أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 85471
تحميل: 7188

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85471 / تحميل: 7188
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

منشأ الضرورة والإمكان:

نؤجّل طرح نظريّتنا في هذا المجال إلى بحث ( أصالة الوجود والضرورة والإمكان ). ونقتصر على طرح النظريّات الأُخرى منذ سالف عهد الحكمة، فنكون قد قدّمنا عرضاً إجمالياً لتطوّر البحث في هذه المسألة.

المعروف أنَّ الحكماء منذ سالف عهد الحكمة ذهبوا إلى أنَّ كلاً من الضرورة والإمكان والامتناع يمثل خاصية لبعض الماهيات والذوات، أي أنَّ الماهيات مختلفة بالذات، وخصوصية بعضها أنَّها ضرورية الوجود وبعضها ممكنة الوجود وبعضها ممتنعة الوجود، ومن هنا صنّفوا الماهيات إلى ثلاثة أصناف: واجب الوجود، ممكن الوجود، ممتنع الوجود. وقد عرف هذا الفريق من الحكماء الواجب والممكن والممتنع على الشكل التالي:

الواجب هو ما تقتضي ذاته وماهيته الوجود، والممتنع هو الذي تقتضي ذاته وماهيته عدم الوجود، والممكن هو ما تكون ذاته وماهيته بالنسبة إلى الوجود على صفة ( اللاإقتضاء ).

ثمّ تقدّم البحث الفلسفي قليلاً، فالتفت الفلاسفة إلى أنَّ النظرية المتقدّمة بعيدة جداً، بل طفولية. وقالوا لا معنى لأنّ تكون الذات مقتضية لوجودها أو لعدمها، فكيف يمكن أن يكون الشيء معطياً لوجوده أو عادماً له. نعم يمكن القول إنَّ واجب الوجود هو ذات وماهية إذا تصورها العقل فسوف ينتزع الموجودية من ذاتها، كما ينتزع الزوجية من ذات العدد أربعة، ويعد خلافهُ محالاً وممتنعاً، أمّا ممتنع الوجود فهو ماهية إذا تصوّرها العقل فسوف ينتزع المعدومية من حاقِّ ذاتها. إذن فواجب الوجود ليس ذاتاً معلولة للغير إنّما ينتزع العقل الموجودية من ذاته، وممتنع الوجود بغض النظر عن أي علّة

١٠١

خارجية معدوم وينتزع العقل من. ذاته المعدومية. أمّا ممكن الوجود فهو المعلول من غيره، والعقل لا ينتزع من ذاته ـ بقطع النظر عن أي شيء خارجي ـ الموجودية ولا المعدومية.

ثمّ تعمّق الفلاسفة في الإلهيات بشكل أكبر، واكتشفوا صفات الواجب وفق براهين خاصة، فأثبتوا أنَّ واجب الوجود لا يمكن أن يكون كسائر الأشياء المركبة من ماهية ووجود، بل واجب الوجود ينبغي أن يكون وجوداً محضاً وهوية صرفة ؛ ومن هنا اعتبروا تعريف واجب الوجود بأنه ماهية تنتزع الموجودية من حاق ذاتها تعريفاً غير صحيح أيضاً. بل التعريف الصحيح لواجب الوجود هو ( الحقيقة التي هي صرف الوجود والقائمة بذاتها ).

وعلى أساس نظرية هذا الفريق من الفلاسفة تصبح النظريتان المتقدّمتان خاطئتين في اعتبار الضرورة والإمكان والامتناع خصوصية ماهوية ؛ لأنَّنا لاحظنا أنَّ الوجوب الذاتي لا يمكن أن يكون خاصية ماهوية. بل إذا كان هناك وجوب ذاتي أي واجب الوجود يلزم أن يكون وجوداً محضاً ( بلا ماهية ).

غير خفي على القارئ المحترم أنَّنا لسنا بصدد إثبات واجب الوجود وتحديد صفاته، فإثبات واجب الوجود قضية متأخّرة عن هذا البحث، وسوف يأتي البحث حولها في آخر مقالة من هذه المجموعة من المقالات. لكننا بصدد بيان نظريات الفلاسفة حول الضرورة والإمكان، واتخذنا هذا البحث مقدمة لإثبات قاعدة ( ضرورة نظام الوجود ).

١٠٢

قانون العلّية:

العلّية تعني: إنَّ كل حادثة تحتاج إلى موجد ومحدث، وبعبارة أخرى، إنَّ كل شيء هويته ( الفعل ) و ( الحدث ) يتطلّب فاعلاً ومحدثاً. وقد تكفّلت المقالة التاسعة بحث هذا القانون وفروعه. يقف قانون العلية مقابل فرضية الصدفة والاتفاق، والصدفة عبارة عن وجود الأشياء والحوادث بذاتها وبدون تدخّل شيء آخر. إنَّ امتناع الصدفة والاتفاق ضرورة من الضرورات العقلية، وسوف تعكف المقالة التاسعة بشكل مستقل على إيضاح وتفسير الشواهد التي تُدّعى لفرضية الصدفة. ونَدُرَ بين مفكري العالم قائلون بالصدفة، نعم هناك بين علماء اليونان من أنكر مبدأ الكون وأجاز وقوع الصدفة، والحق أنَّ هذه الدعوى التأريخية لا نعرف مدى صحّتها أيضاً.

إنَّ الإيمان بالصدفة والاتفاق ونفي قانون العلية بشكل قطعي يستلزم أن ينتفي أيّ نظام وقاعدة في الكون، وسوف لا نعترف بأيّ دور لأيّ شيء في أي شيء، ولا نقرّ بارتباط أي حادثة بأي أمر آخر، وننفي الارتباط بين الأشياء، وهذا يفضي إلى أن نضرب علامة (X) على جميع العلوم ؛ لأنَّ كل علم عبارة عن بيان لمجموعة قواعد وأنظمة كونية، وإذا كان وقوع أي حادثة ممكن بلا علة أمكن أن ننتظر في كل وقت وتحت كل شرط وقوع تلك الحادثة أو أي حادثة أُخرى. وسوف لا نطمئن في أي وقت وتحت أي شرط من عدم وقوع أي حادثة من الحوادث.

قانون العلية العام أحد القوانين الفلسفية، وهو أحد الأُسس الرئيسية الكلية لقوانين جميع العلوم.

١٠٣

( الحتمية العلّية ) ـ العِلّة تُعطي المعلولَ الضرورةَ:

تمثل هذه القاعدة أحد شعب قانون العِلّية، وهي ترتبط ببحث الضرورة والإمكان، وينبغي علينا أن نتحدّث عن هذه القاعدة في مقدّمة البحث عن ضرورة نظام الوجود.

يعرف كلّ واحد منا أنَّ العلّة تعني ( مانحة الوجود إلى المعلول ). نريد هنا أن نتعرف على الإجابة على الاستفهام التالي: ـ هل العِلّة التي تعطي الوجود للمعلول تعطي الضرورة للمعلول أيضاً أم لا ؟ ويعني هذا الاستفهام هل يكون تحقّق المعلول ضرورياً وحتمياً مع فرض تحقّق العلة التامة، أم لا ؟

إذا تأملنا قليلاً نلاحظ أنَّ العلّة إن لم تمنح المعلول الضرورة فسوف لا تكون مانحة الوجود للمعلول ؛ لأنَّ المعلول مع غض النظر عن العلة ممكن الوجود، ومن الواضح أنَّ إمكان وجود الشيء ليس كافياً لإيجاده، وإلاّ لزم أن توجد كل حادثة ممكنة بدون علة، وهذا عين الصدفة والاتفاق، الذي يعادل نفي العلية العامة، وهذا يعني ـ كما لاحظنا ـ إلغاء العلوم جميعها والوقوع في وحل السفسطة.

بعد أن اتّضح أن الإمكان الذاتي لشيء لا يكفي لوجوده وتحقّقه نقول: إذا فرضنا أنَّ المعلول يبقى ممكن الوجود، رغم تحقق علته، ولا يصبح ضرورياً وواجباً، فهذا يعني أنَّ تحقق العلة وعدم تحققها سيان بالنسبة إلى المعلول، وهذا يعني أنَّ تحقق العلة ليس مرجحاً لوجود المعلول كما هو الحال في فرضية عدم تحقق العلة، وينتج من هذا أنَّ الملعول ممتنع عقلاً حال تحقق العلة، كما هو ممتنع عقلاً حال عدم تحققها، ويكون وجوده معادلاً للصدفة والاتفاق. إذن إذا كانت العلة لا تمنح الملعول ضرورةً ووجوباً فهي لا تمنحه الوجود أيضاً، أي سوف لا تكون العلة علة بحسب الواقع. إذن

١٠٤

فالعلية من هذه الزاوية تعادل الضرورة والحتمية، والنظام العلي نظام ضروري وحتمي.

من هنا فقاعدة أنَّ العلّة تعطي المعلول الضرورة قاعدةٌ فطريةٌ، ويذعن بها كلّ ذهن بشري. فإذا حاول بعض الباحثين على أساس البحث العلمي التشكيك في هذه القاعدة فهو يتابعهما عملياً، انطلاقا من فطرته، كما أشار المتن إلى ذلك: ( إذا ضغطنا على باب، ولم يُفتح، سوف نعود نبحث في أطرافه وزواياه، أي نحاول أن نفهم: ما هي الموانع التي حالت دون أن تحقق علّة فتح الباب معلولها ؛ إذ لو لم تكن هناك موانع فسوف يفتح الباب بضغط اليد حتما مع تحقق بقية الشروط ؛ إذن فلا بد أن تكون العلة التامة مانحة لمعلولها الضرورة، ويوجد معلولها جراء هذه الضرورة ).

نطلق على هذه القاعدة، أي قاعدة منح العلة الضرورة للمعلول، وأنَّ المعلول ما لم يجب لا يوجد ( قانون الجبر العلّي ). وهذا القانون مورد اتفاق سائر الحكماء، ومخالفوه على صنفين، صنف ذهب مذهب الصدفة والاتفاق وأنكر قانون العلّية، وأنصار هذا المذهب نادرون جداً في القديم والحديث. والصنف الآخر ظهر أخيراً، حيث ذهب فريق من علماء الفيزياء ـ جراء تجاربهم المختبرية ـ إلى الشك في قانون العِلّية، واستنتجوا بطلان الحتمية العِلّية. والحق أنَّ قانون الحتمية العِلّية خارج عن دائرة الفيزياء، ولا يمكن إثباته أو إبطاله على أساس قواعد الفيزياء. إنَّ استنتاجات علماء الفيزياء في هذا المجال هي نوع من الاستنباطات النظرية والعقلية العامة ؛ وحيث إنّ هذه الاستنباطات النظرية لم تتم وفق أُصول المنطق وقواعده فهي فاقدة للقيمة العلمية. وليس هناك ارتباط معقول وسليم بين الاختبارات العلمية وبين هذه

١٠٥

الاستنباطات النظرية. وسوف نتناول البحث في أطراف هذا الموضوع بشكلٍ مفصل في المقالة التاسعة أو العاشرة.

هناك فريق آخر أنكر قانون الحتمية العلّية، وهم جماعة من المتكلّمين. إنَّ هذا الفريق لا ينكر قانون العلّية العامة، إنَّما ينكر الحتمية والضرورة العِلّية. واستبدلوا قانون الجبر العِلّي بقانون آخر، أطلقوا عليه ( قانون الأولوية )، وقدموا طرحاً خاصاً لإثبات فرضيتهم، وقد رد عليهم الحكماء وبعض المتكلّمين بأجوبةٍ مفيدة ومقنعة. ونحن هنا نغمض النظر عن الدخول في نظرية هذا الفريق من المتكلّمين لعدم توفرها على أفكار مهمة.

حاجة المعلول إلى العلّة حدوثاً وبقاءً:

بُغية أن نستوعب قاعدة ( ضرورة نظام الوجود ) علينا أن نتناول إحدى شعب قانون العلّية العامة الأخرى، وهي من أُسس هذه القاعدة أيضاً، فنطرح الاستفهام التالي: هل ينحصر تأثير العِلّة على المعلول وحاجة المعلول إلى العِلّة في مرحلة الحدوث فقط، أم في الحدوث والبقاء معاً ؟

افرض أنَّ لدينا جسماً ساكناً، وجهنا إليه قوةً، فتحرك الجسم، فحركة الجسم هنا حادثة لم تكن ثمّ كانت، والقوة التي وجهناها علة حركة الجسم، نأتي لنرى هل هذه الحركة تحتاج إلى علة في ابتدائها فقط أم أنَّها تحتاج إلى علة على الدوام، ويمتنع أن تنفك عن العلة، رغم أنَّ العلة قد تكون خفية علينا ؟

ثم إننا لو آمنا بأنَّ المعلول يحتاج إلى علة في الحدوث فقط، وقلنا إنه يستمر في الوجود بذاته، فهنا يطرح الاستفهام التالي: هل تكون هذه الاستمرارية والدوام في الوجود ضرورية وحتمية أم لا ؟

١٠٦

نعم بعد الإيمان بقانون العلّية العام وقانون الحتمية العلية، وبغية إثبات أنَّ نظام الوجود نظام ضروري ووجوبي، يتحتّم علينا أوّلاً: إثبات أنَّ المعلول يحتاج إلى علة في البقاء، وأنَّ العلة التي تمنح المعلول الضرورة والوجوب تمنحه إياها حدوثاً وبقاءً. أو على الأقل علينا إثبات أنَّ المعلول، وإن لم يتطلب علة لبقائه، لكن استمرارية وجوده وبقائه وإن كانت ذاتية لكنها ضرورية ووجوبية ؛ إذ من البديهي أننا اذا لم نؤمن بحاجة المعلولات إلى علة في البقاء ولم نؤمن بأن استمرار المعلول في الوجود بنفسه استمرار ضروري وحتمي لا يمكننا إثبات أنَّ نظام الموجودات في العالم نظام ضروري وحتمي.

تطرح هنا ثلاث نظريات:

١ ـ إنَّ المعلولات تحتاج إلى علة في الحدوث والبقاء معاً، وأنها تكتسب وجودها وضرورتها حدوثاً وبقاءً من العلل. وهذه نظرية سائر الفلاسفة، ولا تعثر على فيلسوف مخالف لهذه النظرية.

٢ ـ إنَّ المعلولات تحتاج إلى علة في الحدوث لا في البقاء، لكن بقاءَها ودوامها الذاتي ضروري وحتمي. وهذه نظرية فريق من العلماء المحدثين، استنتجوها في ضوء التجارب الفيزيائية.

٣ ـ المعلولات لا تحتاج إلى علّة في بقائها، وليست هناك أي ضرورة تحكم بقاءها ودوامها. وهذه نظرية فريق من المتكلّمين، الذين أنكروا حاجة المعلول إلى العلة في البقاء، مضافاً إلى إنكارهم أصل قانون الحتمية العلّي.

لقد أقام الفلاسفة على إثبات نظريتهم أدلة محكمة، ونقدوا نظريات المتكلّمين بشكلٍ عقلي سليم. وقد تعهد متن هذه المقالة بطرح نظرية المتكلّمين وسائر أنصار نظرية عدم حاجة المعلول إلى العلة بقاءً، وقدم نقداً

١٠٧

لها، وأشار إلى نظرية الفيزيائيين المحدثين أيضاً. وسوف تأتي هذه الموضوعات ضمن المقالة تحت عنوان (إشكال وجواب)، وحيث إن هذا الموضوع طرح بشكل تفصيلي في جواب الإشكالات ضمن هذه المقالة، وسيأتي بشكل تفصيلاً في المقالة التاسعة تحت عنوان (هل مناط الحاجة إلى العلة هو الحدوث أم الإمكان؟)، فسوف نتجنّب التكرار في هذه المقدّمة، ونكتفي بهذا الطرح الإجمالي لفهم نظرية المقالة.

الضرورة بالذات وبالغير:

ألقى البحث حول منبع الضرورة والإمكان، وقانون الحتمية العلي ضوءاً على تنويع الضرورة إلى ما بالذات وما بالغير. وبغية مزيد من الإيضاح ينبغي تبيان أقسام الضرورة والإمكان والامتناع حسب القسمة العقلية، ووفق آخر البحوث في هذا المجال.

يبدو للوهلة الأُولى أنَّ كلاً من المواد العقلية الثلاث تنقسم إلى ما بالذات وما بالغير.

الضرورة بالذات تعني أن يكون الموجود موجوداً بدون إسنادٍ لأي علّة، وقائماً بذاته، ويستحيل العدم عليه. ونسمّي هذا الموجود وجب الوجود.

الضرورة بالغير تعني أن يكون الموجود مستنداً في وجوده إلى أمر آخر، ويكتسب وجوده وضرورته من هذا الأمر الآخر، الذي هو علة وجوده.

الامتناع بالذات يعني استحالة الوجود على ذات الشيء، مثل اجتماع النقيضين، والصدفة، والطفرة، وغيرها.

١٠٨

الامتناع بالغير يعني أن الشيء لا يستحيل عليه الوجود بذاته، بل إذا وجدت العلة فسوف يوجد. ولكن بحكم عدم وجود علته فهو غير موجود بالضرورة، إذن فامتناع وجود هذا الشيء ناشئ من عدم وجود العلة، وحيث إنَّ هذا الإمتاع ناشئ من زاوية عدم العلة نسميه الامتناع بالغير.

الإمكان الذاتي عبارة عن أن الشيء بذاته ليس ضروري الوجود وليس ممتنع الوجود، بل بحسب ذاته قابل للوجود والعدم معاً، مثل سائر الأشياء التي توجد في هذا العالم ثمّ تعدّم. ولا منافاة بين الإمكان الذاتي وبين الضرورة بالغير والامتناع بالغير ؛ إذ ليس هناك إشكال في أن يكون الشيء بحسب ذاته لا اقتضاء له، أي ليس ضروري الوجود وليس ممتنع الوجود، لكنه بحسب اقتضاء الغير يتّصف بالضرورة أو الامتناع، وحيث إنّ العلة تمنح المعلول الضرورة، فكل ممكن بالذات في حال وجوده ضروري بالغير، وفي حال عدمه ممتنع بالغير.

أما الإمكان بالغير فهو أمر غير معقول ؛ لأنَّ الشيء بحسب ذاته أما أن يكون ممكنا، أو واجباً، ممتنعاً. فإذا كان ممكناً فبحسب ذاته واجد للإمكان، ولا معنى لأنَّ يأتيه الإمكان من ناحية الغير. وإذا كان واجباً أو ممتنعاً يلزم أن يكون الواجب بالذات متّصفاً بصفة بواسطة أمر خارجي، وهذه الصفة تجيز الوجود والعدم معاً، لكن هذه الصفة تتنافى مع الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي ؛ إذن لا معنى للإمكان بالغير. إذن فالأقسام المعقولة هنا خمسة، أما القسم السادس الذي يبدو للوهلة الأُولى فهو غير معقول.

يتضح في ضوء ما تقدم أنَّ كل معلول له وجوب وضرورة بالغير، فإذا فرضنا أنَّ نظام الوجود يتألّف من سلسلة علل ومعلولات غير متناهية

١٠٩

يلزم أن يكون كل نظام الوجود مؤلفاً من وجوبيات بالغير ( لا وجوب بالذات ).

إنّ إحدى تناقضات الماديين تكمن في هذه النقطة، فهم قد طرحوا أنفسهم مؤمنين بالنظام العلي، ثم ذهبوا ـ من زاوية أخرى ـ إلى أنَّ الحتمية العلية دليل على نفي الصانع ومبدأ الوجود ؛ إذ ادعى هؤلاء أنَّ فرض وجود مبدأ أول وصانع للكون لا معنى له، ما دام نظام الوجود يسير طبق قانون العلية الحتمي، وما دام كل موجود يوجد بالضرورة في حد ذاته، وكل موجود ضروري الوجود، ومن هنا لا ضرورة لافتراض واجبٍ يكون خالقاً لكل الموجودات.

والحق أنَّ الحتمية العلية هي إحدى المقدّمات اليقينية لإثبات أنَّ الوجودات القائمة بالغير تنتهي إلى وجود قائم بالذات، لكن الماديين يأكلون من القفا ؛ لأنَّ أساس الفكر المادي في إنكار مبدأ الوجود يقوم على الصدفة ونفي قانون العلية، لا على أساس إثباته. لكن الماديين بحكم اضطرارهم إلى الإذعان بقانون العلية خلطوا بين الضرورة بالغير والضرورة بالذات، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا. فينبغي أخذ هذا الموضوع بنظر الاعتبار، بغية فهم بعض أفكار هذه المقالة.

الضرورة الذاتية الفلسفية والضرورة الذاتية المنطقية:

بعد أن أوضحنا مفهوم الضرورة الذاتية، وفق الاصطلاح الفلسفي الشائع، علينا هنا إيضاح مفهوم الضرورة الذاتية وفق اصطلاح المناطقة الشائع أيضاً ؛ إذ ما لم يتّضح الفرق بين هاتين الضرورتين يتعذر فهم وإيضاح عمق الفكرة التي سنطرحها في إثبات أنَّ لكل وجود، سواء أكان ممكناً أم كان واجباً، ضرورة ذاتية.

١١٠

إنَّنا لا نريد هنا أن نتلاعب بالألفاظ، بل نريد تحليلاً دقيقاً لأحكام العقل المختلفة، وهذا أمر سيقف عليه القارئ المحترم.

أشرنا سابقاً إلى أنَّ أحكام الذهن بشأن الضرورة والإمكان والامتناع أحكام عقلية وليست حسّية، وإزاء هذه الأحكام إمّا أن نختار السكوت المطلق، وإمّا أن نقوم بتحليل عقلي دقيق، نميّز من خلاله أحكام الذهن المختلفة. ولا بدّ من معرفة جميع أقسام الضرورات العقلية، أي أنواع أحكام العقل، لكي تتّضح الحقيقة في هذا المجال، ونتجنب الجدل السفسطائي في خضم الأفكار الكثيرة التي طرحت في هذا المجال، حيث أولت مدراس الفلسفة هذا الموضوع بالاهتمام منذ القدم.

على أن نشير إلى أنَّ الفرق بين هاتين الضرورتين اللتين نزمع على بيانهما ( الضرورة الذاتية الفلسفية والضرورة الذاتية المنطقية ) لم يكن ذا أهمية في دائرة البحث الفلسفي قبل ظهور أصالة الوجود. ولكن على أساس أصالة الوجود يكون التمييز بين هاتين الضرورتين أساسياً وحائلاً دون الوقوع في إشكالات أساسية، هذه الإشكالات التي تدفع البعض إلى نفي الوجود الممكن، وتدفع بعضاً آخر إلى نظرية اعتبارية الوجود. كما وقع أنصار المنطق الديالكتيكي ـ بحكم عدم التمييز بين هاتين الضرورتين ـ في أخطاء جسيمة ومثيرة للسخرية أحياناً، وسنأتي على الإشارة إليها في هوامش المقالة.

الضرورة ـ سواء في المنطق أم في الفلسفة ـ تقابل الإمكان والامتناع ؛ إنَّما أراد المنطقيون من الضرورة الذاتية في باب القضايا ما يقابل الضرورة الوصفية والشرطية. وهذا التقسيم المنطقي يلحظ نسق حكم العقل،

١١١

ولا ينظر إلى الواقع ونفس الأمر، رغم تطابق حكم العقل والواقع ونفس الأمر.

الضرورة الوصفية تعنّي أن يكون المحمول ضرورياً للموضوع، لا مطلقاً، بل ما دام الموضوع بصفة وحالة خاصة، نظير قولنا: إنَّ الحركة ضرورية للجسم، حينما نوجه إليه قوة دافعة، وحينما لا يكون هناك مانع في البين. أمّاالضرورة الذاتية فهي أن يكون المحمول ثابتاً للموضوع بالضرورة المطلقة، دون شرط خارجي خاص، ودون اتّصافه بحالة معينة، بل ما دام ذات الموضوع محفوظاً فالمحمول ثابت بالضرورة للموضوع، أي أنَّ أخذ الموضوع بنظر الاعتبار كافٍ وحده لحكم العقل بضرورة اتصاف الموضوع بالمحمول، نظير قولنا: الجسم ذو مقدار ومكان، أو قولنا: الإنسان حيوان، أو قولنا: إنَّ مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين ؛ فمفهوم هذه القضايا هو أنَّ الجسم ما دام جسماً فهو ذو مكان ومقدار، والإنسان ما دام إنساناً فهو حيوان، والمثلث ما دام مثلثا فمجموع زواياه تساوي قائمتين.

إنَّ حكم العقل بالضرورة في هذه القضايا مشروط بشرط واحد فقط، وهو عبارة عن بقاء ذات الموضوع، أي أنَّ العقل يحكم بضرورة ثبوت المحمول للموضوع على فرض بقاء الموضوع، خلافاً للقضايا الضرورية الوصفية، حيث لا بد من توفر شرط ووجود حالة معينة إلى جانب بقاء الموضوع.

لم يجد المنطقيّون ـ للوهلة الأولى ـ سوى هذين القسمين للضرورة، فقسم من القضايا يكفي فيها أخذ ذات الموضوع بنظر الاعتبار ليحكم العقل بالضرورة، وقسم آخر يتطلب إضافةً إلى ذات الموضوع النظر إلى حالة

١١٢

معينة وشرط خاص. على أنَّ المنطقيّين لا يحصرون هذين القسمين، كما لا يحصرون الامتناع والإمكان بمحمول معين. بل كل محمول يقاس إلى موضوع من الموضوعات، أمّا أن يكون ضرورياً أو ممكناً أو ممتنعاً. هذا هو مصطلح المناطقة للضرورة الذاتية، وهي تعني ما يقابل الضرورة الوصفية، كما عرفنا، وهذا التقسيم للضرورة بلحاظ مناط حكم العقل.

أمّا الفلاسفة فيستخدمون الضرورة الذاتية مقابل الضرورة بالغير ( لا الضرورة الوصفية )، ويستخدمون الامتناع الذاتي مقابل الامتناع بالغير. وهذا التقسيم للضرورة لا يلحظ فيه مناط حكم العقل وكيفية تركيب القضية ذهنياً ولفظياً، بل يلحظ فيه الواقع ونفس الأمر بشكل محض.

الضرورة بالغير تعني الضرورة التي تحصل للشيء بواسطة علّة خارجية، سواء أكانت هذه الضرورة ضرورة ذاتية أم وصفية من وجهة نظر المنطقي. والضرورة الذاتية عبارة عن الضرورة التي تحصل للشيء بدون تدخّل أي علّة خارجية. على أنَّ التقسيم الفلسفي في باب الضرورة والإمكان والامتناع لا يعم جميع المحمولات، بل يختصّ بمحمول معيّن، وهو الوجود. ومن هنا فحينما يقال واجب أو ممكن أو ممتنع يراد به من وجهة نظر الفلاسفة. واجب الوجود، وممكن الوجود، وممتنع الوجود. خلافاً للتقسيم المنطقي حيث يعم كلّ محمول بالنسبة لكل موضوع، كما أشرنا.

من هنا فالضرورة الذاتية الفلسفية عبارة عن اتّصاف الموجود بالوجود بنحو الضرورة وهذه الضرورة ليست رهن أي علّة خارجية. وبعبارة أخرى إنّها تعني وجود الموجود بشكلٍ مستقل وبذاته، أي بدون علّة. والضرورة بالغير عبارة عن اتّصاف الموجود بصفة الوجود بالضرورة، لكن هذه الضرورة رهن علّة خارجية.

١١٣

يستلزم من إثبات الضرورة الذاتية الفلسفية للشيء أن يكون أزلياً وأبدياً، أي إذا أثبتنا الوجود لموجود بنحو الضرورة الذاتية، وقيام الوجود بنفسه، وبدون علّة، يستلزم أن يكون الذاتي أزليا وأبدياً، وتكون صفة الوجود ثابتةً للموجود ثبوتاً أزلياً وأبدياً. ولكن لا يستلزم من ثبوت الضرورة الذاتية المنطقية ثبوت الأزلية والأبدية ؛ لأنَّ العقل يحكم بالضرورة الذاتية المنطقية بشرط بقاء الموضوع، فإذا كان الموضوع أمراً زائلاً، فسوف يزول بزواله اتّصاف الموضوع بمحمولاته من باب " السالبة بانتفاء الموضوع ".

ادّعى بعض الفلاسفة والمنطقيين أنَّ هناك ثلاثة أقسام للضرروة من زاوية منطقية، وهي الضرورة الوصفية والضرورية الذاتية والضرورة الأزلية. الضرورة الوصفية عبارة عن ضرورة اتّصاف الموضوع بالمحمول بشرط بقاء الموضوع، وبشرط وجود حالة معينة. الضرورة الذاتية عبارة عن ضرورة اتّصاف الموضوع بالمحمول، ما دام الموضوع مطلقاً، أي بدون أي شرط وقيد. ومن هنا فالقضايا الضرورية الوصفية ذات شرطين في حكم العقل بالضرورة، والقضايا الضرورية الذاتية ذات شرط واحد، والقضايا الأزلية ليس لها أي شرط وقيد في حكم العقل بالضرورة. من هنا يمكن عد الضرورة الذاتية الفلسفية قسماً مستقلاً في عرض الضرورة الذاتية والوصفية المنطقية. ومن هنا فالضرورة المطلقة تختص بالضرورة الأزلية، وسائر الأقسام الأُخرى ضرورات مشروطة.

على كل حال، ومع غض النظر عن الاصطلاحات الشائعة بين المناطقة والفلاسفة، إذا راجعنا أسلوب حكم العقل بضرورة شيء لشيء نجد الأقسام التالية: قسم من الأحكام التي تثبت الضرورة، أيّ ضرورة صفات

١١٤

للأشياء، ولكن في حالةٍ خاصة وشروط معينة ( الضرورة الوصفية ). وقسم من الأحكام يثبت ضرورة بعض الصفات الأخرى للأشياء بدون تدخل حالة خاصة وشروط خارجية معينة، ولكن بشرط بقاء ذات تلك الأشياء ( الضرورة الذاتية المنطقية ). وقسم من الأحكام يثبت ضرورة الصفة للأشياء بشكل مطلق، وبدون شرط بقاء الموضوع كمناط لحكم العقل بالضرورة ( الضرورة الأزلية ).

ويمكن أن يطرح هنا الإشكال التالي: ليس هناك فرق في الواقع بين الضرورة الذاتية الفلسفية ( الضرورة الأزلية )، وبين الضرورة الذاتية المنطقية ؛ والفرق المذكور سابقاً، الذي يقرّر بقاء الموضوع كشرط لحكم العقل في الضرورة الذاتية المنطقية، وأنَّ العقل لا يجد أيّ مانع من زوال الموضوع وزوال الصفة واتصاف الموضوع بالمحمول تبعاً لذلك، ويقرّر عدم اعتبار هذا الشرط في الضرورة الذاتية الفلسفية لأنَّ الشيء إذا كان قائماً بذاته فهو أزلي وأبدي، ولا معنى لزواله، إنَّ هذا الفرق لا يرتبط بماهية هذين القسمين من الضرورة، بل يرتبط حصراً بحكم أنّنا فرضنا الوجود محمولاً في الضرورة الأزلية، وإذا كانت صفة الوجود ثابتة لشيء ذي ضرورة ذاتية منطقية فهذا يعني أنَّ الوجود لازم لذات الشيء، ويستلزم ذلك أن يكون الشيء أزليّاً وأبدياً، وهذا يستلزم أن يكون الشيء ذاتياً مستقلاً وقائماً بذاته وواجب الوجود.

لكنّ هذا الإشكال غير سليم، وليست هناك ملازمة بين وجوب الوجود الذاتي، حسب اصطلاح المناطقة، وبين وجوب الوجود الذاتي حسب اصطلاح الفلاسفة. ولا منافاة أيضاً بين الضرورة الذاتية للوجود حسب

١١٥

اصطلاح المناطقة، وبين الضرورة بالغير حسب اصطلاح الفلاسفة. ونحن نطرح هذه المقدّمات جميعها للوقوف على هذه الإشكالية، وسوف نقف عند معالجتها بشكل تفصيلي في الفقرة التالية تحت عنوان ( أصالة الوجود والضرورة والإمكان ).

إنَّ عدم التمييز بين الضرورة الذاتية المنطقية وبين الضرورة الذاتية الفلسفية أفضى إلى أخطاء جسيمة، ارتكبها بعض أدعياء الفلسفة وغيرهم من الماديين وغير الماديين. كما أفضى عدم التمييز إلى ذهاب أنصار المنطق الديالكتيكي إلى أنّ بحث الضرورة في المنطق بحث لاغٍ، بل ذهبوا إلى أنَّ الإيمان بالعلاقة الضرورية مظهر جمود المنطق ( استاتيك ). وسوف نقف على مناقشة هذه الأوهام ضمن هوامش هذه المقالة.

تفسير نظام الوجود:

تمثّل الأبحاث المتقدّمة مقدّمة لهذا الموضوع، وقد اتّضح ممّا تقدم أنَّ نتيجة بعض النظريات تفضي إلى نفي الضرورة في نظام الوجود، ونتيجة بعضها الآخر يفضي إلى إثباتها. وأنصار نظرية ضرورة نظام الوجود ليسوا على موقفٍ واحد، فبعضهم يتبنّى تنويع الضرورة في نظام الوجود إلى ضرورة بالذات وضرورة بالغير، بينما يذهب بعضهم الآخر إلى أنَّ نظام الوجود تسيطر عليه الضرورة بالغير فقط.

ويمكننا أن نضع مجموع نظريّات المفكّرين في تفسير نظام الوجود، من زاوية الضرورة وعدمها، ضمن الجدول التالي:

١١٦

ليست هناك أيّ ضرورة ووجوب يحكم الموجودات ؛ لأنَّ قانون العلية العام غير صادق، وحدوث الموجودات يتمّ بالصدفة والاتّفاق.

أصحاب نظرية الصدفة والاتّفاق، ومنكروا مبدأ الوجود ونظامه.

نظام الوجود ليس ضرورياً ووجوبياً ؛ إذ رغم صحّة قانون العلّية، لكنّ الحتمية والضرورة العلية غير صحيحة.

فريق من المتكلّمين

نظام الموجودات ليس نظاماً ضرورياً وجبرياً ؛ إذ رغم صدق قانون العلّية وقانون الحتمية العلية، لكن تأثير العلّة في وجود وضرورة المعلول ينحصر في الحدوث، وليس هناك ما يحتم بقاء المعلولات، أو عدم بقائها.

الذين يؤمنون بحاجة المعلول إلى العلّة في الحدوث لا في البقاء، وينفون الحتمية تلقائياً.

الوجود لا نظام له، لكي يكون ضرورياً أو غير ضروري ؛ لأنَّ الوجود حقيقة واحدة محضة، وهذه الحقيقة واجب بالذات.

فريق من العرفاء.

نظام الموجودات نظام وجوبي وضروري ؛ لصدق قانون العِلّية العام، وقانون الجبر العِلّي، وقاعدة حاجة المعلول إلى العلّة في البقاء. ويتألّف هذا النظام من الوجوب الذاتي والوجوب الغيري ؛ لأنَّ سلسلة العلل والمعلولات المنتظمة قائمة بذات واجب الوجود، الذي هو علّة بالذات.

الحكماء الإلهيون، كأرسطو وابن سينا والفارابي، وغيرهم.

نظام الموجودات نظام ضروري ووجوبي ؛ لصدق قانون العِلّية العام وقانون الحتمية العِلّي. ورغم عدم حاجة المعلول إلى العِلّة في البقاء، لكن بقاء المعلول تلقائي وجبري، ما لم تقع العلّة التي تعدم المعلول، وهذا النظام مؤلّف من الواجب بالذات والواجب بالغير. وتنتهي سلسلة العلل إلى المحرك الأوّل الذي هو ذات واجب الوجود.

بعض المفكّرين الإلهيين المحدثين

١١٧

نظام الموجودات نظام ضروري ووجوبي، لصدق قانون العِلّية العام أو قانون الحتمية. ورغم عدم حاجة المعلولات إلى العِلّة في البقاء، لكنّ بقاءها تلقائي وحتمي. وهذا النظام يتألّف بأسره من الضرورة بالغير ؛ لأنَّ سلسلة العلل والمعلولات غير متناهية.

المادّيون المحدثون

قمنا بالتمييز عبر هذا الجدول بين نظرية الصدفة والاتفاق التي تنكر قانون العلية العام، وبين نظرية المتكلّمين التي تنكر الحتمية العلية فقط، وبين نظرية جميع أولئك ( الإلهيين والماديين ) الذين يذهبون إلى انحصار حاجة المعلول إلى العلة في الحدوث. على أنَّ الأمر ليس خفياً على المختصّين، فإنَّ نفي الجبر العلّي ونفي حاجة المعلول إلى العلة في البقاء هو عين نفي قانون العلية والقول بالصدفة والاتّفاق، وقد أشرنا إلى هذا الموضوع، وسنتناوله بالبحث تفصيلياً في مقالة ( العلة والمعلول ). من هنا فقد جاءت هذه التفرقة تمشياً مع أطروحات أنصار هذه النظريات، وإلاّ فهذه النظريات لا تنفك عن القول بالصدفة والاتّفاق.

على كلّ حال فضرورة نظام الوجود تستلزم: إنَّ وقوع كلّ حادثة في عالم الوجود حتمي ولا يمكن تخلّفه، وإنَّ كلّ حادثة ترتبط برباط ذاتي وتكويني مع سائر حوادث وموجودات العالم، أي أنَّ نسبتها إلى بعض الموجودات نسبة المعلول، وإلى بعض نسبة العلّة، ونسبتها إلى بعض آخر نسبة الاشتراك في العلل الأولية. وحيث إنَّ ارتباط هذه الحادثة مع سائر حوادث العالم ارتباط ذاتي وتكويني تكون مميزاتها الوجودية ضرورية وقطعية، ولا يمكن تخلّفها أيضاً. أي إنَّ هذه الحادثة المفروضة ذات ارتباط زماني ومكاني ووضعي وإضافي وغيره مع سائر الموجودات، فتتقدّم على

١١٨

بعضها زمانياً وتتأخّر عن بعضها أو تقارن بعضها، وفي كلّ لحظة من الزمان أمّا أن تكون قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى بعض الموجودات، أو محاذية أو غير محاذية، فهذه المميزات مع أخذ العلل الحتمية المحيطة بنظر الاعتبار تكون ضرورية ووجوبية، ويستحيل وقوع ما يغاير الأمر الواقع.

أصالة الوجود ( الضرورة والإمكان ):

طرحنا في فقرة " منشأ الضرورة والإمكان " ثلاث نظريات، ولاحظنا السير التكاملي في هذه النظريات. وقد تمّ البحث في منشأ الضرورة والإمكان مع قطع النظر عن أصالة الوجود أو أصالة الماهية. فالبحث في أصالة الوجود ـ كما تقدّم في المقالة السابعة ـ لم يكن مألوفاً على صورته الراهنة قبل أربعة قرون. ومن هنا فقضايا الفلسفة لم يتمّ البحث فيها على أساس أصالة الوجود أو الماهية. رغم أنَّ النظريات غير الممحّصة اقرب لمسلك أصالة الماهية.

لكن أخذ نظرية أصالة الوجود بنظر الاعتبار يفضي إلى تغييرات في مصير قضايا الضرورة والإمكان ؛ فعلى أساس أصالة الوجود تصبح العلية والملعولية والوجوب الذاتي والغيري جميعها من شؤون الوجود، وتنبثق كلّ الضرورات والحتميات من الوجود وترجع إليه. والماهية بحسب الحقيقة لا تتّصف بصفة الوجود، كما أنَّها لا تتّصف بصفة الوجوب والضرورة حقيقةً. وإذا نسبنا صفة الوجوب الغيري للماهية أحياناً فإنَّما ننسبها مجازاً واعتباراً. أي أنَّ الماهية كما أنّ وجودها مجازي واعتباري تكون ضرورتها ووجوبها مجازياً واعتبارياً، وليس حقيقياً.

١١٩

ينبغي القول على أساس أصالة الوجود واعتبارية الماهية أنَّ الضرورة مطلقاً ( بالذات وبالغير ) من شأن الوجود، والإمكان من شأن الماهية، كما أنَّ الامتناع يرجع إلى العدم. أي ينبغي القول إنَّ الضرورة والإمكان والامتناع على الترتيب من شأن الوجود والماهية والعدم ؛ خلافاً للسائد بين المتقدّمين من أنَّ الضرورة والإمكان والامتناع جميعاً شأن من شئون الماهيات.

نقول إنَّ الضرورة شأن الوجود ؛ لأنَّ نسبة الموجودية إلى الوجود نسبة ضرورية ؛ إذ بناءً على أصالة الوجود يكون الوجود عين الموجودية والواقع، وفرض وجود غير موجود فرض محال، كما جاء في مطلع هذه المقالة ( إنَّ واقعية وجود ماهية لا يمكن إطلاقاً أن تقبل بذاتها زوال واقعها، فيصبح واقعها لا واقعاً، أي ليست هناك واقعة يمكن أن تسلب عن ذاتها ).

وحينما نقول إنًّ الإمكان شأن الماهية فإنّنا نعني بذلك أنَّ نسبة الموجودية والمعدومية إلى الماهية هي نسبة التساوي، أي أنَّ فرض الوجود والعدم إلى الماهية ليس ضرورياً، كما جاء في مطلع المقالة أيضاً " إنَّ معنى الإمكان هو تساوي نسبة الشيء إلى الوجود والعدم... وإذا قلنا الإنسان ممكن فهذا يعني أنَّ نسبة ماهية الإنسان إلى الوجود والعدم نسبة التساوي، رغم أنَّ نسبة وجود هذه الماهية إلى وجود الماهية ليست على هذا النحو ".

وحينما نقول إنَّ الامتناع شأن العدم فنعني أنَّ نسبة المعدومية إلى العدم نسبة الضرورة، والامتناع لا يعني سوى ضرورة العدم. فجميع الممتنعات بالذات ترجع إلى امتناع التناقض، وسوف نقول في بحث العدم النسبي إنَّ العدم الذي يكون نقيضاً هو العدم الحقيقي، الذي له امتناع ذاتي. ومن هنا فالوجوب مطلقاً ( بالذات أو بالغير ) شأن من شؤون الوجود، وليس للماهية حقيقةً نصيب منه.

١٢٠