أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 85454
تحميل: 7188

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85454 / تحميل: 7188
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأُصول الموضوعة في الفلسفة: أشرنا في المقالة الأُولى، عند الحديث عن علاقة الفلسفة بالعلوم، إلى حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر، وقلنا إنَّ الفلسفة شئنا أَم أبينا تفيد من نتائج العلوم وتستخدمها في أبحاثها. وتمثل النتائج العلمية المادة الأوّلية التي توضع بيد الفلسفة لتصوغ منها حقائق كلّية فلسفية. والأُصول الموضوعة في الفلسفة عبارة عن هذه المواد الأوّلية التي تضعها العلوم بيد الفلسفة. على أنَّ صحة أو سقم هذه المواد تتحمّل العلوم مسئوليّتها ولا يمكن للفلسفة أن تؤمّن صحّة أو سقم حقائق العلوم.

من هنا فكلّ استدلال فلسفي يتّكئ على العلوم يتبع في درجة صحّته واعتباره درجة اعتبار وصحّة المسألة العلمية مورد الإفادة. خلافاً للمسائل الفلسفية الخالصة، حيث تقوم على أساس البديهيات والأُصول المتعارفة، فتستطيع الفلسفة ضمان صحتها المطلقة. وعلى هذا الأساس فالمسائل الفلسفية التي تقوم على أساس قبول قضايا العلوم الطبيعية والفلكية الحسية والتجريبية أو الفرضية تخضع لإعادة النظر تبعاً للتطوّرات والتغييرات التي تطرأ على العلوم الطبيعية والفلكية.

إنَّ تفكيك قضايا الفلسفة الخالصة عن قضاياها التي تعتمد العلوم من أهم الواجبات العلمية التي ينبغي العكوف عليها، ولم نجد حتى الآن من تصدى لهذه المهمة، وأنا عازم على ورود هذا الميدان وتكفيك هذه المسائل بدقة وعرضها في موضعها الملائم.

أمّا ما يمكن طرحه هنا فهو: إنَّ المسائل الأساسية في الفلسفة التي تشكل عمودها الفقري، مسائلٌ فلسفية خالصة. وينحصر اتكاء البحوث الفلسفية على مسائل العلوم في قسم من المسائل الثانوية لأبحاث العِلّة والمعلول، والقوة

٢١

والفعل، والحركة، وبعض الأقسام الفرعية الأُخرى التي لا بدّ فيها من الإفادة والاعتماد على البحوث العلمية. وفي الحقيقة تكتسب البحوث المرتبطة بمعرفة عالم الوجود (نظير مسائل الوجود والعدم، والضرورة والإمكان، والوحدة والكثرة، والعِلّة والمعلول، والمتناهي واللامتناهي...) طابعاً كلّياً وصبغة فلسفية خالصة. أمّا في نظام الفلسفة الحسية فتقوم أُصول النظريات على أساس الأُصول الموضوعية، بل تقوم أحيانا على أساس الفروض، التي لم تمحّص علميا، وتتجلّى هذه الخصوصية في ناصية المادية الديالكتيكية بشكل واضح.

منشأ اختلاف العلوم من زاوية الأُصول والمنهج:

يختص كلّ علمٍ من العلوم والفلسفة بمجموعة أُصول متعارفة وموضوعة، مضافاً إلى أنَّ العلوم والفنون لا تتبع منهجاً وأسلوباً واحدا ؛ إذ رغم أنَّ هذه العلوم نتاج الفكر والفعالية العقلية، لكن سياق التفكير والفعالية العقلية ليس على غرار واحد في كلّ الميادين. فيجب استخدام التجربة والاختبار العملي في بعض الموارد، ويجب في موارد أُخرى الاكتفاء بالمشاهدة الحسية، وينبغي في موارد أُخرى الاتجاه صوب المشاهدة الحضورية النفسية، وينبغي استخدام القياس والبرهان العقلي في موارد أُخرى. وفي بعض الحالات تتداخل هذه الأساليب بينما يكتفي في حالات أُخرى بأسلوب واحد منها.

أشرنا فيما تقدّم إلى اهتمام المناطقة المحدثين بتنوّع مناهج العلوم والفنون، وعلى أساس هذا الاهتمام أنشأوا علماً جديداً " علم المناهج ـ الميتولوجي ". إنَّما نريد هنا أن نطرح ملاحظة مهمة ـ لم نر أحداً تعرّض

٢٢

إلى طرحها ـ وهي: بيان منشأ اختلاف العلوم والفنون من زاوية الأُصول المتعارفة والموضوعية، ومن زاوية الأسلوب ومنهج البحث. أي أن نتساءل: لِم تنحصر الإفادة من بعض الأُصول المتعارفة والموضوعة في بعض العلوم ؟ ولِمَ يتحتّم إتباع منهج وأسلوب خاص في كلّ علمٍ وفنٍّ ؟

نعتقد أَنَّ اختصاص كلّ علمٍ ببعض الأُصول واتّباعه منهجاً خاصاً، ينشأ وينبع من موضوع ذلك العلم ؛ لأنَّ الأُصول المتعارفة والموضوعة لكل علمٍّ عبارة عن مجموعة أحكامٍ قطعيةٍ أو وضعيةٍ يتوفّر عليها العقل في موضوع ذلك العلم، وهذا الأمر واضح في ضوء تحليل كلّ واحدٍ من الأُصول المتعارفة. أمّا الأسلوب والمنهج في كلّ علم فهو عبارة عن لون من الارتباط الفكري الخاص الذي ينبغي أن يتمّ بين الإنسان وموضوع ذلك العلم. وبديهي أنَّ لون الارتباط الفكري بين الإنسان وأيّ شيء من الأشياء يرتهن بطراز وجود وواقعية ذلك الشيء ؛ فإذا كان الشيء جسمياً يتحتّم أن يكون الارتباط بين الإنسان وذلك الشيء جسمياً ومادياً، والإحساس والاختبار ارتباط مادّي يتوفّر عليه الجهاز الفكري مع الأشياء. وإذا كان الشيء نفسياً يلزم العكوف على المشاهدة الحضورية النفسية، التي هي الوسيلة الوحيدة لارتباط الذهن مع ذلك الشيء. وإذا كان الشيء عقلياً، أي حقيقة يحصل عليها العقل بقوة الانتزاع، يلزم تحليلها بأسلوب القياس والبرهان العقلي.

من هنا يمكن الوقوف على أهمية الدور الذي تلعبه موضوعات العلوم في العلوم ؛ إذ قد اتّضح في ضوء ما تقدّم في هذه المقدّمة:

أوّلاً ـ استقلال وتمايز العلوم.

ثانياً ـ اختصاص الأُصول المتعارفة والموضوعة لكلّ علم به.

٢٣

ثالثاً ـ اختصاص العلم بمنهج محدّد ينشأ من موضوعه:

إذن ؛ فموضوع كلّ علم وفنٍّ هو العامل الحاسم في استقلال ذلك العلم، والمحدد لمنهجه وأسلوب بحثه، ومنشأ اختصاص الأُصول المتعارفة والمبادئ الأولية لذلك العلم به.

منهج الفلسفة:

بعد أن تعرّفنا على موضوع الفلسفة، وعرفنا أسلوب جهاز الإدراك البشري في الحصول على هذا المفهوم، وبعد أن اتّضح لنا أنَّ منهج وأسلوب كلّ علم في البحث يرتهن بأسلوب حصول موضوع ذلك العلم لدى الذهن، تتّضح لنا ماهية المنهج الذي ينبغي على الفلسفة اختياره.

أوضحنا في المقالة الخامسة طراز ظهور المفاهيم لدى الذهن، وأوضحنا النظريتين الحسية والعقلية ونقدناهما. وأثبتنا أنَّ مفهوم الوجود والموجود هو الموضوع الأساسي لمسائل الفلسفة، وأنَّ المفاهيم الفلسفية الأُخرى، نظير: الوحدة والكثرة وغيرها مفاهيم عقلية بحتة، أي مفاهيم لا يستطيع الذهن الحصول عليها بأيٍّ من الوسائل الحسية الداخلية أو الخارجية، بل يتوفر عليها عبر أرقى فعالياته العقلية(راجع المقالة الخامسة). وبديهي أنَّ البحث والتحقيق حول موضوع، يتوفر عليه الذهن عبر أرقى فعالياته العقلية، لا يتسنى إلاّ بالأسلوب والمنهج العقلي.

٢٤

الوجود وواقع الأشياء

ليس لدينا شكّ على الإطلاق، ولا ينبغي لنا الشكّ أيضا، في أنَّ الخطوة الأولى التي نزمع على خطوها بعد إسكات نغمة السَفسَطة هي: مواجهة واقع الأشياء والتعامل مع واقع الوجود. أي بعد الفراغ عن إثبات أساس الواقعية نندفع اندفاعا غريزياً لا قِبَلَ لنا من الانصراف عنه، نندفع نحو البحث والتفتيش عن وقائع الوجود المختلفة.

وبعبارة أُخرى: نعلم " أنَّ هناك واقعاً " (١) ، ومن ثمَّ نحاول تنويع هذه الحقيقة، التي تنتج حقائقَ أُخرى. ولكن بعد أنْ تحصل لدينا مجموعة

١ـ هذا هو عين الأصل الذي ذكرناه في المقدّمة تحت عنوان "أصل إثبات الواقع ". وهذا الأصلُ عبارة عن الإذعان والتصديق بشكلٍ عام " أنَّ هناك واقعاً "، خلافاً لزعم السَفسطائيِّين الذين يعدُّون العالمَ هواء في هواء، وأنّ الإذعانَ بوجودِ أمرٍ لا يتعدَّى الخيال.

إنّ هذا الأصل أصل يقيني وقطعي، وتعتمده كلّ الأذهان البشرية، وهو النقطة الأُولى في التفكير الإنساني، عبر مسيرته العقلانية " الفلسفة " ؛ حيث تتَّخذه نقطة انطلاق حركتها.

ينبغي أن نعلم أنَّ على كل فيلسوف أنْ يبدأ أفكاره من مُنطلَق يقيني لا يقبل الشكّ، وأنْ يُقيمَ براهينه واستدلالاته على أساسٍ محكمٍ متينٍ، إذ لو قامت

٢٥

من المعلومات، نجد أنَّ هذه المعلومات ليست حقائقَ أجمع، بل بعضها كذب يشبه الصدق، رغم أنَّ المنبع الأساسي لهذه المعلومات واقع موجود

مجموعة الأفكار الفلسفية على أساس فرضي غير قطعي، وانطلاقاً من نظرية احتمالية، فسوفَ تفقد قيمتها واعتبارها بالبداهة ؛ لأنَّ البناءَ الذي لا تُحكم أُسسه متهدِّم لا محالةَ.

إذن ؛ ينبغي أن يكون الأصل الأوَّلي، الذي يُعتبر نقطة انطلاق مسيرة الأفكار أصلاً، لا يعتريه أيُّ تردّدٍ وشك، وينبغي أن يكون أصلاً متعارفا، لا أصلاً موضوعاً. بل ينبغي أن يكون إنكاره مُعادِلاً لإنكار جميع الأصول المسلَّمة الأُخرى.

لقد التفتَ المحقِّقون من الحكماء إلى هذا الموضوع، فوجدوا أنَّ الأصل الوحيد الذي يتمتَّع بصلاحية أنْ يكون نقطة انطلاق الفلسفة هي: " أنَّ هناك واقعاً ". هذا الأصل الذي يُمثِّل الحدّ بين الفلسفة والسَفسَطة، أو بين الواقعية والمِثالية، وهو أصل يقيني وفطري، ومورد تصديق جميع الأذهان البشرية، وحتى السَفسَطائي نفسه، دون أنْ يلتفت، يعترف بهذا الأصل في عُمق ذاته.

منذ اللحظة الأُولى التي نتخلَّص فيها من مغالطات السفسطة، ونفيد من فطرتنا الواقعية، نجد أنفسنا في مواجهة واقع الأشياء، ونجد الإذعان والتصديق اليقيني بـ " أنَّ هناك واقعاً " في نهاية الوضوح في أذهاننا. يعني سوف نواجه ما يواجهه كلّ فردٍ بفطرته البسيطة، دون أن يلتفت إلى المغالطات السفسطائية، كما جاء في المتن "إنَّ الخطوة الأُولى التي نُزمعُ على خطوها بعد إسكات نغمة السفسطة، هي: مواجهة واقع الأشياء، والتعامل مع واقع الوجود، أي: بعد الفراغ عن إثبات أساس الواقعية... ".

بعد قبول هذا الأصل، يعني الإذعان والتصديق بـ " أنَّ هناك واقعاً "

٢٦

وحقيقة قائمة باستمرار، لا يعتريها التغيير والتحوُّل، خلافاً لطموح أنصار الحقيقة النسبيَّة، فهي صامدة لا تتزَلزَل.

تأتي المرحلة الثانية للرحلة العقلانيَّة، فنتَّجهُ صوب الاستفهام عن مظاهر هذا الواقع. وبعبارة أُخرى، ما هو موجود وما هو غير موجود!

نجد في هذه المرحلة أنَّ هناك ظواهر، ونُذعن بأنَّ " أنا موجود "، " الأرض موجودة "، " النجومُ موجودة "، " المادّةُ موجودة "، " القوّة موجودة "، " الروح موجودة ". كما جاء في المتن " نعلم أنَّ هناك واقعاً، ومن ثمَّ نحاول تنويع هذه الحقيقة، التي تتضمَّن حقائق أُخرى ". على أنَّ بعض هذه الحقائق حقائق بديهيّة وعيانيَّة وغنيَّة عن الاستدلال، نظير حقيقة " أنا موجود "، التي تنبع من العلم الحضوري بالنفس بذاتها، أو حقيقة الأرض أو الشمس موجودة التي تنبع من العلم الحسّي البديهي. وأَنّ بعض هذه الحقائق تتطلّب بحثاً وتحقيقاً لكنّ هذه المرحلة تؤكّد الإذعان بالأصل الكلّي " أنَّ هناك واقعاً " وتنفي زعم السفسطائي الباطل الذي يدّعي أنّ كلّ شيءٍ هواء وباطل في باطل، وأَنَّ الوجود والواقع أمر محال وممتنع.

إنّ هذا الأصل الكلّي، نظير سائر الحقائق (خلافاً للحقائق الاعتبارية التي مرّت في المقالة الخامسة) أصل مطلق وثابت وغير خاضع إطلاقاً لقانون التحوّل والتكامل والنشوء والارتقاء، كما جاء في المتن "حقيقة قائمة باستمرار لا يعتريها التغيير والتحوّل خلافاً لطموح أنصار الحقيقة النسبية فهي صامدة لا تتزلزل ". أي خلافاً لزعم النسبيين وأنصار الماديّة الديالكتيكية كما تقدّم في المقالة الرابعة الذين يذهبون إلى أنّ جميع الأُسس الفكرية

٢٧

وبحجم وضوح ثبوت أصل الواقع لدينا يتّضح لنا وجود تلك الهفوات والتورّط في الأخطاء الفكرية. ولا تقلُّ خطورة الشكّ في وقوع الخطأ

والعقلية خاضعة للتغيير والتحوّل إلى ضدها. إنّ هذا الأصل حدّ فاصل بين الواقعية والمثالية ولا يخضع إطلاقاً للتغيير والتحوّل إلى ضده كما يدعيه المثاليون والسفسطائيون.

نكرّر مرةً أُخرى، أَنَّ هذا الأصل الكلّي الذي يعدُّ نقطة بداية البحث الفلسفي، يأتي لاحقاً لقبول قانون امتناع التناقض الذي يعدُّ البنية التحتي لجميع الأفكار والمعقولات البشرية والذي يُستخدم في جميع العلوم وفي الفلسفة خصوصا.

إنّ قانون امتناع التناقض وقانون إثبات الواقع أصلان متعارفان أساسيان، تعتمد عليهما الأدلة والبراهين الفلسفية. وهذان الأصلان في الواقع يمثلان الجناحين اللذين تطير فيهما القوّة العاقلة في تحليقها بأجواء ميدان الوجود الفسيح.

بعد الإذعان بالأصل الأساسي للواقعية، وبعد تنويع هذه الحقيقة والحصول على مجموعة معلوماتٍ في هذا المجال يواجه الإنسان ملاحظة واضحة أُخرى، ترتبط بذاته وبجهازه الفكري وهي وجود أخطاءٍ وهفواتٍ يتورّط بها الإنسان. فيتخيّل وجود ما ليس بموجود أو عدم ما هو موجود أحيانا. كما جاء في المتن "بحجم وضوح ثبوت أصل الواقع لدينا يتّضح لنا وجود تلك الهفوات والتورط في الأخطاء الفكرية "، ومن هنا تنبثق الحاجة الملحّة لمعرفة الواقع، وبعبارة أخرى: الحاجة لفنِّ معرفة الوجود، حيث يتيسّر

٢٨

والاشتباه بالفكر عن خطورة الشكّ في أصل الفكر، الذي أسميناه " السفسطة ". لأنَّ السفسطة بقتلها للحقيقة والواقع ـ حيث تسلبنا أعَز

التمييز بين الحقائق والأوهام. ويمكن معرفة الموجودات الواقعية عن الأمور الخيالية، عبر هذا الفنّ. وهذا الفنّ هو الفلسفة الذي يمكن أن نسمّيه علم الوجود أو فنّ معرفة الواقع.

غير بعيد عن السياق ونحن نبحث هنا عن منطلق بداية البحث الفلسفي أن نذكر الملاحظة التالية:

نحن نعرف أنَّديكارت الفيلسوف الفرنسي الشهير، الذي سعى إلى إيجاد ثورة في الفلسفة العقلية وطرح أساساً جديداً لها، ابتدأ بالشك بكلّ شيء، والأمر الوحيد الذي اعتبره يقينياً يمكن الاعتماد عليه واتخذه نقطة انطلاق البحث الفلسفي: " أنا موجود ". إلاّ أنَّه أثبت وجوده عن طريق وجود الفكر، وهو في الحقيقة انطلق من وجود الفكر.

على أيّ حالٍ ادعى ديكارت أنَّ الشك ممكن في كلّ شيء سوى الشك في وجود الأنا، وهذا اليقين الأوّلي كافٍ في بداية الفكر الفلسفي وخلق يقينيات أخرى. من هنا فنقطة البداية في فلسفة ديكارت هي " أنا موجود ". لقد وجِّهت إلى ديكارت اعتراضاتٍ كثيرة. ونحن بدورنا ذكرنا إشكالات أساسية على منهج ديكارت (راجع المقالة الثانية). وبمناسبة البحث أعلاه نضيف هنا: لو أغمضنا النظر عن جميع الاعتراضات التي طرحناها وطرحها الآخرون على النهج الديكارتي، نلاحظ أنَّ اختيار هذا الطريق كنقطة انطلاق للبحث الفلسفي لا يتضمّن أيّ فائدة ؛ لأنّ شكّ ديكارت ـ باعترافه ـ في كلِّ

٢٩

محبوبٍ لدينا ـ تصوّر لنا نفي الخطأ والاشتباه خيالاً وخطا، وفي الحالين تسلب منّا الحقيقة.

شيء سوى وجوده ليس شكاً واقعياً وحقيقيا، بل هو شكّ فرضي. وليس ممكناً أن يشكّ الآدمي شكّاً واقعياً في يقينيّاته الفطرية التي يذعن بها اضطراراً، وعلى حدّ تعبير باسكال "ليس هناك شكّاك واقعي ". فحتى أكثر الناس سفسطةً يذعن في عمق وجدانهٍ ـ تطابقاً مع فطرة إدراكه وإرادته ـ بحقائق كثيرة، وعلى أساس الإذعان بهذه الحقائق يوجّه سلوكه اليومي.

من هنا فحينما يقول ديكارت " إذا شككنا في كلّ شيء فسوف نقول إنَّ هذا الشكّ فِكر، ولكن لا يمكن الشكّ في الفكر ذاتهِ " لا تتعدّى مقولته هذه حدَّ الشعر ؛ لأنَّ الشكّ إذا كان فرضياً فإنّه ممكن أن يشمل جميع البديهيات حتى الشكّ في هذه الفكرة والشكّ في الشكّ. وعلى حدّ تعبير الشاعر الفارسي القديم " همين سمراد هم سمراد باشد "، يعني: يمكن القول إنَّ كل شيء خيال وحتى هذا الخيال ذاته خيالٌ أيضاً. ليس هناك وجه للتميز بين اليقينيات الفطرية. أمّا إذا وافقنا على اليقينيات الفطرية فلا يجد الإنسان أيَّ فرق بين وجوده وسائر العلوم اليقينية البديهية الأخرى، مثلاً لا يجد فرقاً بين وجوده ووجود هذا القلم وهذه الورقة التي يمسكها بيده وهذا المصباح الذي يكتب على ضوئهِ وسائر البديهيات الأُخرى نظير امتناع التناقض وغيره.

ومن هنا فالتسلسل العقلي يقتضي، بعد إسكات نغمة السفسطة التي تنكر الوجود وتعتبر الموجود أمراً محالاً، أن يُبدأ من النقطة المقابلة، أي من الأصل اليقيني والبديهي "أنّ هناك واقعاً " ثمّ تأتي المرحلة الثانية التي أشرنا

٣٠

إذن ؛ يجب أن نتعرّف على الواقع. ونميّز بين الموجودات الواقعية والموجودات الخيالية، فنضع حداً فاصلاً بين الحقائق والأوهام. عندئذٍ ماذا يجب أن نفعل ؟ وبأي وسيلةٍ يجب أن نتذرّع؟ (٢) فهل

إليه، وهي مرحلة تنويع هذه الحقيقة، ثمّ المرحلة الثالثة، حيث نواجه الأخطاء، فنختار المنهج الصحيح لمعرفة الواقع وعلم الوجود الذي هو الفلسفة. وهذا هو التسلسل السليم، الذي اختارته هذه المقالة، وهو المنهج الذي يتطابق مع منهج محقّقي الحكماء حتى هذا اليوم.

٢ ـ قلنا في مقدّمة المقالة: إنّ الإنسان يستخدم وسائل مختلفة في طريق التحقيق العلمي، فيستفيد من المنهج الحسّي أحياناً، ويستفيد من المنهج العقلي أحياناً أُخرى. فيعكف أحياناً على الاختبار والتجربة العلمية وأحياناً أخرى يعكف على التجزئة والتحليل العقلي والفلسفي، والعلوم عامةً رغم كونها نتاج فعالية الفكر البشري تختلف وسائلها وسبله، ومن هنا فتح علماء المنطق الجديد فصلاً جديداً في المنطق يعالجون فيه المناهج والأساليب، التي ينبغي اتخاذها في كلّ علم على حده.

والبحث في هذا الفصل المنطقي الجديد ودراسة مناهج العلوم خارج عن مهمّة بحثنا القائمة. إنَّما المهم هنا أن نذكّر بما أشار إليه في المتن، وهو عبارة عن تعيين الوسيلة والسبيل الذي نتوسّل به بُغية معرفة الواقع والكشف عن غوامض الفلسفة. وتعيين هذا الموضوع ضروري، خصوصاً بحكم الخلط الذي مارسهُ بعض الباحثين بين حدود الحسّ وحدود العقل، وبحكم المبالغة في اعتبار وقيمة المنهج الحسّي، حيث ذهب بعضهم إلى أنَّ السبيل

٣١

نقتفي أثر الباحثين الذي يقولون: إنَّ الحقائق يجب التعرّف عليها بمعونة الحِسّ والتجربة فقط، وإِنَّ معرفة مطلق الواقع تتمّ عبر العكوف على الحِسّ والتجربة ؟ أَم نُصغي إلى كلام أولئك الذين قالوا: إِنَّ الحقيقة يجب أَن تقوم على أساس العمل وترتهن بالممارسة العملية، وإلاّ فالفكر المعزول عن الممارسة العملية خيالٌ محضٍ، وبمنأى عن الحقيقة ؟ أَم إِنَّ هذه الوسائل موصلة، لكنّها تصل إلى أهدافها الخاصة بها، لا إلى كلّ هدف.

الوحيد للبحث العلمي في كلّ الفروع المعرفية هو الحِسّ والتجربة، ولا يمكن الاعتماد على ما سواهما.

لقد أجبنا في المقالة الخامسة، حينما ناقشنا الفرق بين المنطق العقلي والمنطق التجريبي، جواباً كافياً على هذه الدعوى، وأثبتنا أَنَّ هذه الدعوى تنشأ جرّاء عدم فهم حدود الحسّ والعقل وعدم دراسة محتوى الذهن. وأوضحنا أنّ هناك مجموعة قضايا تستخدم في أكثر العلوم حسيّة وتجريبية وهذه القضايا لا دليل عليها من الحسّ والتجربة، بل ذات طابعٍ عقلي بحت. وبُغية أن نوضح مفاد المتن هنا ونثبت عدم إمكانية أن يكون الإحساس منشأً لجميع التصديقات الضرورية للذهن نضيف: إِنَّ أحد التصديقات الضرورية للذهن أن يكون الإحساس ذا واقعٍ، فهل وجود الإحساس أمرٌ نحسّه ؟ وهناك تصديق ضروري آخر لأذهاننا وهو أَن يكون للتجربة واقعٌ فهل أثبتنا وجود التجربة بالتجربة ؟ مضافاً ـ كما جاء في المتن ـ أنَّ هذه الإدعاءات نفسها التي نسمعها تأتي في الصياغة التالية " كلّ حقيقةٍ ينبغي أن نحصل عليها عن

٣٢

إِنَّ هؤلاء الباحثين اهتمّوا بالبحث في مجموعة أُمورٍ ماديةٍ، حيث ميدان فعالية الحسّ والتجربة، وانتهوا إلى تحديد مجموعة أُمورٍ واقعيةٍ مشروطة ( خواص الموضوعات المادية ). وحينما انتهت حدود ميدانهم اطلّوا على ما هو خارج عن حدود مهمّتهم، وبحثوا عن الواقع وأصل إثباته، فتعدّوا حدودهم ونفوا ما هو خارج عنها، ثمّ طرحوا مجموعة مقالات تتعلّق بما أثبتوه ونفوه ( السمات الإيجابية للمادة، اللامادة، والسمات اللامادية )، وأطلقوا عليها اسم الفلسفة. وقد أغفلوا في الواقع مهمّة الفيلسوف، التي ينبغي أن تكون في البحث عن أصل وأساس

طريق الحسّ والتجربة "، أو " ليس هناك اعتبار لغير المحسوس "، فهل هذه المقولة حسيّة وتجريبية ؛ فبعضها كليُّ وبعضها منفي، والحسُ لا يتعلّق بالأمر الكّلي والمنفي ؛ إذن فإذا لم يكن لغير الحسّ والتجربة اعتبار فهذه الادعاءات ذاتها لا اعتبار لها.

إنَّ التفاتةً بسيطةً إلى مسائل الفلسفة ذاتها تدفع هذا الوهم الطفولي، وتوضح أنَّ التحقيق في هذه الموضوعات خارج عن حدود الحسّ والتجربة. خذ مثلاً تصوّر المسائل المطروحة في هذه المقالة نفسها: اشتراك الوجود، أصالة الوجود، التشكيك الوجودي وغيره، فمن الواضح بجلاء أنَّ دعوى دراسة هذه المسائل عبر الحسّ والتجربة وتحت عدسات المكبّرات، وفي زوايا المختبرات، أمر في غاية السخرية. على أنَّ الخطأ في تحديد وسيلة الدراسة الفلسفية ينشأ بشكلٍ كبيرٍ عن خطأ آخر يرتبط بتحديد هوية الفلسفة وفائدتها وفرقها عن العلم. وقد تناولنا في المقالة الأولى البحث في تجنب هذه الأخطاء بشكل كافٍ.

٣٣

وجود الأشياء وعدمها. إِنَّ على هؤلاء الباحثين الالتفات إلى أنَّ الحسّ والمحسوس، والتجربة والمجرب، والحاسّ والمجرِّب، جميعها ترتهن بالواقع المطلق، وهي أُمور واقعية.

من هنا علينا أَن نتكئ ـ أوّلاً ـ على واقعية الحسّ، لكي نستطيع الحصول على المحسوس بالقوّة الحسّية، ولا بدّ من الإيمان أيضاً بواقعية التجربة، لنعكف بعد ذلك على الحكم على المجرَّب. وقبل ذلك لا بدّ من اليقين بواقع وجودنا وبواقع ما تتطلّبه التجربة والحسّ من مستلزمات. ولا يمكن القول إطلاقاً إِنَّ هناك شيئاً يمكن أَن يتقدّم إثباته على إثبات واقعه، أي أَنّ نركن إلى الحسّ والتجربة في إثبات واقعيتنا وواقعية أفعالنا.

وبغض النظر عمّا تقدّم فإذا أخذنا مقولتهم: " كلّ حقيقة يجب الحصول عليها بالحسّ أو التجربة "، نجدها أمراً غير حسّي وتجريبي ؛ لأَنَّ جزءاً منها كلّي، والجزء الآخر نافٍ، والحسّ والتجربة لا تتعلّق بالكلّي والمنفي. أمّا إذا انطلقنا من الواقعية كأصلٍ لجميع معلوماتنا فلا يمكن إنكار النتائج الضرورية لهذا العلم، وإلاّ نبقى نحن وهاوية السفسطة المظلمة.

إذن؛ لا بدّ من وضع اليد على مجموعة معلومات وتصديقات أوّلية ضرورية آمنّا بها في ضوء تأمّلنا في أصل الواقعية.

* * *

نقول أمام السوفسطائي (المثالي الحقيقي)، الذي لا يعترف بسوى الفكر: الأرض موجودة، السماء موجودة، الإنسان موجود، الشجرة موجودة، المادة موجودة، القوّة موجودة... أي إنَّ لكلّ مفهوم من هذه المفاهيم واقعية. على أَنَّ الواقعية التي نُثبتها لكلّ مفهوم من هذه المفاهيم

٣٤

ذات معنى مغاير لكلّ واحد من هذه المفاهيم، وذات معنى واحد في كلّ الموارد (٣). ولو كان معنى المحمول والموضوع في هذه القضايا واحداً فيكون (الإنسان موجود = الإنسان إنسان) فسوف لا يكون هناك داعٍ للإثبات، بغض النظر عن أَنَّ السوفسطائي لا ينكر هذه المفاهيم. ولا ينكر وحدة معنى المحمول أيضاً، وهو مصداق مفهوم الوجود والواقعية.

(٣) هذه أشارة إلى مسألتين من مسائل الوجود، تُطرح إحداهما تحت عنوان: مغايرة مفهوم الوجود للماهية أو زيادة الوجود على الماهية، وتطرح الأُخرى تحت عنوان: اشتراك الوجود. إِنَّ مسائل الوجود التي طُرحت في المتن من خلال اثتني عشرة مسألة يرتبط بعضها بعالم الذهن، أي أنّها ذات طابعٍ ذهني. ويرتبط بعضها بعالم الخارج، أي أَنّها ذات طابع عيني، وبعضها الآخر يرتبط بالجانبين معاً. وسوف نوضح هذه الجوانب عبر كلّ مسألة من هذه المسائل.

اهتمّت المقالات السابقة بدراسة الإدراكات والفعاليات الذهنية وإيضاح العلاقة الأكيدة بين أسلوب البحث الفلسفي، وبين معرفة الفعاليات الذهنية وأسلوب صناعة الأفكار. ومن هنا نجد أَنّ أغلب المقالات المتقدّمة تمحورت حول مسائل الإدراك. وإذ نبحث في هذه المقالة عن مسائل الوجود، ونتعامل مع الواقع والوجود، نجد أَنّنا نواجه مسائلّ ترتبط أيضاً بمسائل الإدراك.

لا يخفى على المتتبّعين أنّ نهج دراسة مسائل الإدراك في الفلسفة يختلف بشكلٍ كاملٍ عن أسلوب دراسة علم النفس الحديث، فعلم النفس يركز على قراءة عالم الذات وقوانين وجود وغياب الظواهر النفسية وارتباطها مع بعضها أو مع عالم الخارج، ويستهدف معرفة عالم الذات. لكن الفلسفة تهتم

٣٥

من هنا ينبغي أَن نستنتج:

أساساً بمعرفة الوجود والواقع ولا تنظر إلى الأفكار والذهن إلاّ من زاوية الأدوات والوسائل.

تتيسّر معرفة الوجود والواقع ـ من وجهة نظرنا الفلسفية ـ حينما نضع يدنا على مجموعة الأفكار التي تمثّل نتاج الفعاليات الذهنية المختلفة وتمييز ما يمثّل الواقع الخارجي منها عمّا هو محصول ومعلول الفعاليات الذهنية. وبعبارة أُخرى العكوف على دراسة الإدراكات الذهنية وتمييز الحقيقة عن شبه الحقيقة، وبتعبير الفلاسفة الإسلاميين: معرفة الأمور الأصلية والأمور الاعتبارية. تتّضح هذه الفكرة بشكلٍ أكبرٍ عبر قراءة هذه المقالة والمقالات اللاحقة. ويبغي على القارئ المحترم أن يهيئ ذهنه لقبول حقيقةٍ أشرنا إليها مراراً، وهي أَنّنا ما لم نتعرّف على الذهن لا يمكننا أَن نتوفّر على الفلسفة.

بعد أَن يذعن الإنسان بالأصل اليقيني " أَنَّ هناك واقعاً "، وبعد أَن يتعرّف على مظاهر هذا الواقع نظير: أنا موجود، البياض موجود، الشجرة موجودة، الحجر موجود، الشمس موجودة: ثمّ يجد أن ذهنه متوفّر على تصوّراتٍ كثيرةٍ عن الأشياء كتصوّر البياض وتصوّر الشمس وتصوّر الشجرة وتصوّر الحجر... حينئذٍ يرى أَنَّ هذه التصوّرات لا يتطابق أيّ منها مع الآخر، أي ليست الشجرة عين الشمس وليس الإنسان عين البياض أو الاحمرار وهكذا. فينتهي إلى أَنّه ليست هناك عينية مطلقة بين هذه المفاهيم، وأَنَّ هناك لوناً من التغاير بينها. لكن هذه الأمور في عين تغايرها تشترك مع بعضها في أمرٍ آخر، أي أَنَّ الذهن يحكم عليها من زاويةٍ من الزوايا بحكمٍ واحدٍ، هذه الزاوية عبارة عن وجود هذه الأشياء وتوفّرها على

٣٦

١ ـ نثبت الواقعية " الوجود " لكلّ شيءٍ بمعنىً واحد.

الواقع في الخارج، أي إنَّ الذهن يحكم بشأن كل مفردةٍ من هذه الأشياء بأَنّها موجودة في الخارج وذات واقع فيقرر: أنَّ للشجرة واقعاً، وأَنَّ للحجر واقعاً، وأن للإنسان واقعاً.

إذن حينما يراجع كلّ شخصٍ ذهنه يجد:

أوّلاً ـ أنّ هناك تصوّرات ومفاهيمَ كثيرة عن الأشياء، كتصوّر البياض، وتصوّر الحرارة، وتصوّر الشجرة، وتصوّر الحجر. ( أمّا ما هي علّة ظهور هذه المفاهيم والتصوّرات ؟ فالإجابة خارجة عن بحثنا الراهن وقد أوضحناها في المقالة الخامسة )، ويجد:

ثانياً ـ أنّ مفهوم الوجود والواقعية يرتبط في الذهن مع جميع هذه التصوّرات، أي إنّ الذهن يحكم بواقعية البياض وواقعية الشجرة وواقعية الحجر... وهنا تُطرح مجموعة أسئلة:

أ ـ هل مفهوم الوجود أو الواقعية عين هذه المفاهيم المتعددة، فيكون مفهوم الوجود في ذهننا عين مفهوم الإنسان، ومفهوم الشجرة وغيرها من المفاهيم ؟ وبعبارة أُخرى هل يتطابق تصوّرنا الذهني عن الوجود مع تصوّرنا عن الإنسان والبياض والشجرة وسائر الأشياء، التي تحضر في أذهاننا، وننسب لها الوجود، وغيره من السمات ؟

يطرح هذا السؤال المسألة الأولى من المسألتين المتقدّمتين، وهي " زيادة الوجود على الماهية "، أو مغايرة الوجود للماهية. إِنَّ هذه المسألة ـ كما هو واضح ـ ذات طابع ذهني بحت. ومن هنا تصبح الإجابة على الاستفهام المتقدّم متيسّرة، عبر مراجعة الذهن وقراءة التصوّرات الذهنية باختصار، دون حاجة لخوض مسيرة المنعطفات الاستدلالية. إِنَّ الإنسانَ عبر

٣٧

٢ ـ مفهوم الواقعية " الوجود " يغاير مفهوم كلّ شيء واقعي.

مراجعة ذهنه يجد أنّه يتوفّر على تصوّراتٍ عن الأشياء تتغاير بعضها عن بعض، كتصوّر الإنسان وتصوّر الحجر حيث يتغايران، كما يجد أَنَّ تصوّره الذهني للحجر والشجرة وغيرهما يغاير تصوّره الذهني للوجود. أي كما أَنَّ الشجرة والحجر وغيرهما أشياء يتوفّر كلّ واحدٍ منها على صورةٍ ذهنيةٍ مغايرةٍ لصورة الشمس في الذهن، فالوجود أيضاً له صورة مغايرة للصورة الذهنية للشمس والشجرة وغيرها. على أنّه يمكن إقامة البرهان كما أشار في المتن على هذا الموضوع أيضاً بالنحو الآتي:

لو كان التصوّر الذهني للوجود عين التصوّر الذهني للإنسان مثلاً يلزم أن يكون لفظ الوجود أو الواقع مرادفاً للفظ الإنسان، كما يترادف لفظ البشر مع لفظ الإنسان. حينئذ يلزمُ أن يكون مفهوم ( الإنسان موجود ) معادل لجملة ( الإنسانُ إنسان )، كما تعادل هذه الجملة جملة الإنسان بشر. وحينئذٍ يلزم أن يكون إثبات الوجود للإنسان غني عن الاستدلال ؛ لأنَّ جملة الإنسان إنسان غنية عن الاستدلال. بينما يتطلّب إثبات الوجود للإنسان دليلاً. على أَنَّ مفهوم الإنسان هنا أُخذ مثالاً، ويمكن استبداله بأمثلةٍ أخرى.

أضف إلى أَنَّ مفهوم الوجود ـ كما سيأتي في الاستفهام الثاني ـ مفهوم واحد، بينما تتعدّد مفاهيم الإنسان والشجرة والحجر والبياض، ومن المحال أَن يكون المفهوم الواحد عين مفاهيمَ متعدّدةٍ متغايرةٍ. إذن نستنتج أنَّ مفهوم الوجود والواقع مغاير مع مفهوم كلّ واحدٍ من المفاهيم الموجودة في الذهن، التي ننسب إليها الواقعية والوجود. وهذا هو معنى مغايرة مفهوم الوجود للماهية، أو زيادة الوجود على الماهية.

٣٨

٣ ـ بحكم أَنَّنا لا نحسب كلّ شيء في عالم الخارج عين الآخر،

إِنَّ الدافع إلى طرح هذا الموضوع هو الإجابة على مسلك بعض المتكلّمين الذين قالوا بوحدة مفهوم الوجود والماهية. أي أَنَّ البحث الكلامي هو الذي فرض على البحث الفلسفي طرح هذه المسألة. ونجد أَنَّ الفارابي هو أوّل حكيم تعرض لطرح هذا الموضوع.

ورغم ما نجده من هامشية هذه المسألة بحكم وضوحها وعدم الحاجة إلى الاستدلال عليه، لكنّنا سنرى أَنَّ هذه المسألة الهامشية هي التي أدت إلى ظهور أهم مسائل الفلسفة، يعني مسألة أصالة الوجود أو أصالة الماهية، والالتفات إلى هذه المسألة ضروري في البرهنة على موضوع أصالة الوجود أو أصالة الماهية.

ب ـ هل مفهوم الوجود عين المفاهيم التي يُحمل عليه، كمفهوم الأرض والسماء والإنسان والشجرة، حينما نقول إنَّ هذه المفاهيم موجودة، أم أنّه مفهوم مختلف عن هذه المفاهيم، وبتعبير آخر هل هو مشترك معنوي أم مشترك لفظي ؟

المسألة الوحيدة التي طرحها أرسطو في (ما بعد الطبيعة) هي هذه المسألة. وبغية أَن يثبت أنَّ الوجود مفهوم عام وشامل طرح بحث الاشتراك اللفظي والمعنوي، وأثبت أنَّ مفهوم الوجود مشترك معنوي لا لفظي.

ينبغي أوّلاً أَنّ نوضح مصطلح المشترك المعنوي والمشترك اللفظي. إذا كانت لدينا قضايا متعدّدة ذات موضوعات متعدّدة، لكنّها ذات محمولٍ مشترك نظير قولنا: زيدٌ إنسان، عمر إنسان، حسن إنسان. في مثل هذا الفرض يمكن أن يكون المحمول المشترك يشترك من زاوية اللفظ، لا من

٣٩

ولا نشكّ أيضاً في أنَّ الإنسان غير الشجرة والشجرة غير الإنسان ( بأيِّ

زاوية المعنى، كما هو الحال حينما نشير إلى عين الإنسان فنقول عنها: هذه عين، ونشير إلى عين الماء، ونقول: إِنَّ هذه عين، ونشير إلى الجاسوس ونقول: إِنَّ هذا عين. فالمحمول في هذه القضايا الثلاث من زاوية اللفظ واحد، لكنه متعدد المفاهيم والمعاني، يعني حينما نشير إلى عين الإنسان فإننا نعني مفهوماً في الذهن مغاير للمفهوم الذي نشير به إلى عين الماء، أو إلى الجاسوس، فكلّ واحدٍ من هذه الألفاظ يشير إلى صورة ذهنية خاصة به، ولا تتطابق هذه الصورة الذهنية الثلاث مع بعضها.

لكن المحمول المشترك يشترك من زاوية المفهوم أحيان، كما في قولنا: زيد إنسان، عمر إنسان، حسن إنسان. فالمفهوم المقصود من لفظ الإنسان في هذه القضايا الثلاث واحد، أيّ أنّنا حملنا صورة كليّةٍ ذهنيةٍ واحدة على هذه المواضيع المتعدّدة، وقصدنا معنىً ومفهوماً مشتركاً للموراد الثلاثة. على أَنّه من الممكن أن يكون المعنى مشتركاً وموحداً أيضاً مع اختلاف اللفظ، حينما نستخدم الألفاظ المترادفة، كما في قولنا: زيد إنسان وعمر بشر وحسن حيوان ناطق. رغم تعدد الألفاظ واختلافها في هذا المثال، وعدم وجود اشتراك لفظي، لكن هناك اشتراكاً من زاوية المعنى.

إذن فالاشتراك في المثال الأول (العين ) اشتراك لفظي، والاشتراك في المثال الثاني (الإنسان ) اشتراك معنوي. على أَنَّ الاشتراك اللفظي، بحكم نشوئِهِ من الأصل، يختلف من لغةٍ إلى أُخرى، لكنّ الاشتراك المعنوي، بحكم كونه خصوصية ذهنية للمعنى، فلا علاقة له بعالم وضع الألفاظ. نأتي الآن لنرى هل مفهوم الوجود يحمل على موضوعات متعدّدة، فنقول:

٤٠