أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 85456
تحميل: 7188

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85456 / تحميل: 7188
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مفهوم من مفاهيم التغاير، فهما اثنان ) إذن ؛ يلزمنا القول: إِنَّنا نستخلص من الموجودات الخارجية مفهومين، أحدهما المفهوم الذي تتمايز به الأشياء الواقعية، والذي يوافق عليه السوفسطائي أيضاً بوصفه فكراً، كمفهوم الإنسان ـ الشجرة... والمفهوم الآخر مفهوم الوجود " الواقعية ". إذن فكل شيء واقعي يعطينا مفهومين، نظير الإنسان الخارجي، فهو يعطينا مفهوم الإنسان ومفهوم الواقعية.

الأرض موجودة ـ الإنسان موجود ـ السماء موجودة ـ مشترك لفظي أم مشترك معنوي ؟

إنَّ الإجابة على هذا الاستفهام ـ بحكم ارتباطه بالوجدان الذهني ـ واضح، يعني أنَّ كلّ إنسان حينما يلتفت إلى معطيات ذهنه يُدرك أنَّ مفهوم الوجود مغاير مع المفاهيم التي يُحمل عليها كالأرض والسماء والشجرة وهو مشترك معنوي في هذه الموارد، وليس مشتركاً لفظياً. أي حينما يحكم الذهن على كلّ واحدٍ من المفاهيم المتقدّمة بالوجود فإنَّه يقصدُ معنىً واحداً في جميع موارد حكمه ويحمل المفهوم على هذه المفاهيم المتعددة ولا يقصد أكثر من معنى.

ج ـ إِنَّ لدينا عن كلّ أمرٍ واقعي صورتين ذهنيتين، فما نحكم عليه بالواقعية ـ رغم السفسطة ـ كالإنسان والشجرة والأرض له مفهومان: الأوّل مفهوم الإنسان ومفهوم الشجرة ومفهوم الأرض، وهذا المفهوم هو ملاك تشخيص وتمييز لكلّ قضيةٍ من القضايا الثلاث، وعلى أساس هذا المفهوم نحكم بالتغاير بين موضوعات القضايا الثلاث. والمفهوم الثاني هو مفهوم الوجود، الذي هو مشترك في القضايا الثلاث، نأتي الآن لنتساءل أيُّ المفهومين هو الأصيل وأيهما هو الاعتباري ؟ والإجابة على هذا الاستفهام تَطرحُ المسألة الثالثة. وسنتابعها في الهامش اللاحق وفقاً لما جاء في المتن.

٤١

٤٢

أصالة الوجود والواقع

مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ كلّ شيءٍ خارجي لا يتعدّى أمراً واقعياً واحداً، ونستخلص منه مفهومين مختلفين: الماهية ـ والوجود. نأتي الآن لنرى لمن الأصالة من هذين المفهومين (٤) . أي هل مفهوم الإنسان هو الذي يحكي عن الواقعية ( التي تبغضها المثالية ) أم مفهوم الوجود ؟

٤ ـ هذا هو عين السؤال الثالث الذي ذكرناه في الهامش السابق. فبعد طي المرحلة الثانية والإذعان بأنَّ الإنسان موجود والشجرة موجودة والبياض موجود... يعني بعد تكثير الأصل الكلّي " الواقع موجود " والحصول على واقعيات متعدّدة، يُطرح هذا الاستفهام.

بعد الإيمان بالأصل الكلّي " الواقع موجود " الذي يمثل الحدّ الفاصل بين المثالية والواقعية، نخطو الخطوة الأولى للانفصال عن عالم الخيال والدخول إلى عالم الواقع، ثمّ نعكف على تكثير هذا الأصل، فنعثر على واقعيات متعدّدة، نظير الإنسان والشجرة والجسم والخط والسطح والحجم والبياض والحرارة وغيرها، فنذعنُ في أذهاننا ونصدّق بشكلٍ قطعي بأنَّ لهذه الأمور واقعاً. ثمّ نعكف على تحليل ذهننا فنجد:

أوّلاً : إنَّ لدى الذهن صورةً عن كلِّ واحدٍ من هذه الأمور الواقعية مغايرة لصورة الوجود التي لديه ( زيادة الوجود على الماهية ).

٤٣

.....................................................................................................................................................................................

ثانياً: إنَّ مفهوم الوجود مفهوم عام ومشترك ينطبق على هذه الأمور الواقعية بمعنىً ومفهومٍ واحد ( اشتراك معنوي للوجود ). ثمّ نستنتج من هذا التحليل المختصر للذهن النتيجة الثالثة.

إذن لدينا مفهومان عن كلّ أمرٍ نصدقُ ونذعنُ بواقعيته، المفهوم الأوّل مفهوم عامٍ ومشترك ( الوجود )، الذي ينطبق على كلّ هذه الأمور الواقعية، وهو مشترك بينها. والمفهوم الثاني مفهوم خاص يختصُ بكل أمرٍ من هذه الأمور الواقعية على حده، مثل مفهوم الإنسان ومفهوم النار ومفهوم الحجر، حيث ينطبق كل مفهومٍ من هذه المفاهيم على موردٍ معينٍ، ويصطلحُ عليه الماهية.

وهنا يُطرح استفهامان:

الاستفهام الأوّل: من أين ينشأ المفهوم العام والمشترك في الأذهان، ومن أين ينشأ المفهوم الخاص في الأذهان أيضاً ؟ وهذا السؤال ذو طابع نفسي، وقد أجبنا عليه في المقالة الخامسة بشكل مفصّل.

والاستفهام الثاني: بعد أن عرفنا أنَّ هناك مفهومين في الذهن ( الماهية ـ الوجود )، فأيّ منهما الأصيل وأيّ منهما الاعتباري ؟ فهل هما أصيلان معاً أم هما اعتباريان معاً، أم أنَّ الوجود هو الأصيل والماهية أمر اعتباري أم العكس ؟ وهذه المسألة رغم طابعها الذهني مسألة فلسفية خالصة، وذات طابع عيني، وتتوقّف معرفة الواقع عليها، بل هي أكثر مسائل معرفة الواقع أساسيةً.

ينبغي بيان مجموعة من الأفكار مقدمةً لهذا البحث:

أ ـ تعني الأصالة هنا العينية والخارجية، مقابل الاعتبارية التي تعني

٤٤

....................................................................................................................................................................................

عدم العينية والخارجية، وتعني أنّها محصول ذهني خالص. لقد درج في الاصطلاحات الفلسفية الحديثة استخدام الأصالة بمعنى التقدّم مقابل الفرع والنتيجة، فيقولون هل الأصالة للروح أم للمادة ؟ بديهي أنَّ المقصود في هذا الاستفهام ليس تحديد ما هو عيني خارجي وما هو اعتباري ذهني، بل المقصود هو تحديد ما هو الأساس هل المادة هي الأساس والروح من خواص المادة ونتيجة تركيباتها أم أنَّ الروح هي الأساس والمادة نتيجة لها ؟

لا يُعنى في بحث أصالة الوجود أو الماهية بالبحث عما هو أساس، بل يُطرح الاستفهام بصدد المفهومين اللذين نتوفّر عليهما عن كل أمرٍ واقعي، فأيّ من هذين المفهومين ذو طابعٍ عينّي خارجي، وأي منهما ذو طابع ذهني واعتباري ؟

إنَّنا إذا اعتبرنا الوجود أو الماهية أمراً اعتبارياً فسوف لا نقرُّ له بأيّ طابع عيني، فلا هو أصل وأساس ولا هو فرع ونتيجة. على أيّ حال لا ينبغي الخلط بين البحث عن الأصالة وعدمها هنا، وبين البحث عن الأصالة وعدمها في الفلسفة الحديثة، فالاصطلاحات في هذه الفلسفة تختلط أحياناً، ومن الممكن أن يراد من عدم الأصالة في بعض الموارد الاعتبارية أيضاً.

ب ـ ينبغي أن نوضح مفهوم الماهية التي نبحث عن أصالتها أو عدم أصالتها. إنَّ القارئ المحترم على بينةٍ من أنَّ هذا البحث مطروح بعد التصديق بمجموعة أمور واقعية الأشياء مقدّمة للدخول إلى هذا البحث. على أَنَّ واقعية الأشياء على الإجمال ليست فرضية احتمالية، بل

٤٥

.....................................................................................................................................................................................

هي أمر بديهي وقطعي، وموضع تصديق وإذعان كلّ الأذهان. لنفرض أنَّنا آمنا بواقعية ثلاثة أشياء: الخط، العدد، الإنسان. وحكمنا بوجود الخط والعدد والإنسان، وأنَّ هذه الأشياء موجودة على حدٍ سواء ولا اختلاف بينها من زاوية واقعيتها ووجودها.

من الواضح لدى أذهاننا أنَّ الوجود تعلّق في كلّ موردٍ من هذه الموارد بشيءٍ، وفي كلّ مورد لبس شيء من الأشياء لباس الوجود. وبعبارة أُخرى واضح لدى أذهاننا أنَّ شيئاً في كلّ مورد من هذه الموارد قد خرج من ستارة الإبهام وظُلمة العدم ؛ فقد تعلّق الوجود في موردٍ بما نسمّيه الكمّية المتّصلة، وتعلّق الوجود في مورد آخر بما نسمّيه الكمّية المنفصلة، وتعلّق في موردٍ آخر بما نسمّيه الجوهر العاقل.

فيما يبدو في أذهاننا متلبّساً ومعروضاً وخارجاً من ستارة العدم وظلمته هو " الماهية ". ففي المثال المتقدّم حينما نحكم بوجود العدد أو الخط أو الإنسان، فالعدد والخط والإنسان ماهيات مختلفة ذوات وجود.

الماهيات منشأ الكثرة والتعدّد والوجود منشأ الوحدة. أيّ أَنَّ الأمور الواقعية الثلاثة ثلاثة أمور لا أمرٍ واحد ؛ حيث إنّ أحدها خطّ والآخر عدد والثالث إنسان. رغم أنَّها من زاوية الواقع والتوفر على الوجود متشابهة ومشتركة مع بعضها.

على أن نشير إلى إمكانية أن ينكر منكر حقيقة: ( إنّ ما ندركه من الأشياء هو عين ماهيتها )، فلا يَقُّر بأنّ الصورة الذهنية للخط أو العدد أو الإنسان هي عين الماهية المتلّبسة بالوجود الخارجي. أي أن يسلك مسلك

٤٦

......................................................................................................................................................................................

الشكّ أو الإنكار في بحث " الوجود الذهني " أو " قيمة المعلومات ". لكن، وعلى أية حال، مع القبول بأنَّ هناك أموراً ثلاثة ذات واقعٍ ووجود لا يبقى شك في أنَّ كلّ واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة شيء خاص بنفسه، قد تعلّق به الوجود، وهذا الشيء الذي تعلّق فيه الوجود هو ماهية ذلك الشيء، سواء آمنا بالوصول إلى كنهه أم لم نؤمن.

ج ـ حينما نحمل محمولاً على موضوع فسوف نلاحظ أن هناك حالتين:

الحالة الأولى ـ أن يكون المحمول والموضوع في عالم الخارج أمرين واقعيين، أي لكلّ واحدٍ منهما واقع خاص به، كما هو الحال في عالم الذهن، حيث يتوفّر كلّ من الموضوع والمحمول على صورةٍ ذهنيةٍ خاصةٍ به. مثلاً، حينما نحكم بأنّ هذه الورقة بيضاء، أو هذه الغرفة مربعة، أو هذه الحبّة حلوة ـ نلاحظ في هذه الأمثلة أنَّ لكلّ واحدٍ من المحمول والموضوع تصوّراً خاصاً به في الذهن، ونلاحظ أيضاً أنَّ لكلّ واحدٍ منهما ما بإزاء في عالم الخارج، أي أنّ هناك واقعاً للبياض، وأنّ هناك واقعاً للورقة، وأنَّ هناك واقعاً للغرفة، وأنَّ هناك واقعاً للمربع، وأنَّ هناك واقعاً للحبة، وأنّ هناك واقعاً للحلاوة، فرغم ارتباط هذه الوقائع مع بعضها وارتهان كلّ محمول بموضوعه، لكن لكلّ واحدٍ منهما مصداقاً واقعياً، ومن ثمَّ له ما بإزاء خاص به.

الحالة الثانية ـ أن لا يكون لكلٍ من المحمول والموضوع واقع مستقل في الخارج، ولا تكون هناك أيّ اثنينيّة بين الموضوع والمحمول في الخارج،

٤٧

.....................................................................................................................................................................................

فلا كثرة بينهما، بل تحكم الوحدة بينهما، والكثرة تستند إلى الذهن بشكل خالص. وبعبارة أخرى أنَّ الذهن بلونٍ من ألوان التحليل والتجزئة يقسم الأمر الخارجي الواحد إلى أمورٍ متعددةٍ، فيصوغ مفاهيمَ ومعانيَ متعددةً من أمرٍ واقعي خارجي واحد، ليس فيه أيُّ لونٍ من ألوان الكثرة.

لا مجال لإنكار قدرة الذهن على التحليل والتجزئة، فلها آلاف الشواهد الواضحة. القِ نظرة على (التعريفات ) تلاحظ كيف يصوغ الذهن لشيءٍ واحدٍ بسيط خارجي مفاهيمَ ومعانيَ متعددة لديك ويضع له زوايا اشتراك ونقاط امتياز، بالشكل الذي تنطبق جميع هذه المعاني والمفاهيم الكثيرة على هذا الشيء الخارجي البسيط الواحد، كما هو الحال في تعريف الخط، فالذهن يحكم بأَنَّه " كمية متّصلة ذات بُعدٍ واحدٍ ". فالذهن هنا يجزئ الخط بقوّة تحليله إلى كمّيةٍ، واتصالٍ، وأَنَّها ذات بُعدٍ واحدٍ. وهذه المفاهيم الثلاثة تنطبق على الخط. ومن البديهي أنَّ الوجود الخارجي للخط لا يتركّب من ثلاثة أجزاء، أي أنَّ قسماً من وجوده كمّيةٌ، وآخر اتّصالٌ، وآخر بُعد واحد. بل المفاهيم الثلاثة في عالم الخارج واحدة وذات واقعٍ ووجودٍ واحدٍ، لكن الذهن هو الذي ينتزعُ من هذا الواقع والوجود الواحد مفاهيم مختلفة، ويطبقها على هذا الواقع الواحد. على أي حال لا مجال لإنكار قدرة الذهن على صياغة مفاهيمَ ومعانٍ متعددةٍ للواقع الواحد.

بحث الماهية والوجود مورد من موارد الحالة الثانية، الحالة التي لا يكون لكلّ من الموضوع والمحمول واقع مستقل، أي الموارد التي تتّخذ الماهية نظير الخط أو العدد أو الإنسان موضوعاً، ونحمل الوجود عليها،

٤٨

....................................................................................................................................................................................

فنؤلّف قضايا،و نحكم أنَّ الخط موجود أو العدد موجود أو الإنسان موجود...

للموضوع والمحمول في هذه الموارد ( يعني مفهوم الإنسان ومفهوم الوجود مثلاً ) كثرة في عالم الذهن، ويحكم التغاير بين المفهومين، ووفق الاصطلاح الفلسفي " الوجود زائد على الماهية ". بل ـ كما قلنا ـ يبدو في الوهلة الأولى للذهن أنَّ الوجود تعلّق بالماهية، وأخرجها من عالم العدم ومن ستارة الإبهام والظلمة إلى عالم الظهور، والماهية بمثابة المتلبّس بلباس الوجود ؛ لكن المسلّم أنَّ الماهية والوجود في عالم الخارج ليسا أمرين أحدهما ظاهر والآخر مظهر، وأحدهما لباس والآخر متلبس. بل الذهنُ هو الذي يصوغ هذين المفهومين من واقع خارجي واحد، فيعتبر أحد المفهومين عارضاً والآخر معروضاً عليه. هناك تركيبات ممكنة في عالم الخارج، لكن تركيب الماهية والوجود في عالم الخارج أمر لا معنى له. إنّما تحصل هذه الكثرة والتركيب بين الماهية والوجود بقوة التحليل الذهني، وليس للوجود والماهية في عالم الخارج ( كالإنسان ووجود الإنسان أو الخط ووجود الخط أو الأرض ووجود الأرض ) واقعان مستقلاّن، فيكون لكلّ واحد منهما ما بإزاءٍ خارجي. وكيف يمكن من حيث الأساس أن يكون للأمر الواقعي الواحد ـ مما فرضناه الإنسان أو الخط أو الذرة ـ واقعان واقع لذاته وواقع لوجوده، كل على حده، فيكون له واقعان في المجموع ؟!

لا حاجة لإقامة البرهان على أنَّ الشيء ووجوده يشكّلان واقعاً واحداً، واختلاف وتعدّد الماهية والوجود أمرٌ ذهني ومعلول لقوّة التحليل الذهنية. فإذا استطاع أحد أن يتصوّر هذا الموضوع فسوف يصدّق بهذه الفكرة

٤٩

.................................................................................................................................................................................

بلا تردد. لكنّنا في نفس الوقت نقيم برهاناً لأولئك الذين يميلون إلى إقامة البرهان والاستدلال على هذا الموضوع، وبرهاننا على النحو الآتي:

إذا كان الشيء ووجوده أمرين واقعيين، يلزم أن يتألّف كلّ أمرٍ واقعي من أُمور واقعية غير متاهية. مضافاً إلى أن يكون ذلك الشيء من حيث الأساس أمراً لا وجود ولا واقع له ؛ إذ لو كان كلّ من الوجود والماهية أمراً واقعياً مستقلاً فسوف ننقل الكلام إلى كلّ واحدٍ من هذين الأمرين أمرٌ واقعي، وكلّ أمر واقعي بحسب الفرض مع واقعه أمران واقعيان، أي هناك اختلاف حاكم في ذاته وليس أمراً واحداً، إذن لكلّ واحدٍ من الوجود مجموع من أمرين واقعيين. ثمّ ننقل الكلام في المرحلة الثانية إلى هذين الأمرين الواقعيين الذي تشكّلهما الماهية، والأمرين الواقعيين اللذين يشكّلهما واقع الوجود، وحيث أنَّ كلّ واحدٍ من هذه الأربعة أمرٌ واقعيٌّ، وكلّ أمر واقعي بحسب الفرض مجموع من أمرين واقعيين بينهما اختلاف خارجي، إذن فكلّ واحدٍ من هذه الأمور الأربعة يشكّل أمرين واقعيين، وهكذا ننقل الكلام في المرحلة الثالثة والرابعة... إلى ما نهاية، حيث نستمر مع أمورٍ واقعيةٍ مركبةٍ من أمرين واقعيين آخرين وهكذا.. ومن الواضح أنَّ هذه الظاهرة أمر محال عقلاً لأسباب:

أوّلاً: إنّ الأمر الواقعي الواحد كالإنسان الواحد ليس مجموعة من الأناسي اللامتناهية، والخطّ الواحد ليس مجموعة من الخطوط اللامتناهية ( على أنّ لا نخلط بين قابلية انقسام الخطّ إلى أجزاءٍ غير متناهية وهذا

٥٠

......................................................................................................................................................................................

الموضوع ) والذرة الواحدة ليست مشكّلة من ذرّاتٍ لا متناهية. فكيف يمكن من حيث الأساس أن يكون الشيء الواحد في نفس الوقت الذي هو أمر واحد بالفعل، مؤلّفاً من أشياءٍ غير متناهية.

ثانياً: إنَّ الأمر اللامتناهي المفروض هنا لون من الكثير الذي لا ينتهي إلى وحدات ؛ وقد لاحظنا أنّ الشيء يتألّف من أمرين واقعيين إلى ما نهاية، ولا ينتهي إلى أمرٍ واقعي مؤلّفٍ من هذين الأمرين الواقعيين، والكثير الذي لا ينتهي إلى أمرٍ واحد يستحيل وجوده ؛ لأنَّ الكثير يحصل جرّاء تجمّع وحداتٍ، فإذا لم تكن هناك وحدة لم تكن هناك كثرة، إذن يلزم من كون الشيء الواقعي الواحد ذاته أمرين واقعيين أن لا يكون لذلك الشيء ـ من حيث الأساس ـ وجود وواقعية.

د ـ تقدم أنَّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون هو ونفسه أمرين واقعيين، وبعبارة أُخرى لا يمكن أن تكون الماهية والوجود أمرين عينيين ؛ نأتي الآن لنقول على أساس وجود أمور خارج أذهاننا: إنَّ الماهية وواقعها لا يمكن أيضاً ألاّ يكون لكلّ منهما وجود وعينية خارجية، فنحن نؤمن بأنَّ الإنسان أو الخط أو العدد أو الذرة موجودة خارج أذهاننا، فإذا كان الإنسان وواقعه أو الخط وواقعه لا وجود خارجي ولا عينية لهما، بل هما أمران ذهنيان، إذن حينما نقول الإنسان موجود سوف يكون أمراً ذهنياً بحتاً، وليس هناك خلف الذهن أي شيء، وهذا خلاف الأصل البديهي الذي تقدّم، وهو عين مدّعى السفسطائين.

بعد بيان هذه المقدّمات اتّضح عبر المقدّمة الأولى أنَّ بحث أصالة الوجود أو الماهية ذو طابع ذهني، رغم أنَّ البحث عن تعيين وتحقيق الأمر

٥١

....................................................................................................................................................................................

الخارجي والواقعي منهما، فله طابع ذهني وطابع خارجي، وهما توأمان مع بعضهما. واتّضح من المقدّمة الثانية مفهوم الماهية ونسبتها للوجود بحسب الاعتبار الذهني. واتّضح من المقدّمة الثالثة أنَّ الوجود والماهية يشكّلان واقعاً خارجياً واحداً، وليسا أمرين واقعيين، ومن هنا لا يمكن أن يكونا خارجيين وعينيين وأصليّين، أي أن يكون الوجود أصيلاً والماهية أصيلة. واتّضح من المقدّمة الرابعة أنَّ الوجود والماهية لا يمكن أن يكونا معاً غير واقعيين، وأن يكون كلّ منهما أمراً ذهنياً محضاً، يعني أن يكونا اعتباريين معاً.

بعد طرح هذه المقدّمات يأتي دور الاستفهام التالي: ما هو الأصيل، هل الوجود هو الأصيل والماهية هي الاعتبارية أم بالعكس ؟

أُقيمت براهين متعدّدة لإثبات أصالة الوجود. تتكئ بعض هذه البراهين على أصول موضوعة، ينبغي إثباتها عبر العلم أو الفلسفة، ومن المحتّم أنَّ هذه الأصول الموضوعة ما لم يقم عليها البرهان تبقى الإفادة منها في البرهان على أصالة الوجود غير متوفّرة على الطابع اليقيني، وبعض البراهين ليست كذلك. ونحن هنا لا نستطيع أن نطرح ونحلّل جميع البراهين التي أُقيمت لإثبات أصالة الوجود. بل نكتفي ببيان برهان ذي طابع فلسفي خالص، وهو أسهل البراهين وأوضحها، وأكثرها إحكاماً وقوة. وهذا البرهان لا يتطلّب مقدمات إضافية خارج تمحيص مفهومي الوجود والماهية ذاتهما. ويتكئ صدر المتألّهين مؤسّس نظرية أصالة الوجود في كتبه على هذا البرهان في أغلب الأحيان. والبرهان هو على النحو التالي:

٥٢

....................................................................................................................................................................................

إنَّ الأمر يدورُ بين حالين، فإمّا أن يكون الوجود أمراً واقعياً وتكون الماهية أمراً انتزاعياً عبر القوّة الذهنية، وإمّا أن تكون الماهية أمراً واقعياً ويكون الوجود أمراً انتزاعياً ذهنياً. حينما نقيس كلاً من الوجود والماهية بالواقعية والخارجية نلاحظ: أنَّ الماهية ( مثل الإنسان أو الخط أو غيرهما ) في ذاتها تصلح للوجود وتصلح للعدم أيضاً، ونسبتها إلى الوجود والعدم على السواء، فالماهية بحكم مصاحبتها للوجود والواقعية يعتبرها الذهن صالحة لحمل الوجود عليها. أمّا الوجود والواقعية فهو عين الموجودية والواقعية والخارجية، وفرض عدم واقعية وعدم وجود الوجود فرض محال ؛ إذن فالوجود هو عين الواقعية والعينيّة، وهو الذي يشكل الخارجية وعالم العينية، أمّا الماهية فهي قالب ذهني للوجود يهيئهُ الذهن بفعاليته الخاصة جرّاء ارتباطه بالواقع الخارجي، فينسبه للواقع الخارجي. وهذا هو معنى عبارة المتن:كلّ شيء، أيّ كلّ أمرٍ واقعي خارجي يتوفّر على الواقعية في ظل الواقعية، وإذا فرضنا أنَّ واقع الوجود يُسلبْ عنه الوجود، فيكون عدماً فهذا الفرض لا يتعدّى الوهم الفارغ.

إنَّ لنظرية أصالة الوجود نتائجَ كثرةً في الفلسفة. ويرتهن البحث في أغلب المسائل الفلسفية بالبحث في أصالة الوجود، خصوصاً في موضوع الحركة، حيث يفيد هذا البحث من موضوع أصالة الوجود نتائجَ كثيرة لا مجال لعدّها هنا وستذكر هذه النتائج في محلّها، نشير في خاتمة هذه الفقرة إلى الملاحظة التالية:

لاحظ القارئ المحترم أنّنا طرحنا موضوع البحث عن أصالة الوجود بعد الإيمان بالأصل الكلّي " إنَّ هناك واقعاً " وبعد التصديق بواقعية مجموعة

٥٣

....................................................................................................................................................................................

أمور، وبعد الإلتفات إلى زيادة الوجود على الماهية، وبعد الإيمان بالاشتراك المعنوي للوجود. فطرحنا من الزاوية الفنية مترتّب على مجموعة مسائل ؛ ولكن ينبغي أن نوضح أنَّ هذا الترتيب الفني لا ضرورة للالتزام به، ومن الممكن تقريب الطريق والدخول إلى بحث أصالة الوجود بعد الإيمان بالأصل الكلّي " إنّ هناك واقعاً " الذي هو الحدّ الفاصل بين الفلسفة والسفسطة، ونجعل موضوع أصالة الوجود البحث الفلسفي الأوّل، فنقول:

بعد الإيمان بالأصل الكلّي يتّضح لنا أنَّ هناك أمراً واقعياً. وأنَّ لدينا موجوداً، وهذا الموجود الواقعي إمّا أن يكون وجوداً وإمّا أن يكون شيئاً له الوجود، أي أمّا أن يكون الواقع الذي يقف خلف الذهن لا يصلح لأنَّ يحكم الذهن بأنّ الماهية (س) خرجت من ستارة العدم أو أي ماهية أُخرى، وإمّا أن يكون الواقع الذي يقف خلف الذهن مؤهّلاً لكي يحكم الذهن بأنَّ الأمر (س) خرج من ستارة العدم إلى الوجود.

بناءً على الفرض الأوّل فليس هناك أثر للماهية أساساً، وبناءً على الفرض الثاني تكون الماهية معروضة للوجود وقد تعلّق بها، وعلى أساس هذا الفرض، نجري البرهان المتقدّم طبق الطريقة التي تقدّمت. وإذا سلكنا هذا الأسلوب فسوف نصل إلى النتيجة بشكلٍ أسرع ويكون الميدان بعيداً عن كثيرٍ من الشبهات. ومن هنا يتّضح أنَّ أولئك ( نظير الحكيم السبزواري ) الذين اتخذوا قاعدة الزوج التركيبي، وإنَّ الممكن زوج تركيبي، الذي يوحي بتقسيم الموجود إلى واجب وممكن، وبساطة الواجب وتركيب الممكن، الذين اتّخذوا هذه الفكرة مقدّمة للبرهنة على أصالة الوجود قد سلكوا طريقاً بعيداً، عن

٥٤

من الواضح أنَّ كل شيء، أي كل أمر واقعي إنّما يتوفّر على الواقعية، تحت ظل الواقع. وإذا فرضنا أنَّ واقع الوجود نسلب عنه الوجود، فيكون عدماً، فهذا الفرض لا يتعدّى الوهم الفارغ. ومن هنا نستنتج:

إنَّ الأصل الأصيل في كلّ شيء هو وجوده، والماهية أمر ذهني، أي أنَّ واقع الوجود بذاته أمر واقعي، وعين الواقعية. وجميع الماهيات تكون واقعية به، وبدونه أي ( بذاتها ) أمراً ذهنياً واعتبارياً. بل الماهيات صور توجدها الواقعيات الخارجية في ذهننا وإدراكنا، وإلاّ فهي لا يمكن أن تنفصل ( في عالم الخارج الموضوعي ) عن الوجود، ويكون لها وجود مستقل بوجه من الوجوه.

ملاحظات أو نتائج:

١ ـ لا نستطيع أن نقف على حقيقة الوجود ؛ إذ أوضحنا في المقالة الخامسة أنّ معرفة كلّ شيء تتمّ بواسطة الماهية أو بواسطة خواصها، وليس لأيٍّ من هذين الأمرين تحقّق حقيقي في حقيقة الوجود.

أمّا الماهية: فلأنّ ماهية الشيء تضحي أمراً واقعياً وموجوداً، عبر التوفّر على الواقعية. وبعدم توفّرها على الواقعية تضحي أمراً معدوماً، وفرض التوفّر وعدم التوفّر على الواقعية أمر غير متصوّر لذات واقع الوجود. فالإنسانية ماهية الإنسان، وإذا وجدت يوجد في الخارج شيء، يختلف عن الشجرة والفرس والأشياء الأخرى، وإن لم توجد فهي أمر معدوم وذهني،

النظام المنطقي ؛ لأنَّ تقسيم الموجود إلى واجب وممكن متأخّر كثيراً عن أصالة الوجود.

٥٥

ولكن لا يمكن أن نفرض لواقعية الإنسان واقعية أُخرى.

أمّا الخواص: فلأن الخصوصية والأثر ظاهرة تابعة لظاهرة أُخرى، تستند في وجودها إليها، كما هو الحال في الجاذبية التي هي أثر الجسم، والحدّة التي هي أثر الزاوية ( الزاوية الحادّة ). إذن ؛ فالأثر والخصوصية أمر منفصل عن موضوعها، وترتهن به. وهذا الأمر لا يصدق في مورد واقعية الوجود ؛ لأنّ ما ينفصل عن الوجود سيكون أمراً باطلاً لا معنى له، وإن لم ينفصل فهو ليس أثراً وخصوصية، إذن ؛ ليس لواقع الوجود خصوصية منفصلة، وحينما نطلق على بعض سمات الواقع " أوصافاً وخواصاً " فهو لون من المجاز، ومن هنا يلزم القول: إنَّنا لا يمكننا التعرف على واقع الوجود بأي وسيلة من الوسائل.

من هنا يتّضح أنَّ واقع الوجود أمّا أن يكون معلوماً بالذات وإمّا أن تكون معرفته مستحيلة (٥) ؛ وبما أنّنا نذعن بالواقع يلزم أن نستنتج أنَّ الواقع معلوم بالذات، ولا يكون مجهولاً على الإطلاق، أي أنَّ فرض واقع مجهول توأم فرض واقع بلا واقع.

٥ ـ يتناول البحث هنا الاستفهام التالي: هل يمكن تعريف الوجود أم لا ؟ وبناءً على الفرض الثاني فهل يمتنع تعريف الوجود جرّاء بداهته واستغنائه عن التعريف، أم جرّاء استحالة تعلّق العلم به ؟ الإجابة على القسم الأوّل اتّضحت بشكل تفصيلي في المتن، ولا حاجة إلى إيضاحها مضافاً إلى أنَّ هناك بعض الأبحاث القادمة ستلقي الضوء بشكل أكبر على هذا الموضوع. أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني فنضيف أنَّ مفهوم الوجود مفهوم بسيط وكل مفهوم بسيط معلوم بالذات، ومستغنٍ عن التعريف ؛ أمّا بساطته

٥٦

......................................................................................................................................................................................

فأمر واضح، ويمكن إقامة البرهان على بساطته عن طريق كونه أعم المفاهيم ؛ إذ الوجود من المفاهيم العامة ويشمل بوجهٍ من الوجوه مفهوم العدم أيضاً، وليس هناك مفهوم يمكن فرضه أعم من مفهوم الوجود، ومن هنا فهو غير مركب ؛ لأنَّه قد ثبت في المنطق أنَّ كل مفهوم مركّب يجب أن يكون مركّباً من جزءين أحدهما أعم من المفهوم والآخر مساوٍ له، والفرض أنَّه لا يمكن أن يكون هناك مفهوم أعم من مفهوم الوجود. وإمّا أن كلّ مفهوم بسيط فهو مفهوم بديهي ؛ فلأنّ المفهوم غير البديهي هو المفهوم الذي يعرض الذهن مع الإجمال والإبهام، ولا بدّ من إيضاحه بواسطة تجزئة وتحليل الذهن لأجزائه، ورفع الإجمال بهذه الطريقة، وهذا الأمر ممكن في المفاهيم المركبة التي تتشكّل من أجزاء وهذه الأجزاء مجهولة في الذهن، أمّا المفهوم البسيط فهو عين ما يعرض في الذهن، وليس هناك أي إبهامٍ وإجمال يمكن تصوّره فيه، وهو متمّيز عن غيره بالذات. وسوف نتحدّث بشكل أكثر تفصيلاً في مقدّمة المقالة الثامنة حول هذا الموضوع. من هنا فالمفاهيم البسيطة أمّا أن لا تعرض على الذهن، وليس للذهن أي تصوّرٍ عنها، وإمّا أنّ تعرض على الذهن دون أي إبهام وإجمال، ومتميّزة عمّا سواها. وهذا هو المعنىُّ من البداهة فحسب. وهذا البرهان يمكن الإفادة منه في سائر المفاهيم العامة التي تستخدم في الفلسفة.

وينبغي هنا إيضاح الملاحظات التالية:

أ ـ البديهي والمعلوم بالذات ـ كما قلنا ـ يعني عدم وجود إبهامٍ وإجمال فيه وتميزه بالذات عن غيره، دون حاجةٍ إلى تفسير. ويستخدم

٥٧

.....................................................................................................................................................................................

مصطلح الفطري أحياناً معادل لمصطلح البديهي، ويراد هذا المعنى منه. على أن لا نقع في خطأ كثيرٍ من الأشخاص، الذين يحسبون أنَّ المفاهيم البديهية مفاهيم ذاتية للنفس وأنَّ النفس في بداية تكوينها متوفّرة على هذه المفاهيم. لقد أثبتنا في المقالة الخامسة أنَّ الملعوم الفطري بهذا المفهوم أمر خاطئ، وقد وقع بعض الحكماء في هذا الخطأ أحياناً. وقد أوضحنا في المقالة الخامسة كيفية ظهور مفهوم الوجود كنموذج للبديهيات، واتّضح أنَّ ظهور هذا المفهوم في الذهن لاحق لمجموعة مفاهيم أخرى ومتأخّر عنها.

ب ـ اتّضح أنَّ هذا البحث ذو طابع منطقي ؛ لأنَّ البحث في إمكان تعريف وعدم إمكان تعريف الوجود واستغناء الوجود عن التعريف وعدم استغناء الوجود عن التعريف. على أنّنا لا نقصد هنا أنَّ البحث في هذه المسألة من مهمّات المنطق المتداول. البحث في تعريفات كلّ علم من حيث الأساس لا تقع مسؤوليته على ذلك العلم ذاته. وهو ليس من مهمّات المنطق المتداول رغم أنَّه ذو طابعٍ منطقي. وحيث إنَّ هذا البحث يتناول زاوية من الزوايا المنطقية للوجود فمن المحتم أنَّه ذو طابع ذهني ؛ إذن هذه المسألة من مسائل الوجود ذات طابع ذهني.

ج ـ يرتبط البحث المتقدم بالعلم الحصولي، حيث يقصد هذا العلم في جميع الموارد الأُخرى، التي تتناول البحث عن التعريف أو الاستغناء عن التعريف، ولا علاقة له بالعلم الحضوري. على أنَّ العلم الحصولي ـ كما اتّضح في المقالة الخامسة ـ يرتبط بعالم التصوّرات والمفاهيم. أمّا العلم بالوجود على سنخ العلم الحضوري فهو أمر مرتبط بكنه حقيقة الوجود، وهو

٥٨

٢ ـ كلّ شيءٍ توفّر على واقعية الوجود ـ كما اتّضح ـ لا يمكن أن يكون بمعزل عن واقعية الوجود، ومن هنا فالاختلافات الواقعية في عالم الخارج ترجع إلى ذات الواقعية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فنحن نثبت الواقعية للأشياء ذات الواقع بمعنى ومفهوم واحد. إذن ؛ فواقعية الوجود في عين تنوعها (٦) واختلافها هي أمر واحد ( حقيقة تشكيكية، بلغة المنطق ).

موضوع آخر.

٦ ـ النظرية التي تقرّر " إنَّ واقع الوجود في نفس الوقت الذي هو متنوّع " يمكن أن نطلق عليها نظرية " الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة ". ومن الواضح أنَّ هذه النظرية ترتبط ببيان وحدة وكثرة الواقع.

تفسير وحدة وكثرة الواقع مسألة فلسفية من الطراز الأوّل، ولها تاريخ طويل في الفلسفة. ونحن نعتقد أنَّها تأتي بالدرجة الثانية من الأهمية بعد نظرية أصالة الوجود، ولها آثار على أغلب مسائل الفلسفة، كالبحث في موضوع الحركة ؛ حيث لنظرية أصالة الوجود آثار مهمة على هذا البحث، سنوضحها في محلها. ومن هنا لا بدّ لنا من بسط البحث في أطراف هذه المسألة. وقبل الدخول إلى تفاصيله نشير إلى الملاحظات التالية:

أ ـ رغم أنَّ البحث في موضوع الوحدة والكثرة ذو تاريخ طويل، لكن هذا البحث لم يتّخذ طابعه الراهن إلاّ بصورة تدريجية ؛ بحكم التطوّرات الأُخرى التي حدثت في أبحاث الفلسفة ـ كما سنرى ـ خصوصاً نظرية أصالة الوجود واعتبارية الماهية ؛ حيث لعبت هذه النظرية دوراً أساسياً في تطوير البحث في موضوع الوحدة والكثرة. ومن البديهي أنَّ البحث في هذه المقالة عن هذا الموضوع سينطلق من نظرية أصالة الوجود.

٥٩

تشبه واقعية الوجود ( النور )، فهو متنوّع ومختلف ـ بالنظرة السطحية ـ على أساس القوة والضعف. فالمرتبة الضعيفة ليست نوراً

ب ـ نجد أحياناً أنَّ هناك ارتباطاً لبعض المسائل الفلسفية الأُخرى ـ بلون من الألوان ـ مع وحدة وتغاير موجودات العالم، كما هو الحال في الاستفهام التالي: هل تنبع جميع موجودات العالم من مصدر واحد ؟ أو الاستفهام التالي: هل هناك نظام واحد يحكم موجودات العالم، ويخضع هذا النظام لإرادة واحدة ؟ أو الاستفهام: هل تتّجه جميع الموجودات نحو غاية واحدة وهدف واحد ؟ أو الاستفهام: ما هو المعنى بالأصل الواحد والنظام الواحد والغاية الواحدة في الأسئلة المتقدمة ؟

على أنَّ الأسئلة بدورها تمثّل مجموعة أبحاث كلّية وعامة، وترتبط جميعها ببيان وحدة أو كثرة الواقعيات العينية، وعلى الفلسفة أن تجيب على هذه الأسئلة. لكن الذي نبتغيه هنا، والذي يمثل الأساس والتمهيد لتلك المسائل هو: أن نوضح هذا الموضوع الأساسي، ليأتي دور الأسئلة المتقدّمة.

ج ـ أشرنا واتّضح في ضوء ما تقدّم أنَّ أبحاث الوجود في هذه المقالة ذات طابع ذهني خالص أحياناً، ويأتي بعضها ذا طابع عيني خالص، وبعضها الآخر يتّسم بكلا الطابعين. على أنَّ بحث الوحدة والكثرة ذو طابع عيني خالص. وغني عن الإيضاح أنَّ هذا البحث بحث كلّي وعام، يتناول موضوعه كلّ أنحاء الوجود، الذي ليس وراءه سوى العدم.

* * *

قلنا في مطلع هذه المقالة إنَّ أحد الأصلين المتعارفين، اللذين يبدأ بهما بحثنا الفلسفي، هو الأصل الذي يمثل الحدّ الفاصل بين الفلسفة والسفسطة، أي

٦٠