أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 85469
تحميل: 7188

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85469 / تحميل: 7188
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النظريتين، إذ كثيراً ما يحصل في عالم الخارج أن يتعاضد أكثر من فاعل لإيجاد فعلٍ واحدٍ، أو يقوم فاعلٌ واحدٌ بأفعالٍ متعدّدة. ولكن ينبغي التدقيق في هذا الموضوع، وعلينا أن نفهم أنَّ مجموع الفاعلين في الصورة الأُولى

أنّ لكلّ شيءٍ سمات واستعدادات خاصة تختلف عن سمات واستعدادات سائر الأشياء. لقد توفّر الإنسان جراء التجربة والاستقراء على يقين بأنّ كلّ واحد من المواد المعدنية والآلية ذو سمات خاصة به، فالإحراق سمة النار، وإخماد النار سمة الماء، والهواء قابل للتنفّس. وقد تعلّم الإنسان جراء التجربة أنَّ الحنطة تنتج حنطة، والشعير ينتج شعيراً، والإنسان ينجب إنساناً، والفرس يولد فرساً، والخروف ينجب خروفاً. ولا يمكن إطلاقاً أن يزرع الزارع حنطة فتنتج شعيراً، أو ينجب الفرس حماراً ؛ إذن فالإنسان يستنتج حكماً كلّياً من استقراء هذه الجزئيات، وهذا الحكم الكلّي عبارة عن أنَّ العلل والمقدّمات المعينة تعطي على الدوام معلولات ونتائج معيّنة.

هذا الاستدلال ضعيف ما لم يشفع بمقدمة قياسية ؛ لأنَّ الذهن ـ كما تقدّم في المقالة الخامسة ـ غير قادرٍ على اكتشاف القانون الكلّي بمجرّد استقراء الجزئيات، بل تتدخّل بعض الأُصول العقلية غير التجريبية في جميع المواضع التي يكتشف الذهن عبر الاستقراء والتجربة قانوناً كلّياً. وقد أثبتنا أنَّ هناك مجموعة قوانين وأُصول تتكئ عليها القواعد التجريبية، وقانون السنخية بين العلّة والمعلول أحد هذه القوانين والمسلمات الأساسية، ومن الواضح إذا أرادنا أن نثبت هذا القانون ذاته بالتجربة فهذا يستلزم الدور ( راجع المقالة الخامسة ).

ثمّ أنَّ القوانين التجريبية بشكل عامٍ ليست يقينية ؛ لأنَّ الأرضية الكاملة

٢٦١

يشكّلون في الواقع فاعلاً واحداً، وفي الصورة الثانية يصبح الفاعل الواحد عبر الشروط المختلفة مجموعة من الفاعلين أو تكون الأفعال المتعدّدة فعلاً واحداً بحكم ترتبها.

للتجربة، التي يستطيع الإنسان من خلالها إحصاء جميع العوامل ذات العلاقة بموضوع التجربة أمر غير ممكن تقريباً، ولهذا يتوالى نقض القوانين التجريبية، والتجارب اللاحقة تنقض التجارب السابقة، وإذا اتّخذنا من التجارب الماضية قاعدة لإثبات قانون السنخية فإنَّ التجارب العلمية الحديثة في عالم الذرة، التي تظهر الطبيعة وكأنها تسير سيراً عشوائياً غير متجانس، تنقض هذا القانون، كما سنوضح ذلك قريباً.

الدليل العقلي والقياسي:

يعتمد هذا الطريق على تحليل عقلي لحقيقة العلية والمعلولية، فينطلق من الأفكار التالية:

أوّلاً: أنَّ العلّية والمعلولية تستلزم ارتباط شيئين، نسمّي أحدهما علّة، والآخر معلولاً، وإذا كان هناك أمران متباينان فلا معنى لإطلاق العلّة على أحدهما والمعول على الآخر.

ثانياً: أنَّ علاقة العلّة بالمعلول هي من نسق إعطاء الوجود والتوفّر على الوجود. أي إنَّنا ننتزع مفهوم العلّية والمعلولية من موجودين أحدهما يعطي الوجود، والآخر يتوفّر على الوجود من قبل الأوّل.

ثالثاً: أثبتنا فيما تقدّم أنَّ ارتباط وتلاحم المعلول بالعلّة لا يباين واقع المعلول، أي إنَّ واقع المعلول عين الارتباط والإضافة، وليس أمراً له الإضافة والارتباط.

وبُغية أن يتّضح الموضوع بشكلٍ كامل نضيف إلى الأفكار المتقدّمة

٢٦٢

العلل الأربع

لو حاولنا قراءة بعض فعالياتنا، التي نعدها اختيارية، نظير " خياطة القميص " سنجد أنَّ تحقّق وجود القميص الذي هو معلول ( تسامحاً وتجوّزاً )

فكرة أُخرى وهي: أنَّ حقائق المعلولات عين الإضافة والارتباط، أي إنَّ كلّ معلول عين الإضافة إلى علّة خاصة، وإلاّ فالإضافة المطلقة والارتباط بدون المضاف إليه أمر لا معنى له. والمعلولات تختلف عن بعضها ـ رغم اشتراكها في أنّها إضافية وارتباطية ـ وذلك أنَّ هوية كلّ معلول هي النسبة والارتباط بعلّةٍ خاصة، وهذه العلّة الخاصة مقوّمة لذلك المعلول. أي إذا فرضنا بدل هذه العلّة علّة أُخرى فسوف لا ينحصر الأمر بتغيير الإضافة، بل سوف لا تكون تلك الإضافة هي هي، وذلك المعلول هو ذلك المعلول. ومن هنا نقول: إنَّ مرتبة كلّ موجود في نظام الوجود تقوّم ذات ذلك الموجود، أي أنَّ هوية وموجودية ذلك الموجود تكمن في كونه بتلك المرتبة الخاصة. وإذا فرضناه في مرتبة أُخرى فسوف لا يكون هو هو ولم يتغير سوى موقعه، بل لا يكون هو هو، بل ذاته تتوقّف على وجوده في مرتبة خاصة، وكما قلنا في المقالة الثامنة أنَّ مراتب الموجودات في سلسلة الزمان أو في مراتب العلية والمعلولية ونظام الأسباب والمسبّبات لا ينبغي أن تصوّرها على هيئة سلسلةٍ وطابور من الجند، ويحتل كلّ واحد منهم مكاناً معيناً، ولا مانع من تغيير وضع ومحل كل عنصر من هذه العناصر، بل ينبغي تشبيهها وتنظيرها بمراتب الأعداد التي تقوّم حقيقة كلّ عدد. فكما لا يصح أن نتساءل بشأن الأعداد لماذا كان العدد واحداً ولم يكن اثنين، ولم كان العدد اثنين ولم يكن خمسة، كذلك لا معنى لأن نتساءل في نظام الموجودات:

٢٦٣

يتوقّف على قطعة قماش، لتخاط بأدوات الخياطة المتوفّرة بيد الخياط، على شكل خاص، لكي ترتدي. فوجود القميص يتوقّف على جميع العناصر التالية:

لم أضحى " س" علة للمعلول " ص"، ولِم أضحى المعلول " ص " معلولاً للعلّة " س ". ولا يصح أن نتساءل أيضاً لماذا لا يصبح هذا المعلول بدل علّته وتحتل علّته موضعه، أو لِمَ لَمْ أكن معلولاً أو على أُولى ؟

بعد أن اتّضح أنَّ واقع نسبة كلّ معلول إلى علّته الخاصة عين واقع المعلول ومقوم لذات المعلول، يمكننا أن نعرف أنَّ واقع النسبة لعلّتين مختلفتتين ومتغايرتين مختلف ومتغاير. وإذا صدر من علّتين مختلفتين معلول واحد، يلزم أن يكون المعلول الواحد بحسب الفرض كثيراً، وفي نفس الوقت الذي تكون هويته عين النسبة لعلّة معيّنة ومتقوّمة بتلك العلة فهي عين الانتساب لعلة أُخرى ومتقوّمة بتلك العلّة. وإذا صدر عن علّة واحدة معلولان متغايران يلزم أن يكون هذان المعلولان المتكثّران حسب الفرض ليس لهما إلاّ هوية واحدة. وكما جاء في المتن: إنَّ السنخية والعلاقة الوجودية بين المعلول والعلة تستلزم أن يكون وجود المعلول مرتبة ضعيفة لوجود العلّة. ومن ها فالتباين الوجودي لعلّتين متباينتين سيعطي معلولاً في مرتبتين ضعيفتين متباينتين، وكذلك التباين الوجودي لمعلولين متباينين يستلزم علّتين متباينتين.

أُقيمت براهين وأدلّة كثيرة لإثبات قانون السنخية، وهذا القانون من نسق القضايا الفلسفية التي لا يتطرّق أدنى شك في صحّتها لدى عارفي الأُسس والمبادئ الفلسفية. وبمجرد قبول المسلّمة التي تقرّر أنَّ نظام

٢٦٤

١ ـ الفاعل ( الخياط ).

٢ ـ الغاية والهدف ( اللبس والارتداء ).

٣ ـ المادة ( قطعة القماش ).

٤ ـ الصورة ( هيئة وشكل القميص ). وإذا لم يكن أي واحدٍ من هذه العناصر موجوداً لا يوجد القميص.

الموجودات الخاص يمكن تفسيره، فهذه المسلمة تفضي إلى اليقين بأنَّ ظهور الأحداث والوقائع يتم وفق خطة وأسباب معينة. إنَّ هذه المسألة ـ كما أشرنا ـ مسألة فلسفية خالصة، أي أنَّها تقوم على أساس أُصول موضوعية لا علاقة لها بالعلوم الطبيعية أو الرياضية، وإذا استطاع القارئ المحترم أن يتعرّف بشكلٍ سليم على المبادئ التصوّرية والتصديقية لهذه المسألة سوف يقف على أنَّ دراسة هذه المسألة لا تتيسر إلاّ في ميدان البحث الفلسفي. وإذا كان ذا مرانٍ عقلي فلسفي فسوف يذعن بها إذعانه بقضية رياضية.

تناولجينز الفيزيائي والفلكي المعاصر الشهير في كتابه (سرّ الكون ) التصوّرات البدائية للبشر في تفسير أحداث الطبيعة، حيث أرجعها إلى الأشباح والأرواح والآلهة، ثمّ يقول: " استمر الحال على هذا المنوال آلاف السنين، حتى القرن السابع عشر، أي قرن غاليلو ونيوتن، حيث انتهى الأمر إلى اتخاذ قانون العلّية كأساسٍ لكشف عالم الطبيعة ودراسته. إنَّ العلماء الذين مارسوا العمل في العلوم الطبيعية وقفوا عند العلل والأسباب، وقرروا أنًَّ كل علّة مفروضة توجد معلولاً معيّناً. إنَّ الدراسات الفلكية أبصرت حركة السيارات والكواكب المنتظمة، فألقى العلماء جانباً الخرافات والأوهام في اقتران القمر بالمشتري ونحس وسعد زحل والزهرة، وثبت في القرن السابع

٢٦٥

إنَّنا نذعن بوجود هذه العلل الأربع في أفعالنا الاختيارية، ونحسب أنَّ الأفعال التي ننجزها بفكرٍ وتروٍ تقوم على هذه الأُسس الأربعة، وأنَّ أفعالنا تستمد وجودها منها، لكن السؤال هنا هو: هل ما نحسبه ونصدق به

عشر أنَّ حركة الكواكب والأجرام السماوية تسير وفق قوانين ثابتة، وقد أعلن عنها وفسرها علماء ذلك القرن. يقول نيوتن أنَّ جميع الأُمور الطبيعية يستلزم استنتاجها وفق الأدلّة القائمة على أُسس الميكانيك... وقد ازداد أنصار نظرية نيوتن يوماً بعد يوم، وبلغت هذه النظرية قمة شهرتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى بلغ الأمر بالعالم الألماني المعروفهيلمولتز ليقرّر: أنَّ جميع العلوم الطبيعية يلزم إخضاعها لعلم الميكانيك. أي حينما ندرس العالم الطبيعي يلزمنا تشخيص العلّة والمعلول، وتحديد العلاقة بينهما بشكل محقّق، وأن لا ننظر إلى أي شيء إلاّ بمنظار قانون العلّية. كما أنَّ الباحث الإنجليزي الشهير اللوردكلوين اعترف أنَّنا ما لم نتصوّر الشيء على نموذج ميكانيكي لا يمكننا أن ندركه...

إنَّ هذه الأبحاث تركت تفاعلات مثيرة في الحياة الإنسانية ؛ إذ كما ازداد الإيمان بقانون العلّية تزلزل الإيمان بحرية الإرادة، واتّجهت أفكار البشر إلى طرح هذه الإشكالية: إنَّ العالم الطبيعي تابع لقانون العلّية فلماذا يكون العالم الحيوي خارجاً عن هذه القاعدة ؟ وقد أفضى الموقف حول هذا الموضوع إلى ظهور الفلاسفة الميكانيكيين في القرن السابع عشر والثامن عشر، وواجهوا أصحاب المذهب التصوّري.

نسير في منعطفات هذه الأفكار، حتى يواجهنا القرن العشرون بخطوات واسعة تتقدم صوب العلم الحديث. وأوّل خطوة كبيرة في هذا القرن

٢٦٦

صحيح أم أنَّه وهم محض لا يتطابق وعالم الخارج، وليس هناك ـ من حيث الأساس ـ علّية ومعلولية في البَين، وليست هناك أيّ ظاهرة بحاجة إلى علّة، أم أنَّ قانون العلّية سليم، لكن العلل الأربع لا تصدق في كل

تجلت في قراءة الأجزاء الصغيرة من المادة، حيث لم يكن العلماء حتى هذا التاريخ قادرين على دراسة الأجزاء الصغيرة جداً من المادة، وكانت أحكامهم تنصب على الأجزاء المحسوسة بالحواس الخمس، أمّا الآن فأصبح أمامنا جزء من مليار جزء من المادة، ولم نشك في أنَّ هذا الجزء المادي خاضع لقانون العلّية، ولكن لم يكن واضحاً لدينا أنَّ أثر هذه الذرة يتطابق ويتشابه مع أثر مليون ذرة. توسّلت فيزياء القرن التاسع عشر بأصول وأُسس الميكانيك، وصورت كلّ قضية طبيعية وكأنّها آلة، وانتهى الأمر بها إلى قراءة آلية الفكر البشري بهذه الطريقة أيضاً. لكن هناك إشكالية أُخرى بقيت تواجه فيزياء هذا القرن، وهي تفسير النور والجاذبية بين الأجسام السماوية، حيث لا يمكن تفسيرها بأي صيغة ميكانيكية. وفي الشهور الأخيرة من القرن التاسع عشر اكتشف البروفسورماكس بلانك بعض القضايا المتعلّقة بالأشعة الضوئية، والتي كانت خفية ومجهولة حتى ذلك التاريخ، وأثبتت أنَّ نظائر هذه الظواهر الطبيعية لا يمكن تفسيرها وفق الصيغة الميكانيكية لقانون العلّية، بل لا يمكن أساساً ربطها بأي وجهٍ من الوجوه بالحتمية الميكانيكية.

لقد واجه البرفسوربلانك مدة من الزمان سخرية الباحثين، على قاعدة أنَّ الفكر الجديد يواجه حملات المتمسّكين بالفكر القديم، ولكن لم تمض مدة طويلة حتى أصبحت أهم النظريات الفيزيائية قائمة على أساس نظرياتبلانك ، وينبغي أن نعد هذا التاريخ نهاية سلطة قانون العلّية، وبداية عصر

٢٦٧

الموارد، نظير المادة والصورة في كل موجود، أو الغاية فيما عدا أفعالنا الاختيارية، إنّ الغاية لا تصدق في أي موردٍ من الموارد حتى في أفعالنا الاختيارية، وما فكرة الغائية إلا حسبان باطل ؟

جديد في تطوّر العلم والفلسفة. ذهببلانك إلى أنًَّ التغييرات في الظواهر الطبيعية تحدث على هيئة قفزات، وأثبت أنَّ الحركات الصغيرة في عالم الطبيعة تحدث على هذا النهج، خذ عقرب الساعة مثلاً، فكل دقيقة ينتقل عقرب الساعة نقلة واحدة فيطوي درجة من محيط الساعة. وصاحب الساعة يحسب أنَّ عقاربها تنتقل في محيط الساعة بشكل مستمر، بينما حينما يلاحظ الساعة في زمان خاص يشاهد أنَّ عقرب الساعة يكون ثابتاً في بحر كلّ دقيقة عند نقطة معينة ثمّ يتحرك حركة واحدة في نهاية الدقيقة إلى نقطة أُخرى.

أكد العلامة المعاصرإنشتاين في عام ١٩١٧ أنَّ نظريةبلانك تنطوي على أفكار خطيرة ومهمّة. مضافاً إلى تفسير الحركة بالقفزات، وإذا تعمقنا في هذه الفكرة تبعاً لـإنشتياين وغيره من العلماء فسوف نذعن بأنَّ قانون العلّية الذي كان منطلق تطوّر العلوم والمعرفة لدى علمائنا فَقَدَ قدرته وفعاليته الفكرية. فعلى أساس العلوم التقليدية ( علوم ما قبل القرن العشرين ) يقرّر قانون العلية أنَّ العالم يمضي باستمرار على مسيرة ثابتة ومحددة، فهو يدور في سلسلة العلية المتّصلة صباح مساء، وكل علّة يتبعها حتماً معلول معين، وهذا المعلول ذاته على لظهور وضع جديد، وهكذا...

وبعبارة أُخرى: إنَّ العلوم التقليدية تقول: إذا عبّرنا عن وضع العالم الراهن بـ A، فالوضع اللاحق لهذا الوضع الذي نعبر عنه بـ B هو نتيجة حتمية للوضع A.

٢٦٨

تقف الفلسفة موقفاً إيجابياً من صدق وصحة قانون العلية، كما ذكرنا في مطلع هذه المقالة. لكن الموقف من سائر الخيارات المطروحة في السؤال المتقدم مختلف ومتفاوت، حسب ما سيأتي من تفصيل.

أمّا العلوم الحديثة فقد انتهت بنا حتى يومنا الحاضر إلى إنَّنا لا يمكننا أن نجزم بأنَّ الوضع A ينطوي على الوضع B، فمن الممكن أن يتّخذ العالم بعد الوضع A شكل B أو C أو D أو أي وضع آخر. فنحن لا يمكننا أن نتنبّأ بالوضع اللاحق بشكل يقيني ( خلافاً للمعرفة القديمة التي تتنبأ بالوضع اللاحق لـ A وتقرّر بشكلٍ جزمي أنَّه B )، فالوضع اللاحق من المحتمل أن يكون C أو أي وضع آخر. إنَّ المعرفة العلمية الحديثة استطاعت أن تقدّر لنا قيمة احتمال وقوع الحادثB أو C أو D ( حساب الاحتمالات ). أمّا العلم اليقني فهو سرّ من أسرار الغيب وليس لهذا السرّ من سبيل.

نأخذ مثالاً عنصر الراديوم، حيث يشع منه النور والحرارة باستمرار، فجراء هذا التشعشع تتحوّل ذرات الراديوم إلى رصاص وهليوم، وحيث إنَّ هذين العنصرين أخف بكثير من وزن الراديوم فسوف يفقد الراديوم وزنه خلال مدّة طويلة جداً. الأمر الذي نؤكد عليه هنا أنَّ نقصان وزن الراديوم يتمّ عبر معادلة عجيبة، نضرب لتقريبها الأمثلة التالية:

هناك مدينة جميع نسائها عقيمات، ولنفرض أنَّ نسبة الموت في سكانها ١% في العام، وأنَّ موتهم مفاجئ وقدري، ولا يرتبط بأعمارهم. إنّ الحساب الرياضي يقرّر أنَّ نسبة انخفاض عدد سكان مثل هذه المدينة يشبه نسبة انخفاض عدد ذرّات الراديوم المتقدّمة.

ويمكن أن نتصوّر جيشاً تحت وطأة قنابل ونيران العدو، والعدو

٢٦٩

العلّة الفاعلية

رغم أنَّ وعينا لقانون العلّية يحصل في اللحظات الأُولى من حياتنا، لكنّ هذا الوعي يبدأ إجمالياً في حدود فهمنا ( إنَّ كل موجود يحتاج في

يقصفه بطريقة عشوائية. فمن البديهي في هذه الحالة أنَّ إصابة أفراد هذا الجيش تخضع للصدفة والقدر. وانخفاض عدد أفراد هذا الجيش يشبه انخفاض عدد ذرّات قطعة الراديوم.

وبعبارة أُخرى: أنَّ ذرة الراديوم لا تفنى بمرور الزمان وبلوغ العمر الطبيعي، بل يد القدر وحدها هي التي تحشرها في ساحة العدم. افرض أنَّ لدينا قطعة من الراديوم تشمل على ألفي ذرّة، تستطيع الفيزياء الحديثة أن تحسب لنا قيمة احتمال عدد ذرّات قطعة الراديوم بعد عام. ولكنّها لا تستطيع بأيّ وجه من الوجوه أن تحدّد بشكل يقيني عدد ذرّات هذه القطعة بعد عام. فالحساب العلمي يقول لنا إنَّ الظن القوي هو أنَّ عدد ذرّات قطعة الراديوم سوف يكون بمقدار معيّن، وليس من المحال أن لا يكون بهذا العدد. مضافاً إلى فكرة دقيقة أُخرى تقدّمها المعرفة الحديثة لنا، وهي أنَّ العلم لا يستطيع تحديد الذرة التي يحتمل زوالها بين ذرّات قطعة الراديوم.

على كلّ حال لا يزال هناك بعض أنصار قانون العلّية، الذين لم يرفعوا اليد عن هذا القانون، وهم يرصدون العامل الذي يحلّ محلّ الصدفة والقدر... إنَّ الدراسات والملاحظات الفيزيائية الكثيرة على هذا الطريق تؤيّد المقولة السابقة، فالبروفسورفيزن برج الألماني أثبت أنَّ نظرية الكمام الجديدة لا يمكن تفسيرها إلاّ على أساس اللاحتمية وعدم الضرورة العلّية.

٢٧٠

وجوده إلى وجود آخر، ووجود المعلول عن وجود العلّة ). ثمّ يأخذ هذا الوعي الإجمالي تفاصيله عبر ملاحظتنا، التي لا حصر لها، فنعي مفهوم العلّة والمعلول، وتتجلى أمام رؤانا سمات العلية والمعلولية.

لقد توفّرنا على أمثلة فيزيائية كثيرة رغم قانون العلّية، وجراء هذه الأمثلة ذهب كثير من علماء الفيزياء إلى عدم صدق قانون العلّية في عالم الإلكترون والذرّة، وإنّما يبدو قانون العلّية للوهلة الأٌولى صادقاً بسبب أنَّ ميدان النظرة الفيزيائية كان ميداناً واسعاً، ولم يتناول البحث التفاصيل الذرية للمادة. وقد أكد الفيزيائي الإنجليزيديراك هذا المفهوم في كتابه، حيث يقول: ( أظهرت عامة التجارب والدراسات المتعلقة بالذرّات والإلكترونات أنَّ نتيجة الاختبار في حالة مفروضة ومعيّنة لا تعطي نتيجة معيّنة وثابتة ( اللاحتمية وعدم التعيين )، أي أنَّ تكرار التجربة تحت نفس الشروط قد يؤدّي إلى نتائج مختلفة... وينبغي القول أيضاً إنَّ الفيزياء الحديثة، رغم دخولها هذا الميدان منذ زمن، لكنّها لم تصدر قراراً نهائياً حول هذا الموضوع. هناك بعض الفيزيائيين الذين يقل عددهم يوماً بعد آخر يعتقدون أنَّ عصر قانون العلّية سوف يعود ليجلس على كرسي العلوم، لكنّ الحق أنَّ الفيزياء الحديثة تمضي بالاتجاه المعاكس لنظرية هؤلاء الفيزيائيين. إنّ دور العلّية في المعرفة الحديثة أخذ يفقد بريقه، ومن هنا يتناقص عدد أنصار المذهب الميكانيكي. والنظرية الجديدة التي قدمناها في الصفحات الماضية هي موضع قبول الباحثين، وأساس الذي تقوم عليه ينسجم مع حرية الإرادة المحدودة في حياتنا اليومية. ومن خلال الإذعان بالأفكار المتقدّمة سوف نؤمن أنَّ خالق الكون ترك لنا اختياراً نستطيع من خلاله أن نظهر وجودنا في نشاط

٢٧١

نضرب أمثلة مجازية: اللقمة التي تأخذها اليد ويمضغها الفم، وقطعة القماش التي يقصها الخياط ويخيطها، والباب الذي يصنعه النجار من الخشب. نلاحظ أنَّ الصور الوجودية والأشكال الجديدة التي تحصل في هذه

وفعاليات العالم... ".

هذه خلاصة نظرية هذا الباحث الكبير في صدد قانون العلّية. ونستطيع في ضوء مجموع النص المتقدّم أن نستنتج الأفكار التالية:

١ ـ إنَّ العالم المعاصر لا يؤمن بقانون الحتمية واتساق أحداث الطبيعة وتعيّنها، وأنَّ أحداث الطبيعة سلسلة مترابطة ترابطاً علّياً.

٢ ـ حيث إنَّ قانون العلّية لا يحكم عالم الذرّات، وليست هناك علاقة علّية ومعلولية بين الحاضر والمستقبل، فالعلم الحديث يثبت وجود تدخلٍ غيبي في عالم الذرّات.

٣ ـ يستلزم قانون العلية والترابط العلّي بين الحوادث إمكان التنبّؤ اليقيني بالمستقبل على أساس الحاضر، ولكن قانون العلّية لا يحكم عالم الذرّات. ومن هنا تزول أرضية هذه التنبؤات. إنَّ قانون العلّية لا يمكنه أن يكون موجّهاً لبني الإنسان في عالم الذرّات، أي إنَّ البشر لا يمكنه أن يتنبّأ في عالم الذرّات اعتمادا على قانون العلّية. والإمكانية الوحيدة المتاحة للبشر في هذا المجال هي أن يتنبّأ بطريقة احتمالية على أساس حساب الاحتمالات.

٤ ـ قانون العلّية يتنافى مع حرية الإنسان واختياره، فمع بطلان قانون العلّية يثبت اختيار الإنسان.

المطلع إلى أُسسنا الفلسفية بشكلٍ كامل يقف جيداً على أنَّ الأفكار الأربع المتقدّمة ذات طابع نظري استنباطي، سوى الفكرة الثالثة، حيث كانت

٢٧٢

الأمثلة ترتهن بجميع أجزاء العلل. هذا أمر سليم، لكن نسبتها إلى جميع أجزاء العلل ليست على حدٍِّ سواء. فنسبة صورة القميص إلى الخياط تختلف عن نسبتها إلى قطعة القماش، لأنَّ الخياط نظير من يخرج شيئاً من

ذات طابع تجريبي. أمّا الأفكار الاستنباطية فلا يمكن قبول أي واحدة منها. على أنَّنا لا نريد أن ننكر تجارب العلماء الكبار ونوابغ عالم الفيزياء، ولا يمكننا ذلك. إنَّ ما يمكننا ونزمع أيضاً عليه هو نقد استنباطات هؤلاء العلماء الفلسفية. إنَّ من المخاطرات الكبرى أن يناقش نفياً أو إثباتاً قانون من قوانين فنٍّ خاص بواسطة أدوات ووسائل فنٍّ آخر. إنَّ السلف من الحكماء حاولوا إثبات أو نفي قضايا العلوم الطبيعية أحياناً بواسطة الأُسس الفلسفية، فارتكبوا مخاطرة، ولا أقل من خطر تحجيم العلم وصده عن التطوّر، والطريق الذي يسلكه بعض الباحثين المحدثين، ويبتغون رؤية الفلسفة من وجهة نظر الفيزياء مخاطرة لا تقل عن مخاطرات السلف.

إنَّ قانون العلّية وما يتفرّع منه، نظير قانون الحتمية وقانون السنخية وبطلان الدور والتسلسل وغيره من القوانين الفلسفية المحضة، يمكن البحث بشأنها على أساس الأُصول الفلسفية فقط، أمّا العلوم فلا يمكنها نفي أو إثبات هذه القوانين، ولا يمكنها أيضاً الاستغناء عنها. إنَّ ما يمكن للفيزيائي أو غيره من العلماء هو أن يتّخذ من قانون العلية وما يتفرّع منه أُصولاً موضوعية، يفيد منه حيث تمكّنه الإفادة، وحيث لا تمكّنه الإفادة منه عليه أن يختار السكوت.

إنَّ خطأ هؤلاء الباحثين يكمن في هذه النقطة، فقد اعتبر هؤلاء الباحثون قانون العلّية قانوناً تجريبياً، وحيث إنَّ موضوع التجربة هو من

٢٧٣

عنده ( العمل والفعل )، وقطعة القماش نظير من يتقبّل شيئاً من خارجه ( الانفعال والقبول )، ومن الواضح أنَّ لهاتين النسبتين المختلفتين سمتين مختلفتين. فالنسبة التي تحصل مع الفاعل هي أنَّ الفاعل ذو أثرٍ خارجي

سنخ المادة، فلا بد أن ينحصر قانون العلية بالمادة والأجسام، ومن هنا اعتبروا العلّية معادلة للميكانيك. إنَّ الأصل الواقعي الوحيد، الذي أقرّه الميكانيك هو المادة والحركات الميكانيكية، ومن ثمّ فالعلاقات الموجودة تنحصر بالعلاقات المادية والميكانيكية. ومن هنا فكلّما تعذّر عليهم تفسير الملاحظات والتجارب على أساس الميكانيك ذهبوا إلى بطلان قانون العلّية، وقرّروا أنَّ الفعاليات التي تجري داخل الذرة خارجة عن قانون العلّية. وكان الأجدر بهم أن يستنبطوا أنًّ العلاقات العلّية لا تنحصر بالظواهر المادية والميكانيكية.

ما هي الضرورة التي تدفعنا لاعتبار قانون العلّية قانوناً تجريبياً، ومن ثمّ نعتبره معادلاً للميكانيك، وحينما يثبت أمر يتنافى مع الميكانيك نثير زوبعة على قانون الحتمية العلّية ونقرّر عزل هذا القانون عن موقعه الذي احتلّه قروناً. إنَّ هناك أدلّة واضحة على أنَّ قانون العلّية لا يمكن اعتباره قانوناً تجريبياً، وقد تناولنا هذا الموضوع في هوامش المقالة الخامسة بالبحث.

خلاصة ما تقدّم منا هي: إنَّ الإحساس والتجربة ـ كما هو واضح ـ ينصب على الجزئي لا الكلّي. والإنسان بعد الملاحظة والاختبار في موارد متعدّدة يقوم بتعميم نتيجة تجاربه على سائر الموارد التي لم تخضع للاختبار. وهذا التعميم يقوم على أساس الإذعان بأصل موضوعي، وهو عبارة عن اتساق الطبيعة. واتساق الطبيعة يعني أنَّ الطبيعة في ظروف متشابهة تماماً

٢٧٤

يعطيه ( على أنَّنا لا نقصد أنَّ شكل القميص مثلاً في يد وخيط وإبرة الخياط، وقد رآه، ثمّ اتجه متحرّكاً صوب قطعة القماش ) والنسبة التي تحصل مع القابل هي أنَّ القابل ليس متلبساً بالأثر فعلاً. وإن كان متوفّراً على استعداد

تسير على نسق واحد في كلّ مكان وزمان. وبعد التسليم بالأصل الموضوعي ( اتساق الطبيعة ) يمكننا أن نعمّم تجاربنا في عالم الحسّ أو عالم الذرّة. واتساق الطبيعة لا يعني سوى قانون السنخية بين العلّة والمعلول، أي إنَّ العلل المعيّنة تتبعها على الدوام معلولات معيّنة. إذن، فصحّة القانون التجريبي الكلّي تتوقّف على التسليم القبلي بالأصل الموضوعي ( اتساق الطبيعة ) أو قانون السنخية بين العلّة والمعلول ؛ ومن هنا لا يمكننا أن نرد هذا الأصل أو هذا القانون بواسطة التجربة، فلا يمكننا نفيه ولا يمكننا إثباته بواسطة التجربة. ولا يمكننا الاستغناء عنه في العلوم التجريبية أيضاً. لأنّنا إذا أردنا نقض هذا القانون، ثمّ ندعي أنَّ التجربة أثبتت عدم وجود اتساق في الطبيعة، وأردنا أن نصوغ هذه القضية صياغة قانونية كلّية يلزمنا أوّلاً التسليم بقانون اتّساق الطبيعة، فاعتماداً على ذات قانون اتّساق الطبيعة ننقضه ونردّه. وإذا أردنا إثباته تجريبياً يلزم الاتكاء عليه، وبالاعتماد على قانون الاتّساق نثبت قانون الاتّساق. ومن الواضح أنَّ نقض قانون الاتساق في الحالة الأُولى يستلزم صحّته وعدم نقضه، أمّا في الصورة الثانية فصحّة هذا القانون تتوقّف على صحّته، أي يستلزم الدور، إلاّ إذا ادعينا أنَّ امتناع الدور ليس مقبولاً لأنّه فرع من فروع قانون العلّية !!!

إذن إذا أنكرنا قانون العلّية يلزمنا في المرحل الأُولى وضع العلوم التجريبية جانباً، وإبطال دورها. ومن هنا نقول إنَّ العلوم ينبغي أن تتّخذ

٢٧٥

التأثّر وقبول الأثر، ومن هنا فمع اختلاف المستعدّين والقابلين تختلف الآثار.

قانون العلّية أصلاً موضوعاً.

مضافاً إلى ما تقدّم فإنَّنا إذا أنكرنا قانون العلّية فلا يصحّ لنا الإيمان بأيّ قانون علمي، سواء أكان تجريبياً أم غير تجريبي ؛ لأنَّ كل قانون علمي يمثّل نتيجة مجموع مقدّمات قياسية أو غير قياسية، ومع حصول هذه المقدّمات نحصل على القانون العلمي كثمرةٍ ونتيجةٍ يقينيةٍ لتلك المقدّمات. بينا إذا اعتبرنا قانون العلّية كاذباً فسوف لا تكون هناك أيّ علاقة بين مقدّمات أيّ دليل وبين نتيجته. أي سوف لا تكون أي فكرة ثمرة ونتيجة لأيّ دليل. وإذا اعتبرنا قانون السنخية بين العلّة والمعلول كاذباً فيمكن انتظار أي نتيجة من أيّ مقدّمة ومن أيّ استدلال وقياس، بل يمكن انتظار أيّ شيءٍ من أيّ شيءٍ آخر. مثلاً: يمكن أن ننتظر من تناول إنسان للغذاء صيرورة جمادٍ من الجمادات عالماً ! وإذا اعتبرنا قانون الحتمية العلّي كاذباً فلا يمكن انتظار وقوع المعلول بشكل يقيني، عند توفّر جميع شروط ومقدّمات وأجزاء العلّة، أي يمكن في هذه الحالة أن يوجد الشيء ويمكن أن لا يوجد. وهذا يعني أنَّ وجود جميع المقدّمات الذهنية لدليل من الأدلّة في الذهن يساوق عدم وجودها في الذهن ؛ إذ لو كانت الحتمية العلّية كاذبة فليس هناك أي ضرورة بين وجود العلّة ووجود المعلول، وليس هناك ضرورة أيضاً بين عدم العلّة وعدم المعلول، ومن هنا فوجود العلّة وعدم وجودها في هذه الحالة متساويان بالنسبة لوجود وعدم المعلول، إذن فوجود العلّة وعدمها سيّان.

إذا كان قانون العلّية وما يتفرّع منه كاذباً فترتّب نتيجة نظرية السيد

٢٧٦

وكلّما كرّرنا هذه الملاحظة في المواد والموارد المختلفة يتّضح لنا ويتأكّد بشكل أكبر اختلاف نسبتي ( الفعل والانفعال ) والسمة الخاصة لكل منهما. ومن هنا نحكم بأن كل فعل يتطلب فاعلاً، وبلغة أكثر بساطة نقول:

جينز على استدلالاته ليس لها أي ضرورة أيضاً، وكأن هذه الاستدلالات ليس لها وجود أصلاً وأبداً.

هناك مصدر آخر لخطأ هؤلاء السادة، وهو أنَّهم لم يريدوا أو لم يستطيعوا التفرقة بين واقع قانون العلّية وبين تطبيقه واستخدامه في داخل ظواهر الذرّة. هناك نظرية ترتبط بعالم التجربة الفيزيائية، وهي صحيحة وقد طرحها هؤلاء العلماء ووافق عليها الآخرون، وهي أنَّ قانون العلّية لا يمكن أن يكون موجّهاً للباحثين داخل تفاصيل عمل الذرّات. إنَّ قانون العلّية يمكنه أن يكون هادياً وموجهاً للفيزياء حينما يستطيع الباحث بالاستعانة به أن يتنبّأ وفق المعطيات الموجودة بالمستقبل، ومن الواضح أنَّ التنبّؤات اليقينية تتيسر حينما تكون جميع المقدّمات التي تشكّل أرضية المستقبل اليقينية تحت الملاحظة والاختبار والحساب اليقيني، أمّا إذا لم تكن جميع المقدّمات محسوبة فسوف ينعدم إمكان التنبؤ. من الثابت أنَّ علماء الفيزياء المحدثين لم يستطيعوا السيطرة على الوضع الداخلي للذرّات، بحيث يمكنهم حساب التنبؤات اليقينية.

ومن الواضح في هذه الحالة أنَّ الأمر يدور بين قصور العلم المعاصر في هذا المجال وعدم قدرته على ضبط كلّ العوامل المؤثّرة في الواقع، وإمّا أن تكون الحوادث عديمة الترابط السلسلي في الواقع ونفس الأمر، ويكون قانون العلّية كاذباً. ومن البديهي عدم وجود أي دليلٍ يثبت أنَّ العلم المعاصر

٢٧٧

إنَّ كلّ أثر يتطلّب مؤثراً. وإن وجود أي موجودٍ محتاج إلى العلّة لا يتحقّق بدون العلة الفاعلية، وإنْ توفّر على سائر العلل الأخرى، نظير العلّة المادية وغيرها.

هو نهاية طريق العلم، وأنَّه ضبط واطّلع على جميع العوامل الدخيلة في الأحداث الطبيعية. وواقعية قانون العلّية لا يلازم إمكان التنبؤ، بلا يتلازم التنبؤ مع اطلاع الباحثين على تلك المقدّمات والعلل. إذن فإذا أردنا أن نستنتج في ضوء معطيات الفيزياء استنتاجاً منطقياً فلا ينبغي لنا أن نستنتج من عدم إمكان التنبؤ في بعض المواضع عدم واقعية قانون العلّية، بل يلزمنا أن نستنتج الحد التالي: إنَّنا لا نملك اطلاعاً على العوامل اليقينية المؤثّرة بسبب عدم وجود هذه العوامل من حيث الأساس أو أنَّ هذه العوامل موجودة لكنّنا لسنا على اطلاع بها.

إنَّنا إذا أقلعنا عن التفكير الحسّي في قانون العلّية، وأدركنا هذا القانون إدراكاً سليماً، وعرفنا أنَّ تصوّر هذا القانون لا يرد الذهن عن طريق الحسّ ( راجع المقالة الخامسة )، وأنَّ تصديقنا الذهني ( وفق الأدلّة التي قدّمناها في هذه المقالة وفي المقالة الخامسة أيضاً ) ليس نتيجة التجربة، يمكننا أن نفهم حينئذٍ أنَّ قانون العلية شأن من شؤون الواقع المطلق، سواء أكان هذا الواقع مادياً أم غير مادي. ومن هنا فكل عامل يمنح معلوله واقعاً يكون علّة ويكون المستَقبلُ معلولاً. وعلى هذا الأساس فإذا افترضنا أنَّ نظرية السيدجينز صحيحة وأنَّ التغييرات والتحوّلات المختلفة داخل الذرة تقديرٌ وإرادةٌ ما فوق الطبيعة، فنظريّته ليست خارج إطار قانون العلّية. وعلّة عدم قدرتنا على التنبؤ بهذه المقادير تنشأ جراء كون القوانين الخاصة لهذه التقادير ليست في

٢٧٨

إشكال

إنَّ دائرة الملاحظات التي أفضت إلى الاعتقاد بضرورة العلّة الفاعلية تقع في حدود الموارد التي تمارس الطبيعة فعلها فيها عن

أيدينا لكي نستطيع أن نتنبّأ بها.

لكنّ الحقّ أنَّ الذي يؤمن بتدخّل الإرادة وتقدير ما فوق الطبيعة في مثل هذه الحوادث ليس له معرفة اليوم بالعلوم الإلهية. من الممكن أن يحسب أولئك الذين ليس لهم معرفة كافية في هذا المجال أنَّنا نستقبل اعترافات باحث شهير نظير "جينز " بتدخّل الإرادة ما فوق الطبيعة في بعض حوادث العالم بالقبول، ونتّخذ من هذا الاعتراف مؤيداً للنظريات الإلهية. لكن القارئ المحترم عليه أن يطمئن الآن، وسيسمع تفصيلياً في المقالة الرابعة عشرة أنَّنا نعتبر وجود مثل هذه التدخّلات والتقديرات ما فوق الطبيعية أمراً محالاً وممتنعاً، ونرى أنَّ نظريّاتجينز وغيره في هذا المجال ناشئة عن جهلهم بالعلوم الإلهية. نحن لا نسير على نهج أدعياء الفلسفة وغيرهم في نظرياتنا الإلهية، فنبحث عن الاستثناءات لإثبات صانع الكون ومبدأ العالم، ونفسر كلّ استثناءٍ وخروجٍ عن العادة بإرادة الله، ونتّخذه دليلاً على وجوده. إنَّ نظام الوجود من وجهة نظرنا الفلسفية نظام متقنٌ وترتبي، وجميع أجزاء هذا النظام مترابطة ومتلاحمة وهو قائم بذات الباري تعالى. وإنَّ نظام العلية والمعلولية هو عين أجزاء إرادة وتقدير الباري، التي جاءت على هيئة هذا النظام، وهذا النظام المتقن من وجهة نظرٍ فلسفية دقيقة دليل على وجود ذات الباري، لا الاستثناءات على فرض وجودها. وسوف يتعرّف القارئ المحترم في المقالة الرابعة عشرة على نهج استدلالاتنا بشكلٍ كاملٍ.

٢٧٩

طريق الفعل والانفعال، وبتعبير حديث: تمارس فعلها عن طريق الفعل ورد الفعل. ومن الواضح أنَّ نتيجة الملاحظات لا يمكن تعميمها على غير مواردها.

نعم أغلب المتكلّمين حينما حاولوا الاستدلال نظير اعتبارهم الطبيعية شريك الباري وفعل الطبيعة لا يستند لذات الباري استمروا بالبحث عن الاستثناءات وحسبوا أنّهم بإبطال نظام الموجودات يلزمهم إثبات وجود الصانع. وفي حدود بحثنا واطلاعنا نلاحظ أنَّ جميع الفلاسفة الأوربيين ( الإلهيين والماديين والشُّكاك ) يسيرون على هذا النهج. ونظرية "أوجست كُنت " الشهيرة في تحليل المراحل الثلاث التي مرّت بها البشرية في تفسير الحوادث، التي تقدّم بحثها في المقالة الخامسة، تحكي عن هذا النهج، وهذا الأمر ذاته أثار دهشتي المذهلة.

من المناسب هنا أن أنقل نصّاًلصدر المتألهين في الردِّ على الإمامالرازي يرتبط بموضوعنا. ففي بحث ( السعادة والشقاوة الحسّية ) من المجلّد الرابع في الأسفار نقل ونقد بعض أدلّة الرازي لإثبات الصانع ومنهجهِ في تفسير القرآن، فقال: " وأعجب الأُمور أنَّ هؤلاء القوم متى حاولوا إثبات أصل من أُصول الدين كإثبات قدرة الصانع أو إثبات النبوّة والمعاد اضطروا إلى إبطال خاصية الطبائع ونفي الرابطة العقلية بين الأشياء والترتيب الذاتي الوجودي والنظام اللائق الضروري بين الموجودات التي جرت سنّة الله عليها ولا تبديل لها، فهذه هي عادتهم في إثبات أكثر الأُصول الاعتقادية كما فعله هذا الرجل إمام أهل البحث والكلام ".

على كلّ حال نحن نؤمن بنظام متقن للوجود، لا يمكن تخلّفه. وهذه

٢٨٠