أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 85450
تحميل: 7188

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85450 / تحميل: 7188
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المقالة التاسعة:

العلّة والمعلول

٢٢١

٢٢٢

العِلّة والمعلول

أوضحنا في المقالات السابقة أنَّنا في اليوم الأوّل من وجودنا، حيث نطلّ على هذا العالم المليء بالحوادث والتحوّلات، نضع أيدينا على ذاتنا وفعالياتنا الذاتية ( العلم والإرادة...) وعلى أساس قياسنا للنسبة بين ذاتنا وأفعالنا الأخرى التي تشبه أفعالنا ( المعلومات الحسّية التي نحصل عليها عن طريق الحس )، والتي ليست تحت اختيارنا، نثبّت جوهراً آخر، وهو موضوع هذه الصفات والآثار. فهذا السواد والبياض اللذان نراهما، وهذه الحرارة والبرودة اللتان نحس بهما، وهذا الطعم الذي نتذوّقه، وهذه الرائحة التي نشمّها، والنغمة التي نسمعها، كلّ هذه الظواهر تعود لذلك الشيء الذي يتوفّر على هذه الصفات، فهذه الصفات على غرار صفتي علمي وإرادتي، اللتين لا تحصلان بدون " أنا "، فهذه الصفات إذن غير ذاتي، بل هي إلى جانب ذاتي، لأنَّ أياً منها ليست تحت اختياري، ومن هنا نذعن بوجود واقع خارج ذواتنا ( المقالة ٢ ـ ٥ ).

من هنا تتبلور أرضية قانون العِلّية والمعلول العام (١) ، فيقرّر الإنسان بشكل قاطع أنَّ الفعل لا يقع إطلاقاً بدون فاعل، وإنَّ كلّ معلول يتطلّب علّة، ثمّ بحكم ملاحظة الحوادث والظواهر المختلفة يتأيّد هذا القانون باستمرار،

١ ـ يقع بحث العِلّة والمعلول في المرتبة الأساسية بين بحوث الفلسفة، ويتفرّع هذا البحث إلى مجموعة قضايا. تكرّر طرح هذا البحث في المقالات المتقدّمة، خصوصاً في المقالة الثامنة، بل أُقيم الدليل على بعض القضايا

٢٢٣

ويصمد أما الاختبار، وعلى هذا الأساس ينعطف الإنسان حين سماع أي صوت والإحساس بأيّ حدث صغيرٍ أو كبيرٍ على البحث عن علّته، وإذا لم يستطع تحديد العلّة لحدثٍ ما فسوف يفترض له علّة مجهولة.

المتفرّعة من هذا البحث، وسيتحتّم علينا في المقالات القادمة بحكم مستلزمات البحث طرح بعض قضايا قانون العِلّية، على أنَّ ما تمَّ إثباته في المقالات السابقة لا يعاد تكراره، كما أنَّ القضايا التي تتوقّف على معطيات البحث في المقالات القادمة سنأتي على إيضاحها في محلّها الملائم.

إنَّ قانون العِلّية أوّل قضية فلسفية ( من بين قضايا الفلسفة ) استحوذت على الفكر البشري، ودفعته صوب التفكير لكشف لغز الوجود. فبالنسبة للإنسان الذي يتمتّع بإمكانية التفكير يمثل قانون العٍلّية أهم العوامل التي تقذف به في تيار التأمّل، هذا القانون الذي يُعبّر عنه: لكلّ حادثة علّة. وفي ضوء ذلك يتبلور في الذهن البشري مفهوم " لِم ".

مفهوم ( لِمَ ) هو الاستفهام الذي يطرحه الذهن عن علّة الأشياء، ولو لم يكن الذهن متوفّراً على فهم عام عن العِلّة والمعلول، أي لم يُذعن بقانون العِلّية وأنَّ لكل حادثة علّة، فسوف لا يجد مفهوم ( لِم ) موقعاً في الذهن، بل لا ينبثق مثل هذا المفهوم في الذهن من حيث الأساس.

تأتي حركات الطفل والحيوان أيضاً على نظام وترتيب، وكأنَّهما يدركان العلاقة بين العِلّة والمعلول. لكن هذا الإدراك على افتراضه مبهم ومجرّد دون شك، إذ يأتي محدوداً بحدود تجاربهما اليومية، ويمكن اعتبار إدراك الحيوان والطفل في هذا المجال ـ كما تقدّم في هوامش المقالة الخامسة ـ لوناً من " تداعي المعاني " و " العادة الذهنية "، التي تحصل جَرّاء

٢٢٤

إنَّ هذه الظاهرة يمكن أن تجدها لدى كلّ موجود ذي إحساس، حتى المجانين والمتخلّفين عقلياً، فهولاء يتكلّمون من أجل تفهّم وتفهيم

التكرار. أي إنَّ ذهن الحيوان والطفل بدون أن يتوفّر على تصوّر لمفهوم العِلّية ينتقل من حادثة إلى الحادثة الأخرى بحكم العادة وتداعي المعاني المترابطة. وممّا لا شك فيه أنَّ الطفل والحيوان لا يدرك قانون العِلّية كقانون كلّي ويقيني، بل يختص بهذا الإدراك الإنسان المُهيأ بالفعل للتفكير المنطقي، وإذا فُرض أنَّ بعض الحيوانات العُليا تتمتّع بهذا اللون من الإدراك لقانون العِلّية فسوف تكون متوفّرة حتماً على القدرة المنطقية على التفكير.

إنَّ انخراط الإنسان في مسيرة التأمّل والتفكير المنطقي له عامل آخر، وهو إمكانيته على قراءة عالمه الداخلي ووعي ذاته. وعلى أساس هذه الإمكانية يمكن للإنسان إن يعلم بعلمه أو بجهله. أنَّ الحكماء يدعون ميزةً للإنسان عن الحيوان، تكمن في قدرة الإنسان على العلم بجهله وعلمه، والتفاته إلى أنَّه يعرف القضية "س" ويجهل القضية "ص"، أمّا الحيوان فليس لديه هذه القدرة، وبتعبير آخر: إنَّ الحيوان على الدوام أمّا أن يكون جاهلاً جهلاً مركّباً، وإمّا أن يكون عالماً علماً بسيطاً، بينا يمكن للإنسان أن يكون جاهلاً جهلاً بسيطاً وعالماً علماً مركّباً.

يتعامل الإنسان مع حوادثٍ لا يعرف علّتها، وبحكم قدرته على وعي ذاته يشعر بجهله، لكنّه يعرف ـ على أساس إدراكه لقانون العِلّية العام ـ أنّ لهذه الحوادث عللها في الواقع، ومن ثمَّ يعكف على البحث عن علل الحوادث بدافع البحث عن الحقيقة أو بدافع حاجاته الحياتية. فإن وقف على العِلّة الواقعية في هذا البحث فقد بلغ هدفه، وإلاّ اكتفى بالإيمان بوجود عِلّة خفية،

٢٢٥

أغراضهم، ويمارسون أعمالاً بُغية إيصال مقاصدهم وهكذا.. بل أدنى درجات الملاحظة تؤكّد أنَّ أساس حياة كلّ كائن حي بحجم ما لديه من شعور ووعي يتكئ على هذا القانون " قانون العلة والمعلول ". ولو كان

ولعله يفترض عِلّة وهمية إرضاءً لغريزة البحث ؛ ومن هنا قالوا إنَّ الإنسان البدائي بحكم مستواه العقلي الأولي لم يستطع تفسير الحوادث الطبيعية، فأرجعها إلى آلهة والأرواح الخبيثة والطيبة. على أنَّ هذا الأمر شاهد على إدراك الذهن البشري لقانون العِلّية، وأنّ الذهن لم يكن باستطاعته أن يفترض الحوادث الطبيعية صدفة واتفاقاً، لا عِلّة لها. غاية ما في الأمر أنَّه لم يكن قادراً على رؤية الحقيقة، ومن هنا تذرّع بالخرافة والتفسيرات البدائية.

كانت الفلسفة ـ في ضوء معطيات تاريخ الفلسفة ـ في سالف أيامها القديمة تطوي مرحلة طفولتها، وقد امتزجت مع كلّ فروع المعرفة، وكانت تدّعى آنذاك " علم العلل والأسباب ". وفي المراحل القريبة ـ حيث أخذت الفلسفة تنفصل عن العلوم ـ نلاحظ أنَّ الفلسفة تعرّف أحيانا بـ " علم العلل الأولى ". ورغم أنَّنا لا نؤمن بسلامة هذا التعريف من زاوية فنية، إلاّ أنَّنا لا نشك في أنَّ أهم توقّعات البشرية من الفلسفة هي أن تكشف عن العِلل الأولية لعالم الوجود، ليتعرف الإنسان على السر الأول للعالم.

وفق منهجنا ـ الذي قد تعرّف عليه القارئ المحترم ـ يلزمنا أن ندرس قانون العِلّية عبر التحليل العقلي، انطلاقاً من الأصول البديهية، التي تشكل أساس الفكر البشري، هذه الأصول التي يضمن صحّتها العقل ذاته، دون واسطة، ودون أن تلعب أي تجربة دوراً فيها، بل هذه الأُصول ذاتها هي التي تضمن صحّة التجربة أيضاً. أي أنَّنا نعالج قانون العِلّية من زاوية

٢٢٦

الإنسان أو أي كائن حساس آخر لا يؤمن بعِلّية ومعلولية ما بين ذاته وبين فعله، وما بين فعله وبين إنجاز هدفه، فسوف لا يصدر عنه أقل نشاط وفَعّالية إطلاقاً، وسوف لا يتوقع حدوث أي شيء، ولا ينتظر حدوثه.

عقلية لا تجريبية، ونحن نرى أنَّ قانون العلية مسألة فلسفية محضة، وليست مسألة فلسفية تعتمد نظريات الفيزياء أو غيرها. ونرى أيضاً أنَّ إدخال التجارب الفيزيائية في عمليات إثبات أو نفي العِلّية لغو لا طائل من ورائه، بل الاعتماد على هذه التجارب في هذا الإثبات يفضي إلى عدم الاعتماد عليها، وهذا ما سيتّضح ضمن الأبحاث القادمة.

الصورة التي يمتلكها الإنسان عن العلّة والمعلول هي أنَّهما أمران معينان، أحدهما معطٍ للوجود والواقع الآخر، والآخر متلقٍ للوجود والواقع من الأول. الأسئلة التي تحتل المرتبة الأولى في الذهن بشأن قانون العِلّية هي: من أين ينشأ تصوّر العِلّية في الذهن ؟ هل يدرك الإنسان قانون العِلّية بواسطة إحدى حواسه، كما يدرك الحرارة والبرودة والإيقاع الموزون والأصوات الناشزة والثقل والحلاوة وغيرها، أم أنَّه يدركها بواسطة أخرى ؟ وما هي هذه الواسطة ؟ لقد تناولنا الإجابة على هذه الأسئلة عبر المقالة الخامسة.

هناك سؤال آخر: هل قانون العِلّية قانون حقيقي وواقعي أم لا ؟ أي هل هناك في الواقع علاقة عِلّية ومعلولية، أم أنَّ هذا القانون في الحقيقة إيهام يقع فيه الذهن ؟ حتى ظهور الفيزياء الحديثة لا تعثر بين الفلاسفة أو علماء الطبيعة على من شكّ في صحة وواقعية قانون العلّية. نعم ظهر في أوساط المتكلّمين من ينكر الضرورة العِلية، وهذا الإنكار يفضي في الواقع إلى إنكار قانون العِلّية ذاته، أو من يستثني الأفعال الإرادية من شمول هذا القانون.

٢٢٧

وفي ضوء هذا البيان نستنتج: " كلّ شيء وجد بعد أن لم يكن موجوداً، لا بد أن تكون له علّة ".

يذهب فريق من علماء الكلام إلى عدم صحة تعميم قانون العِلّية وأحكام العِلّية والمعلولية على الأفعال الإرادية كأفعال الباري تعالى والأفعال الإنسانية. وحينما يتبنى هذا الفريق مذهب " الجبر " فمن المحتم أن لا يكون لقانون العِلّية أي مصداق ؛ إذ مفهوم الجبر لدى المتكلّمين ـ كما تقدّم في هوامش المقالة الثامنة ـ يعني أنَّ جميع حوادث العالم تنشأ مباشرة وبلا واسطة من ذات الباري تعالى، وليست هناك سببية بين حوادث العالم، وما نشاهده من أحداث تتوالي في الوقوع ونسمّي بعضها سبباً والآخر مسبباً ما هي إلاّ سنة الله التي أجراها في خلقه، وليس هناك أي ارتباط سببي في البين ؛ إذن فأنصار الجبرية يسندون كلّ حوادث العالم إلى الفاعل المختار مباشرة، وإذا ضممنا إلى هذه النظرية نظرية عدم شمول قانون العلية للأفعال الإرادية فسوف تكون النتيجة أنَّ قانون العلية ليس له مصداق.

لقد تعرّضت نظرية المتكلمين في إنكار قانون العِلّية لازدراء واستهزاء الفلاسفة قروناً متعددة. ولكن أعيد إحياء نظرية المتكلّمين منذ نصف قرن، جَرّاء التطورات العِلمية والتحوّلات التي حصلت في الفيزياء على وجه الخصوص، حيث تزلزل إيمان بعض العلماء بقانون العِلية.

لقد قارع علماء الكلام الفلسفة منذ بداية عصرها الإسلامي، واعترضوا على القواعد الفلسفية، بل شكّكوا في مبادئ ومسلمات الفلسفة أيضاً، وقد واجههم الفلاسفة ودافعوا عن أنفسهم أمام شبهات المتكلمين. ورغم أنَّ المدرسة الكلامية لم تستطع مقاومة مدرسة الفلاسفة، ولكن الشك لا يتطرّق

٢٢٨

طريق آخر

الطريق الذي أشرنا إليه هو الطريق الذي (٢) يطويه الإنسان بنظرة ساذجة. والنظرة الفلسفية الدقيقة تنتهي إلى نفس النتيجة. لقد أثبتنا في المقالة الثامنة:

إلى أنَّ ظهور كثير من النظريات الفلسفية الدقيقة ـ كما تدل على ذلك الشواهد التاريخية ـ مدين للصراع الكلامي الفلسفي. وقد أشرنا في المقالة السابعة إلى أنَّ القسم الأهم من أبحاث الوجود، التي تمثل من زاوية نظر مذهب أصالة الوجود مفتاح حل معضلات الفلسفة، مدين لمناقشات المتكلّمين في هذا المجال. ولعلّنا نوفق في ما يأتي من أبحاث إلى تقديم الشواهد على الأبحاث الفلسفية المتطوّرة، التي طرحت كرد فعل على هجمات علماء الكلام. وهذه النكتة لم نرَ من تعرّض إليها، ولعل بإماطة اللثام عنها تنكشف كثير من الأسرار التاريخية المهمة.

قانون العِلّية أحد المواضع التي هاجمها علماء الكلام، ونحن نلاحظ في ضوء معطيات بعض كبار علماء الفيزياء والرياضيات ما يؤيّد نظرية المتكلّمين. كما أَن مجموعة كثيرة نسبياً من قضايا الخلاف بين الفلسفة وعلم الكلام يقف العلم الحديث فيها إلى جانب المتكلّمين.

إنَّ قانون العلّية أحد الأُسس التي إذا تزلزلت أدَّت إلى انقلاب فلسفي كامل، ويعتقد الفلاسفة أن قانون العلية ركن أساسي إذا تزلزل أدى الأمر إلى فقدان العلم لمعناه. وسوف نتناول بالبحث هذا الموضوع في الهوامش والتعليقات المقدَّمة بشكلٍ تفصيلي.

٢ ـ قلنا في الهامش المتقدِّم أنَّ التصوّر الذي يمتلكه كلّ فرد عن العلّية

٢٢٩

أوّلاً: ليست هناك ماهية ـ على الإطلاق ـ تتوفّر على الوجود، دون أن يجب وجودها، وتتوفّر على " الضرورة ".

ثانياً: أنَّ هذا الوجوب تحصل عليه بواسطة موجود آخر، وإلاّ فالماهية بذاتها تتساوى نسبتها للوجود والعدم.

والمعلولية هو: إنّهما عبارة عن أمرين، أحدهما معطي الوجود والواقع والآخر متلقي الوجود والواقع. وأي ظاهرتين اتسمتا بهاتين السمتين نقول إنَّ بينهما علاقة العلية والمعلولية. قلنا في المقالة الثامنة: إنَّ الفلاسفة يستخدمون مصطلح العلية والمعلولية بمعنى أعم أحياناً، ويطلقون العلّة على مطلق الأشياء، التي تتدخّل في وجود الشيء، ويرتهن وجود المعلول بها، رغم أنَّ هذه الأشياء ليست مُعطية للوجود، ومن هنا يطلق مصطلح العلة على الأجزاء التي يتركّب منها وجود المعلول، وعلى الشروط والمقدّمات الخاصة لوجود المعلول، بينا لا يصدق مفهوم الإيجاد وإعطاء الوجود على هذه الأُمور.

إذا استخدمنا مفهوم العلية بمعناه الأعم فسوف تكون علاقة العلية والمعلولية عبارة عن استناد واقعة إلى واقعة أُخرى. على أنَّنا يجب أن نفحص في المرحلة اللاحقة طبيعة هذا الاستناد، الذي ينبغي أن يتطابق مع الواقع. نريد الآن أن نجيب على الاستفهام الذي طرحناه في الهامش السابق: هل قانون العلية قانون حقيقي وواقعي أم وهم وكاذب يعرض على الأذهان ؟

بدءً يلزمنا التذكير بأنَّنا إذا أنكرنا قانون العلية يلزمنا أن ننكر مرةً واحدة العلاقات بين الأشياء والوقائع ؛ إذ مرجع إنكار العلّية يعود إلى أحد أمرين لا ثالث لهما: فإمّا أن ينكر، جراء الإيمان بأنّ جميع الموجودات ذات

٢٣٠

نستنتج مما تقدم: ( كلّ موجود تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم، فإنَّ وجوده الذي يساوي الوجوب، ينشأ من موجودٍ آخر [ العلّة ] ). ويمكن التعبير عن هذه النتيجة بالعبارة التالية: " لا بد للممكن من علّة في وجوده ".

وجوب ذاتي، وإنَّ الإمكان ( الذي هو لازم المعلولية ) وهم باطل، ومن ثمَّ فكل ما هو موجود أو معدوم أزلي وأبدي. وإنَّ الحدوث والزوال والتغيير والتكامل مفاهيم لا مصداق لها.

وأمّا أن ينكر، جراء الإيمان بالصدفة والاتّفاق. وإذا أخذنا أياَ من هذين الأمرين يلزم انفصال وعدم ارتباط الوقائع مع بعضها، وعندئذٍ يصبح انعكاس العالم الخارجي في أذهاننا بصورة وقائع منفردة أو مجتمعة، ولا نستطيع أن نتصوّر مجموعة العالم بصورة جهاز واحد، بل لا يمكننا أن نتصوّر أي مجموعة صغيرة من العالم بصورة جهاز مترابط الأجزاء.

من الممكن أن يطرح الوهم التالي: افترض أنَّنا آمنا مثلاً بنظريةديمقريطس التي أُعيدت لها الحيوية في القرن التاسع عشر، وآمنا أنَّ الأجسام مركّبة من أجزاء صغيرة لا تتجزّأ، وعلى حد تعبير "ماكسول " علاّمة القرن التاسع عشر الشهير: ( أحجار قصر العالم التي لا تفنى )، وآمنا أن هذه الذرّات أزلية وأبدية وقائمة بذاتها، ومن ثمّ لا علّة لها. عندئذٍ ننكر قانون العلّية، وفي نفس الوقت تكون أجزاء الجهاز الكوني مترابطة مع بعضها، والارتباطات القائمة بين جهاز العالم هي التي تنتج أنواع المركّبات من الجمادات والنبات والحيوانات.

لكن النظرية الفلسفية المنسوبة إلىديمقريطس لا تقوم على أساس نفي قانون العلّية، رغم عدم وجود علاقة سببية ـ وفق هذه النظرية ـ بين

٢٣١

على أساس البيان المتقدّم، فحينما نضع اليد على أيّ حادثة أو ظاهرة في العالم يلزمنا القول إنّها موجود، ووجودها ضمن شروطها وخصوصياتها ضروري ( حتمي ). وإنّها وجدت جراء تعاضد وتعاون مجموعة من الظواهر الأُخرى ( العلّة ). ولو لم تكن علّتها موجودة لم توجد، وبعبارة أُخرى يلزمنا القول: " وجود العلّة علّة لوجود المعلول، وعدم العلّة

الذرّات بعضها مع بعض، وعدم وجود علّة أُولى لها، ولكن كلّ ذرة من الذرّات ذات خصوصية أو خصوصيات معينة، وبواسطة هذه الخصوصيات يمكن تركيب الواضح أنَّ علاقة كلّ ذرّة بخصوصياتها، وكذلك علاقة كل ذرّة بالمركب الذي تنتجه هي علاقة العلّية والمعلولية.

إذن، فالنظرية الذرّية لا تقوم على أساس نفي قانون العلّية، فإنَّ نفي قانون العلية العام ـ كما قلنا ـ يستلزم نفي أيّ لون من الارتباط الواقعي بين الموجودات. إذ تنبع جميع الارتباطات بين الموجودات من علاقة العلية والمعلولية، ومع عدم وجود علاقة العلية سيعدم أيّ لون من ألوان الارتباط الواقعي بين الموجودات. نعم يخلق الإنسان أحياناً روابطَ بين الأشياء نظير رابطة الملكية والزوجية والرئاسة وغيرها، لكنّ هذه الروابط لا تتجاوز المرحلة الذهنية، بل هي اعتبارات ليس لها وجود عيني.

أمّا إذا آمنا بقانون العلّية ورأينا العالم بلباس العلّية والمعلولية، فسوف نذعن بترابط وتلاحم الوقائع مع بعضها، وسوف يظهر العالم الخارجي أمامنا بصورة جهازٍ متلاحم ومترابط الأجزاء. ومن هنا فالحديث عن قانون العلّية هو الحديث عن الارتباط والتلاحم بين موجودات العالم.

٢٣٢

علّة عدم المعلول ". [ رغم أنَّ مقولة " عدم العلّة علّة لعدم المعلّول " لا تخلو من مجازية ؛ إذ أنّ العدم ـ كما تقدّم في المقالة السابعة ـ مفهوم ذهني لا واقع له، ولكن حينما نفترض له واقعاً سوف لا يكون له حكم سوى الحكم السابق ]. ومن هنا نستنتج: " الشيء يتطلّب علة على كل حال ". ( على أنَّ الشيء في هذه النتيجة يشير إلى حالة تساوي الشيء بالنسبة إلى

يتفرّع عن قانون العلّية العام قوانين كثيرة، وهناك قانونان رئيسيان ما لم يثبتا فسوف لا يكون قانون العلّية العام كافياً لتفسير نظام الوجود، وأحد هذين القانونين هو قانون السنخية بين العلّة والمعلول، أي القانون الذي يقرّر أنَّ العلل الخاصة تنتج معلولات خاصة، وليس كلّ علّة يمكن أن تنتج أي معلول، بل هناك خصوصيات في العلل والمعلولات التي نتج بعضها من بعض. فنحن إذا آمنا بقانون العلّية العام وأنكرنا قانون السنخية فهذا ينتج ـ رغم عدم جواز وقوع أيّ حادثة بلا سبب ـ جواز صدور أيّ شيء من أيّ شيء، وفي هذه الحالة سوف لا يظهر لنا العالم بصورة نظام معيّن، وإن لم يظهر لنا بصورة موجودات منفصلة ومنفردة.

أمّا القانون الثاني الذي يتفرّع من قانون العلية العام فهو قانون امتناع انفكاك المعلول عن العلّة التامة، ويطلق على هذا القانون " قانون الحتمية، أو الجبر العلّي، أو الضرورة العلّية "، وهذا القانون تناولناه بالبحث في المقالة الثامنة. ويستنتج من قانون العلّية وقانون السنخية وقانون الجبر العلّي ثلاثة أفكار رئيسية:

١ ـ ترابط وتلاحم الموجودات.

٢ ـ نظام الموجودات الخاص.

٢٣٣

الوجود والعدم ). إذن ؛ إذا نظرنا إلى شيء مع غضّ النظر عن وجوده وعدمه فسوف يقع بين طرفي العدم والوجود المتقابلين، والعلّة هي التي تمنح أحد الطرفين مزّيةً ورجحاناً، ومن هنا نطلق على العلّة مصطلح المرجِّح. ومن هنا ينبغي أن نستنتج ما يلي:

٣ ـ وجوب وضرورة نظام الموجودات الخاص.

إذا أخذنا بنظر اعتبارنا الأفكار الثلاثة المتقدّمة، مضافاً إلى " امتناع تسلسل العلل وانتهاء سلسلة العلل بالعلّة بالذات " ـ كما مرّ في المقالة الثامنة ـ، مضافاً إلى وحدة العلّة بالذات ( حيث سيأتي إثبات ذلك في المقالة الرابعة عشرة "، فسوف يضحي مجموع العالم ـ رغم أبعاده اللامتناهية زمانياً ومكانياً ـ جهازاً واحداً متكاملاً، متلاحم الأجزاء ومترابطاً في أبعاده اللامتناهية.

اصطلح فلاسفة أُوربا على مذهب العلية "المذهب الميكانيكي "، ومن هنا يكون العالم على صورة جهاز مترابط الأجزاء والآلات، ويعمل بانتظام وبطريقة ميكانيكية. ولكنّنا سنقرّر لاحقاً أنَّ تصوّرنا عن العلّية يختلف عن تصوّر المذهب الميكانيكي، الذي يحصر العلاقات بالعلاقات المادية.

قانون العلّية:

فَرَزنا في طرحنا قانونَ العلية العام عن القانونين اللذين يتفرّعان منه، وهما قانون السنخية وقانون الجبر العلي، لكن كثيراً من الباحثين لم يميّزوا بين هذه القوانين، ومن هنا أدى عدم الفرز إلى الوقوع في أخطاء واستنتاجات باطلة، ونلاحظ أحياناً أنَّ بعض الباحثين يهاجم قانون العلية، ثمّ

٢٣٤

١ ـ بين وجود الشيء وعلّته علاقة ونسبة وجودية، لا تقوم بينه وبين غيرها.

٢ ـ العلّة التي تكون نسبتها إلى شيئين على حدٍّ سواء لا يمكن إطلاقاً أن تخصّص أحدهما بالوجود دون الآخر. ولا يمكن أيضاً أن يختص أحدهما بالوجود، ومن هنا تنطلق قاعدتان مشهورتان، أحدهما: استحالة الترجيح بلا مرجِّح، والأُخرى: استحالة الترجُّح بلا مرجِّح.

يتّضح بعد التأمّل أنَّ هجومه لا ينصب على قانون العلّية العام، بل ينصبّ على أحد القانونين المتفرّعين منه أو القوانين الأُخرى المتفرّعة منه. رغم أنَّ الملاحظة الفلسفية الدقيقة تثبت أنَّ إنكار أيّ من قانوني السنخية أو الجبر العلِّي يفضي إلى إنكار قانون العلية العام ؛ لكن التأمّل في كلمات الباحثين الذين هاجموا قانون العلية يوضح أنَّ هؤلاء لم يرفضوا أصل الارتباط والعلاقة العلّية، بل قصدوا رفض نظام معيّن وترتيب خاص للعلية، وهو يعادل قانون السنخية، أو قصدوا قانون الحتمية العلية.

لو أخذنا المتكلّمين مثلاً نجد أنَّ مذهبهم في الفاعل المختار جاء للرد على الحكماء في نظريّتهم بشأن ترتيب صدور الموجودات عن المبدأ الأوّل، هذا الترتيب الذي يقوم على أساس قانون السنخية، فأنكروا الترتيب السببي، وذهبوا إلى إطلاق إرادة المبدأ الأول وتدخّله في كلّ حادثة مباشرة. وقصدوا أيضاً رفض نظرية الحكماء الأُخرى، التي تقرّر لا نهائية سلسلة الزمان والزمانيات، هذه النظرية التي هي نتيجة التزام الحكماء بامتناع انفكاك المعلول عن العلة " الحتم العلّي "، إلاّ فالمتكلّمون يعترفون بأنَّ الفاعل يمنح لفعله الوجود، ومفهوم العلية في كلّ شيء لا يتعدّى ذلك.

٢٣٥

٣ ـ في ضوء النتيجة الثانية نصل إلى أنَّ الاختيار ( الذي يذعن به الإنسان، وفق الفهم السطحي ) لا وجود له في الواقع ؛ فالإنسان يتصوّر وفق النظرة السطحية أنَّه يستطيع حينما يواجه فعلين أو أفعالاً متكافئة اختيار أحدهما وممارسته، دون أن يكون فعله ضروري الوجود، أو بدون أن يكون هناك مرجح في البين، وبغية إثبات هذه النظرية الكاذبة طرحوا مجموعة مواردٍ أُغفلت فيها العلّة الموجبة والمرجِّحة أو كانت مجهولة. إلاّ

وحينما نلاحظ نصوص بعض علماء الفيزياء المُحدَثين، الذين أدانوا قانون العلّية، نجد ـ بعد شيءٍ من التأمّل ـ أنَّهم لم يقصدوا نفي أصل العلّية، بل قصدوا نفي نظام خاص بعالم الذرّات، وهو النظام الحتمي الجزمي. وسوف نستشهد بنصٍ لأحد علماء الفيزياء المشهورين في هذا المجال.

أجل ؛ فأنصار نظرية وحدة الوجود، الذين يقف في طليعتهم العرفاء. يمكن أن نعدّهم منكري قانون العلّية ـ ؛ إذ على أساس نظريّتهم لا يكون في الوجود سواه، وليس في العالم سوى المعشوق، وليس هناك سوى واقع واحد من جميع الجهات، ومن ثمّ ليس هناك تعدّد في البين، لكي نتحدّث عن ارتباط وارتهان واقع بواقع آخر. إنَّ عرفاء وحدة الوجود المحضة يأبون عن استخدام مصطلح العلّة والمعلول.

هناك فريق آخر يمكن أن نعدّهم منكري قانون العلية، هؤلاء الذين استعصى الأمر عليهم في تصور العلية والمعلولية، ولم يتمكّنوا من هضم فكرة منح الوجود من قبل شيء إلى شيء آخر، بل حسبوا أنَّ منح الوجود من قبل شيء إلى شيء آخر محال وممتنع. إنَّ جميع الذين ادعوا أنَّ الشيء لا يصير لا شيء، أو أنَّ اللاشيء لا يصير شيئاً، أو الذين قالوا باستحالة

٢٣٦

أنَّ الإنسان حينما يراجع وجدانه سوف يرى أنَّه ما لم يضم إلى الفعل مرجحاً نظرياً، وما لم يمنح الفعل سمة الضرورة لا تتحقّق لديه إرادة الفعل. والاختيار الذي لدى الإنسان ـ كما تقدّم في المقالة الثامنة ـ هو أنَّ الفعل بالنسبة إليه ليس حتمياً، رغم أنَّ الفعل حتمي وضروري بالنسبة إلى مجموع أجزاء العلة، التي يمثلها الإنسان وغير الإنسان.

الخلق من العدم، واتّخذوا هذه الفكرة دليلاً على عدم وجود المبدأ الأوّل، هم من هذا الفريق. وقد أثبتنا في المقالة الثامنة في البحث عن امتناع وجود المعدوم وعدم الموجود إنَّ ما تؤمن به الفلسفة من قاعدة في هذا المجال لا يفضي إلى أزلية وأبدية الموجودات، ولا يستلزم نفي المعلولية والخلق، عليك بمراجعة ذلك البحث، وسوف نكرّر البحث حول هذا الموضوع.

الحاجة إلى العلّة:

نغضّ الطرف عن العرفاء أنصار وحدة الوجود المحضّة، ونغضّ الطرف عن الذين استعصى عليهم تصوّر العلية والمعلولية. تبقى المدارس الأُخرى التي تناصر قانون العلّية. وأمام هذه المدارس يطرح سؤال خطير، والإجابة عليه تتضمّن مشكلات كثيرة، والسؤال هو: ما هو مناط الحاجة إلى العلّة ؟

قلنا سابقاً إنَّ مفهوم " لِمَ " سؤال عن علّة وجود الشيء، وبهذه الصيغة نستفهم عن علّة أي حادثة تقع. وحينما نجيب عن السؤال بشأن كلّ حادثة يلزمنا بيان علّة تلك الحادثة. لكن هناك سؤالاً فلسفياً مهمّاً، تقع على الفلسفة مسئولية الجواب عليه، والسؤال هو: ما هي علّة الحاجة إلى العلّة ؟ أي ما

٢٣٧

٤ ـ تنقسم العلّة إلى علّة تامة وعلّة ناقصة ؛ لأنَّ العلّة المؤلّفة من أجزاءٍ يحتاج المعلول إلى كلِّ واحد من أجزائها، كما يحتاج إلى مجموع الأجزاء ؛ إذن فكلُّ جزء من أجزاء العلّة ( كما هو حال مجموع الأجزاء ) علّة، وبزوال أي جزء منها يزول المعلول، ومن هنا يتّضح:

هي الخصوصية التي يتميّز بها الشيء لكي يكون وجوده ناشئاً من علّة ؟ وفي سياق الإجابة على هذا الاستفهام يطرح أنصار المدارس المختلفة نظرياتهم بشأن عمومية الحاجة إلى العلّة، أو وجود موجود لا يحتاج إلى علّة، ومناط الاستغناء والحاجة إلى العلّة.

هناك أربع نظريّات مطروحة من قبل أنصار قانون العلّية في هذا المجال:

١ـ النظرية الحسية: علة الحاجة إلى العلّة ـ وفق هذه النظرية ـ تنحصر في التوفّر على الوجود، والوجود ملازم للمعلولية. وعلى هذا الأساس يلزم القول: " إنَّ مناط الحاجة إلى العلّة هو عين الموجودية ". وكلّ شيء فهو محتاج إلى العلّة ومتكئ عليها، ويستحيل وجود موجود غير متكئ على العلّة. هذه نظرية المادّيين، الذين ذهبوا إلى عدم تناهي سلسلة العلل والمعلولات، ولم يذعنوا بوجود واجب الوجود، وعلّة العلل. تقف في مقابل هذه النظرية نظرية أُخرى للماديين، الذي يرون أنَّ التوفّر على الوجود يتناقض مع المعلولية والمخلوقية. ولا يقل سخف هذه النظرية عن النظرية السابقة.

دليل أنصار النظرية الأُولى هو: أنّنا لم نشاهد بالحس والتجربة حتى الآن سوى وجود أشياءٍ وحوادثَ معلولةٍ لعلل ؛ ومن هنا نفهم أنَّ الموجودية

٢٣٨

أ ـ إنَّ سمة العلّة التامة هي أنَّ المعلول بوجودها يتوفّر على ضرورة الوجود، وبعدمها يكون ضروري العدم، وسمة العلّة الناقصة أنَّ وجودها لا يحقّق ضرورة الوجود للمعلول، لكن عدمها يصيّر المعلولَ ضروريَ العدم.

ب ـ عدم العلّة التامة أو أيِّ من العلل الناقصة علّة تامة لعدم المعلول.

تلازم المعلولية. ولا أظن أنَّ نقص وضعف هذا الاستدلال يحتاج إلى بيان. وقد وقع هذا الفريق من الماديين بغية إثبات نظريتهم بمغالطةٍ خاصة، فقالوا إذا كان هناك موجود غير معلولٍ لعلّة يلزم أن يكون وجود هذا الموجود صدفةً واتّفاقاً، والصدفة محال عقلاً. وهذا الفريق من الماديين اتّخذ من امتناع الصدفة دليلاً على عدم وجود واجب الوجود. خذ على ذلك مثلاً الدكتورآراني في كتيبه الجبر والاختيار ( الصفحة الثالثة )، حيث يقول: " لا يمكننا أن نتصوّر أنّ هناك عالماً تقف فيه سلسلة العلل والمعلولات عند نقطة معينة، إذ يتناقض هذا التصوّر مع القانون الذي أذعنّا به، إذ يلزم أن تكون هذه النقطة معلولاً بلا علّة، وهذا محال منطقياً... " !! ويقول في الصفحة العاشرة أيضاً: " إنَّ الأهم من كل ذلك هو أنَّ الإيمان بالاتفاق يدفعنا بشكلٍ مباشر إلى الإيمان بالمعاجز والخرافات، ويضطرّنا إلى الإيمان بالخلق من العدم وسائر الأفكار الباطلة الأُخرى، كما حصل لأرسطو وسيسرون وليبنتز وولف في إثبات الصانع، حيث تمسّك هؤلاء بنظرية الاتّفاق... " !

هذه المغالطة مغالطة واضحة جداً. فالصدفة والاتّفاق أمر محال، يدركه كلّ فرد، إذ يستحيل أن يكون شيء غير موجودٍ في وقت ثمّ يوجد بلا

٢٣٩

٥ ـ إذا قارنّا بين النتيجة التي حصلنا عليها وفق المنهج الأوّل في بداية هذه المقالة ( إنَّ الشيء الذي لم يكن موجوداً في وقتٍ ما، ثمَّ وجد، لا بد أن تكون له علّة )، وبين النتيجة التي حصلنا عليها وفق المنهج الثاني ( كلّ ممكن يحتاج إلى علّة )، يتّضح أنَّ النتيجة الثانية أعمَّ و أوسع دائرةً من الأولى ؛ إذ من الممكن على أساس هذه النتيجة أن يكون هناك معلول قديم زماناً، وليس مسبوقاً بالعدم في أيَّ وقت من الأوقات، أمّا وفق النتيجة الأُولى فلا يصحُّ أن نصف مثل هذا الموجود بالحاجة إلى العلّة ؛ لأن هذه النتيجة تحكم في دائرة الموجودات، التي سبق عليها العدم الزماني.

علّة. وهذا أمر لا علاقة له بوجود واجب الوجود القديم والأزلي والقائم بالذات. وليس هناك أيّ فيلسوف حتى الآن تمسّك بنظرية الاتّفاق لإثبات الصانع، سوى فريق من المادّيين الذين حاولوا تفسير العالم على أساس نظرية الاتّفاق.

الغريب من هؤلاء السادة أنَّهم يتمسّكون أحياناً بقاعدة العلّية لنفي المبدأ الأوّل وخالق العالم، ويتمسّكون أحياناً بنظرية امتناع الخلق من العدم لإثبات نفي المبدأ الأوّل، بينا تقف نظرية امتناع الخلق من العدم في النقطة المقابلة تماماً لقانون العلّية. والطرح الجامع لشبهة امتناع الخلق من العدم ( هذه الشبهة التي أجاب عليها الفلاسفة أجوبةً دامغةً ) هي: أنَّ الخلق والعلّية، ومن ثمَّ إعطاء الوجود من قبل شيءٍ إلى شيءٍ آخر أمر محال ؛ لأنَّ المعلول والمخلوق إمّا أن يكون معدوماً وإما أن يكون موجوداً، فإذا كان معدوماً يلزم من تأثير العلّة في المعلول تبديل العدم بالوجود، وانقلاب العدم إلى الوجود أمر محال، وإذا كان موجوداً فهو ليس بحاجةٍ إلى علّة، والعلّة لا يمكنها أن

٢٤٠