم بن ظهير و٢: ١٢٩ ترجمة عبد الرزّاق بن همّام) وفي (سير أعلام النبلاء ٣: ٩٩ ترجمة معاوية) و(مقتل الحسين للخوارزمي ١: ١٨٥ - الفصل ٩) و(تاريخ أبي الفداء ٢: ٥٧ - حوادث سنة ٢٨٣ هـ).. قال رسول الله (صلى اله عليه وآله):(إذا رأيتم معاوية على مِنْبري فاقتلوه) .

١٣٥

النواجم مِن مظاهر الخلاعة.

ولقد أعرب عن كلِّ ما أضمره مِن النوايا السيِّئة على الإسلام، والصادع به جذلاً بخلاء الجوِّ له، فيقول الآلوسيّ:

مَن يقول: إنَّ يزيد لم يعصِ بذلك ولا يجوز لعنه فيبتغي أنْ ينتظم في لسلسلة أنصار يزيد، وأنا أقول: إنّ الخبيث لم يكن مصدِّقاً بالرسالة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما صدر منه مِن المصحف الشريف في قذر. ولا أظنُّ أنّ أمره كان خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولو سُلِّم أنّ الخبيث كان مسلماً فهو مسلم جمع مِن الكبائر ما لا يُحيط به نطاق البيان. وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يُتصوّر أنْ يكون له مثلٌ مِن الفاسقين! والظاهر أنّه لم يتب، واحتمال توبته أضعف مِن إيمانه.

ويُلحق به ابنُ زياد وابن سعد وجماعة، فلعنة الله عليهم وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومَن مال إليهم إلى يوم الدين، ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). ويُعجبني قول شاعر العصر ذي الفضِّ الجليّ عبد الباقي أفندي العريّ الموصليّ، وقد سُئل عن لعن يزيد فقال:

يزيد على لعني عريضٌ جنابُه فأغدو به طولَ المدى ألعنُ اللَّعنا

١٣٦

ومَن يخشى القيل والقال مِن التصريح بلعن ذلك الضِّلِّيل فليقلْ: لعن الله عزَّ وجلَّ مَن رضي بقتل الحسين (عليه السلام) ومَن آذى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغير حقٍّ ومَن غصبهم حقَّهم؛ فإنَّه يكون لاعناً ليزيد؛ لدخوله تحت العموم دخولاً أوَّليَّاً في نفس الأمر، ولا يُخالف أحد في جواز اللّعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربيّ المارِّ ذِكره وموافقيه، فإنَّهم على ظاهر ما نُقل عنهم لا يُجوِّزون لعن مَن رضي بقتل الحسين، وذلك - لعمري - هو الضلال البعيد، الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد!

ثمَّ قال الآلوسيّ: نقل البرزنجيّ في (الإشاعة) والهيثميّ (في الصواعق) أنَّ أحمد بن حنبل لمَّا سأله ابنه عبد الله عن لعن يزيد قال: كيف لا يُلعَن مَن لعنه الله في كتابه؟! فقال أحمد: إنَّ الله يقول:

( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ... ) (١) ، أيُّ فساد وقطيعة أشدُّ ممّا فعله (يزيد)؟!

وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة مِن العلماء، منهم: القاضي أبو يعلى والحافظ ابن الجوزيّ(٢) ، وقال التفتازانيّ: لا نتوقَّف في شأنه بلْ في إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه. وصرَّح

____________________

(١) سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ٢٢، ٢٣.

(٢) يُراجع كتابه: الردّ على المتعصِّب العنيد المانع عن لعن يزيد.

١٣٧

بلعنه جلال الدين السيوطيّ.

وفي (تاريخ ابن الورديّ) وكتاب (الوافي بالوفيات): لمّا ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله والرؤوس على الرماح، وقد أشرف على ثنيَّة (جيرون) ونعب الغراب قال:

لما بَدَتْ تلك الحمولُ وأشرقت تلك الشموسُ على رُبى جيرونِ

نَعِب الغرابُ فقلت: قلْ أو لا تقلْ فلقَدْ قضيتُ مِن النبيِّ دُيوني

يعني أنَّه قتل بمَن قتله رسول الله يوم بدر، كجدِّه عُتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما، وهذا كفر صريح، فإذا صحَّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثُّله بقول عبد الله بن الزِّبعْرى قبل إسلامه (ليتَ أشياخي..) الأبيات، انتهى(١) .

إلى كثيرٍ مِن موبقاته وإلحاده، فاستحقّ بذلك اللّعنَ مِن الله وملائكته وأنبيائه، ومَن دان بهم مِن المؤمنين إلى يوم الدين، ولم يتوقّف في ذلك إلاَّ مَن حُرم ريح الإيمان وأعمته العصبيّة عن السلوك في جادَّة الحقِّ، فأخذ يتردّد في سيره، حيران لا يهتدي إلى طريق، ولا يخرج مِن مضيق.

ولم يتوقّف المحقّقون مِن العلماء في كفر يزيد وزندقته، فيقول

____________________

(١) تفسير روح المعاني للآلوسي ٢٦: ٧٣ - آية( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ.. ) .

١٣٨

ابن خلدون: غلط القاضي أبو بكر ابن العربيّ المالكيّ؛ إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم):

إنّ الحسين قُتل بسيف شرعه! غفلةً مِن اشتراط الإمام العادل في الخلافة الإسلاميّة، ومَن أعدل مِن الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟! وفي ص٢٥٤ ذكر ابن خلدون الإجماع على فسق يزيد، ومعه لا يكون صالحاً للإمامة، ومِن أجله كان الحسين (عليه السلام) يرى مِن المُتعيّن الخروج عليه وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله.. فلا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين بل قتله مِن فعلات يزيد المؤكِّدة لفسقه، والحسين فيها شهيد(١) .

ويقول ابن مفلح الحنبليّ: جوَّز ابن عقيل وابن الجوزيّ الخروج على الإمام غير العادل، بدليل خروج الحسين على يزيد لإقامة الحقّ. وذكره ابن الجوزيّ في كتابه (السرّ المصون) مِن الاعتقادات العاميّة التي غلبت على جماعة مِن المنتسبين إلى السنَّة، فقال: ولو نظروا في السِّيَّر لعلموا كيف عُقدت البيعة ليزيد، وأُلزم الناس بها، ولقد فعل مع الناس في ذلك كلَّ قبيح. ثمّ لو قدَّرنا صحّة خلافة يزيد، فقد بدرت منه بوادر، وظهرتْ منه أُمور كلٌّ منها يُوجب فسْخَ ذلك العقد: مِن نهبِ المدينة، ورمي الكعبة بالمنجنيق، وقتلِ

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون ص٢٥٤ و ٢٥٥ - عند ذِكر ولاية العهد.

١٣٩

الحسين وأهل بيته وضربه على ثناياه بالقضيب وحمل رأسه على خشبة، وإنّما يميل إلى هذا جاهلٌ بالسيرة عامّيُّ المذهب يظنُّ أنَّه يغيظ بذلك الرافضة!(١)

وقال التفتازانيّ: الحقّ أنَّ رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره به، وإهانته أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممّا تواتر معناه، وإنْ كان تفاصيله آحاد فنحن لا نتوقَّف في شانه بلْ في إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه(٢) .

وقال ابن حزم: قيام يزيد بن معاوية لغرض دنيا فقط، فلا تأويل له وهو بغيّ مجرّد(٣) . ويقول الشوكانيّ: لقد أفرط بعض أهل العلم فحكموا بأنَّ الحسين السبط (رضي الله عنه) وأرضاه باغٍ على الخمِّير السكّير الهاتك لحرمة الشريعة المطهّرة يزيد بن معاوية، لعنهم الله. فيا للعجب!! مِن مقالات تقشعرّ منها الجلود، ويتصدَّع مِن سماعها كلُّ جلمود!(٤) .

وقال الجاحظ: المنكرات التي اقترفها يزيد، مِن: قتل الحسين وحمله بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا، وقرعه ثنايا الحسين بالعود،

____________________

(١) الفروع في تصحيح الفروع، لابن مفلح المقدسيّ ٦: ١٥٣ - باب قتال أهل البغي.

(٢) شرح العقائد النسفيّة: ١٨١ - طبع الآستانة سنة ١٣١٣ هـ.

(٣) المُحلّى ١١: ٩٨.

(٤) نيل الأوطار ٧: ١٤٧.

١٤٠