شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف0%

شخصيات ومواقف مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 244

  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36984 / تحميل: 5709
الحجم الحجم الحجم
شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف

مؤلف:
العربية

التسلُّط على الناس في نفسه، وحدَّة حُبِّ الزعامة وقد أخذت مأخذها مِن قلبه، فيوم دخل الكوفة بعد التوقيع على وثيقة الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) لِيُطْبق جيشه على تلك المدينة.. خاطب أهلها بصريح الخطاب:

يا أهلَ الكوفة، أَتَروني أُقاتلكم على الصلاة والزكاة والحَجِّ - وقد علمتُ أنَّكم تُصلُّون وتُزكُّون وتحجُّون -؟! ولكنَّني أُقاتلكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتانيَ اللهُ ذلك وأنتم كارهون(١) .

ولكي يُطْبقَ على الناس؛ فلا يترك لهم فُسحةً يتحرَّكون فيها أو مُتنفَّساً يشْكون مِن خلاله ولا فُرصة ليقوموا في وجهه.. انتخب عُمَّالَه مِن الزعانفة الفَجَرة أعداء الإسلام: بُسر بن أرطأة، ومروان بن الحَكَم، والمُغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وعبد الله الفزاريّ، وسفيان بن عوف، والضحّاك بن قيس، وسمرة بن جندب، وعَمْر بن العاص.. ونظرائهم، فاستعملهم على عباد الله - وهو يعرفهم حقَّ المعرفة - غير مُبالٍ بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(مَن تولَّى مِن أمر المسلمين شيئاً، فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنَّ فيهم مَن هو أَولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسُنَّةِ رسوله، فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين) (٢) .

____________________

١ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١٦: ١٥.

٢ - مجمع الزوائد، للهيثميّ ٥: ٢١١.

٨١

ولنأخذ - أخي القارئ - نموذجاًَ مِمَّن ولاَّهم معاوية بعد أنْ تولَّوه.. وهو زياد ابن أبيه!

* يقول اليعقوبيّ في تاريخه: وكان زياد بن عبيد (أي ابن أبيه) عاملَ عليّ بن أبي طالب على فارس، فلمَّا صار الأمر إلى معاوية، كتب إلى زياد يتوعَّده ويتهدَّده، فقام زياد خطيباً فقال:

إنَّ ابنَ آكلة الأكباد وكهفَ النفاق وبقيَّة الأحزاب، كتب إليَّ يتوعَّدني ويتهدَّدني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله - أيْ: الحسن والحسين [ عليهما السلام ] - في تسعين ألفاً، واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم.. أما والله، لئن وصل إليَّ لَيجدُني أحمز، ضرَّاباً بالسيف. فوجَّه معاويةُ إليه المُغيرةَ بن شعبة، فأقدمه ثمَّ ادَّعاه - أي: ادَّعى معاوية أنَّ زياداً هو ابن أبي سفيان - وأنَّ أبا سفيان قال: واللهِ، لَهُوَ ابني، ولأنا وضعتُه في رَحِم أمّه!)، وألحقه معاوية بأبي سفيان، وولاَّه البصرة..(١) .

وأمَّا كاتبه وصاحب أمره، فسرجون بن منصور الرومّي النصرانيّ! ذكر ذلك ابن الجوزيّ، ثمَّ أضاف قائلاً: وكان معاوية أوَّل مَن اتَّخذ الحرس..(٢) .

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٨.

٢ - المُنتظم في تاريخ الملوك والأُمَم ٤: ٧، دار الفكر بيروت.

٨٢

حُكْمُه:

مُنذ أنْ حَلَّ معاوية أرض الشام، أخذت المفاسد تموج بالناس وتسري إلى جميع شؤون حياتهم. فقد شاعت العقائد المُنحرفة، وتفشَّت الرذائل والموبقات، وعمَّ الظلم والجور والإرهاب، وابتُلي القوم بحروبٍ ومذابح.

وإذا أردنا أنْ نبسط الحديث في ذلك، احتجنا إلى تأليف كتابٍ كبير يجمع ولا يُحيط، ويُلمُّ ولا يُحصي.. فجرائم معاوية تنوَّعت وتعدَّدت؛ لذا نبتغي الإشارة ويعذرنا القارئ الكريم.

ما أنْ سيطر معاوية على الحُكم حتَّى أخذ يُثبِّت زعامته الجاهليَّة، ويُحاول طمس معالم الإسلام وتزييفها، وقد خطا خُطواتٍ في السيطرة على مشاعر المسلمين وعقولهم، فأوجد بينهم تبريراً دينيَّاً لسلطانه؛ لاستفراغ روح الثورة مِن النفوس، وكبح جماح النقمة الجماهيريَّة الإسلاميَّة بدعايات ذات صِبغة دينيَّة، فاختلق الأحاديث والأخبار، وافترى على الرسالة والرسول، واشترى الأقاويل والأكاذيب مِن باعة الضمير. وابتدع فرقاً (سياسيَّةً - دينيَّة) باسم الإسلام تتَّخذ اسم المُرجِئة تارةً، والجَبْريَّة تارةً أُخرى، لتحريم الثورة ضِدَّه.. فالأُمور تجري بقضاء الله، ولا يجوز الاعتراض على قضاء الله، ومعاوية خليفة الله، والمال مال الله، وهو مُوكَّل عليه وعلى رقابِ عبادِ الله!!

٨٣

وقد أصبح المُرجِئة عوناً وسنداً لحُكم معاوية، فجاءت آراؤهم ومُعتقداتهم تبريراً لإمارته، وإقناعاً للمسلمين بوجوب طاعته. وقد وجد الجُهَّال وطلاَّب العافية والسلامة ضالَّتَهمُ المنشودة في الأفكار الجَبْريَّة؛ ليعيشوا في ظِلِّ السلطان آمنين، فكلُّ ما يجري هو قضاء الله مُحتَّم مِن ربِّ العالمين!(١)

ثمَّ أشاع معاوية الروحَ العنصريَّة والقوميَّة، ونفخ بها نفوس أهل الشام، فتهيَّئوا للفتن والعصبيَّات والأحقاد. ثمَّ انكبَّ على شريعة الإسلام يُبدِّل ويُغيِّر، ويُحرِّف ويَزيد ويُنقص، ويُعطِّل الحدود ويَحكُم خلاف ما أنزل الله تعالى في صريح كتابه وخلاف ما اشتهر مِن سُنَن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

واجتناباً عن الإطالة نُشير إشارات:

* أتمَّ معاوية الصلاة في سفره، كما أخرج الطبرانيّ وأحمد بإسناد صحيح، مِن طريق عبّاد بن عبد الله بن الزبير.

* أحدث معاوية أذاناً وإقامة لصلاة العيدين، وقدَّم الخُطبة على الصلاة، كما ذكر ابن حزم في المُحلَّى ٥: ٨٢.

* صلَّى معاوية صلاة الجمعة يوم الأربعاء عند مسيره إلى صِفِّين، وفي ضحى الجمعة لا ظهرها.

____________________

١ - مقالات الإسلاميِّين، للأشعريّ: ١٤١. وحركات الشيعة في العصر العبَّاسي الأوَّل، لمحمّد جابر عبد العال.

٨٤

* جوَّز معاوية الجمع بين الأختين، كما نقل السيوطيّ في الدُّرّ المنثور ٢: ١٣٧.

* وأحدث في الدِّيَّات وقصَّرها إلى النصف، كما أرَّخ لذلك ابن كثير في تاريخه ٨: ١٣٩.

* وشهد أبو هريرة أنَّ معاوية أوَّل مَن ترك التكبير المسنون في الصلوات، أخرجه الطبرانيُّ وغيره كثير.

* أخرج النسائيّ في سُنَنه ٥: ٢٥٣، والبيهقيّ في السُّنَن الكُبرى ٥: ١١٣مِن طرق سعيد بن جبير، قال: كان ابن عبّاس بعَرَفة فقال: يا سعيد، مالي لا أرى الناس يُلبُّون؟! فقلت: يخافون معاوية. فخرج ابن عبّاس مِن فسطاسه فقال: لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، وإنْ رغم أنف معاوية. اللَّهمَّ اللعنهم، فقد تركوا السُنّة مِن بُغض عليٍّ(١) .

* رأى المقدام بن مَعْدِي كرب في بيت معاوية يُلبَس الذهب وجلود السباع والحرير(٢) .

* جعل معاوية الخلافة وراثيَّة، فعيَّن مِن بعده يزيد.. وما أدراك ما يزيد؟! سنفرغ له بعد صفحات. وكانت تلك بِدْعةً سيِّئة(٣) .

* وقد عقد العلاَّمة الشيخ الأمينيّ (رحمه الله) فصولاً في كتابه (الغدير) - لاسِيَّما

____________________

١ - البداية والنهاية ٨: ١٣٠.

٢ - يُراجع مُسند أحمد ٤: ١٣٠، وقد أخرج في ذلك خبراً عن أبي داود.

٣ - يُنظَر: الاستيعاب ١: ١٤٢، وتاريخ ابن كثير ٨: ٧٩.

٨٥

في الجزء العاشر منه - لبيان ذلك، ونحن إذْ نُحيل القارئ الكريم إليه لا يفوتنا أنْ ننقل عن الأمينيّ هذه اللوعة:

انظرْ إلى مَبلغ هؤلاءِ الرجال أبناء بيت أُميَّة مِن الدين، ولعبهم بطقوس الإسلام، وجرأتهم على الله وتغيير سُنَّته..(١) .

وفي نفسه.. كيف كان معاوية؟ لنسمع أجوبة هذا السؤال مِن ألسنةِ أقلامِ أئمَّة الحديث وأصحاب السير:

* في مُسنده.. كتب أحمد بن حنبل: مِن طريق عبد الله بن بُريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجْلَسَنا على الفرش، ثمَّ أُتينا بطعامٍ فأكلْنا، ثمَّ أُتينا بالشراب فشرب معاوية ثمَّ ناول أبي، ثمَّ قال أبي: ما شربتهُ مُنذ حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(٢) .

* وفي تاريخ.. قال ابن عساكر: وفد عبد الله بن الحارث بن أُميَّة بن عبد شمس على معاوية، فقرَّبه حتَّى مسَّت ركبتاه رأسَه، ثمَّ قال له معاوية: ما بقيَ منك؟(٣) قال: ذهبَ - واللهِ - خيري وشَرِّي.

فقال له معاوية: ذهب - واللهِ - خيرٌ قليل، وبَقيَ شَرٌّ كثير، فما لنا عندك؟ قال: إنْ أحسنتَ لم أحمدْك، وإنْ أسأتَ لُمْتُك. قال معاوية: واللهِ، ما أنصفتَني. قال: ومتى أُنصفك؟! فواللهِ، لقد شججتُ أخاك

____________________

١ - الغدير ١٠: ١٩١.

٢ - مُسند ابن حنبل ٥: ٣٤٧.

٣ - كان عبد الله شيخاً كبيراً.

٨٦

حنظلة فما أعطيتُك عقلاً ولا قوداً، وأنا الذي أقول:

أصخرَ بن حربٍ لا نُعدُّك سيِّداً فسُدْ غيرَنا إذْ كنتَ لستَ بسيِّد

وأنت الذي تقول:

شربتُ الخمرَ حتَّى صرتُ كَلاَّ على الأدنى ومالي مِن صديقِ

وحتَّى ما أُوَسَّدُ مِن وسادٍ إذا أنسوا سوى التُرب السحيق

ثمَّ وَثَب على معاويةَ يخبطه بيده، ومعاويةُ ينحاز ويضحك(١) .

* وفي الإصابة، ذكر ابن حجر سنداً ينتهي إلى محمّد بن كعب القرظيّ، أنَّه قال: غزا عبد الرحمان بن سهل الأنصاريّ في زمن عثمان، ومعاويةُ أميرٌ على الشام، فمرَّت به روايا خَمرٍ لمعاوية، فقام عبد الرحمان إليها برمحه فبقر كلَّ راوية منها فناوشه الغلمان، حتَّى بلغ شأنُه معاويةَ فقال: دَعُوه؛ فإنَّه شيخٌ قد ذهب عقله. فقال عبد الرحمان: كلاَّ واللهِ، ما ذهب عقلي، ولكنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم نهانا أنْ نُدخِل في بطوننا وأسقيتنا خمراً، أحلف باللهِ، لئن بقيتُ حتَّى أرى في معاوية ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبقُرَنَّ بطنه.. أو لأموتنّ دونَه(٢) .

____________________

١ - تاريخ دمشق ٧: ٣٤٦. وروى الخبر كذلك ابن حجر في الإصابة ٢: ٢٩١، قال: روى الكوكبيّ مِن طريق عنبسة بن عمرو وقال: وفد عبد الله بن الحارث..

٢ - الإصابة ٢: ٤٠١، ولخَّصه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٦: ١٩٢، وأخرجه مُلخَّصاً أبو عمر في الاستيعاب المطبوع في هامش الإصابة، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة ٣: ٢٩٩، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

٨٧

ولا ندري ماذا كان قد سمع عبد الرحمان بن سهل الأنصاريّ مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أأمْرَه:(إذا رأيتُم معاويةَ على منبري فاقتلوه) ؟! أم غيره؟! كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الخلافة مُحرَّمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطْنَه) (١) .

وماذا نُعدِّد بعدُ مِن مفاسد معاوية؟! وهو الذي أكل الربا، كما شهد عليه عبادة بن الصامت، وثبَّت ذلك مالك في الموطِّأ ٢: ٥٩، والنسائيّ في سُنَنه ٧: ٢٧٩، والبيهقيّ في السُّنَن الكُبرى ٥: ٢٨٠، ومسلم في صحيحه ٥: ٤٣، والقرطبيّ في تفسيره ٣: ٣٤٩، وأحمد في مُسنده ٥: ٣١٩، وابن عساكر في تاريخه ٧: ٢٠٦، والمُتَّقي الهنديّ في كنز عمَّاله ٧: ٧٨، وغيرهم كثير.

ثمَّ ماذا نُنكر عليه.. أحروبه؟! وقد سفك فيها دماء عشرات الآلاف مِن المسلمين، في صِفِّين وغيرها على يد سراياه وقادته أمثال: بسر بن أرطأة، الذي قتل بعد التحكيم ثلاثين ألفَ مسلمٍ في اليمن وغيرها مِن البلاد، عدا مَن أُحرِق بالنار.. وسمرة بن جُندب الذي قتل ثمانية آلاف مِن أهل البصرة.. وزياد اللّقيط بن أبيه المجهول، الذي قطع الأيدي والأرجل، وسَمل العيون(٢) .

____________________

١ - مقتل الحسين (عليه السلام)، للخوارزميّ ١: ١٨٥. والملهوف على قتلى الطفوف، لابن طاووس، ٢٠.

٢ - يُراجَع: تاريخ الطبريّ ٦: ٣٦. وشرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ٦، ١٧.

٨٨

وكانت لمعاوية غارات، وكذلك غدرات!! فقتل بيده وبيد جلاوزته خِيرَة الصحابة والتابعين، أمثال: عمّار بن ياسر، وسعيد بن جبير، وعمرو بن الحمق، وحجْر بن عدِيّ، ومالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر(١) .. وسيِّدهم الإمام الحسن المُجتبى (عليه السلام). وكان في كلِّ مرَّة ينتشي ولا يخفي سرورَه ثمَّ يقول:(إنّ للهِ جنوداً مِن عسل) (٢) . يقصد أنَّه دسَّ سُمَّه في عسلٍ وسقاه عن طريق غدرتهِ إلى أولياءِ الله والمؤمنين، وكانت (جَعْدة) إحدى الخائنات في التاريخ، أغراها معاوية بأنْ يزوِّجها مِن ابنه يزيد ويهبها أموالاً كثيرة، فلمَّا قتلت سيِّدَنا الحسن (عليه السلام) تبرَّم مِن عهده، كما تبرَّم مِن ميثاق الصلح وشوطه، وقد عقده مع الإمام الحسن (عليه السلام) حين خطب في الكوفة فقال: ألا إنَّ كلَّ مالٍ أو دَمٍ أُصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكلُّ شرط شرطتُه فتحتَ قدَميَّ هاتين(٣) .

وأين نحن مِن ظلمه وإرهابه وقد طبَّقا آفاق المسلمين؟! ونال ذلك الظلم خيرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم أبو ذَرٍّ الغفاريّ، الذي وشى به معاوية عند عثمان بن عفّان، فنفاه إلى الربذة، عاش فيها أيَّاماً حتَّى مات فيها غريباً.. لماذا؟

____________________

١ - يُراجَع: الغدير ١١: ١٦- ٧٠.

٢ - عيون الأخبار، لابن قتيبة ١: ٢٠١.

٣ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١٦: ١٥.

٨٩

روى البلاذريّ: لمَّا أعطى عثمانُ مروانَ بن الحكم - وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاريّ مئة ألف درهم.. جعل أبو ذَرٍّ يقول:بشّرِ الكانزين بعذابٍ أليم . ويتلو قول الله عزَّ وجلَّ:( ... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (١) . فرفع ذلك مروانٌ بن الحكم إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذَرٍّ (ناتلاً) مولاه أنْ انتهِ عمَّا يبلغني عنك، فقال: أَيَنْهاني عثمانٌ عن قراءة كتاب الله! وعيب مَن ترك أمرَ الله؟! فواللهِ، لَئن أُرضي اللهَ بسخط عثمان أحبُّ إليَّ وخيرٌ لي مِن أنْ أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمانَ ذلك وأحفظه، فتصابر وكفَّ.

وقال عثمانُ يوماً: أيجوز للإمام أنْ يأخذ مِن المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذَرٍّ: يا ابن اليهوديَّينِ، أتُعلِّمُنا دينَنا؟! فقال عثمان: ما أكثرَ أَذاك لي وأوْلَعك بأصحابي! الحقْ بمكتبك. وكان مكتبه بالشام إلاَّ أنَّه كان يَقدِم حاجَّاً ويسأل عثمانَ الإذنَ له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأذن له في ذلك. وإنَّما صار مكتبه بالشام لأنَّه قال لعثمان حين رأى البناءَ قد بلغ سَلْعاً: إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(إذا بلغ البناءُ سَلْعاً فالهرب..) فأْذَنْ لي آتي الشامَ فأغزو هناك. فأذِن له.

____________________

١ - التوبة: ٣٤.

٩٠

وكان أبو ذَرٍّ يُنكر على معاوية أشياءَ يفعلها، وبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار، فقال أبو ذرّ: إنْ كانت مِن عطائيَ الذي حَرَمْتُمونيهِ عامي هذا قبلتُها، وإنْ كانت صلةً فلا حاجة لي فيها.

وبنى معاويةُ (قصر الخضراء) بدمشق، فقال له أبو ذرٍّ: يا معاوية، إنْ كانت هذه الدار مِن مال الله، فهي خيانة.. وإنْ كانت مِن مالك، فهذا الإسراف. فسكت معاوية.

وكان أبو ذرٍّ يقول: واللهِ، لقد حدثتْ أعمال ما أعرفها. واللهِ، ما هي في كتابِ اللهِ ولا سُنَّة نبيِّه. واللهِ، إنِّي لأرى حقَّاً يُطفأ، وباطلاً يُحيى، وصادقاً يُكذَّب، وأثَرَةً بغير تُقى، وصالحاً مُستأثَراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إنَّ أبا ذرّ مُفسدٌ عليك الشام، فتداركْ أهله إنْ كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إلى معاوية: أمَّا بعد، فاحمل جندباً - أي: أبا ذَرٍّ - إليَّ على أغلظِ مركبٍ و أوعره. فوجَّه معاوية مَن سار به الليلَ والنهار، فلمَّا قَدِم أبو ذرٍّ المدينة جعل يقول: تَستعمل الصبيانَ وتحمي الحمى، وتُقرِّب أولاد الطلقاء؟!

فبعث إليه عثمان: الحقْ بأيِّ أرضٍ شئت. فقال: بمَكَّة. قال: لا. قال: فبيت المَقْدس. قال: لا. قال: فبأحَدِ المصرين(١) . قال: لا، ولكنِّي مُسيِّرُك إلى الرَّبذة.

____________________

١ - أي: إمَّا مصر أو البصرة.

٩١

فسيَّره إليها.. فلم يزل بها حتَّى مات(١) .

وقد ذكر القصَّة بأنحاء مُختلفة: الواقديّ، والمسعوديّ، والبخاريّ في صحيحه، وابن حجر في (فتح الباري)، وغيرهم.

وقد فصَّل فيها ابن أبي الحديد، حتَّى ذكر أنَّ أبا ذرٍّ لما نُفي إلى الربذة ودَّعه أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السلام) فقال له:(يا أبا ذرٍّ، إنّك غضبتَ لله.. إنَّ القومَ خافوك على دنياهم، وخِفتَهم على دينك، فامتحنوك بالقَلى ونفوك إلى الفَلا. واللهِ، لو كانت السماواتُ والأرض على عبد رَتْقاً ثمَّ اتَّقى اللهَ لجعل له منها مخرجاً. يا أبا ذرّ، لا يؤنسنَّكَ إلاَّ الحقُّ، ولا يوحشنَّك إلاَّ الباطل) .

ثمَّ قال لأصحابه:(ودِّعوا عمَّكم) ، وقال لعقيل:(ودِّع أخاك) . فتكلَّم عقيل وقال: ما عسى ما نقول - يا أبا ذرٍّ -؟! وأنت تعلم أنَّا نُحبُّك وأنت تُحبُّنا، فاتَّقِ الله فإنَّ التقوى نجاة، واصبر فإنَّ الصبر كرم، واعلم أنَّ استثقالك الصبرَ مِن الجزع، واستبطاءَك العافيةَ مِن اليأس، فدَعِ اليأسَ والجزع.

ثمَّ تكلَّم الحسن فقال:(يا عمَّاه، لو لا أنَّه لا ينبغي للمودِّع أنْ يسكت، وللمُشيِّع أنْ ينصرف.. لَقَصُر الكلام وإنْ طال الأسف. وقد أتى مِن القوم إليك ما ترى، فضَعْ عنك الدنيا بتذكُّر فراغها، وشِدَّة

____________________

١ - عن الغدير ٨: ٢٩٢.

٩٢

ما اشتدَّ منها برجاءِ ما بَعدها، واصبر حتَّى تلقى نبيَّك صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راضٍ) .

ثمَّ تكلّم الحسين (عليه السلام) فقال:(يا عمَّاه، إنَّ الله تعالى قادر أنْ يُغيِّر ما ترى. اللهُ كلَّ يوم في شأن، وقد منعك القومُ دنياهم ومنعتَهم دينَك، فما أغناكَ عمَّا منعوك، وأحوجَهم إلى ما منعتَهم! فاسألِ الله الصبر والنصر، واستعِذْ بِه مِن الجَشَع والجَزع لا يؤخِّر أجَلاً) .

ثمَّ تكلَّم عمّار مُغضباً فقال: لا آنسَ مَن أوحشك، ولا آمَنَ مَنْ أخافك. أمَا والله.. لو أردتَ دنياهم لأمَّنُوك، ولو رضيتَ أعمالَهم لأحبُّوك، وما منعَ الناس أنْ يقولوا بقولك إلاَّ الرضى بالدنيا والجزعُ مِن الموت، ومالوا إلى ما سلطانُ جماعتهم عليه. والمُلْك لمَن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهمُ القومُ دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك الخُسران المُبين.

فبكى أبو ذرٍّ (رحمه الله) - وكان شيخاً كبيراً - وقال: رحِمَكمُ اللهُ - يا أهلَ بيت الرحمة -! إذا رأيتُكم ذكرتُ بكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. مالي بالمدينة سكَنٌ ولا شجنٌ غيركم. إنِّي ثقلتُ على عثمان بالحجاز كما ثقلتُ على معاوية بالشام، وكرِهَ أنْ أُجاورَ أخاه وابن خالهِ بالمصرَين(١) ،

____________________

١ - كان على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان مِن الرضاعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر ابن خال عثمان.

٩٣

فأُفسدَ الناسَ عليهما، فسَيَّرني إلى بلدٍ ليس لي به ناصرٌ ولا دافعٌ إلاَّ الله. واللهِ، ما أُريد إلاَّ اللهَ صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة(١) .

هذا أثر مِن آثار معاوية ومعاويةُ والٍ على الشام بتثبيتٍ مِن عثمان.. فإذا قُتِل عثمان أشاع معاوية الإرهاب، وشدَّد على مُحبِّي أمير المؤمنين (عليه السلام) حتَّى كتب إلى أحد قادة جيوشه: فاقتلْ كلَّ مَن لقِيتَه مِمَّن ليس هو على مثْلِ رأيك، واضربْ كلَّ ما مررتَ به مِن القرى، وأَحرِبِ الأموال.. فإنَّ حرَبَ الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب(٢) .

وكتب إلى ولاته في جميع الأمصار: انظروا مَن قامت عليه البيِّنةُ أنَّه يُحبُّ عليَّاُ وأهلَ بيته فامحُوه مِن الديوان، وأسقطوا عطاءَه ورزقَه(٣) .. وفي كتاب آخر جاء فيه: مَنِ اتَّهمتُموه بموالاة هؤلاءِ القوم فنكِّلُوا به واهدموا دارَه(٤) .

والآن.. دعونا ننظر إلى الصورة التي يُصوِّرها لنا الإمام الباقر (عليه السلام)؛ ليعكس لنا حال الأُمَّة في عهد معاوية:

(.. فقُتِلت شيعتُنا بكلِّ بلدة، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنَّة،

____________________

١ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد٢: ٣٧٥- ٣٨٧.

٢ - شرح نهج البلاغة ٢: ٨٦.

٣ - شرح نهج البلاغة ١١: ٤٥.

٤ - شرح نهج البلاغة ١١: ٤٥.

٩٤

وكلُّ مَن يُذكر بحُبِّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهب ماله، أو هُدِمت داره. ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين [ عليه السلام ]) (١) .

وسُرقت الأموال ووزِّعت على أنصار معاوية، واشتُرِيت بها الضمائر الرخيصة والنفوس الضعيفة والأهواء المُبتذلة، وحُورِب الدين بشريعته وأنصارها حرباً شعواء.

وهل وقف الأمر إلى هذا الحدّ؟! لا والله!

فقد سَنَّ معاوية سبَّ أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) على المنابر جهاراً نهاراً في صلوات الجمعة، حتَّى استمرَّ ذلك ثمانين سنةً تقريباً في مُدن البلاد الإسلاميَّة - كما يذكر السيوطيّ في تاريخ الخُلفاء مُبيِّناً: - وكان في الدولة الإسلاميَّة سبعون ألفَ مِنبرٍ يُشتَم عليها عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وكمْ يعترض البعض على انتقاد صحابيّ في مسألة خلافيَّة، فيُحتَجُّ له بألف حُجَّةٍ وحُجَّة، وتُقام له الدنيا ولا تُقعد؛ لأنَّ الصحابة كالنجوم، كلُّهم قدوة وأُسوة! ولكنَّ الإمامَ عليَّاً (عليه السلام) يُسَبُّ ثمانين عاماً ثمَّ يُسدل على ذلك ستار أسود، وتُطوى سجلاَّت هذه الجريمة العظمى والكارثة الكبرى، ويُقال بعد كلمة (معاوية): رضي الله عنه وأرضاه. ألم يكنِ الإمام عليٌّ (عليه السلام) مِن الصحابة؟! ألم يكن

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ١١: ٤٣.

٩٥

خليفة المسلمين؟! ألم يُسَلَّم عليه يوم الغدير بإمرة المؤمنين؟! فكيف سُكِت ويُسكَت على لعنه ثمانين سنة، وعلى أكثر مِن سبعين ألف منبر في حواضر البلاد الإسلاميَّة؟!(١) .

إنَّها الخيانة المتوارَثة! والتسالم على بُغض النبيّ وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رُوي مِن طريق السُّنَّة - فضلاً عن الشيعة -.. أنَّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد قال:(يا عليّ، مَن قتلَك فقد قتلني، ومَن أبغضك فقد أبغضني، ومَن سبَّك فقد سبَّني؛ لأنَّك منِّي كنفسي.. روحك مِن روحي، وطينتُك مِن طينتي. وإنَّ الله تبارك وتعالى خلقني وخلقك مِن نوره، واصطفاني واصطفاك.. فاختارني للنبوَّة، واختارك للإمامة، فمَن أنكر إمامتَك فقد أنكر نبوَّتي..) (٢) .

ومعاوية قد اتَّخذ سبَّ الإمام عليّ (عليه السلام) سُنَّةً على منابر الجمعة والعيدَين. ورُبَّ مُتسائل مُستغرب: أين مصادر هذه الجناية؟! فرُبَّما لصقها أعداء معاوية بمعاوية؟!

نعم.. (ربَّما)، إذا كان الأمر يتعلَّق بكرامة معاوية! ولكنْ دعونا نُقلِّب هذه الصفحات: ص ١٢٠ مِن الجزء ٧ مِن صحيح مسلم. وص ١٧١ مِن الجزء ١٣ مِن صحيح الترمذيّ. وص ١٠٩ مِن الجزء ٣ مِن مُستدرك الصحيحين - للحاكم. وص ٦١، مِن الجزء الأوَّل مِن

____________________

١ - كما ذكر ذلك الزمخشري مُفصَّلاً في (ربيع الأبرار).

٢ - ينابيع المودَّة، للشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ ١: ٥٣.

٩٦

مروج الذهب - للمسعودي. وص ١٢ مِن تذكرة خواصِّ الأُمَّة - لسبط ابن الجوزي.

ولو كان معاوية بريئاً مِن هذه الجناية فلماذا لم يَنْهَ عنها؟! بلْ لماذا أمرَ عقيلاً أنْ يلعن عليَّاً، فلعنَ عقيلُ معاوية - كما جاء في العِقد الفريد لابن عبد ربَّه ٢: ١٤٤. والمُستطرف للأبشيهيّ ١: ٤٥ -؟! ولماذا دعا عبيدَ الله بن عمر - لمَّا قدِم إلى الشام - أنْ يشتم عليَّاً فتحرَّج - كما بيَّن ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صِفِّين ١: ٩٢، وابن أبي الحديد في شرح النهج ١: ٢٥٦ -؟! ولماذا اعترض أنس على سَبِّ عليّ (صلوات الله عليه) كما بيَّن شهر بن حوشب، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة ١: ١٣٤ -؟! ولماذا نصح الأحنفُ بن قيس معاويةَ أنْ يترك لعن عليٍّ بعد شهادته، فأصرَّ معاويةُ على أنْ يقوم الأحنف هو نفسه فيلعن - كما جاء في العِقد الفريد ٢: ١٤٤، والمُستطرف ١: ٥٤ -؟! ولماذا اشترط الإمام الحسن (عليه السلام) في وثيقة الصلح مع معاوية ألا يَشتُم عليّاً، فلم يُجب معاوية إلى الكفِّ عن شتم عليّ، فطلب الحسن ألا يُشْتَمَ عليٌّ وهو يسمع، فأجابه معاوية إلى ذلك ثمَّ لم يفِ به - كما ورد في تاريخ الطبري ٦: ٩٢، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٣: ١٧٥، وتاريخ ابن كثير ٨: ١٤، وتذكرة خواصِّ الأُمَّة: ١١٣، والإتحاف بحُبِّ الأشراف للشبراويّ: ٣٦؟!

وماذا يقول المُتسائل إذا أخبره الطبريّ في تاريخه ٦: ٩٦، وابن

٩٧

الأثير في الكامل ٣: ١٧٩، وأحمد بن حنبل في مُسنده ١: ١٨٨، والحاكم في مُستدركه ١: ٣٨٥، وابن أبي الحديد في شرحه ١: ٣٦٠، والسيوطيّ في تاريخ الخُلفاء: ١٢٧، وابن حجر في الصواعق المُحرِقة: ٣٣، وغيرهم أنَّ عمَّال معاوية، ومنهم: بسر بن أرطأة في البصرة، وكُثير بن شهاب في الريّ، والمغيرة بن شعبة في الكوفة، ومروان بن الحكم في المدينة.. وغيرُهم، أنَّهم كانوا يشتمون عليَّاً على منابر الجُمعات والأعياد؟!

ولماذا لمَّا قُتِل الإمام الحسن (عليه السلام) حجَّ معاوية، فدخل المدينة وأراد أنْ يلعن عليَّاً (عليه السلام) على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: إنَّ سعداً لا يرضى، فأمسك، ثمَّ لمَّا مات سعد لعن عليَّاً على المنبر وكتب إلى عمَّاله أنْ يلعنوه على المنابر، ففعلوا.. فكتبت أُمُّ سلَمة زوجة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاوية: إنَّكم تلعنون الله ورسولَه على منابركم؛ وذلك أنَّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومَن أحبَّه، وأنا أشهد أنَّ اللهَ أحبَّه ورسولَه، فلم يلتفت معاوية إلى كلامها؟!(١)

وبعد.. فقد كان في سيرة معاوية نقض العهود، ونكث المواثيق، والغدر والخيانة، ولا أدلَّ مِن تمزيقه مُعاهدة الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) والإخلال بشروطها مِن أوَّل يوم. قال أبو إسحاق

____________________

١ - يُراجَع تفصيل ذلك في: العِقد الفريد ٢: ٣٠١.

٩٨

السبيعي: إنَّ معاوية قال في خُطبته بالنُخيلة: ألا إنَّ كلَّ شيءٍ أعطيتُه الحسنَ بنَ عليِّ تحت قدمَيَّ هاتين.. لا أفي به(١) . قال أبو إسحاق: وكان معاوية - والله - غدَّاراً(٢) .

وكيف لا؟! وقد بيَّن له الإمام الحسن (عليه السلام) في جملةٍ مِن مثالب معاوية في محضره حتَّى قال له:

(.. ومنها: أنَّ عمر بن الخطّاب ولاَّك الشامَ فخنتَ به، وولاَّك عثمانُ فتربَّصتَ به ريبَ المنون. ثمَّ أعظم مِن ذلك جُرأتُك على الله ورسوله أنَّك قاتلت عليَّاً (عليه السلام)، وقد عرَفتَه وعرفتَ سوابقَه وفضلَه، وعلمَه على أمرٍ هو أولى به منك ومِن غيرك عند الله وعند الناس، ولآذيتَه بلْ أوطأتَ الناس عَشْوَة، وأرقتَ دماءَ خلْقٍ مِن خلْقِ الله بخُدعك وكيدِك وتمويهِك، فِعْلَ مَن لا يؤمنُ بالمَعاد، ولا يخشى العقاب، فلمَّا بلغ الكتابُ أجَلَه صرتَ إلى شرِّ مَثْوى، وعليٌّ إلى خير مُنقلَب، واللهُ لك بالمُرصاد..) (٣) .

ولم يسلم منه المسلمون، حتَّى مَن كان آمناً في حرم الله (مكَّة)، فقد أمر معاوية بالإغارة عليها، وهي البلد الآمن والحرم الآمن - كما جاء في كتاب الله تعالى -:( ... أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى

____________________

١ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٤: ١٦.

٢ - يُراجَع: المُختصر في أخبار البشر، لإسماعيل بن عليّ بن محمّد المعروف بـ (أبي الفداء).

٣ - الاحتجاج: ٢٧٥.

٩٩

إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ... ) ؟(١) ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً... ) ؟(٢) ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً... ) (٣) . وقد روَّوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إنَّ هذا بلد حرم الله يومَ خلقَ السمواتِ والأرض، وهو حرام بحُرمة الله إلى يوم القيامة، وإنَّه لم يحلَّ القتال فيه لأحدٍ قبلي..) (٤) .

وفي المدينة المنوَّرة الطيِّبة قال المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم - كما روَوا -:(المدينة حرمٌ بين عِير إلى ثور، مَن أحدث فيها حدثاً - أيْ: إثماً أو قتلاً -أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يُقبَل منه صَرْف ولا عمل. ذِمَّة المسلمين واحدة، فمَن أخفر مسلماً - أيْ: غدر به -فعليه لعنة الله والملائكةِ والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صَرْف ولا عدل) (٥) .

ولكنَّ معاوية بن هند أمر بالاستحواذ على المدينة المنوَّرة، وإخافةِ أهلها والوقيعة فيهم واستقراء مَن يوجد فيها مِن شيعة الإمام عليّ (عليه السلام)(٦) .

____________________

١ - القصص: ٥٧.

٢ - العنكبوت:٦٧.

٣ - البقرة: ١٢٥.

٤ - صحيح البخاريّ ٣: ١٦٨ - باب لا يحلُّ القتال بمَكَّة. وصحيح مسلم ٤: ١٠٩.

٥ - صحيح البخاريّ ٣: ١٧٩، وصحيح مسلم ٤: ١١٤...، ومُسند أحمد ١: ٨١ و ٢: ٤٥٠، وسُنَن البيهقي ٥: ١٩٦، وسُنَن أبي داود ١: ٣١٨.

٦ - يُراجَع: الغدير ١١: ٣٤.

١٠٠